تفسير سفر أيوب ٣٨ للقمص أنطونيوس فكري
تفسير سفر أيوب – الإصحاح الثامن والثلاثون
الله يتكلم في معظم المجادلات ينتصر أحد المتنازعين وتكون له الكلمة الأخيرة. والنزاع هنا كان أولاً بين أيوب وأصدقائه، وتنازل الأصدقاء وتركوا الحلبة لأيوب وحده، إلي أن دخل أليهو فإنسحب أيوب. وكان أليهو خادماً للرب يهيئ الطريق أمامه، مثل يوحنا المعمدان قبل المسيح، وهذا لأن المناقشة إنتهت بتدخل الله شخصياً. وكان كلام الله لأيوب أنك لا تعرف كذا وكذا. . من الأمور الطبيعية التي تجري أمام عينيك كل يوم، فكيف تجرؤ أن تناقش الله في أحكامه. والله هنا يلجأ لأمثلة من الطبيعة التي يراها كل إنسان، وعلي كل إنسان أن يري الله فيها، فلم يكن هناك كتاب مقدس يكلم الله البشر به، فخاطبهم بما يفهمونه ويرونه. وهكذا كان السيد المسيح يكلم الناس بأمثال مما يرونه في حياتهم (الزارع والصياد. . . الخ). والله بدأ هنا بذكر المخلوقات التي بلا روح كالأرض والبحر والنور والمطر والأجرام الفلكية (1:38-38) ثم إنتقل لما له روح كالوعول والفرا والثور الوحشي. . . الخ. ووبخ أيوب علي جسارته فإنه كان قد نسب الظلم إلي الله (6:16-17 + 7:19-12). فقال له الله “هل يخاصم القدير موبخه أم المحاج الله يجاوبه (2:40). وقال أيضاً لعلك تناقض حكمي. تستذنبني لكي تتبرر أنت. فأظهر له الله أن الإنسان لا يقدر أن يدبر العالم ولا يليق به أن يجعل نفسه في مكان الخالق.
وربما وجد العلم الحديث إجابات بعض الأسئلة التي وردت هنا، وإكتشف العلماء بعض القوانين الطبيعية التي تحكم حركة الأجسام والكواكب مثل قوانين الجاذبية والطرد الذاتي وقوانين القوة. . . الخ. ولكن من كان وراء هذه القوانين ومن الذي وضعها ومن الذي يضمن لها أن تنفذ؟ الله وحده. فهو الذي يدبر ويضبط الطبيعة ويهتم بها ويظهر أنه يطعم الحيوانات فكم وكم بالأولي يهتم ويشفق علي الإنسان الذي يحبه، وهو خلقه لأنه يحبه وليظهر له أعمال محبته، ثم لم تظهر محبته كما ظهرت في الصليب. فإذا كان الله يحب الإنسان فكيف يسمح بأذيته وضرره. وهذا الكلام موجه لأيوب الذي يحتج علي أحكام الله بل إعتبرها موجهة ضده.
وهكذا شرح المسيح أنه إن كان الله يهتم بزنابق الحقل وطيور السماء فبالأولي يهتم بالإنسان. ونلاحظ هنا أن الله لم يشرح لأيوب لماذا سمح له بهذه الآلام بل لقد إستخدم الله معه طريقة جميلة. هنا يضع الله في قلب أيوب الثقة فيه. الله يضع في قلب أيوب الثقة بعدالة حكم الله وحكمته ومحبته حتي للحيوانات، هو أتي بأيوب وجهاً لوجه أمام إمكانياته فظهر لأيوب عجزه، وأمام عجزه وأمام قوة الله التي رآها ووثق فيها إرتمي أيوب في أحضان الله طالباً حمايته.
وهكذا بالنسبة لكل إنسان يعترض علي أحكام الله كما إعترض أيوب، عليه أن لا يطلب تفسيراً لما يحدث له بل يطلب الثقة والإيمان بالله والشعور بمحبته. ولو شعرنا بمحبة الله سنقول مع بولس الرسول “من يفصلني عن محبة المسيح أشدة أم ضيق أم. . . . رو 35:8. وذلك لأن بولس شعر أولاً بأن محبة المسيح تحصره.
آية 1:- “فاجاب الرب ايوب من العاصفة وقال“.
فأجاب الرب أيوب من العاصفة= عادة تسبق الرعود والبروق والزلازل والنار والسحاب الثقيل كلام الرب للإنسان، أو ظهور مجد الرب للبشر (خر 16:19-18 + مز 9:8-13 + 1مل 19: 12، 11) وهذا ما حدث في سيناء مع موسي ثم مع إيليا ولكن حين يتكلم الرب يتكلم بصوت منخفض خفيف يصل للقلب. وكان أيوب قد طلب أن يتناقش مع الله “ليرفع عني عصاه ولا يبغتني رعبه” ولكن الله لم يستجب له في ذلك، وكانت العاصفة المرعبة أولاً ليرعبه، وذلك لتوبيخه أولاً علي جسارته، ثم ليضعه في موقف الخاشع أمام مجد الله، ومن هذا الموقف يمكنه أن يستفيد من الكلام الذي سيسمعه من الله، ويدخل صوت الله المنخفض الخفيف إلي قلبه، حينئذ تزول الشكوك وتُحَلْ مشاكل الذي يسمع والله يقصد أن يرعب السامع أولاً إن كان في موقف كبرياء وتعالي، فالكبرياء تضع حاجزاً بيننا وبين الله. وبعد ذلك يصل كلام الله لأيوب فيصرخ مع أرمياء “أقنعتني يا رب فإقتنعت. . . وحين إقتنع أيوب صرخ قائلاً أخطات. . توبنى يارب فأتوب بعمل روحك القدوس داخلى الذى يقنعنى بأن أتوب. فلن يندم إنسان ويتوب إن لم يعمل الله في داخله ويبكته علي خطيته ويقنعه أن يتوب عنها، بشرط أن لا يقاوم الإنسان عمل روح الله فيه بل يتجاوب معه. أما خدام الله فمثل أليهو عملهم التمهيد لعمل الله في الداخل. وسيسمع صوت الله ويتوب كل من يريد حقاً مثلما كان أيوب هنا في حالة إستعداد. والله تكلم ثم عاد الروح القدس ليوحي ويملي علي كاتب سفر أيوب ما قاله الله ليسجل في الكتاب المقدس. فالروح القدس يذكرنا ويعلمنا ولنعلم أن الكتاب كله موحي به من الله 2تي 16:3 + 2بط 21:1.
آية 2:- “من هذا الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة”.
من هذا الذي يُظْلِم القضاء= يظلم أي يحيط الأحكام بظلمة ويجعلها تبدو كما لو كان خاطئة، أحكام الله منيرة ولكن الإنسان في جهله وظلمته يبدو له أنها غير ذلك، أو هو بأرائه الإنسانية وحكمته البشرية الخاطئة يصدر ضد أحكام الله أراء خاطئة ظالمة مظلمة تجعل الصورة الظاهرة للبشر لأحكام الله أن هذه الأحكام فيها ظلمة وليست كلها نيرة. وهذا الكلام يشير لأيوب الذي نسب الظلم لقضاء الله وتكلم بلا معرفة أي بجهل وكبرياء. من هذا= من هذا الإنسان الضعيف الذي يجسر أن يوجه إلي القدير الظلم؟! هل هو أيوب الذي نسبت له الكمال فيتهمني هو بالظلم، هل وصل أيوب إلي أن يقف في موقف الأشرار، هل هذا أيوب الذي كان كاملاً. وكانت هذه الكلمة هي التي أثرت في قلب أيوب وقادته للتوبة فعاد وكررها في 3:42. وقرر أنه كان غبياً بلا معرفة حين نسب الظلم لقضاء الله.
آية 3:- “اشدد الان حقويك كرجل فاني اسالك فتعلمني”.
أشدد الأن حقويك كرجل= أي تشدد لأنني سوف أسالك عدة أسئلة، حاول أن تجاوب عنها لو كنت تقدر، قبل أن أجاوب أنا أسئلتك، وهنا يرد الله علي قول أيوب ادع فأنا أجيب 22:13. بمعني أنا مستعد يارب أن أجيب علي أي سؤال لك، وطبعاً أيوب كان يقصد بهذا أنه مستعد أن يجاوب عن أي إتهام قد يوجهه الله وذلك ليبرر نفسه، ولكن الله كما قلنا لم يسلك طريق الحوار العادي، يوجه لأيوب تهمة وينتظر تبريره أو دفاعه عن نفسه، ثم يشرح له لماذا فعل ما فعل، هذه الطريقة في الحوار طريقة بشرية تصلح للحوار بين إنسان ومثيله الإنسان، ولكن الله كما قلنا إستخدم طريقة أخري هي وضع الثقة في قلب أيوب من نحو الله، وبعد أن يثق أيوب فليتصرف الله كيفما شاء. لأنه حتي لو حاول الله أن يدين أيوب في أي تصرف لحاول أيوب أن يبرر نفسه وهذا ما فعله مع أصحابه، وهَبْ أن أيوب إقتنع بأنه أخطأ فهل كان سيقتنع بالتأديب، فأي إنسان يرفض أن يتألم، وهَبْ أن أيوب إقتنع بأن الله يجب أن يؤدبه فهل هو يعرف طريقة التأديب لذلك لا يدخل الله في المناقشة مع أولاده لأنهم لم يعرفوا أين هو الصالح لهم وعليهم فقط أن يثقوا فيه. وكلمة رجل هنا تعني رجل مقاتل وهي تهكم، فهو تصور أنه في صراع مع الله. ولنري طريقة الله في الحوار مع أيوب وكيف أثمرت، فأيوب المقاتل بعد أن إنتهي الله من كلامه نجده وقد تواضع وإعترف بأنه لا شئ وإزداد كماله في نظر الله. فتعلمني= هي سخرية من أيوب، فهل يقدر الإنسان أن يعلم الله، وبالتالي لا حق للإنسان أن يعترض علي الله أو علي ما يعمله، وأن لا يشكك في عدله وحكمته لذلك يتحدي الله أيوب أن يظهر حكمته ليبرر تساؤلاته عن الحكمة الإلهية التي كان يشكك في عدالتها. والله لن يتأثر جلاله لو إعترضنا علي حكمته، وهو لن يزيد مجداً لو نسبنا إليه الحكمة في تصرفاته، ولكن الله يهتم جداً بأن نسبحه ونمجده وأن نتصالح معه ليس من أجله هو ولكن لصالحنا نحن، ولقد رأينا أيوب وهو في حالة صراع مع الله كيف كان هو نفسه ممزقاً متألماً، وكيف إنتهت مشاكله حين تصالح مع الله، ولهذا أتي المسيح.
الأيات 4-7:- “اين كنت حين اسست الارض اخبر ان كان عندك فهم، من وضع قياسها لانك تعلم او من مد عليها مطمارا، على اي شيء قرت قواعدها او من وضع حجر زاويتها، عندما ترنمت كواكب الصبح معا وهتف جميع بني الله”.
سؤال الله الأول عن الأرض ليدعو أيوب للتواضع، فها هو يحيا علي الأرض ويراها كل يوم، فهل هو يا تري يفهم أسرار خلقة الأرض، هل كان مع الله حين أسسها أو هو أشار علي الله كيف يؤسسها، هل تعلم يا أيوب كيف وضعت قياسات الأرض ثم يضع الله عدة تشبيهات للشرح. فصوَر الله تأسيس الأرض كمن يبني بيتاً فهو أولاً يضع القياسات والرسومات ثم يبدأ في البناء والبنائين يستعملون المطمار ليكون البناء مستوياً رأسياً حتي لا يسقط (المطمار خيط به ثقل يتدلي لأسفل).
ثم ليشير لثبات الأرض وأنها لا تسقط من الفضاء يقول أن لها قواعد ثابتة عليها ولها حجر زاوية في بنائها، فهي متماسكة ثابتة، وبالتالي يستحيل أن يكون كل هذا قد تم بالمصادفة. وكان عمل الله في خلقته كاملاً وفرح الملائكة= كواكب الصبح= بما عمل الله، فرنموا تسبيحاً للخالق، والنور عموماً هو صفة لله، والملائكة هم أول خليقة الله أبو الأنوار وأورشليم السمائية لن يكون فيها مساء رؤ25:21، 5:22. وهم بني الله لأنهم يحملون صورته، ويخدمون الله كما يخدم الإنسان أباه. ونري هنا الله الممجد في خليقته أي الملائكة فعمل الله وخلقته تستوجب منا أن نسبحه عليها، وهذا معني قولنا في التسبحة “سبحي الرب يا كل الجبال والبحار. . . ألخ أي هذه الخليقة تشهد بعظمة الله التي يجب أن نسبحه عليها.
الأيات 8-11:- “و من حجز البحر بمصاريع حين اندفق فخرج من الرحم، اذ جعلت السحاب لباسه والضباب قماطه، وجزمت عليه حدي واقمت له مغاليق ومصاريع، وقلت الى هنا تاتي ولا تتعدى وهنا تتخم كبرياء لججك”.
سؤال الله الثاني لأيوب عن البحر، وهو يراه أمامه ويتعامل معه يومياً ولكنه أبعد نسبياً من الأرض، فهو لا يستطيع أن يصل إلي أعماقه. وخلق البحر هنا تشبه بولادة طفل لباسه السحاب وقماطه الضباب. وهنا إشارة إلي خلقة الله في اليوم الثالث تك 9:1 حين جمع الله المياه، فأطاعت كما لو كانت طفل صغير مولود. والضباب مترجمة الظلام الكثيف في الإنجليزية. وكما أن الطفل نغطيه بلباس وقماط فالبحر مغطي من أعلي بالسحاب والضباب الكثيف. وكما يعد الوالدين سريراً (مهداً) لينام فيه المولود الجديد، أعد الله منخفضات كافية في القشرة الأرضية بقدر مياه البحار والمحيطات، لينام فيها البحر ومياهه في هدوء، ولكل منا قبل أن يخلقه الله مكاناً يأوي إليه. ولكن هذا الطفل طفل جبار فحينما تصدمه الرياح يثور، وثورته هذه تخيف الإنسان وكم دمرت ثورته مدناً ساحلية، والأن عرف الإنسان بعض المعرفة عن القوي التي تؤثر في البحر (حركة الشمس والقمر وعلاقتها بالمد والجذر، والرياح والعواصف. . . ) لكن هل يستطيع الإنسان أن يتحكم في مياه البحر ويمنع هياجها، أما الله فهو القادر أن يسيطر عليها= جزمت عليه حدي= أي فرضت عليه حكمي، فالله ألزمه بحدود ومغاليق ومصاريع، فلا يقدر أن يتجاوز الحد الذي وضعه الله له. وهذه اليد الرحيمة التي تحدد حدوداً للبحر فلا يتجاوزها هي يد الله التي تعتني بالإنسان حتي لا يغرق. ولنتأمل مع أيوب فالبحر المرعب بأمواجه وظلامه ما هو إلا طفل في يد الله قادر أن يسكته وقتما يريد.
الأيات 12-15:- “هل في ايامك امرت الصبح هل عرفت الفجر موضعه، ليمسك باكناف الارض فينفض الاشرار منها، تتحول كطين الخاتم وتقف كانها لابسة، ويمنع عن الاشرار نورهم وتنكسر الذراع المرتفعة”. السؤال الثالث الموجه من الله لأيوب عن شروق النور علي الأرض. ها أنت يا أيوب تفرح بشروق الشمس يومياً حين يخرج نورها، لكنك أنت لا تستطيع أن تحدد ميعاد الشروق أو تتحكم فيه فهو ثابت ومحدد قبل أن تخلق أنت= هل في أيامك أمرت الصبح= أي هل بدأ النور يشرق صباحاً في أيامك أنت ولأجلك أنت فقط أو بأمر منك. ولقد سبق وقال أيوب في 13:24-17 أن الأشرار يخشون النور، وهنا يسأله الله هل لك فضل في شروق النور ليسدي خدمة للبشر بإبتعاد الأشرار= فَيُنفَض الأشرار منها. لكن الله هو الذي يرسل النور فينفضح الأشرار ويدانون. ويمنع عن الأشرار نورهم= فنور الأشرار هو الظلام ففيه يعملون أعمالهم الشريرة، فهم يختفوا نهاراً ويعملون ليلاً. وبالتالي فالنور هو علامة قدرة الله ورحمته بل هو صفة من صفاته، وهذا عكس الأشرار الذين يسلكون في الظلمة فيكون النور هو علامة أيضاً لقضاء الله العادل الذي يفضح شر الأشرار. وينفض الأشرار منهاكما ينفض أحداً بعض التراب من علي ثوب. وتنكسر الذراع المرتفعة= أي يفقدوا قوتهم وتفسد تخطيطاتهم وحريتهم وربما حياتهم، وتنكسر ذراعهم التي إرتفعت علي الله أو علي شعبه فلا تعود لهم قوة أن يصنعوا شرورهم. وحين يظهر النور يبدأ شكل الجبال والأراضي والبحار. . . الخ في الظهور. فحين يكون الظلام سائداً والأرض غارقة في بحر الظلمة لا يكون لها شكل وحين يبدأ النور في الظهور يبدأ يكون لها شكل بجبالها ومياهها وألوانها. وهنا تشبيه لطيف بأن الأرض قبل أن يشرق عليها النور كانت كأنها طين بلا شكل، وحين أشرق عليها النور كأنها ختمت بخاتم شكل هذا الطين وأعطاه شكلاً هو شكل الخاتم، وكأن الأرض لبست هذا الثوب النوراني. وما أجمل هذه الصورة هنا فالمسيح حين أشرق بنوره (هو شمس البر) كسر ذراع الشيطان وفضح عمله وختم المسيح فينا صورته في قلوبنا (مل 2:4، 3 + حز21:30، 22+ كو 15:2 + غل 19:4 + لو 78:1 + لو 51:1 + 2كو 6:4)
آية 16:- “هل انتهيت الى ينابيع البحر او في مقصورة الغمر تمشيت”.
السؤال التالي لأيوب. هل وصلت إلي أعماق البحر وعرفت من أين ينبع البحر. هل عرفت كيف يمتلئ البحر، وكيف يصب النهر في البحر ولا يفرغ. أو في مقصورة الغمر تمشيت= المقصورة هي الدار المحصنة أو المكان الخاص الذي في الدار ولا يدخله سوي صاحبه. ومعني الكلمة الأصلية ما لا يفحص، والمعني هل تعرف جميع أسرار قاع المحيط مز 19:77. فهل من لا يدرك أسرار البحر سيدرك عمق مشورة الله.
آية 17:- “هل انكشفت لك ابواب الموت او عاينت ابواب ظل الموت”. السؤال التالي عن أبواب الموت= فالموت سر عظيم، ونحن لا ندري كيف أو متي نموت. ولا يمكننا وصفه أو كيف ينحل الرباط بين الروح والجسد. والقدماء تصوروا مكاناً للموت تحت أعماق البحر والأرض لا يعرفه أحد من الناس وقالوا لم يرجع أحد من الأموات ليخبرنا عن طريق باب الموت.
آية 18:- “هل ادركت عرض الارض اخبر ان عرفته كله”. والسؤال التالي عن الأرض، وكأن الله يقول له لا داعي أن أسألك عن الموت الذي لم تختبره فأنا سأسألك عن الأرض التي تعيش عليها. هل تستطيع أن تعرف أبعادها، وفي أيام أيوب لم يكن أحد قد دار حول الأرض، والقدماء تصوروا أن الأرض منبسطة وليست كرة ولا يستطيع أحداً أن يصل إلي أبعادها.
الأيات 19-24:- “اين الطريق الى حيث يسكن النور والظلمة اين مقامها، حتى تاخذها الى تخومها وتعرف سبل بيتها، تعلم لانك حينئذ كنت قد ولدت وعدد ايامك كثير، ادخلت الى خزائن الثلج ام ابصرت مخازن البرد، التي ابقيتها لوقت الضر ليوم القتال والحرب، في اي طريق يتوزع النور وتتفرق الشرقية على الارض”.
نجد الله هنا يسأل أيوب عدة أسئلة محيرة له. هل تعرف كيف خلق النور، حين كانت الظلمة سائدة ثم بسط الله نوره علي الأرض، هل كنت هناك يا أيوب لتشترك مع الله في خلقة النور، أو هل تعرف كيف يتوزع النور علي الأرض. وربما يتوزع النور بمعني أن يتحلل لألوان الطيف السبعة. والإحتمال الأكبر، أن ما كان يحير القدماء، كيف أن النور يبزغ فجأة وفي لحظات تنير الأرض كلها. ورسموا صورة لهذا:- أن نور الصباح يمتطي أجنحة الريح الشرقية ليتوزع سريعاً علي كل الأرض (مز 9:139) والريح الشرقية سريعة جداً وقوية جداً فتنشر النور بسرعة وتشتت الظلام كما تصنع الريح الشرقية بالسحب فتنقشع. والريح الشرقية نسبة لشروق الشمس من الشرق. ولو عرفت أسرار النور هل تعرف طرقها وكيف يشرق النور، هل وصلت إلي منابع هذا النور حيث يسكن= حتي تجعله يخرج متي تريد أو يغرب النور وقتما تريد. والآية (21) سخرية من أيوب فهو لم يكن موجوداً وقتها.
وفي (22، 23) هل تعرف كيف يتكون البَرَدْ والجليد، والله يستعملهم أحياناً ضد الأشرار. حدث هذا مع فرعون ومع يشوع وسيحدث في نهآية الأيام رؤ 7:8. وراجع يش 11:10 + مز 14:68 + خر 13:13= أبقيتها لوقت الضر ليوم القتال والحرب أدخلت إلي خزائن. . أو مخازن= فكأن الله يبقي حجارة البرد كأسلحة في مخازنها حتى يأتى يوم القتال ينفتح المخزن فجأة. الثلج SNOW هو بخار ماء تجمد فى السحاب قبل أن يتجمع كقطرات. والبرد هو تحول أولاً لقطرات ماء وتجمعت في السحب ثم تجمدت.
الأيات 25-28:- “من فرع قنوات للهطل وطريقا للصواعق، ليمطر على ارض حيث لا انسان على قفر لا احد فيه، ليروي البلقع والخلاء وينبت مخرج العشب، هل للمطر اب ومن ولد ماجل الطل”.
السؤال هنا عن المطر. فهل لإنسان سلطان علي المطر، لينزله في المكان الذي يريده، فالله وحده له هذا السلطان، لينزل المطر بالكمية التي يحددها وفي المكان الذي يحدده. وكأن المطر ينزل من خلال قنوات حددها الله. والمطر قد يكون قطرات حتي لا تفسد الأرض، قد يكون طوفاناً يغرق الأرض، والله وعد نوحاً بعدم تكراره وبهذا نفهم أن مفاتيح قنوات المطر في يدي الله. وفي يده أيضاً البروق والصواعق، لأن الله في يده مفاتيح المطر فهو لا ينسي الأراضي القفر والخلاء والصحاري فهناك مخلوقات تحيا فيها فالله لا يهتم فقط بالإنسان، بل بكل خليقته= ليمطر علي أرض حيث لا إنسان. والله هو مصدر المطر= هل للمطر أب= نعم فهو الله الذي يولده ويأتي به ويتحكم فيه، بل حتي في أصغر قطرات المطر أو الطل فهو يحكمها= المآجل. المأجل هي نقط الندي الصغيرة جداً.
الأيات 29، 30:- “من بطن من خرج الجمد صقيع السماء من ولده، كحجر صارت المياه اختبات وتلكد وجه الغمر”.
الله صاحب السلطان أن يجمد الماء. وربما تساءل الإنسان من أين جاء هذا الجليد= من بطن من خرجالجمد= ما هو مصدر هذه القدرة العظيمة.
الأيات 31-33:- “هل تربط انت عقد الثريا او تفك ربط الجبار، اتخرج المنازل في اوقاتها وتهدي النعش مع بناته، هل عرفت سنن السماوات او جعلت تسلطها على الارض“.
السؤال الأن حول الكواكب. والنجوم تحت سيطرة الله وحده مز 4:147 + تك 14:1. وليس للإنسان سلطان علي تغيير شئ. الثريا= مجموعة من النجوم مرتبطة بعضها ببعض كعقد من الجواهر. والجبار= اسم برج تصوره القدماء كجبار مربوط.
المنازل= مجموعة من الكواكب عبدها الوثنيين 2مل 5:23. النعش مع بناته= بنات نعش الكبري 7 كواكب منها أربعة علي شكل مربع فأسموها النعش والثلاثة الباقين أسموها بنات نعش. وهناك مجموعة أخري أسموها بنات نعش الصغري. هل تعرف سنن السموات= ومهما عرف العلماء عن أسرار الكواكب فمعرفتهم لا شئ حتي اليوم. والله وحده وضع حركة الكواكب ويضبطها فتتسلط علي الأرض= أو جعلت تسلطها علي الأرض= فالشمس تحدد بحركتها مع الأرض الفصول (الربيع/ الخريف/ الشتاء/ الصيف) والقمر يحدد المد والجذر. ويلاحظ أن الثريا تظهر في الربيع والجبار في أول الشتاء. وإنتهاء فصل الشتاء وقدوم الربيع صوروه كأنه ربط الجبار= تفك ربط الجبار. فهل تتحكم أنت في هذا يا أيوب (تك 14:1-19). وربما تسلط الكواكب علي حركة الأرض أن الكون كله مرتبط بقوانين حركة، وكل الكواكب تؤثر علي الأخري. فحركة الأرض متأثرة بكواكب مجموعتنا الشمسية. ومجموعتنا الشمسية متأثرة بباقي الكواكب مجرتنا. ومجرتنا متأثرة بباقي المجرات ووراء كل هذا ضابط الكل واضع قوانين الحركة لكل هذا.
الأيات 34-38:- “اترفع صوتك الى السحب فيغطيك فيض المياه، اترسل البروق فتذهب وتقول لك ها نحن، من وضع في الطخاء حكمة او من اظهر في الشهب فطنة، من يحصي الغيوم بالحكمة ومن يسكب ازقاق السماوات، اذ ينسبك التراب سبكا ويتلاصق المدر”.
الله يظهر للإنسان هنا ضعفه وعدم مقدرته علي التحكم في الطبيعة، فهو لا يستطيع أن يأمر المطر أن ينزل ليروي الأرض إن جفت. ولكن إن أردنا المطر فعلينا أن نرفع أصواتنا لله ونصلي فيعطي الله المطر، كما فعل إيليا وكما تفعل الكنيسة الأن إذ تصلي من أجل مياه الأنهار والزروع والرياح. ولكننا لا نستطيع أن نرفع أصواتنا بالأمر للمطر مباشرة فهو في يد الله لذلك لم ينزل المطر بصلوات كهنة البعل أيام إيليا فهم لم يرفعوا صلواتهم لله. الطخاء= السحاب المرتفع= أي الله بحكمته يضبط السحاب والشهب، فهو ليس فقط له السلطان عليها بل بحكمة يضبطها. وحكمة الله التي بها يضبط السحب تظهر في انه يقدر كمية الماء المنسكب من السحاب= من يحصي الغيوم بالحكمة= ليحدد كمية المطر. أزقاق السموات= الغيوم هنا مشبهة بأزقاق (جمع زق) ملآنة ماءً. المدر= الطين. فالله يسكب مياه المطر علي تراب الأرض فيتكون الطين وتصبح الأرض صالحة للزراعة. ودقائق التراب والرمل ومكونات التربة الأصلية تتجاذب وتلتصق كالمعدن المنصهر المنسكب وتصير مكونات التربة كلها متجانسة ذات كثافة واحدة ذائبة في كيان واحد. ثم تشرق الشمس عليها فتتجمد كما يتجمد المعدن المنصهر.
الأيات 39-41:- “اتصطاد للبوة فريسة ام تشبع نفس الاشبال، حين تجرمز في عريسها وتجلس في عيصها للكمون، من يهيئ للغراب صيده اذ تنعب فراخه الى الله وتتردد لعدم القوت”.
إبتداء من هنا بالإضافة للإصحاح 39 كله يتكلم الله عن سلطانه وجودة مشوراته وصلاحه من نحو خليقته الحيوانية. أتصطاد للبوة فريسة= هل تستطيع أنت يا أيوب أن تطعم الحيوانات مثل الأسود وتهتم بالخليقة كلها. حين تجرمز في عريسها= جرمز الرجل= إنقبض. . . وإجتمع بعض إلي بعضعريس- عرين الأسد= تربض في العرائن (حسب ترجمة اليسوعيين). وتجلس في عيصها للكمون= العيص هو الشجر الكثير الملتف. والمعني من يرزق هذه الحيوانات حين تكمن في وسط الأشجار، أو تربض في عرينها، ومن علمها أن تصنع هذا لتأكل وتعيش، ومن الذي يرزقها فلا تموت. من يهيئ للغراب صيده= إختار الله الغراب لأن الإنسان يحتقره ويكرهه، وإختار الأسد لأن الإنسان يخاف منه، بل لو وجده يقتله. وبينما لا أحد يهتم بهذه الحيوانات يهتم بها الله. تنعب فراخه= تنعق أي تمد عنقها وتصيح طالبة الطعام. ويظهر من حياة هذه الحيوانات والطيور صلاح الله الذي يحفظها ويطعمها لتبقي حية. والله يهتم بكل خليقته حتي المتوحش منها، وهو لم يتكلم عن الدواب والحملان لأن الإنسان يستخدمها ويطعمها لتخدمه. فالله أعطي لكل الحيوانات حكمة وغريزة بها تعيش. وإن كان الله يهتم بالحيوانات المتوحشة فهل لا يهتم بالإنسان. كلام الله في هذا الإصحاح هو دعوة لأيوب أن لا يثق في ذاته بل يثق في الله المحب لخليقته ويدبر كل أمورها بحكمة، هو دعوة للتواضع بين يدي الله.
تفسير أيوب 37 | تفسير سفر أيوب | تفسير العهد القديم |
تفسير أيوب 39 |
القمص أنطونيوس فكري | |||
تفاسير سفر أيوب | تفاسير العهد القديم |