تفسير سفر ناحوم ٢ للقمص تادرس يعقوب ملطي

اَلأَصْحَاحُ الثَّانِي
سلام للمتكلين عليه،
وهلاك للمقاومين له!

 

في الأصحاح الأول أبرز الله أنه غيور في محبته ورحمته نحو المتكلين عليه، مهما اشتدت بهم الضيقات. وأنه قدير في غضبه حين يصر الأشرار على ممارسة شرورهم ضد شعبه، حاسبًا كل مقاومة ضد أحد مؤمنيه هي مقاومة ضده شخصيًا. فيحرم الإنسان نفسه من الله مصدر حياته وفرحه وسعادته ومجده، فيدمر نفسه بنفسه، إذ يسقط تحت الغضب.

لقد ظنت مملكة أشور بعاصمتها العظيمة نينوى أنها قد انتصرت على الله، ولم تدرك أن نصرتها هي بسماح منه لتأديب شعبه إلى حين. سقطت نينوى في الظلم والوحشية مع التجديف على الله بكل وسيلةٍ، فحكمت بالدمار التام على نفسها.

الآن يبرز هذا الأصحاح عمل الله من أجل المتكلين عليه بعد تأديبهم، وما سيحل بالمقاومين له بعد إعطائهم فرصًا للتوبة عن بشاعة شرورهم.

 

1. المجد للمؤمنين الموَّدَبين1-5:

قَدِ ارْتَفَعَتِ الْمِقْمَعَةُ عَلَى وَجْهِكِ.

احْرُسِ الْحِصْنَ.

رَاقِبِ الطَّرِيقَ. 

شَدِّدِ الْحَقَوَيْنِ. 

مَكِّنِ الْقُوَّةَ جِدّاً. [1]

استخدم الله أشور عصا تأديب لشعبه، لكن أشور تشامخ على الله وقام بتعييره، واستخدم كل وسيلة لممارسة الوحشية ضد شعب الله الذي تحت التأديب. الآن يبعث الله بابل كمطرقة كل الأرض (إر 50: 23)، تبدأ بطرقاتها على نينوى العظيمة علانية وبجرأة.

إنه يدعو بابل: قد ارتفعت المقمعة على وجهك] 1 [، ويترجمها البعض: هذا الذي يسحق قد ارتفع على وجهك“. بابل هي الفأس التي يستخدمها الله ليسحق أشور. “لي فأس وأدوات حرب، فأسحق بكِ الأمم، وأهلك بكِ الممالك، وأكسر بكِ الفرس وراكبه، واسحق بكِ المركبة وراكبها، واسحق بكِ الرجل والمرأة، واسحق بكِ الشيخ والفتى، واسحق بكِ الغلام والعذراء، واسحق بكِ الراعي وقطيعه، واسحق بكِ الفلاح وفدانه، واسحق بكِ الولاة والحطام (إر 51: 20-23).

هكذا سمح الله لجيش مادي وبابل أن يدمر نينوى.

من الظاهر هي حرب بين دول وشعوب، لكن في الواقع هي سماح من الله لمساندة المتكلين عليه الذين تحت التأديب، ومعاقبة نينوى المتعجرفة، لذلك أعلن لأشور مقدمًا أن نينوى ستتحطم علانية. وأن كل مسعى للدفاع عنها سيكون بلا جدوى. لتبذل أشور كل جهودها للحفاظ على نينوى، لكن الأمر قد صدر من السماء بدمارها. لهذا يقول: “أحرس الحصن، راقب الطريق، شدد الحقوين، مكّن القوة جدًا، فإن هذا كله لن ينفع شيئًا. لتضع قوات لحفظ حصونها، وتقيم مراقبين في الأبراج لمتابعة هجوم العدو، ولتشجع جنودها ولتضاعف إمكانياتها العسكرية، لكن لتعلم: الفرس مُعد ليوم الحرب، أما النصرة فمن الرب (أم 21: 30). فعبثًا تحاول أن تتمتع بالنصرة وهي تقاوم الرب نفسه.

فَإِنَّ الرَّبَّ يَرُدُّ عَظَمَةَ يَعْقُوبَ كَعَظَمَةِ إِسْرَائِيلَ،

لأَنَّ السَّالِبِينَ قَدْ سَلَبُوهُمْ،

وَأَتْلَفُوا قُضْبَانَ كُرُومِهِمْ. [2]

يعلن النبي سبب الحرب المدمرة لنينوى، ألا وهو أن أشور سلب يعقوب حيث أساء التعامل مع الأسرى من إسرائيل وقام بهجمات همجية على يهوذا، ووقف يُعيَّر رب الجنود أنه عاجز عن أن يخلصهم من يد سنحاريب ملك أشور. فكما سلبوا يُسلبون، وكما عيَّروا رب الجنود يحل بهم العار، ويرد الرب لشعبه كرامته بعد تأديبيه.

جاء في الترجمة السبعينية: “قام واحد ينفخ في وجهك، مخلصًا إيَّاك من التجربة” (نا 2: 2 LXX). يرى ثيؤدورت أسقف قورش أنه يقدم نوعًا من النفخة لخلاص الإنسان. فقد سبق فنفخ في آدم نسمة حياة (تك 2: 7)؛ وإذ فقد عمل هذه النفخة الإلهية، جاء السيِّد المسيح يجدد صورة الإنسان ويعيدها في الرسل القدِّيسين كما في بقية المؤمنين جميعًا خلال الرسل، فقد نفخ في وجه تلاميذه، قائلاً: “اقبلوا الروح القدس” (يو 20: 12). لقد حطم الله الأشوريين بنفخة فمه، ليخلص شعبه؛ كرمز لعمل السيِّد المسيح الذي يحطم إبليس الطاغية بنفخة روحه القدُّوس الذي وهبه لكنيسته[21].

تُرْسُ أَبْطَالِهِ مُحَمَّرٌ.

رِجَالُ الْجَيْشِ قِرْمِزِيُّونَ.

الْمَرْكَبَاتُ بِنَارِ الْفُولاَذِ فِي يَوْمِ إِعْدَادِهِ.

وَالسَّرْوُ يَهْتَزُّ. [3]

هنا يصف قادة جيش ماديبابل الذين يهاجمون نينوى.

ترس أبطاله محمر“: كان القدامى يفضلون اللون الأحمر للترس، فمن جانب كمن يعلنون الراية الحمراء ليرعبوا العدو، مثلهم مثل مصارعي الثيران الذين يظنون أنهم يثيرون الثيران بالرايات الحمراء. ومن جانب آخر إذا جُرح أحد وانتثر دمه على ترسه لا يدرك العدو ذلك، فيتشجع للقتال. ويرى البعض أن ترس الآشوريين كانت من النحاس كما يظهر من الأثريات الخاصة بهم، فاللون الأحمر لترس جيش مادي وبابل كان نتيجة انعكاس أشعة الشمس عليها.

رجال الجيش قرمزيون، حيث كانت ثيابهم قرمزية. يقول زينوفون Xenophon أن بني مادي كانوا مغرمين باللون الأحمر. بكونها قرمزية غالية الثمن، يظهر مدى غنى الجيش وقدراته.

المركبات بنار الفولاذ في يوم إعداده: تصوير لشدة الهجوم، حيث تسير مركبات العدو بطريقة جنونية، فتتطاير الشرارة كنارٍ تصدر من احتكاك عجلات المركبات بالحجارة، فتكون العجلات أشبه بمشاعلٍتنطلق منها إشعاعات النار. 

ولعله أيضًا يقصد أن مركبات العدو تحمل مشاعل نارية حتى تمارس المعركة ليلاً ونهارًا، فالحرب لا تتوقف حتى يتم دمار نينوى تمامًا. لقد حمل جنود جدعون مصابيح في جرار (قض 7: 16) لإرشادهم ولبث روح الرعب على أعدائهم.

هذا ما سمح به الله في الوقت المعين، أو في يوم إعداده لكي تنال نينوى ثمرة أعمالها.

والسرو يهتز: جيش العدو يكون كالسرو المتشامخ، يهتز على الدوام ليرعب أشور. ولعله يود أن يعبِّر عن مدى حمو الجيش حيث تهتز أشجار السرو مع الأرض تحت أقدام الجنود بسبب كثرتهم وتحركهم الدائم بقوة.

تَهِيجُ الْمَرْكَبَاتُ فِي الأَزِقَّةِ.

تَتَرَاكَضُ فِي السَّاحَاتِ.

مَنْظَرُهَا كَمَصَابِيحَ.

تَجْرِي كَالْبُرُوقِ. [4]

يظهر إمكانية المركبات العسكرية سريعة الحركة والجديدة، فهي لامعة تظهر كمشاعل نارية ومصابيح متقدة وسط الأشجار المحيطة بالطرق، وذلك لانعكاس الشمس عليها. إنها تتحرك بقوة كالبرق كما في حالة هياجٍ.

يَذْكُرُ عُظَمَاءَهُ.

يَتَعَثَّرُونَ فِي مَشْيِهِمْ.

يُسْرِعُونَ إِلَى سُورِهَا،

وَقَدْ أُقِيمَتِ الْمِتْرَسَةُ. [5]

يرى البعض أن الحديث هنا عن ملك أشور الذي يحصي قادة جيشه وأبطاله، ويأتي بالباسلين منهم ليقودوا الموقف في الدفاع عن نينوى، لكنهم يتعثرون في مشيهم، وتخيب كل جهودهم. ويرى آخرون أن الحديث هنا عن نبوخذنصر الذي يذََّكر قادة جيشه الأبطال ألا يتراجعوا مهما تكن حصون نينوى. فإذ يسرعون نحو سورها يتعثرون لكنهم لا ييأسون، بل يحفروا الخنادق لتحميهم من سهام المُحاصرين داخل نينوى. ويتممون الحصار بأقصى سرعة.

2. عار للمعتدين المقاومين 6-10:

أَبْوَابُ الأَنْهَارِ انْفَتَحَتْ،

وَالْقَصْرُ قَدْ ذَابَ. [6]

كانت أبواب نينوى مفتوحة على نهر دجلة، الذي بنيت عليه المدينة. كان السور من جهة نهر دجلة على الجانب الغربي من نينوى يبلغ طوله 4530 ياردة. وفي الجنوب والشمال والشرق توجد خنادق مائية ضخمة يمكن بسهولة أن تمتلئ ماءً من خسرو Khosru، ملأ أهل نينوى كل الخنادق والمجاري بالمياه لتحوط المدينة من كل جانب، فلا يقدر العدو على العبور إليهم بمركباتهم وخيلهم. يقول ذيؤدورس أنه في السنة الثالثة من الحصار، إذ حدث فيضان شديد انهار 20 فيرلنج (4400 ياردة) من أسوار نينوى، فقام الملك بحرق نفسه وقصره وسراريه وثروته ودخل العدو خلال السور المنهدم. بهذا تحققت نبوة ميخا النبي: أبواب الأنهار انفتحت، والقصر قد ذاب ]6[، فقد ذاب قلب الملك ومن معه في القصر من الخوف، ولجأوا إلى الانتحار حرقًا.

جاء في الترجمة السبعينية: “الجبال سقطت” (نا 2: 6 LXX). ويرى القدِّيس أمبروسيوس أن الجبال تُشير إلى الأمور العظيمة التي بها ينتفخ الإنسان ويتكبر على الله. فمن له إيمان كحبَّة خرْدل يقول للجبل أن ينطرح في البحر فينطرح (مت 17: 20)[22].

وَهُصَّبُ قَدِ انْكَشَفَتْ.

أُطْلِعَتْ.

وَجَوَارِيهَا تَئِنُّ كَصَوْتِ الْحَمَامِ ضَارِبَاتٍ عَلَى صُدُورِهِنَّ. [7]

هُصب اسم ملكة نينوى التي هربت من الحريق، إذ ذُكر عن الملك وحده أنه احترق بالنار. أُحضرت الملكة أمام العدو فاقتادها مسببة في خزيٍ وعارٍ، فصار جواريها ينتحبون حالها. يرى البعض أنهُصبترمز لمدينة نينوى ذاتها.

ليس أمام الجواري سوى النحيب المستمر كهدير الحمام الذي لا ينقطع، والضرب على صدورهن علامة الحزن الشديد والعجز عن التصرف.

وَنِينَوَى كَبِرْكَةِ مَاءٍ مُنْذُ كَانَتْ،

وَلَكِنَّهُمُ الآنَ هَارِبُونَ.

قِفُوا، قِفُوا!

وَلاَ مُلْتَفِتٌ. [8]

كانت نينوى مزدحمة جدًا بالسكان كبركة مملوءة ماء (إش 8: 7؛ إر 51: 13؛ رؤ 17: 15)، لكن الكل عاجزون عن التصرف، بل هم هاربون يحاول بعض القادة أن يبعثوا فيهم روح الشجاعة، فيصرخون، قائلين: “قفوا، قفوا، لكن ليس من يلتفت، إذ فقدوا كل رجاءٍ في الخلاص، فصاروا يهربون في كل اتجاه بلا ضابط.

اِنْهَبُوا فِضَّةً.

انْهَبُوا ذَهَبًا، 

فَلاَ نِهَايَةَ لِلتُّحَفِ لِلْكَثْرَةِ مِنْ كُلِّ مَتَاعٍ شَيْءٍ. [9]

إذ جمعت نينوى ثروتها من ذهب وفضة ونفائس ثمينة من الجزية السنوية ومن الغنائم وتجارتها الضخمة (نا 3: 16؛ حز 27: 23-24).

لقد حرق الملك قصره بكل ما فيه من كنوز، إلا أن العدو استولى على ذهب وفضة وكنوز المدينة وعظمائها.

فَرَاغٌ وَخَلاَءٌ وَخَرَابٌ وَقَلْبٌ ذَائِبٌ 

وَارْتِخَاءُ رُكَبٍ وَوَجَعٌ فِي كُلِّ حَقْوٍ.

وَأَوْجُهُ جَمِيعِهِمْ تَجْمَعُ حُمْرَةً. [10]

تصوير مرّ عن ما تصل إليه نينوى من خرابٍ ورعبٍ. فالمدينة الغنية صارت في فراغ، بل وخلاء وخراب. والتي سيطرت على كثير من الأمم صار قلبها خائرًا ورُكبها مرتخية، لا تستطيع الوقوف أو الهروب. وتحمر وجوه جنودها وشعبها، كأنها قد التهبت بنار المرارة والحزن. يترجمها البعضوأوجه جميعهم شاحبة“.

أَيْنَ مَأْوَى الأُسُودِ وَمَرْعَى أَشْبَالِ الأُسُودِ؟

حَيْثُ يَمْشِي الأَسَدُ وَاللَّبْوَةُ وَشِبْلُ الأَسَدِ،

وَلَيْسَ مَنْ يُخَوِّفُ. [11]

كثيرًا ما تزينت الآثار الآشورية بصور الأسود بأشكال مختلفة منها الأسد المجنح وله رأس إنسان. 

كانت نينوى كعاصمة أكبر دولة في ذلك الحين تُحسب مأوى الأسود ومرعى الأشبال، يسير الملك والملكة فيها كأسدٍ ولبوةٍ في غابةٍ. الآن تقف الأمم المحيطة تتساءل: أين نينوى العظيمة بجبروتها؟ أين أسودها جبابرة الحرب وعظماؤها؟ لقد كانت كجب أسود مملوء بالغنائم القادمة من كل الأمم الخاضعة لها! فقد استبد أشور ونهب لحساب عاصمته. الآن تفقد العاصمة كل شيءٍ فيُقال عنها: احتاجت الأشبال وجاعت، وأما طالبوا الرب فلا يعوزهم شيء من الخير (مز 34: 10).

3. الله يقاوم المتوحشين 12-13:

الأَسَدُ الْمُفْتَرِسُ لِحَاجةِ جِرَائِهِ،

وَالْخَانِقُ لأَجْلِ لَبْواتِهِ حَتَّى مَلأَ مَغَارَاتِهِ فَرَائِسَ،

وَمَآوِيَهُ مُفْتَرَسَاتٍ. [12]

هَا أَنَا عَلَيْكِ يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ.

فَأُحْرِقُ مَرْكَبَاتِكِ دُخَانًا،

وَأَشْبَالُكِ يَأْكُلُهَا السَّيْفُ،

وَأَقْطَعُ مِنَ الأَرْضِ فَرَائِسَكِ،

وَلاَ يُسْمَعُ أَيْضاً صَوْتُ رُسُلُكِ. [13] 

إن كانت مملكة أشور تعتز بقواتها وجيشها الذي لم يكن يعرف الهزيمة، فإن الذي يقوم عليها هورب الجنود السمائيينأورب القوات“. فهو الذي ينصف المظلومين، ويدافع عن المذلين، ويهب نصرة للحق.

هوذا مركبات أشور لا تحتمل نيران الغضب الإلهي، فهي تحترق من مجرد الدخان قبل أن تبلغ إليها النيران. ولا يعود لهذه المملكة قائمة، إذ يموت أشبالها بالسيف، فلا رجاء لقيام ملوك (أسود)، ولا تعود تقتني غنائم، وليس من رُسل تبعث بهم لتهدد الأمم المحيطة بها ما فعلته أشور بالأمم، يُفعل بها، عملها يرتد على رأسها (عو 15).

 

 

من وحي ناحوم 2

من يرد لي كرامتي غيرك؟

v   سلبني العدو مجدي الداخلي! 

عوض السماء ملك العدو على أعماقي.

سلبني حياتي ومجدي،

ونهب كل مواهبي وطاقاتي لحسابه.

هذا هو أشور الخطير الذي أذل نفسي.

v   هوذا يدك تتحرك لترد عظمة يعقوب!

أرى يديك مبسوطتين على الصليب، 

تنتظران كل العالم لتحضنه بالحب،

وتحرره من إبليس وكل جنوده!

v   هوذا أنت تقود المعركة بنفسك يا إلهي!

أي عدو يقدر أن يقف أمامك؟

مركباتك قديرة وفعّالة، تسير كالبرق.

تحتل قلبي لتهبه نصرة فائقة.

تطرد العدو منه، وتسلبه كل ما اغتصبه.

يخرج محطمًا، لا حول له ولا قوة!

v   ظن في نفسه أسدًا، يفترس وليس من رادع!

جاعت أشباله واحتاجت. 

تحطمت قواته وسقط كالبرق من سماء قلوبنا. 

لك المجد يا واهب المجد للمتكلين عليك.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى