تفسير سفر يهوديت 8 للقمص تادرس يعقوب ملطي

الله واهب النصرة

يهوديت 8-16

غيرة يهوديت على شعب الله

اتسمت يهوديت بالتقوى:

ا. كرّست غرفة سرية في أعلى البيت تقيم فيها مع جواريها، فقد آمنت بالحياة السرية مع الله.

ب. كانت ترتدي المسوح على حقويها.

ج. كانت تصوم كل أيام حياتها ما عدا أيام الأعياد الأسبوعية والشهرية والسنوية.

د. نالت شهرة عظيمة لا من أجل جمالها الباهر وإنما من أجل تقواها.

ه. بالإيمان الحيّ رفضت تحديد زمان لعمل الله، وطالبت أن يقدموا توبة بروح التواضع.

و. دبّرت خطة لمقابلة أليفانا دون أن تخبر أحدًا، إنما طلبت مساعدتهم: “لا تصنعوا شيئًا غير الصلاة عني إلى الرب إلهنا” (33:8).

 

1. تعريف يهوديت

 

1 –8.

2. يهوديت توبخ القادة لعدم إيمانهم

 

9 –17.

3. يهوديت والتسليم في يدي الله

 

18 –24.

4. يهوديت تكشف عن غاية التجربة

 

25 –27.

5. عزيا يطلب صلوات يهوديت

 

28 –31.

6. يهوديت تبدأ خطة العمل

 

32 –36.

1. تعريف يهوديت

وفي تِلكَ الأَيَّام بَلَغ الخبَرُ يَهوديت،

بِنتَ مَرارِيَ Merari بنِ أَخْسَ Ox بن يوسفَ Joseph بنِ عُزِّيئيلَ Ozel بنِ حِلْقِيَّا Elcia بنِ حَنَنْيا Ananiah بن جِدعَونَ Gedeon بنِ رافائيمَ Raphaim بنِ أَحيطوبَ Acitho بنِ إِيليَّا Eliu بنِ حِلْقِيَّا بنِ أَليآب َ Eliab بنِ نَتَنائيلَ Nathanael بنِ شَلوميئيلِ Samael بنِ صورِشَدَّايَ Salasadal بنِ إِسْرائيل [1].

يقدم لنا السفر أنساب يهوديت إلى الجيل السادس عشر حيث يبلغ إلى رئيسين مشهورين من سبط شمعون معاصرين لموسى النبي، وقد قام بتعينهما، وهما سالاميل وساراسداي (عد 2: 12). هكذا ترجع يهوديت إلى أصل نبيل.

ذكر التفاصيل الخاصة بنسب يهوديت يؤكد أنها ليس قصة خيالية أو رمزية بل واقع تاريخي لشخصية حقيقية. وكما جاء في دائرة المعارف الكاثوليكية(88) أن ذكر تفاصيل موت رجلها منسَّى (يهو 8: 2-4) يجعل من الصعب أن تُحسب قصتها كفن قصصي، إنما يؤكد أن يهوديت هي بطلة تاريخية حقيقية.

أورد الكاتب سلسلة نسب يهوديت لستة عشر جيلًا، فهي يهودية تحرص على التعرف على الأنساب. وقد كان اليهود يلقنون اطفالهم سلسلة نسبه، فما أن تسأل الطفل اليهودي حتى يسرد قائمة طويلة عن آبائه وأجداده؛ وهذه علامة اعتزازه بانتسابه الأصيل للأمة اليهودية كشعب الله.

يرى دميان ماكي أن يهوديت تمت بصلة قرابة لعزيا، بل ويراها أنه أخته الصغيرة من جهة الأب دون الأم. وقد كانت صغيرة حتى أن بوغا أو ربساريس الأشوري في حديثه عنها في المعسكر الأشوري قال “هذه الفتاة الجميلة this pretty girl” (12: 13).

وكان مَنَسَّى Manasseh زَوجُها مِن سِبْطِها وعَشيرتها،

وقد ماتَ في أَيَّامِ حِصادِ الشَّعير [2].

كان زوجها منسى غنيًا جدًا كما يظهر من الثروة التي تركها لها (8: 7). مع غناه كان يدير موضوع حصاد الشعير وسط العمال، فأصابته ضربة شمس. كثيرًا ما يحدث هذا في منطقة الشرق الأوسط في الصيف أثناء الظهيرة.

فإِنَّه كانَ يُراقِبُ رابِطي الحُزَمِ في السَّهْل،

فَوقَعَ الحَرُّ الحارِقُ على رأسِه فلازمَ الفِراشَ وماتَ في بَيتَ فَلْوى مَدينتِه.

فدَفَنوه مع آبائِه في الحَقْلِ الَّذي بَينَ دوتائينَ Dothaim وبَلَمون Balamo [3].

وكانت يَهوديتُ مُتَرمِّلةً في بَيتِها مُنذُ ثَلاثِ سَنواتٍ وأَربَعةِ أَشهُر [4].

كثيرًا ما ترتبط الأرامل بالأيتام والمساكين والغرباء والضيوف بكونهن يحتجن إلى اهتمام المؤمنين ورعايتهم، ويحسب الله كل خدمة تُقدم لهن كأنها مقدمة له شخصيًا. لكن بعض الأرامل استطعن أن يكرسن طاقاتهن للعبادة والعمل لحساب المجتمع، فانتقلن من فئة تحتاج إلى فئة مكرسة للرب تقوم بعمل قيادي. من بين هؤلاء الأرامل حنة النبية (لو2: 36-37).

وكانَت قد هَيَّأَت لِنَفسِها عُلِّيَّةً على سَطحِ بَيتها،

وكانَت تَضَعُ مِسْحًا على وَسْطِها،

وتَرتَدي ثِيابَ تَرَمُّلِها [5].

اعتاد اليهود أن يخصصوا العلية للصلاة مثل سارة ابنة راكويل Raquel (طو3: 17)، ودانيال (دا6: 10)، وبطرس الرسول (أع10: 9).

لم يذكر ليهوديت أن لها ابن أو ابنة، وكان من حقها الزواج من شقيق رجلها أو من الوَّلي لتقيم له نسلًا، لكنها أرادت أن تعيش حياة البتولية، فانقطعت للعبادة في علية بيتها، ترتدي ثياب الترمل التي تخلو من كل زينة، ثياب سوداء أو غامقة.

* واضح أن كل ما فيه احتشام يكون دائمًا نافعًا. فالقديسة يهوديت بالاحتشام لم تبال بسلامها، ووضعت نهاية لمخاطر الحصار، وبفضيلتها كسبت ما هو نافع للكل بصفةٍ عامةٍ(89).

القديس أمبروسيوس

وكانَت تَصومُ جَميعَ أَيَّامِ تَرَمُّلِها،

ما خَلا السُّبوتَ وعَشِيَّتَها ورُؤُوسَ الشهورِ وعَشِيَّتَها

وأَعيادَ بَيتِ إِسْرائيلَ وأَفْراحَهم [6].

ما عدا عشيات السبوت“: لا توجد أية وصية بخصوص عدم الصوم في عشيات الأعياد، لكن يبدو أن هذا كان سائدًا باعتبار أن اليوم يبدأ من عشيته.

لم يكن الترمل يُلزم المرأة اليهودية بالصوم، أما يهوديت التي تطلب حياة الشركة مع الله فقضت كل أيام ترملها صائمة فيما عدا أيام الأعياد الاسبوعية (السبوت) والشهرية (رؤوس الشهور) والسنوية.

* إذ صام أهل نينوى ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ هربوا من تنفيذ الغضب عليهم، وبالصوم هرب وإستير ومردخاي ويهوديت من الشريرين المُسلَّحين أليفانا وهامان(90).

قوانين الرسل

* لا تكن الأرامل متجولات ولا مغرمات بالأطاييب، ولا متسكعات من بيت إلى بيت؛ لكن ليتهن يكن مثل يهوديت التي كانت تهتم أن تكون جادة، ومثل حِنة مكرمة من أجل تعقلها. لست أصدر أمرًا كرسولٍ، لأنه من أنا؟ وما هو بيت أبي؟ حتى أحسب نفسي مساويًا للرسل؟ لكنني كجندي صالح أخذ موقف من ينصحكنّ(91).

القديس أغناطيوس الأنطاكي

وكانَت جَميلةَ الطَّلعَةِ ظَريفَةَ الهَيئَةِ جِدًّا،

وقد تَرَكَ لَها مَنَسَّى زَوجُها ذَهَبًا وفِضَّةً وخُدَّاما وجَواريَ وقُطْعانًا وحُقولًا،

وكانَت تُقيمُ في أَمْلاكِها [7].

لم تستطع هذه الثروة أن تدفع قلبها إلى التشامخ، بل تحلت بكثير من الفضائل في تواضع حقيقي، مع اتكال على عمل الله الفائق، فصارت موضع سرور الله، وتقدير أهالي المدينة كلها. كانت تحمل بركة الرب وتمجد الله بحياتها كما بلسانها.

ولم يكُنْ هُناكَ أَحَدٌ يَقولُ علَيها كلِمةَ سُوء،

لأَنَّها كانت تتَّقي اللهَ كَثيرًا [8].

* كما أن يهوديت المشهورة جدًا بحكمتها وذات سمعة طيبة من أجل ضبط نفسها، “صلَّت إلى الله نهارًا وليلًا لأجل إسرائيل” هكذا أيضًا الأرملة التي تود أن تكون مثلها تقدم شفاعة عن كنيسة الله بلا انقطاع. فسيسمع الله لها، لأن فكرها ثابت على هذا الأمر وحده، ولا يميل نحو النهم أو الطمع أو طلب الأشياء الثمينة. عيناها طاهرتان، وسمعها نقي، ويداها غير دنستين، وقدماها هادئتان، وفمها ليس معدًا للنهم وللكلمات التافهة، إنما تنطق بما هو لائق، وتشترك في الأمور الخاصة بحفظها وحده. وإذ هي جادة ولا تسبب قلقًا يُسر بها الله، فحالما تسأل شيئًا تنال طلبتها كقوله: “تتكلم (تستغيث) فأقول: هأنذا” (إش 58: 9). لتكن مثل هذه متحررة من محبة المال، ومن التشامخ، لا تطلب الربح القبيح، ولا نهمه بل عفيفة. ووديعة ولا تسبب اضطرابًا لأحدٍ، تقية، محتشمة، جالسة في بيتها، مسبحة، مصلية، تقرأ (الكتاب المقدس)، ساهرة، صائمة، تتحدث مع الله باستمرار في أغانٍ وتسابيح. لتغزل الصوف، تعين الآخرين أكثر منها أن تطلب منهم. لتفكر في الأرملة التي كرَّمها الإنجيل بشهادة الرب، هذه التي جاءت إلى الهيكل وألقت فلسين قيمتهما ربع في الخزانة. رآها المسيح ربنا وسيدنا، فاحص القلوب، وقال: “الحق أقول لكم إن هذه الأرملة ألقت في الخزانة أكثر من الجميع، لأن الجميع من فضلتهم ألقوا، وأما هذه فمن أعوازها ألقت كل ما عندها، كل معيشتها” (مر12: 43-44؛ لو 21: 2)(92).

قوانين الرسل

2. يهوديت توبخ القادة لعدم إيمانهم

وسَمِعَت كَلِماتِ الشَّعبِ السَّيِّئَةَ على الرَّئيس،

لأِنَّ عَزيمَتَهم خارَت بِسَبَبِ قِلَّةِ المِياه.

وسَمِعَت أَيضًا يَهوديتُ جَميعَ الكلامِ الَّذي كَلَّمَهم بِه عُزَيَّا،

إِذ أَقسَمَ لَهم بِتَسْليم المَدينةِ بَعدَ خَمسةِ أَيَّامٍ إلى الآشُّوريِّين [9].

إذ عاشت كما في قلاية في علية بيتها مع جواريها اللواتي كن يقتدن بها لم يكن يشغلها شيء من أمور العالم، لكن قلبها المرتفع إلى الله بغنى نعمته كان يتسع حبها كسيدها. كانت تحمل بالحب شعبها، تصلي لحسابه، وتشتهي بنيانه روحيًا. فمع اعتزالها جسديًا شاركت شعبها بقلبها وفكرها وحواسها في الرب. حزنت لإساءة الشعب لرئيس البلدة، وتألمت لانهيارهم روحيًا ونفسيًا من أجل قلة المياه؛ وتمررت نفسها من أجل كلمات عزيا الذي حدد موعدًا لعمل الله وألا استسلم للعدو!

* إنني أحدث النساء أن يجعلن هذا هو عملهن، وأن يقدمن المشورة اللائقة. فإنه إذ لهن قوة عظيمة للصلاح هكذا أيضًا للشر. امرأة حطمت أبشالوم، وامرأة حطمت أمنون، وامرأة كادت تحطم أيوب، وامرأة أنقذت نابال من القتل. نسوة حفظن الأمم مثل دبورة ويهوديت، اللواتي أظهرن نجاحًا يليق بالرجال. هكذا ربوات من النسوة فعلن هكذا(93).

القديس يوحنا ذهبي الفم

فأرسَلَت وَصيفَتَها القَيِّمةَ على جَميعِ أَمْوالِها،

ودَعَت شُيوخَ مَدينتِها

عُزَيَّا Uzziah وكَرْبي Chabris وكَرْمي Charmis [10].

لم تكن يهوديت ذات مركز رسمي في المجتمع، ولم تكن تنشغل بإدارة بلدها مع الرئيس وشيوخ الشعب، لكنها إذ رأت انهيار الإيمان على مستوى الشعب والقادة أرسلت وصيفتها الخاصة التي تقوم بتدبير شئون ممتلكاتها وأمورها المادية، وطلبت القادة للحضور لمناقشة الموقف الخطير، إذ يمس الحق الإلهي.

فأَتَوا إلَيها، فقالَت لَهم: “اِسمَعوا لي، يا رُؤَساءَ السُّكَّانِ في بَيتَ فَلْوى،

لَيسَ صائبًا كَلامُكمُ الذي تَكلَّمتُم بِه أَمامَ الشَّعبِ في هذا إلىَوم،

فأَقسَمتُم ذلك إلىَمينَ الَّذي أَدَّيتُموه بَينَ اللهِ وبَينَكم،

فوَعَدتُم بِتَسْليمِ المَدينةِ إلى أَعدائِنا،

إِن لم يُغِثْنا الرَّبُّ في الأَيَّامِ الخَمْسة [11].

بكل تقدير لهذه الأرملة المملوءة حبًا وتقوى وغيرة جاء القادة دون تردد، وبروح المحبة مع التصاق بالحق الإلهية عاقبتهم على ما صدر منهم بخصوص تحديد مدة معينة لعمل الله وتدخله. في هذا نوع من ممارسة الضغط على الله، فصاروا يجربونه، الأمر الذي لا يليق في التعامل مع الله.

* الأرملة الصالحة عادة لا تنقصها الشجاعة. فإنها شجاعة حقيقية تتعدى الطبيعة العادية وضعف الجنس بتكريس الذهن، كما هو الأمر في تلك التي تُدعى يهوديت. هذه التي بمفردها استطاعت أن تقوم من المذلة التامة وتحمى من العدو رجالًا سقطوا بالحصار، وضُربوا بالخوف، وانحلوا بواسطة الجوع… عندما كان الرجال المسلحون في خوفٍ، بدأوا فعلًا الحوار في الاستسلام نهائيًا، خرجت خارج الأسوار تفوق الجيش الذي خلصته، في أكثر شجاعة من الذين دخلت معهم في معركة(94).

القديس أمبروسيوس

والآن فمَن أَنتُم، حتَّى جَرَّبتُمُ اللهَ في هذا إلىَوم،

وأَقَمتُم أَنفُسَكم في وَسْطِ البَشَر عوضَ اللهِ؟ [12]

يذكر لنا الكتاب المقدس كيف حاول اليهود عبر تاريخهم أن يجربوا الله، مما يدخل بهم تحت الغضب لا الرحمة (خر17: 2-7؛ عد14: 22؛ تث6: 16؛ أي28: 2؛ 40: 20؛ 42: 3؛ مز78: 18؛ 95: 9؛ 106: 11؛ إش7: 12؛ مت4: 7؛ أع15: 10؛ 1كو10: 9).

ليس لنا أن نحدد لله موعد تدخله، لأننا لا نعرف فكر الله ولا حكمته، إنما في يقينٍ من أبوته وحكمته وقدرته نعرض أمورنا عليه في صلواتنا، بتسليمٍ كامل لعمله في الوقت الذي يراه مناسبًا، وبالطريقة التي يريدها. لندرك أنه يعمل لخيرنا، كأبٍ حكيمٍ قدير.

والآن فإِنَّكم تَمتَحِنونَ الرَّبَّ القَدير،

فلَن تَفهَموا شيَئًا لِلأَبَد [13].

لأَنَّكم لن تَكتَشِفوا أَعْماقَ قَلبِ الإِنسان،

ولن تُدكوا أَفكارَ ذِهنِه،

فكَيفَ تَهتَدونَ إلى اللهِ الَّذي صَنَعَ كُلَّ ذلك،

وتَفهَمونَ فِكرَه، وتُدركونَ تَدبيرَه؟

لا، يا إِخْوَتي، لا تُثيروا غَضَبَ الرَّبِّ إِلهِنا [14].

إن كان الإنسان لا يستطيع إدراك أعماق إنسانٍ آخر، بل وأحيانًا لا يدرك أسراره هو الداخلية، فكيف يدرك خطة الله وحكمته، ويمارس نوعًا من الضغط عليه والمساومة كأنه أكثر حكمة من الله وأكثر غيرة على الحق الإلهي.

شتان ما بين اللجاجة في الصلاة مع تسليمٍ كامل لمشيئته الإلهية وبين الإصرار على حلٍ معين في تصلفٍ وعنادٍ.

فإِن لم يَشَأْ أَن يُغيثَنا في الأَيَّام الخَمسَة،

فلَه سُلْطانٌ به يَحمِينا في الأَيَّامِ الَّتي يَشاء،

أو يُبيدُنا أَمامَ أَعدائِنا [15].

أَمَّا أَنتُم فَلا تَرتَهِنوا تَدابيرَ الرَّبِّ إِلهِنا،

فإِنَّ اللهَ لَيسَ كالإِنْسانِ فيُهَدَّد،

ولا كابنِ الإِنسانِ فيُحتَكَم [16].

ولذلك فَلْنَنتَظِرْ مِن لَدُنِه الخَلاص، ولنستَغثْ به،

فيُصغِيَ إلى صَوتِنا، إِن حَسُنَ لَدَيه [17].

3. يهوديت والتسليم في يدي الله

فإنَّه لم يَقُمْ في أَجْيالِنا،

ولا في أَيَّامِنا سِبطٌ أَو عَشيرةٌ أَو أَرضٌ أَو مَدينةٌ مِن عِندِنا،

تَسجُدُ لآلِهَةٍ مِن صُنعَ الأَيدي،

كما جَرى في الأَيَّامِ القَديمة [18].

مع الحديث الصريح عن خطأ القادة والشعب لا تنكر يهوديت ما اتسموا به من مواقف روحية نبيلة، ولا تتجاهل أمرًا يُسرّ الله به، وهو عدم اشتراكهم في العبادة الوثنية التي كثيرًا ما سقط فيها آباؤهم.

هنا تظهر حكمة يهوديت العجيبة فمع خطورة الموقف وشجاعتها في الكشف عن الأخطاء لم يدفعها حماسها إلى جمال الجانب الصالح في حياة من تحدثهم. تطالبهم بالتوبة، وتسندهم بمديحهم في سلوكهم الورع من جهة عبادة الله الواحد.

فأُسلِمَ آباؤنا إلى السَّيفِ والنَّهْب،

وسَقَطوا سُقوطًا عَظيمًا أَمامَ أَعدائِنا [19].

أَمَّا نحنُ فلم نَعرِفْ إِلهًا غيرَه.

ولذلك فإِنَّنا نَرْجو أَنَّه لن يَزْدَرِيَنا،

ولَن يُعرِضَ عن نَسْلِنا [20].

فإِن قُبِضَ علَينا قُبِضَ كذلك على إلىَهودِيَّةِ كُلِّها،

ونُهِبَ مَكانُنا المُقَدَّس،

وطالَبَ اللهُ دَمَنا بِتَدنيسِه [21].

وأَوقَعَ علىُ رُؤُوسِنا بَينَ الأُمَم،

حَيثُ نَصيرُ عَبيدًا مَقتَلَ إِخوَتِنا وجَلاءَ الأَرضِ ودَمارَ ميراثِنا،

وأَصبَحْنا مَعثَرةً وعارًا أَمامَ مُمتَلِكينا [22].

فإنَّ عُبودِيَّتَنا لن تؤُولَ إلى الحُظْوَة،

بل إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا يُحوِّلُها إلى هَوان [23].

والآن، يا إِخوَتي، لِنُظهِرْ إلى إِخوَتِنا أَنَّ نُفوسَهم معتمدةٌ علَيِنا

وأَنَّ المكانَ المُقَدَّسَ والمَقدِسَ والمَذبَحَ مُعتَمِدَةٌ علَينا [24].

كما سلكت يهوديت مع القادة بالحديث في صراحة كاملة عن خطأهم دون نسيان الجانب الطيب في حياتهم، طالبتهم بمساندة الشعب، ليدركوا أنهم كقادة سيحل بهم ما يحل بالشعب بل وأكثر، وأن الأمر يمس مدينة الله أورشليم والهيكل المقدس، فحتمًا ما يفعله أو يسمح به إنما بحكمة تمس شعبه وخدامه ومدينته وهيكله ومذبحه! هكذا يليق بالقادة أن يمتلئوا رجاءً وطمأنينة من جهة خطة الله، ليسكبوا هذا الرجاء في قلوب الشعب.

4. يهوديت تكشف عن غاية التجربة

وماعدا ذلك كلَّه،

فلْنَشكُرِ الرَّبَّ إِلهَنا الَّذي يَمتَحِنُنا كَما امتَحَنَ آباءَنا [25].

دفعت يهوديت التقية القادة ليحولوا تذمرهم ونوحهم إلى ذبائح شكر لله الصانع الخيرات، حتى حين يسمح لشعبه بتجربة تبدو مرة وقاسية. فالشكر لله هو مفتاح حلّ المشاكل واستدرار مراحم الله القديرة والفائقة للفكر البشري.

اُذكُروا كُلَّ ما صَنَعَه إلى إِبْراهيم،

وكمِ امتحن إِسحق وكُلَّ ما جَرى لِيَعْقوبَ في ما بَينَ النَّهرَين في سورِية،

حينَ كانَ يَرْعى خِرافَ لابانَ أَخي أُمِّه [26].

طلبت يهوديت من القادة أن يوجهوا أنظار الشعب إلى معاملات الله مع آبائهم، فقد سمح بتجربة إبراهيم لتزكيته ونموه الروحي.

ما قالته يهوديت كان نبوة تحققت حيث أنقذ الله شعبه في الوقت المناسب، وخلال هذه الأرملة التقية.

فكَما أَنَّه امتَحَنَهم بِالنّار لِيَسبِرَ قُلوبَهم؟

كذلك لن يَنتَقِمَ مِنَّا،

بلَ الرَّبُّ يُؤَدِّبُ الَّذينَ يَقتَرِبونَ مِنه إِنْذارًا لَهم” [27].

5. عزيا يطلب صلوات يهوديت

فقالَ لَها عُزَيَّا: كُلُّ ما قُلْتِه تَكَلَّمتِ بِه بقَلْبٍ طَيِّب،

وما مِن أَحَدٍ يُعارِضُ كَلامَكِ [28].

عمل الله في حياة يهوديت تجلى في كلماتها التي كان لها فاعليتها على الشيوخ فامتلأوا سلامًا داخليًا وراحةً صادقة.

لأَنَّ حِكمَتَكِ لم تَظْهَرْ في هذا إلىَوم فَقَط،

بل مُنذُ أَوَّلِ أَيَّامِكِ عَرَفَ الشَّعبُ كُلُّه ذَكاءَكِ وحُسنَ ما يَتصَوَّرُه قَلبُكِ [29].

لكِنَّ الشَّعبَ عَطِشَ عَطَشًا شَديدًا،

وأَرغَمَنا على العَمَلِ بِمَا وَعَدْنا به،

وعلى إلْزامِ أَنْفُسِنا بِقَسَمٍ لن نَنقُضَه [30].

والآن فصَلِّي لأَجلِنا،

فإِنَّكِ امرَأَةٌ تَقِيَّة،

فيُرسِلَ الرَّبُّ مَطَرًا يَملأُ آبارَنا،

فلا تَخورَ عَزائِمُنا بَعدَ إلىَوم” [31].

شعروا أنها مرسلة من الله، فعرضوا عليها موقفهم الحرج لا ليبرروا خطأهم وإنما لكي تصلي لأجلهم.

كانوا يظنون أن الحلّ هو في نزول أمطار يملأ الآبار التي في داخل المدينة فلا يخور الشعب، ولم يكن أمامهم بديل آخر.

6. يهوديت تبدأ خطة العمل

فقالَت لَهم يَهوديت: اِسمَعوا لي،

سأَصنعُ عَمَلًا يَبلغٌ ذِكرُه بَني نَسلِنا مِن جيلٍ إلى جيل [32].

التزمت يهوديت بالعمل مع الصلاة والتقوى، وقد تدربت على الحياة السرية في علاقتها مع الله، لذلك لم تكشف للشيوخ أسرار خطتها، إنما اكتفت بالحديث بالقدر الذي فيه يمكنها الخروج من المدينة ودخولها دون مساءلة من حراس الأبواب. كما طلبت السرية التامة، فلا يفصحوا لأحدٍ عن دورها.

أكدت لهم هذه الأرملة التقية أنها لم تستدعهم لتنتقدهم، وإنما وهي تتكلم بالحق الإلهي ستقوم بعملٍ هام يذكره التاريخ مع تأكدها بالإيمان أن الخلاص قادم قبل حلول الموعد الذي حددوه لله.

* يا لعظمة قوة فضيلتها، أنها امرأة يلزمها أن تقدم مشورة في أخطر الأمور وتتركها في أيدي قادة الشعب! مرة أخرى يا لعظمة قوة فضيلتها أن تثق في الله أن يعينها! يا لعظمة النعمة أن تجد معونة الله(95)!

القديس أمبروسيوس

في هذه اللَّيلَة، أَنتُم تَقِفونَ على الباب،

وأَنا أَخرُجُ مع وَصيفَتي،

وقَبلَ الأَيَّامِ الَّتي وَعَدتُم فيها بِتَسْليمِ المَدينةِ إلى أَعْدائِنا،

يَفتَقدُ الرَّبُّ إِسْرائيلَ عن يَدي [33].

لا تَفحَصوا أَنتُم عن تَصَرُّفي،

لأَنِّي لن أَقولَ لَكم شَيئًا قَبلَ أَن يتمَّ ما أَنا سأفعله” [34].

لقد طلبت يهوديت التزامهم بالسلوك اللائق بالإيمان الحيّ، كما طلبت صلواتهم وبركتهم لها، دون أن يفحصوا ما ستفعله.

إنها تعمل عملًا لم يقم به أحد غيرها، لكنها تعمل خلال الكنيسة وتحت مظلتها.

فقالَ لَها عُزَيَّا والشَّيخان:

“اِذْهَبي بِسَلام، والرَّبُّ الإلهُ بتقدمك في الانتِقامِ مِن أَعدائِنا” [35].

ثُمًّ غادَروا العُلِّيَّة،

وانصَرَفوا إلى مَرا كِزِهم [36].

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى