تفسير سفر يشوع ٦ للقمص أنطونيوس فكري
الإصحاح السادس
خطة الحرب كانت على 3 مراحل [1] الاستيلاء على أريحا وعاي للتحكم في كل الممرات لبلاد كنعان وبهذا يتم شق بلاد الكنعانيين لنصفين [2] ضرب الكتلة الجنوبية [3] ضرب الكتلة الشمالية.
آية (1): “وكانت أريحا مغلقة مقفلة بسبب بني إسرائيل لا أحد يخرج ولا أحد يدخل.”
أريحا كانت أول مدينة حصينة تواجه الشعب القادم للتمتع بالميراث، وهي تمثل العالم وقد وضع في الشرير، أو بمعنى أدق تمثل محبة العالم الزمني كعائق يعوق النفس عن إنطلاقها نحو الأبدية للتمتع بالميراث الحقيقي، يثقلها فلا ترتفع بأجنحة الروح القدس من مجد إلى مجد. ولأنها تمثل العالم الشرير، كان مثل السيد المسيح “المسافر من أورشليم نازلاً إلى أريحا هذا يمثل من إرتد من محبة الله (أورشليم) ونزل إلى محبة العالم (أريحا) فضربه اللصوص وجرحوه (الشياطين). ولكن المسيح السامرى الصالح إهتم به ليشفي. وفي أريحا أعاد المسيح البصر للأعمى (مت29:20 + مر46:10 + لو35:18). فمن يحب العالم وشهواته يصاب بالعمى ولكن المسيح أيضاً قادر على شفائه. فالمسيح أتى من أجل من أصابه عمى الجهل لا أحد يخرج= خوفاً من جيش إسرائيل. ولا أحد يدخل= لأن الأبواب مغلقة من الرعب. وهذه الآية (آية 1) أدخلت وسط الآيات (13:5-15، 2:6-5) ليظهر عظم عمل الرب. والمدينة المغلقة تمثل الإنسان المنغلق على ذاته لا ينفتح قلبه بالخدمة والعطاء للآخرين، هي تمثل الإنسان عديم المحبة، أما الإنسان المتسع القلب بالمسيح فيحب كل إنسان ويصلي له.
الآيات (2-5): “فقال الرب ليشوع انظر قد دفعت بيدك أريحا وملكها جبابرة البأس. تدورون دائرة المدينة جميع رجال الحرب حول المدينة مرة واحدة هكذا تفعلون ستة أيام. وسبعة كهنة يحملون أبواق الهتاف السبعة أمام التابوت وفي اليوم السابع تدورون دائرة المدينة سبع مرات والكهنة يضربون بالأبواق. ويكون عند امتداد صوت قرن الهتاف عند استماعكم صوت البوق أن جميع الشعب يهتف هتافاً عظيماً فيسقط سور المدينة في مكانه ويصعد الشعب كل رجل مع وجهه.”
هي تتمة إصحاح (5) ونجد هنا ما قاله رئيس جند الرب ليشوع. ولاحظ قوله دفعت= بصيغة الماضي للتأكيد. ولقد استخدم الله طريقة فريدة للغلبة على أريحا لم يستخدمها بعد ذلك. فهي أول موقعة بعد عبور الأردن وأول مدينة محصنة يحاربونها. والله أراد أن يعلن بطريقة ملموسة أن الحرب له والنصرة هي من عنده وسلاحهم المطلوب هو الإيمان (عب30:11) ولنلاحظ أن يشوع لم يخبر الشعب عن فائدة الدوران حول أريحا ولكنهم بالإيمان أطاعوا سبعة أيام وفي اليوم السابع قال لهم يشوع إهتفوا فالله أعطاكم المدينة فهتفوا وهم لا يدرون كيف سيعطيهم الله المدينة. وبعد ذلك في باقي حروبهم استخدموا الحكمة والتدبيرات العسكرية لكنهم كانوا قد فهموا أن النصرة هي من عند الله. أما مع اريحا فالله لم يستخدم التدبيرات العسكرية والحكمة البشرية بل ولا القوة الجسدية، ففي اليوم السابع داروا حول المدينة 7 مرات حتى أنهكوا تماماً ولم يعد عندهم حتى القدرة على المشي. وهتافهم العظيم كان إعلاناً عن إيمانهم بالله واهب النصرة. ونلاحظ دوران الشعب 7 أيام حول أريحا من المؤكد أنه أوقع الرعب والحيرة في قلوب أهل أريحا الواقفين ليراقبوا ماذا يفعل الشعب فكانت فرصة لمن يريد أن يتوب. ونلاحظ أن الكهنة استخدموا الأبواق والشعب هتف. وقارن مع (رؤ15:11) فحين بوق الملاك السابع صارت ممالك الأرض للرب ولمسيحه. إذاً البوق السابع هو علامة على مجيء المسيح الثاني وبداية الحياة الأبدية. والأبواق أيضاً في اليوبيل تكون إعلاناً عن الحرية. وإذا فهمنا أن الدوران في دائرة حول أريحا يمثل الدخول في الأبدية (الأبدية والدائرة لا بداية ولا نهاية لهما) فكأن ما حدث حول أريحا يشير للحياة الدائمة مع الله في الأبدية بعد أن تنهزم أمام الله كل قوات الظلمة ونحن لا دخل لنا في هذا سوى أن نقف ونهتف ونسبح الله على أعماله العجيبة والآن كل ما يرتفع فكره ويحيا في السمويات تنهزم أمامه كل الأرضيات. وكما كان شعب أريحا مسجون طوال ستة أيام وكان سقوطه النهائي في نهاية اليوم السابع هكذا إبليس هو الآن فى فزع مقيد بسلسلة ولكن سقوطه النهائى سيكون بعد انتهاء اليوم السابع عند مجيء المسيح مع صوت هتاف البوق وصراخ التهليل. ونلاحظ أن الكلمة المستخدمة للأبواق هنا هي أبواق اليوبيل فيكون معنى استعمالها بغرض طقس ديني وليس بغرض عسكري فهزيمة أريحا هي عمل كامل لله وليس للشعب يد فيه. وأبواق اليوبيل استخدمت إشارة للحرية الحقيقية بعد دخولهم أرضهم. والأبواق تشير أيضاً لكلمة الله ويشوع أرسل الكهنة ليضربوا الأبواق كما أرسل المسيح التلاميذ لنشر كلمة الكرازة التي أعطت المؤمنين الفرح الداخلي وتهليل القلب وفي (5) كل رجل مع وجهه= أي كل رجل يصعد إلى داخل المدينة في خط مستقيم يضرب ما يجده في وجهه. عند امتداد صوت قرن الهتاف= أي يكون صوت البوق متصلاً حينئذ يصيح الشعب ويهتف والهتاف هنا بمعنى صيحات الفرح، الكل في وحدة واحدة يسبح ويهتف، هي الكنيسة المجاهدة التي تسبح بنفس واحدة وروح واحدة مجاهدة ضد الخطية ومملكة إبليس.
الآيات (6-9): “فدعا يشوع بن نون الكهنة وقال لهم احملوا تابوت العهد وليحمل سبعة كهنة سبعة أبواق هتاف أمام تابوت الرب. وقالوا للشعب اجتازوا ودوروا دائرة المدينة وليجتز المتجرد أمام تابوت الرب. وكان كما قال يشوع للشعب اجتاز السبعة الكهنة حاملين أبواق الهتاف السبعة أمام الرب وضربوا بالأبواق وتابوت عهد الرب سائر وراءهم. وكل متجرد سائر أمام الكهنة الضاربين بالأبواق والساقة سائرة وراء التابوت كانوا يسيرون ويضربون بالأبواق.”
الساقة= مؤخرة الجيش وسموها هكذا لأن من في المؤخرة كأنهم يقودون من أمامهم.
آية (10): “وأمر يشوع الشعب قائئلا لا تهتفوا ولا تسمعوا صوتكم ولا تخرج من أفواهكم كلمة حتى يوم أقول لكم اهتفوا فتهتفون.”
كان سكوتهم حتى لا يسخر منهم أهل أريحا إذ أنهم لا يهاجمون بل يصيحون. ولكنهم كانوا يصلون سراً= لا تسمعوا أصواتكم. ونلاحظ قول بولس الرسول أنه يجب علينا إذا اجتمعنا أن يكون لنا مزامير وتراتيل روحية، أو علينا أن نسبح الله ونلهج في كتابه المقدس ويكون هذا لنا هتافاً عظيماً عندئذ تنهدم أسوار محبة العالم فينا ويملك يسوع داخلنا.
آية (11-17): “ فدار تابوت الرب حول المدينة مرة واحدة ثم دخلوا المحلة و باتوا في المحلة. فبكر يشوع في الغد و حمل الكهنة تابوت الرب. و السبعة الكهنة الحاملون ابواق الهتاف السبعة امام تابوت الرب سائرون سيرا و ضاربون بالابواق و المتجردون سائرون امامهم و الساقة سائرة وراء تابوت الرب كانوا يسيرون و يضربون بالابواق. و داروا بالمدينة في اليوم الثاني مرة واحدة ثم رجعوا الى المحلة هكذا فعلوا ستة ايام. و كان في اليوم السابع انهم بكروا عند طلوع الفجر و داروا دائرة المدينة على هذا المنوال سبع مرات في ذلك اليوم فقط داروا دائرة المدينة سبع مرات. و كان في المرة السابعة عندما ضرب الكهنة بالابواق ان يشوع قال للشعب اهتفوا لان الرب قد اعطاكم المدينة. فتكون المدينة و كل ما فيها محرما للرب راحاب الزانية فقط تحيا هي و كل من معها في البيت لانها قد خبات المرسلين اللذين ارسلناهما. فتكون المدينة وكل ما فيها محرما للرب راحاب الزانية فقط تحيا هي وكل من معها في البيت لأنها قد خبأت المرسلين اللذين أرسلناهما.”
محرماً للرب= التحريم كان ليعرف الشعب عقوبة الخطية وأن الأرض تقذف سكانها لو أخطأوا فيخافوا ولنعرف أن شعب الله كان شعب بدائي لا يميز بين الخاطئ والخطية فإبادة الخطاة تعني بالنسبة لهم إبادة الخطية، بل إبادة البهائم التي آلهوا بعضها وقدموا البعض الآخر ذبائح لآلهتهم. غير أن التحريم كان يهدف أيضاً ألا ينصرف قلبهم وفكرهم ووقتهم إلى الغنيمة والمكسب المادي، لهذا حرم عليهم نوال شيئاً من أريحا، ولكنه بعد ذلك في المواقع التالية سمح لهم بالغنائم. فالله أعطاهم درساً في عفة النفس ليروا أن كل الماديات لا قيمة لها عند الله ولكن بعد هذا سيعطيهم الله بعد أن يكونوا قد تعلموا أن يقولوا مع بولس الرسول تدربت أن أشبع وأن أجوع (في11:4-12). ونلاحظ أن الله يعلمهم أن ينصرفوا عن الزمنيات في أريحا ثم يعطيهم بعد ذلك الروحيات والزمنيات، (أية 19) كأن إنصرافهم عن أخذ أسلاب أريحا هو كأنهم قدموها بكوراً لله فيفهموا أن الله أولاً، وإذا قدموا البكور يبارك الله بعد ذلك فيما تمتد إليه أيديهم في الحروب التالية وبالنسبة لنا علينا أن نطلب أولاً ملكوت الله وبره وهذه الباقية تزاد لنا. ونلاحظ خلاص راحاب فقط بسبب إيمانها بل هي دخلت في جماعة شعب الرب.
آية (18-23): “و اما انتم فاحترزوا من الحرام لئلا تحرموا و تاخذوا من الحرام و تجعلوا محلة اسرائيل محرمة و تكدروها. و كل الفضة و الذهب و انية النحاس و الحديد تكون قدسا للرب و تدخل في خزانة الرب. فهتف الشعب و ضربوا بالابواق و كان حين سمع الشعب صوت البوق ان الشعب هتف هتافا عظيما فسقط السور في مكانه و صعد الشعب الى المدينة كل رجل مع وجهه و اخذوا المدينة. و حرموا كل ما في المدينة من رجل و امراة من طفل و شيخ حتى البقر و الغنم و الحمير بحد السيف. و قال يشوع للرجلين اللذين تجسسا الارض ادخلا بيت المراة الزانية و اخرجا من هناك المراة و كل ما لها كما حلفتما لها. فدخل الغلامان الجاسوسان واخرجا راحاب وأباها وأمها واخوتها وكل ما لها واخرجا كل عشائرها وتركاهم خارج محلة إسرائيل.”
إبقاء راحاب وعائلتها خارج المحلة بسبب وثنيتهم ونجاستهم ويظلوا خارج المحلة حتى يتطهروا ويؤمنوا. والله ذكر إيمان وعمل راحاب فهو لا ينسى كأس ماء بارد يقدم بإسمه. وقبول راحاب في شعب الله رمز لقبول الأمم والعشارين والزواني في ملكوت الله (مت31:21).
آية (24-27): “و احرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها انما الفضة و الذهب و انية النحاس و الحديد جعلوها في خزانة بيت الرب. و استحيا يشوع راحاب الزانية و بيت ابيها و كل ما لها و سكنت في وسط اسرائيل الى هذا اليوم لانها خبات المرسلين اللذين ارسلهما يشوع لكي يتجسسا اريحا. وحلف يشوع في ذلك الوقت قائلا ملعون قدام الرب الرجل الذي يقوم ويبني هذه المدينة أريحا ببكره يؤسسها وبصغيره ينصب أبوابها. و كان الرب مع يشوع و كان خبره في جميع الارض. “
لأن أريحا كانت رمزاً للشر الذي يلزم هدمه تماماً وإبادته، لعن يشوع من يبنيها ولكنه لم يلعن ولم يحرم من يحيا فيها بعد بنائها، لذلك بنيت المدينة وعاش فيها كثيرين بعد ذلك. أما يشوع فكان يريد أن لا تبنى أريحا لتظل شاهدة على دينونة الخطية. ولقد كانت لعنة يشوع على من يبني أريحا كأنها نبوة وقد تحققت حرفياً عندما قام حيئيل البيتئيلي ببنائها (1مل34:16). ولنلاحظ أنه لو كان حيئيل قد توقف عن البناء بعد موت أول ولد لأنقذ بقية أبنائه ولكنه لم يطيع فمات الكل. لقد هلكت أريحا الشريرة ونجت راحاب الزانية لأنها آمنت.