تفسير سفر أيوب 40 للقمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الأربعون
هزيمة إبليس “بهيموث” المتشامخ

 

لا نجد أحيانًا تفسيرًا لخلقة بعض المخلوقات، لكن تبقى حكمة الله عاملة فوق إدراكنا [39: 16-18]، لهذا يليق بأيوب ألا ينسب خطأ ما إلى طرق الله [1-2].

كاد أن يقف أيوب صامتًا، وإن أجاب ففي اختصار شديد. لقد أراد أن يكون صامتًا إلى حين [3-5]، لكنه لم ينل إجابات مباشرة على أسئلته. استمر الله في الحديث، سائلًا أيوب إن كان يريد أن ينال السلطان الإلهي ليقوم بتدبير أفضل للحياة، الفكر الذي أهلك الأشرار [9-14].

ليس من الصعب على الله أن يسحق الأشرار، كما يظهر من تقديم عينة لحيوانٍ مفترسٍ يتسم بالقوة: بهيموث [15-24].

 

1. الإجابة الأولى لأيوب 1-5

 أعطى الله الفرصة لأيوب لكي يجاوب على تساؤلاته، لكن أيوب لم يكن ممكنًا أن يجيب على أي سؤال. لقد عرف قدر وزنه. ففي أيام عظمته وغناه “العظماء أمسكوا عن الكلام، ووضعوا أياديهم على أفواههم. صوت الشرفاء اختفى، ولصقت ألسنتهم بأحناكهم” (9:29-10). الآن أدرك أيوب حقيقة وزنه. قال: “ها أنا حقير، فماذا أجاوبك؟ وضعت يدي على فمي” (4:40). جاءت كلمة حقير هنا بالعبرية لتُترجم تافهًا أو خفيف الوزن (بلا وزن ًlightweight). لم يكن ما يشغله خطاياه، فلم يقل: “أخطأت”، إنما كان كمن قد أختطف في السٌر الإلهي، فأدرك حقيقة نفسه أمام خالقه ومدبِّر حياته.

وَقَالَ الرَّبُّ لأَيُّوبَ: [1]

هَلْ يُخَاصِمُ الْقَدِيرَ مُوَبِّخُهُ،

أَمِ الْمُحَاجُّ اللهَ يُجَاوِبُهُ؟ [2]

يسأل الله أيوب: هل للمخلوق أن يملي إرادته على خالقه؟ أو يعترض على حكمته ومشيئته؟ يليق بالشخص أن يجاوب سريعًا مستنكرًا أن يخاصم القدير أو يقف أمام حكمة الخالق.

كأن الله يقول له: إنك إلى الآن لم تدرك حكمتي من جهة سماحي بالتجربة أن تحل عليك. إنك تتطلع إلى سموَّك وبرَّك ولم تضع في اعتبارك حكمتي ورعايتي لك. أما تعلمت من حيوانات البرية والطيور الجارحة أن تلتصق بي؟

فَأَجَابَ أَيُّوبُ الرَّبَّ: [3]

لقد اقتنع أيوب، فرؤيته لله قد تجاوزت كل الحدود وأصبح لديه تقدير جدير لعالم الله بما فيه من آفاق جديدة وتوافق وانسجام.

يعترف أيوب الآن بأن الله يستطيع أن يفعل كل شيء وإن مقاصده تتم وقد أذاب قلب أيوب، فرأى نفسه مدعوًا إلى أن ينحني تحت يد الله القديرة. والآن يخضع بتواضع لحكمة الله، وبدخوله إلى الشركة معه ينتقل إلى دائرة النور والرجاء. تكلم الرب وجاءت قدرته، فأدخلت عجز الإنسان في الحكمة الحقيقية. حين كشف الله عن نفسه لأيوب، جعل أيوب يكشف نفسه. تخلى أيوب عن حكمته البشرية فترك صورة الإله المحارب ورجع إلى صورة الإله الصديق الذي جاء إليه وسط العاصفة. وصمت الله من جديد بعد أن رآه أيوب.

هَا أَنَا حَقِيرٌ فَمَاذَا أُجَاوِبُكَ؟

وَضَعْتُ يَدِي عَلَى فَمِي [4].

لقد فاق أيوب كل أهل زمانه في الفضيلة، واستطاع في الحوار أن يغلب أصدقاءه، لكن إذ تحدث الله معه اعترف بحقارته وضعفه، واضطر أن يضع يده على فمه ليصمت في سكون رهيب.

يقدم لنا أيوب درسًا في الحوار مع الله، فإننا حتى وإن كنا في عينيه أبرارًا نصمت حتى لا نبرر أنفسنا بالكلام، بل نترك حياتنا أو سلوكنا العملي بنعمته أن يتكلم معه. الحديث معه بلغة العمل أفضل منه باللسان.

*     تعلم القديسون أن يضبطوا فلتات اللسان أمام عيني الله، بتقديم حياة صالحة. إنهم يتعلمون الامتناع عن الكلمات المبالغ فيها وذلك بثقل أعمالهم الصالحة.

البابا غريغوريوس (الكبير)

*     أيوب نفسه لم يصمت بخصوص خطاياه.. إذ هو عابد حقيقي لله، فبلا شك قدم اعترافه في الحق(1364).

 القديس أغسطينوس

*     لنتأمل ما هو الإنسان: يقول الوثنيون إنه حيوان عاقل، مائت، قادر على التعقل والمعرفة. دعونا لا نأخذ تعريفنا له منهم بل من أين؟ من الكتب المقدسة… اسمع كلماتها: “كان هذا الرجل كاملًا ومستقيمًا يتقي الله ويحيد عن الشرٌ (أي 2:1). هذا بحق هو الإنسان! مرة أخرى يقول آخر: “الإنسان عظيم، الإنسان الرحوم ثمين” (أم 6:20 LXX). الذين لا يتجاوبون مع هذا الوصف، فإنهم لن يقدروا على نوال المعرفة، ويرفض الكتاب المقدس أن يتعرف عليهم كبشرٍ، بل يدعوهم كلابًا، وخيلًا، وحيات وثعالب وذئاب، أو أي حيوان خسيس. إن كان هكذا هو الإنسان، فإن من يحيا في الملذات ليس بإنسانٍ، لأنه كيف يمكنه أن يكون هكذا ذاك الذي لا يفكر في شيءٍ يليق به؟ الترف والوقار لا يمكن أن يقترنا معًا، الواحد يدمر الآخر. حتى الوثنيون يقولون: “البطن التخمة لا تحمل ذهنًا بارعًا”(1365).

القديس يوحنا الذهبي الفم

مَرَّةً تَكَلَّمْتُ فَلاَ أُجِيبُ،

وَمَرَّتَيْنِ فَلاَ أَزِيدُ [5].

في توبة صادقة يقول أيوب إنه تكلم مرة بخصوص ما حلَّ عليه من تجارب دون القدرة على تفسير الحكمة منها.

لقد عاتبت الله، وأردت أن أدخل كما في محاكمة، فأعرض قضيتي عليه. وربما كررت ذلك عوض المرة مرتين، لكنني الآن “لا أزيد”، لا أعود أكرر ما سبق قلته.

أيوب الذي كان يلح في طلب اللقاء مع الله ليحاوره، الآن إذ رأى الرب حلَّ به صمت رهيب.

*     إن فحصنا كلمات الطوباوي أيوب السابقة نجد أنه لم ينطق بشرٍ قط… لكنه إذ قيَّم نفسه بميزان الله الكلي الدقة اعترف أنه أخطأ في حديثه للمرة الثانية…

البابا غريغوريوس (الكبير)

*     إن اعترفت أنك خاطئ، يكون الحق فيك، فإن الحق نفسه هو نور. حياتك لا تشرق ببهاءٍ كاملٍ، لأنه توجد خطايا فيك، لكنك إذ تبدأ تستنير يصير لك الاعتراف بالخطايا… قبل كل شيء إذن الاعتراف ثم الحب. لأنه ماذا يُقال عن الحب؟ “المحبة تستر كثرة من الخطايا” (1 بط 4: 8)… الكبرياء يطفئ الحب، والتواضع يقويه، الحب يطفئ الخطايا، والتواضع يسير في صحبة الاعتراف.

أخبر البشر من أنت، أخبر الله من أنت. فإن لم تخبر الله من أنت، فسيدينك على ما يجده فيك… أتريده يغفر لك؟ اعرف أن تقول لله: “احجب وجهك عن خطاياي”. قل له أيضًا كلمات المرتل نفسه: “أنا عارف بآثامي” (مز 51: 3، 9)(1366).

القديس أغسطينوس

2. الحديث الثاني لله 6-24

 في حديثه الثاني مع أيوب أوضح له أنه ليس من وجه للمقارنة بين المخلوق وخالقه، فليس من حق المخلوق أن يستجوب خالقه.

فَقَالَ الرَّبُّ لأَيُّوبَ مِنَ الْعَاصِفَةِ: [6]

الآنَ شُدَّ حَقْوَيْكَ كَرَجُلٍ.

أَسْأَلُكَ فَتُعْلِمُنِي [7].

جاءت الترجمة السبعينية للآية 8: “ألا تظن إني تعاملت معك لهدف آخر سوى إعلان برّك؟” كأن الله يكشف لأيوب بكل قوة عنايته الفائقة وحبه له، فإن كان قد سمح له بتجاربٍ هذه مقدارها فإنما غايتها أن يتبرر أيوب ويتمتع بالنصرة على إبليس.

حينما يدافع أيوب عن نفسه ضد الضربات التي سمح له بها الله يتهم العدالة الإلهية، لكن إن قبل التجربة بشكرٍ يبرره الله ويمجده، وتُحسب لا لتأديبه بل لتزكيته.

*     من يصارع مدافعًا عن نفسه ضد ضربات الله يسعى أن يتجاهل أحكام الله التي أوقع الضربات. وعندما يقول إنه لم يُضرب من أجل أخطائه ماذا يفعل سوى اتهام الضارب؟ ضربات السماء لم تصب الطوباوي أيوب لتنزع أخطاءه، بل بالحري لتضيف إلى استحقاقاته، حتى أن ذاك الذي في وقت الهدوء أشرق بقداسة عظيمة هكذا يعلن فضيلة الصبر المخفية داخله… لكنه ظن أنه ضُرب ظلمًا عندما لم يجد في نفسه ما يتطلب إصلاحه. فلئلا في براءته ينتفخ بالكبرياء انتهره الصوت الإلهي بينما كان ذهنه متحررًا من الشر، ولكنه كان مثقلًا بالضربات، فاستُدعي إلى أسرار الأحكام الإلهية… فالقديس لم يكن على خلاف مع الله في أية خطية، بل على اتفاق معه ولكن في شيء من الصعوبة بسبب الضربات.

البابا غريغوريوس (الكبير)

لَعَلَّكَ تُنَاقِضُ حُكْمِي.

تَسْتَذْنِبُنِي لِتَتَبَرَّرَ أَنْتَ! [8]

*     في نهاية الصراعات أعلن (الله) نصرة المصارع في إعلانٍ سامٍ، وكشف سٌر أحزانه، قائلًا: “ألا تظن إني تعاملت معك لهدف آخر سوى إعلان بٌرك؟ هذا هو بلسم جراحاته، هذا هو إكليل الصراع، هذه هي مكافأة صبره(1367).

 القديس غريغوريوس النزينزي

*     يحتمل الصديقون التجربة هنا، لأنهم نزلاء وغرباء، وفي مدينة أجنبية. يحتمل الأبرار تلك الأشياء من أجل الامتحان. ماذا قال الله لأيوب: “أما تعتقد إنني أنذرك إلا لكي تظهر بارًا”؟ (أي 3:40 LXX) أما الخطاة فإنهم إذ يعانون من أية محنة، إنما يعانون من العقوبة عن خطاياهم. لذلك ففي كل الظروف سواء كانت مرة أو غير مرة فلنقدم الشكر لله. فكلا الحالين هما مفيدان. فإن الله لا يفعل شيئًا عن كراهية أو عداوة من نحونا، إنما ما يفعله هو من قبيل رعايته واهتمامه بنا(1368).

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     لو لم يحارب أيوب في المعركة وينال النصرة لما نال إكليل البرّ, ولما سمع قول الرب: أما تظن أني أتحدث معك لأطلب شيئًا سوى أن تظهر أنك بار؟ (أي 40: 8  LXX)(1369)

القديس جيروم

*     أظن أن الريح يعني التجارب. فالتجارب تُظهر أن في كومة المؤمنين يوجد البعض كقش والآخرون حنطة. عندما تُغلب نفسك من تجربة ما، لا تحولك التجربة إلى قش. بالحري لأنك أنت قش، خفيف الوزن، وغير مؤمن، لذا تكشف التجربة عما أنت فيه وكنت مختفيًا. وعلى النقيض، عندما تحتمل التجارب بشجاعة، فالتجارب لا تجعل منك مؤمنًا وصبورًا، بل بالحري تكشف فضيلتي الصبر والشجاعة اللتين كانتا مختفيتين فيك. يقول الرب: هل تظن إنني أنذرك لسبب آخر سوى أن تظهر بارًا (أي 40: 8 LXX)(1370).

العلامة أوريجينوس

هَلْ لَكَ ذِرَاعٌ كَمَا لله،

وَبِصَوْتٍ مِثْلِ صَوْتِهِ تُرْعِدُ؟ [9]

يعاتب الله أيوب، بأنه ليس من وجه للمقارنة بين ذراع الرب وصوته، وذراع أيوب وصوته. فإن الله قدير في عمله وقدير في كلماته.

*     عند الحديث عن صوت الله وذراعه لنحذر جدًا لئلا يتخيل ذهننا شيئًا ماديًا فيه. فإن من يحده في إطار الجسم ذاك الذي هو غير مادي يملأ الكل ويحتضن الكل، فإنه يسقط في بدعة الانثروبومرفيت (تشبيه اللاهوت بالإنسان). لكن الله القدير إذ يقرِّبنا إليه، يتواضع ليعلمنا الأمور العالية ويتنازل إلى الأمور السفلية… لهذا ففي كتابه المقدس يستخدم أحيانًا تشبيهات تارة من أجسام البشر، وأحيانًا من أذهاننا، بل وأحيانًا من الطيور…

البابا غريغوريوس (الكبير)

تَزَيَّنِ الآنَ بِالْجَلاَلِ وَالْعِزِّ

وَالْبِسِ الْمَجْدَ وَالْبَهَاءَ [10].

قد يتزين الإنسان بلباس المجد والبهاء، فيرهب غيره من البشر، ويجتذب العظماء كأصدقاء له، لكن هذا لا يساوي شيئًا أمام مجد الله وجلاله.

*     يحيط الله نفسه بالجمال، الذي كُتب عنه: “الرب قد ملك، لبس الجلال” (مز 93 :1). إنه يرتفع عاليًا فينا، عندما نتأكد أن طبيعته لا تُفحص بأذهاننا. إنه مجيد، هذا الذي يحوي فرحًا وليس في حاجة إلى مديحٍ. إنه ملتحف بثياب جميلة، إذ يخصص طغمات الملائكة القديسين لخدمة جماله. لقد خلقهم وأقام كنيسته كثوبٍ مجيدٍ، ليس فيه دنس أو غضن. لذلك قيل له بالنبي: “جلالًا لبست. اللابس النور كثوبٍ” (مز 104: 1-2).

البابا غريغوريوس (الكبير)

فَرِّقْ فَيْضَ غَضَبِكَ

وَانْظُرْ كُلَّ مُتَعَظِّمٍ وَاخْفِضْهُ [11].

كأنه يقول له: “ليس من وجه للمقارنة بيني وبينك؛ فإن كنت في حالة سخطٍ وغضبٍ، هل تستطيع بنظرة منك أن تحطم مقاوميك المتشامخين؟” فقد قيل: “فإن لرب الجنود يومًا على كل متعظمٍ وعالٍ، وعلى كل مرتفع فيوضع” (إش 2: 12). ليس من متشامخ يقدر أن يقف أمام نظراته.

إن كان أيوب قد أبكم أصدقاءه إلى حدٍ ما خلال الحوار الطويل ولفترة طويلة، فإن نظرة واحدة من الله تهز كل كيان المتكبرين المتشامخين عليه.

اُنْظُرْ إِلَى كُلِّ مُتَعَظِّمٍ وَذَلِّلْهُ

وَدُسِ الأَشْرَارَ فِي مَكَانِهِمِ [12].

كأن الله يقول لأيوب: “أنا أعلم أن طلبتك لم تكن عن تشامخٍ وكبرياءٍ. أنا أعرف قلبك المتواضع، حتى وإن عاتبتني وقت ضيقتك وطلبت تفسيرًا لما حلَّ بك. إن كنت قد تضايقت بسبب تشامخ أصدقائك عليك واتهامهم لك ظلمًا، فلا تخف. إن أردت فقد سمحت لك أن تنظر إليهم بعين الإيمان فستغلبهم. تستطيع أن تغلب الأشرار المتكبرين في أماكنهم قبل أن يتحركوا لمواجهة نظراتك.

إن ظنوا أنهم أكثر منك كرامة أو غنى أو سعادة، لأنه لم يحل بهم ما حلّ بك، فسينسحقون دون أن تنفعهم أمجادهم الزمنية وإمكانياتهم المادية ونسلهم.

*     يرتبك المتعظمون عند نظرة الرب، سواء هنا حيث برحمته يكشف عن أخطائهم ويدينها، أو هناك حيث يعاقبهم بعدله. لكن الكبرياء نفسه هو مكان الأشرار. مكتوب: “الكبرياء بدء كل خطية” (سيراخ 10: 13)، حيث يقطن في الموضع الذي يقيم فيه الشر، وإن كان يصعب جدًا التمييز بين الشر والكبرياء. من يكون متكبرًا جدًا يفكر بالشر في خالقنا. الشرير يٌداس إذن في مكانه، إذ يتحطم بذات الكبرياء الذي رفعه… غالبًا، بينما يتقدم المتكبر في مجده الباطل ضد الله، ينحدر داخليًا في بؤس حقيقي.

البابا غريغوريوس (الكبير)

*   لست أريدكِ أن تكوني متكبرة بسبب، بل بالحري أن تكوني خائفة. إنك تسافرين كصبيةٍ معها ذهب. لتخشَ اللص. هذه الحياة الزمنية هي سباق. هنا نتنافس لكي نكلل فيما بعد. لا يدخل أحد بين الحيات والعقارب وهو متأكد أنه يكون في أمان(1371).

*   ليس فقط الزنا والدعارة هما اللذان يدنسان من يمارسهما، لكن الكبرياء أيضًا يدنس الإنسان أكثر منهما(1372).

*     يُوهب التواضع لكل شخص حسب درجة عظمته. الكبرياء مضر لكل أحدٍ. إنه يطلب أن يفسد بالذات من هم عظماء!(1373)

القديس چيروم

*      واضح أن الفخر المبالغ فيه كان من سمات الرسل الكذبة(1374).

*      التشامخ مع الخطيّة طامة كبرى… إن كان الذي يعمل صلاحًا يفقد تعبه إن انتفخ، فكم يكون إثم الذي يضيف إلى خطاياه خطيّة التشامخ؟ لأن مثل هذا لا يقدر أن يمارس التوبة(1375).

القديس يوحنا الذهبي الفم

اُطْمُرْهُمْ فِي التُّرَابِ مَعًا

وَاحْبِسْ وُجُوهَهُمْ فِي الظَّلاَمِ [13].

إذ يظن المتكبرون أنهم قد غلبوا وانتصروا يطلب الله من أيوب ألا يخاف منهم، بل يطمرهم في التراب، يدفنهم كما في قبرٍ مظلمٍ ولا تعود أسماؤهم تُذكر. وذلك كما طمر موسى النبي المصري المتكبر في الرمل (خر 2: 12).

تُحبس وجوههم في الظلام حيث لا يستطيعون الوقوف أمام الله النور الحقيقي، بل يهبطون إلى الظلمة الخارجية، ظلمة الهاوية.

*     الله، بحكمه العادل يخفي المتكبرين والأشرار في التراب، إذ يسمح لقلوبهم أن تبتلعها الأمور الأرضية حسب اختيارهم، مستخفين بحب خالقهم.

بلياقة يضيف: “وفي نفس الوقت أحبس وجوههم في الحفرة“… إذ يُحدر نية قلوبهم عندما تريد أن تتشامخ على البشر. فإن من ينحدر وجهه نحو الهاوية يتطلع إلى الأمور السفلية.

البابا غريغوريوس (الكبير)

*     يا للجنون؟ ألا يدرى هذا الإنسان المتكبر أن مجده يزول ويتبخر كالحلم، وأن العظمة والسلطان ليست هي إلا سراب خداع(1376).

القديس باسيليوس الكبير

فَأَنَا أَيْضًا أَحْمَدُكَ،

لأَنَّ يَمِينَكَ تُخَلِّصُكَ [14].

الله يريد أن يمدح خليقته، إنه يعتز بها، ويطلب كرامتها، لكن هل يقدر أيوب بالرغم من شهادة الله عن استقامته أن يخلص نفسه بذراعه أو بيمينه، أي بقوته الذاتية؟ من يستخف بمساندة الله له، إنما يعتمد على قوته الذاتية فلا ينال مديحًا من الله.

يليق بالمؤمن أن يترنم: “لأنه ليس بسيفهم امتلكوا الأرض، ولا ذراعهم خلصتهم، لكن يمينك وذراعك ونور وجهك، لأنك رضيت عنهم” (مز 44: 3).

*     في اللحظة التي فيها لا نزال وسط المعركة نُحارب ونُجرح، نسأل أنفسنا: من الذي يغلب؟

الغالب أيها الإخوة هو ذاك الذي يعتمد علي الله الذي يسنده وهو يحارب، ولا يعتمد علي قوته. للشيطان خبرته في الحرب، لكن إن كان الله معنا فسنغلبه. يحارب الشيطان بذاته، فإن حاولنا أن نفعل ذات الأمر، فسيغلبنا. إنه مُحارب مُختبر، لهذا يليق بنا أن نستدعي القدير ليقف ضده.

ليقطن فيك ذاك الذي لا يُغلب، فستغلب ذاك الذي اعتاد أن ينتصر. من هم الذين يغلبهم؟ أولئك الذين قلوبهم فارغة من الله(1377).

*     يعرف الله سعيكم وإرادتكم الصالحة، وينتظر جهادكم، ويسند ضعفكم، ويكلل نصرتكم(1378).

القديس أغسطينوس

هُوَذَا فَرَسُ الْبَحْرِ (بهيموث) الَّذِي صَنَعْتُهُ مَعَكَ.

يَأْكُلُ الْعُشْبَ مِثْلَ الْبَقَرِ [15].

جاءت بهيموث في صيغة الجمع “بهيمة behemah” أي حيوان. ولا تزال تستخدم في مصر لتعني حيوانًا أليفًا مثل الغنم والحمير والخيول الخ، وهي تختلف عن الكلمة العبرية chaytow الخاصة بحيوانات البرية المتوحشة.

يرى البعض أنه يشير هنا إلى فرس البحر أو البرنيق أو جاموس البحر hippopotamus.

يرى آدم كلارك أن هذا الحيوان من الحيوانات المنقرضة، ويدعى mammoth.

يتسم هذا الحيوان بضخامة جسمه مع قوته، فلا يقدر إنسان أن يدخل معه في مصارعة، فكيف يريد مقاومة خالقه.

ظن البعض أنه يشير هنا إلى الفيل بسبب ضخامة جسمه وقوته، لكن كثير من الدارسين رفضوا ذلك.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن بعض المفسرين فسروا هذه العبارة بمفهوم روحي، وأن هذا الحيوان يشير إلى الشيطان.

إن كان يشير إلى الشيطان، فإنه يأكل عشبًا كالبقر، بمعنى إنه إذ يسيطر الجسد على النفس البشرية يصير الإنسان كعشب الحقل، مأكلًا للشيطان!

أفاض الله في حديثه مع أيوب عن بهيموث رمز عدو الخير إبليس. ولعله أراد أن يوجه نظره إلى هذا العدو. فعوض التذمر على أحكام الله يليق بأيوب أن يدرك وجود عدو خطير يود أن يفترس البشرية كلها. وأنه هو الذي طلب السماح أن يجربه، لكن هذه التجارب تحول إبليس إلى ألعوبة يسخر بها حتى الأطفال الصغار.

*    يثير شيطان الزنا الشهوة الجسدية، ويشن هجومه على النساك، ويجاهد لكي يتخلوا عن نسكهم، زارعًا في نفوسهم بأن نسكهم هذا بلا نفع.

فإذا ما استطاع أن يدنس النفس، يبتدئ يهيئها لقول وسماع بعض الأحاديث (الشريرة) حتى يبدو كما لو أن العمل (الشرير) ذاته ماثل أمام أعينهم(1379).

القديس مار أوغريس البنطي

هَا هِيَ قُوَّتُهُ فِي مَتْنَيْهِ،

وَشِدَّتُهُ فِي عَضَلِ بَطْنِهِ [16].

يشير هنا إلى قدرته الفائقة بالرغم من ضخامة جسمه قوته في متنيه (الحقوين) وشدته في سرة بطنه.

قوة الفيل في رقبته، والأسد في مخالبه، والفرس والثور في صدريهما، أما القوة الرئيسية لهذا الحيوان ففي متنيه. قيل في ناحوم: “شدد الحقوين، مكِّن القوة جدًا” (نا 2: 1).

يليق بالمؤمن أن يميت حقويه، فلا يسمح للجسد أن يشتهي ضد الروح (غل 5: 7).

*    إن أردنا أن نأكل لحم الحمل، يلزمنا أن نميت أحقاءنا، أي أعمال الجسد، ونحطم فينا ما قاله أيوب عن الشيطان: “ها هي قوته في متنيه، وشدته في عضل بطنه” (أي 40: 16). يليق بنا ألا نسمح للجسد أن يشتهي ضد الروح (غل 5: 17)، بل بالروح نميت أعمال الجسد، وبهذا التطهير نتمتع بجسد الحمل(1380).

القديس جيروم

في رسالة إلى أوستوخيوم كتب القديس جيروم موضحًا أن التقشف ليس بذات قيمة في ذاته، إنما هو وسيلة هامة لضبط النفس والعفة.

*     الخالق رب الكل لا يسر بالدمدمة والمعدة الفارغة….. إنما هذه أمور لازمة كوسيلة لحفظ العفة. كان أيوب له معزته لدى الله, كاملًا ومستقيمًا أمامه (أي 2: 3), ومع هذا اسمعوا ما يقوله عن الشيطان: “قوته في حقوية (أعضائه الجنسية), وشدته في السرة” (أي 40: 16). اخترت هذه العبارات من أجل الرقة في التعبير, لكن المقصود بها الأعضاء الجنسية التناسلية للجنسين. سليل داود, الذي يجلس على عرشه حسب الوعد, قيل أنه من ثمرة بطنه (حقويه) (مز 132: 11). والخمسة وسبعون النفوس التي من سلالة يعقوب والتي أتت إلى مصر قيل عنها أنها خارجة من صلبه (تك 46: 26). هكذا عندما انخلع حق فخذ يعقوب عندما صارع مع الرب توقف عن إنجاب أبناء. مرة أخرى أُمر الإسرائيليون أن يحتفلوا بالفصح بأحقاء ممنطقة ومماته (خر 12: 11). قال الله لأيوب: “أشد حقويك كرجلٍ” (تك 38: 3). يوحنا لبس منطقة من جلد (مت 3: 4). والتزم الرسل أن يمنطقوا أحقاءهم ليحملوا سراج الإنجيل (لو 12: 35). عندما أخبرنا حزقيال عن أورشليم أنها وجدت في سهل التيه, مغطاة بالدم, استخدم الكلمات: “سرتك لم تقطع” (حز16: 4-6). لذلك فإن الشيطان في هجومه على الرجال قوته في متنه, وفي هجومه على النساء شدته في سرته. أتريدون برهان على تأكيداتي هذه؟ خذوا أمثلة لذلك. كان شمشون أكثر شجاعة من الأسد وأثبت من الصخرة….. لكن في حضرة دليله زالت مقاومته وانمحت. داود كان إنسانًا قلبه على مثال قلب الله, شفتاه كانتا دائما تسبحان للقدوس, المسيح القادم, ومع هذا إذ تمشي على سطح بيته فتنة عري بثشبع وأضاف القتل إلى جريمة الزنا. لاحظوا كيف أن الإنسان حتى في بيته لا يقدر استخدام عينيه دون أن يحدق به خطر(1381).

القديس جيروم

*     ومن الواضح أيضًا للجميع أن الزنا لا يتم إلا بعمل جسدي، إذ يقول الله عن هذا الزوج الطوباوي أيوب: “ها هي قوتهُ في مَتْنَيهِ وشدَّتهُ في عضل بطنهِ” (أي16:40)(1382).

الأب سرابيون

يَخْفِضُ ذَنَبَهُ كَارْزَةٍ.

عُرُوقُ فَخْذَيْهِ مَضْفُورَةٌ [17].

يحرك ذيله (ذنبه) كشجرة أرز قوية، وقد قيل عن التنين: “ذنبه يجر ثلث نجوم السماء، فطرحها إلى الأرض” (رؤ 12: 4).

قوي، متى وطأ إنسانًا بقدميه سحقه، إذ “عروق فخذه مضفورة“.

يصور لنا القديس مار يعقوب السروجي كيف لا يطيق إبليس خلاص الإنسان، فإذا ما رأى خاطئا يسلك طريق التوبة يطلب من جنوده أن يكثفوا جهودهم لتحطيمه بالأفكار الشريرة والمجد الباطل، وبكل وسيلة ممكنة. لقد كتب القديس إلى زانيتين تدعيان لانطيا وماريا، تابتا وصارتا حبيستين يحذرهما من حروب إبليس ومقاومته لهما بكل عنفٍ.

*     الآن يأمر قائد جند اليسار المؤذية (يأمر إبليس جنوده) بسبب عدائه لكما:

لا تحاربوا الطاهرين ولا الكاملين، ولا أحد أعدائي الأقوياء، لكن هاتين اللتين هما من خاصتي، واحتقرتاني، وسخرتا مني. وهما قائمتان في درجة القديسين.

أجلبوا عليهما قطع الرجاء، املأوهما بالكسل.

ازرعوا فيهما الحسد لبعضهما البعض لتخضعا للضعف، وتحترقا بشهوة الطعام.

أيقظوا أفكارهما ليحبا أعمالهما الأولى. أقلقوهما بأفكار الزنى.

أعيقوا صلواتهما، لئلا تكون قوية لتكمّلا عهودهما…

أوقفوهما على جرف العظمة، واربطوهما بمحبة المجد…

احملوهما على الظن أنهما صارتا صالحتين.

أرسلوا المرضى عندهما لتصليا عليهم، واحملوا الآخرين ليقولوا: إننا شُفينا بصلواتكما، اخدعوهما بأنهما ليستا تائبتين بل هما فاضلتان(1383).

القديس مار يعقوب السروجي

عِظَامُهُ أَنَابِيبُ نُحَاسٍ،

وَأَضْلاَعُهُ حَدِيدٌ مُطَرَّقٌ [18].

ليس من يقدر أن يحطم عظامه ولا من يمزق ضلوعه، فعظامه أشبه بأنابيب نحاس، وأضلاعه حديد مطرق.

*     ماذا يقول سفر أيوب عنه هو مخيف ومرعب (أي 40: 18؛ 41: 7). جنباه نحاس، وظهره حديد مسبوك، أحشاؤه من حجارة صنفرة. هذا وأكثر منه يقول عنه الكتاب المقدس. هذا هو قائد الفرق الشيطانية العظيم والقدير. ولكن ماذا يدعوه صاحب القوة الحق والفريد؟ إنه ثعلب صغير!” (نش 2: 15). كل الذين مع الشيطان، قواته بكاملها هي موضع سخرية. الله يدعوهم بذات الاسم الثعالب الصغيرة” ويحث الصيادين ضدهم(1384).

القديس غريغوريوس النيسي

هُوَ أَوَّلُ أَعْمَالِ اللهِ.

الَّذِي صَنَعَهُ أَعْطَاهُ سَيْفَهُ [19].

جاء النص في الترجمة السبعينية: “هذا هو أول أعمال الرب، والذي جعله سخرية ملائكته”. وقد اعتمد البعض على هذه العبارة في ادعاء أن الشيطان خُلق شريرًا، ولم يسقط بإرادته. وقد فند القديس أغسطينوس هذا الرأي في كتابه “التفسير الحرفي للتكوين(1385).

من ينكر أن الله خلق إبليس من أعظم الطغمات السماوية، لكنه بإرادته صار أضحوكة وموضع سخرية الملائكة.

*     يُقال عن الشيطان “بدء أعمال الرب، الذي جعله سخرية ملائكته” ليس لأنه هو أول خليقة أوجدها، ولا لأنه منذ البداية كان مخلوقًا شريرًا. لكن الله إذ يعلم  أنه ستصير له إرادة شريرة تميل إلى أذية الصالحين، خلقه ليكون نفعًا للصالحين. هذا هو معني الكلمات “يسخر به ملائكته”، إذ يُسخر بالشيطان وذلك عندما يحاول أن يحطم الذي اختاره بإرادته نافعًا لخدام الله بالرغم من سوء نيته. حقًا لقد رأى الله ذلك عند خلقته إياه(1386).

القديس أغسطينوس

كان إبليس كوكبًا عظيمًا ومرموقًا بين السمائيين “زهرة بنت الصبح” (إش 14: 12)، لا يتمتع بالنور فحسب، وإنما كان يشرق بنوره على الغير كأنه نور مشرق في الصباح، وذلك كعطية إلهية، لكنه تشامخ على الله خالقه وواهبه النور، وظن أنه يقدر أن يرتفع على مستوى الله نفسه، بل ويصير أعظم منه، فسقط ليصير ظلامًا عوض النور، إذ عزل نفسه بنفسه عن الله مصدر النور. أراد أن يجلس على جبل صهيون (مز 48: 2)، جبل الله المقدس، حسب نفسه كالله في العظمة فتعالى فوق السحاب!

*     الذين يقولون إن الشيطان ليس خليقة الله مخطئون. فبقدر ما هو شيطان ليس خليقة الله، أما الكائن نفسه (كمخلوق) فهو خليقة الله. وذلك كالقول بأن القاتل ليس خليقة الله، لكنه كإنسان هو خليقة الله(1387).

*     واضح تمامًا من هذه الكلمات (إش 14: 12) أن ذاك الذي كان قبلًا لوسيفر، والذي ظهر في الصباح سقط من السماء. فلو أنه – كما يدعى البعض – كان كائنًا من الظلمة، لماذا قيل عنه أنه كان مثل لوسيفر Lucifer أو حامل النور؟ أو كيف يقوم في الصباح من ليس فيه نور قط؟(1388)

العلامة أوريجينوس

*     قول السيد المسيح: “لأن رئيس هذا العالم“، يعني به إبليس، وقد دعاه الناس الأشرار بهذا الاسم، ليس لأنه يرأس السماء والأرض، وإلا لقلب الخلائق وعكسها، وإنما يرأس الذين قد أسلموا إليه ذواتهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     نفهم من هذه الكلمات أنه يوجد ملك واحد، وهو خالق الكون كله. بينما على الجانب الآخر يوجد رئيس هذا العالم الذي يسمى نفسه ملك الظلمة. تخدم ربوات من الملائكة الملك الحقيقي، بينما يلتف حول رئيس قوى الظلمة ربوات من الشياطين (كو 13:1). تتبع الرئاسات والسلاطين والفضيلة ملك الملوك ورب الأرباب. وفي الآخرة حين يُسلم المسيح المُلك لله الآب بعد أن يكون قد أباد كل رئاسة وكل سلطان وكل قوة للعدو، فإنه لا بُد أن يملك إلى أن يضع جميع الأعداء تحت موطئ قدميه (1 كو 24:15، 25)(1389).

القديس غريغوريوس النيسي

لأَنَّ الْجِبَالَ تُخْرِجُ لَهُ مَرْعًى،

وَجَمِيعَ وُحُوشِ الْبَرِّ تَلْعَبُ هُنَاكَ [20].

يرى البعض هنا صلاح الله العجيب، فمع ضخامة جسم هذا الحيوان، ومع قدرته لكنه ليس مفترسًا كالأسد أو النمر. لو كان مفترسًا يعيش على لحوم الحيوانات، فمع ضخامة جسمه لاحتاج إلى افتراس الكثير من الحيوانات، لأنه يحتاج إلى كمية هائلة من الطعام. لكن طعامه هو العشب الذي يوجد بوفرة على الجبال. وإذ يعيش على الخضروات لا تخشاه وحوش البر الأضعف منه جسمانيًا، بل تلعب معه.

تَحْتَ السِّدْرَاتِ يَضْطَجِعُ فِي سِتْرِ الْقَصَبِ وَالْغَمِقَةِ [21].

*     الأشجار العظيمة تستظل به (بالشيطان) وهو ينام بجوار القصب والأسل والبردي (أي40: 21). إنه ملك على كل الأشياء التي في المياه أي على كرسي اللذة والترف(1390).

 القديس جيروم

تُظَلِّلُهُ السِّدْرَاتُ بِظِلِّهَا.

يُحِيطُ بِهِ صَفْصَافُ السَّوَاقِي [22].

إذ تلعب معه وحوش البر لا يحتاج أن يكمن في أماكن مظلمة أو يختبئ في كهوف حتى ينقض فجأة على فريسته. إنما في أمان يضطجع تحت الأشجار المظللة (السدرات). ينام في سلام، وتلتف حوله الحيوانات متهللة، تلعب معه.

إذ لا يؤذي أحدًا لا يحتاج إلى كهوف تحميه، بل يستتر بالقصب وغيره من المزروعات التي بجوار المياه.

يقدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا رمزيًا لهذه العبارة، فيقول: [يجد بهيموث نوعًا من الراحة في أولئك الذين يصيرون باردين بانسحابهم من نور الشمس الحقيقي، لذلك يقول عنه “ينام تحت الظل“… أما الأماكن الرطبة (صفصاف السواقي)، فهي أذهان الناس الأرضيين، حيث رطوبة الشهوات الجسدية. في هذه الأذهان يغرس بصمات شره، ويغطس في أذهانهم كما في أرض رطبة. الأماكن الرطبة هي الأعمال الشهوانية. فالقدم لا تتزحلق على أرضٍ جافةٍ، وإنما عندما تسير على أرضٍ زلقةٍ، حيث يصعب مساندتها. فالذين لا يقدرون أن يقفوا باستقامة يعبرون هذه الحياة في مواضع رطبة].

هُوَذَا النَّهْرُ يَفِيضُ فَلاَ يَفِرُّ هُوَ.

يَطْمَئِنُّ وَلَوِ انْدَفَقَ الأُرْدُنُّ فِي فَمِهِ [23].

إذ يحتاج هذا الحيوان الضخم إلى كمية ضخمة من الماء يُخيَّل للمرء أنه قادر على شرب نهرٍ بأكمله. إذا فاض النهر لا يهرب، بل في روية يشرب منه بغير خوفٍ أو فزعٍ.

يظن بهيموث أنه قادر أن يشرب نهر الأردن كله إن اندفق في فمه.

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن المياه تشير إلى الشعوب، فقد فتح إبليس فمه ليشرب النهر كله، أي كل الجنس البشري، بكونهم شرابه، ومن حقه أن يبتلعهم. وإذ جاء السيد المسيح إلى نهر الأردن فتح العدو فمه ليشرب الأردن النازل فيه السيد. باطلًا حاول العدو أن يقتنص السيد المسيح، إنما سحق السيد المسيح رأس التنين في مياه الأردن.

مازال العدو يفتح فمه ليبتلع نهر الأردن كله، أي ليقتنص الذين نالوا سرّ العماد وصاروا أبناء الله، لكنهم في تهاونهم يخدعهم ليرتدوا إلى البنوة لإبليس.

تحدث القديس كيرلس الأورشليمي عن عطية المعمودية كتحريرٍ من سلطان إبليس – الوحش الساكن في أعماق المياه، قائلًا: [جاء في أيوب أنه كان في المياه الوحش الذي “اندفق الأردن في فمه” (أي 40: 23)، وكان يجب تحطيم رؤوسه (مز 74: 14). لهذا نزل (السيد) وربط القوي في المياه حتى ننال فيها القوة، إذ يكون لنا السلطان أن ندوس على الحيات والعقارب (لو 10: 19). كان الوحش عظيمًا ومرعبًا “لا يقدر إناء سميك أن يحتمل حرشفة واحدة من ذيله(1391)” (أي 41: 7 LXX)، ثائرًا ضد كل من يلتقي به. لقد نزل “الحياة” إليه ليلتقي معه فيسد هناك فم الموت، وعندئذ نخلص نحن، قائلين: أين شوكتك يا موت؟! أين غلبتك يا قبر؟! (1 كو 10: 55). لقد نزعت شوكة الموت بالمعمودية! ها أنتم تدخلون المياه حاملين خطاياكم، وبابتهال النعمة إذ نختم نفوسكم، لا يعود يبتلعكم الوحش المرعب(1392).]

هَلْ يُؤْخَذُ مِنْ أَمَامِهِ؟

هَلْ يُثْقَبُ أَنْفُهُ بِخِزَامَةٍ؟ [24]

ما هي الخزامة التي تثقب أنف عدو الخير؟ يقول البابا غريغوريوس (الكبير) [ما هي إلا مشورات القديسين الجادة؟ إنها تثقب أنوف بهيموث هذا… الرب يثقب أنوفه بخزامات، إذ ينزع عنه قوته، محطمًا حيلة المخادعة بمفاهيم القديسين الحازمة].

يا للعجب الله يسمح بوجود إبليس، ولا يأخذني من أمامه. فهو يعلم أنني به أنتصر عليه. أضرب بحربة الصليب أنفه المتشامخ فأحطمها. بروح الرب أعيش غالبًا ومنتصرًا. أتغنى بروح النصرة على الشيطان الساقط من السماء كالبرق!

*     يصوب الشيطان سهامًا ضدي، لكن أنا معي سيف.

هو معه قوس، أما أنا فجندي أحمل سلاحًا ثقيلًا

إنه حامل قوسٍ لكنه لا يجسر أن يقترب إليّ، إذ يلقى بسهامه من بعيد(1393).

*     لقد فقدتم الفردوس، لكن الله وهبكم السماء، حتى يؤكد حنوه، وأنه يهزم إبليس، مظهرًا أنه حتى إن أتقن عشرات الألوف من الخطط ضد الجنس البشري، فإنها لن تفيده، حيث يقودنا الله دائمًا إلى كرامة أعظم.

أنتم فقدتم الفردوس (جنة عدن)، والله فتح لكم السماء.

لقد سقطتم تحت الدينونة بالتعب إلى حين، وقد كُرمتم بالحياة أبديًا.

يأمر الله الأرض أن تنبت شوكًا وحسكًا، أما تربة الروح، فتنبت لكم ثمرًا. ألا ترون أن الربح أعظم من الخسارة؟(1394)

القديس يوحنا الذهبي الفم

    يخبرهم بولس أن يكونوا شجعانًا وأقوياء مثل المصارع وجندي المسيح، يفعلون كل شيء بالحب لله ولبعضهم البعض.

القديس ديديموس الضرير

    لنضع على رؤوسنا خوذة الخلاص، لكي لا نُجرح ونموت في المعركة.

لنمنطق أحقاءنا بالحق، فلا نوجد ضعفاء في القتال.

لنقم ونوقظ المسيح، فيهدئ الأمواج عنا.

لنأخذ الترس تجاه الشرير، كاستعدادٍ لإنجيل مخلصنا (أف 6: 15-16).

لنقبل من ربنا السلطان أن نسود على الحيات والعقارب (لو 10: 19)…

لنفرح في رجائنا في كل وقتٍ (رو 12: 12)، حتى يفرح بنا ذاك الذي هو رجاؤنا ومخلصنا…

لنأخذ لأنفسنا سلاحًا للمعركة (أف 6: 16)، هو الاستعداد للإنجيل.

لنقرع باب السماء (مت 7: 7)، فيُفتح أمامنا وندخل فيه.

لنسأل الرحمة باجتهاد، فننال ما هو ضروري لنا.

لنطلب ملكوته وبره (مت 6: 33).

لنتأمل في ما هو فوق، في السماويات، حيث المسيح صاعد وممجد.

لكن لننسَ العالم الذي هو ليس لنا، حتى نبلغ الموضوع الذي نحن مدعوون إليه.

لنرفع أعيننا إلى العلا، لنرى الضياء المتجلي.

لنرفع أجنحتنا كالنسور، لنرى حيث تكون الجثة (مت 24 28)…

عدونا حاذق يا عزيزي، ومحتال ذاك الذي يقاتلنا. يُعد نفسه للهجوم على الشجعان الظافرين، ليجعلهم ضعفاء. أما الواهون الذين له فلا يحاربهم، إذ هم مسبيون مُسلمون إليه.

من له جناحان يطير بهما عنه، فلا تبلغ إليه السهام التي يقذفها نحوه؟

يراه الروحيون يحارب، ولا يتسلط سلاحه على أجسادهم.

لا يخافه كل أبناء النور، لأن الظلمة تهرب من أمام النور. أبناء الصالح لا يخشون الشرير، لأنه أعطاهم أن يطأوا عليه بأقدامهم (تك 3: 15)(1395).

القديس أفراهاط

*     لم تستطع أية خطية صادرة عن بلاء شيطاني أن تقترب من جسم الرب. صمد الرب أمام تجارب العدو، لكي يرد النصرة للبشرية. جعل من الشيطان ألعوبة، كما أعلن داود: “لوياثان هذا خلقته ليلعب فيه” (مز 104: 26)، وأيضًا: “يسحق المتهم الباطل” (مز 72: 4). وأيضًا “كسرت رؤوس لوياثان على المياه” (مز 74: 13-14). وفي سفر أيوب أعلن الرب أن لوياثان هذا سيصير ألعوبة ويُصطاد في هذه التجربة، قائلًا: “تصطاد لوياثان بشصٍ” (أي 41: 1)(1396).

الأب خروماتيوس

من وحي أيوب 40

مَنْ ينقذني مِن إبليس سواك؟

 

*     في وسط ضيقاتي تتمرر نفسي.

أدخل معك في عتاب مرّ.

أنسى حقيقة نفسي،

إني تراب حقير أمام خالق عظيم.

*     لقد أخطأت في تفكيري كما في كلماتي.

تكلمت مرة ومرتين،

تساءلت: لماذا تُنجح طريق الأشرار؟

لماذا تسمح لي بالضيقات؟

لكنني لا أعود أزيد الكلام.

صمت أمامك،

ذراعك قوي وصوتك يرعد.

جلالك وبهاؤك من يقدر أن يصفهما

*     اكتشفت حقيقة نفسي الضعيفة،

وعرفت عنف إبليس عدوي.

من يقيمني سواك؟

من يخلصني من هذا العدو إلا أنت يا محب البشر؟

*     لتشددني فأميت حقويَّ،

ولا أسمح لشهوات الجسد أن تحطم شهوات الروح.

قوة العدو في حقويه وسرة بطنه!

احفظني منه، وقدس حقوي وبطني.

*     خلقته كوكبًا منيرًا،

وفي شره انحدر إلى الهاوية.

يود أن يسحبني معه.

من يخلصني منه سواك؟

يفتح فمه، ليبتلع كل بني البشر.

ليتني أختفي فيك، فلا يقترب إليَّ.

لأنعم بصليبك، فأثقب أنفه.

أحيا بروحك القدوس،

فأكسر أنفه المتشامخ!

 

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى