تفسير سفر الأمثال ١٣ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثالث عشر
سعادة الحكيم وشبعه
يفتح سليمان الحكيم أمامنا باب الرجاء والتمتع بالسعادة الحقيقية والفرح والثراء والشبع الداخلي، الأمور التي لا يستطيع العالم أن ينزعها من أعماقنا إن سلكنا بروح الحكمة الحقيقية، أي برَّ المسيح. وفي نفس الوقت يحذرنا من الهلاك الذي يعده الخطاة لأنفسهم، إذ يختارون بكامل حرية إرادتهم الخطية التي تفصل الإنسان عن الله مصدر الحكمة والحياة والفرح والشبع، كما يرفضون التأديب الأبوي.
هذا ويوضح الحكيم التزام الإنسان بالتعلم بروح التواضع سواء من والديه أو المشيرين الحكماء. بروح التواضع يشتهي أن يسلك الطريق الذي سبق فسلكه الآخرون في الرب.
الابن الحكيم 1.
“الابن الحكيم يقبل تأديب أبيه،
والمستهزئ لا يسمع انتهارًا” [ع 1]
يليق بالوالدين أن يُمثلا أبوة الله وأمومة الكنيسة المقدسة، يعلنان له منذ ولادته عن الحب الحقيقي الحكيم، فينشأ الطفل في جوٍ سماويٍ مفرحٍ، وينحني بروح الطاعة، ليغرف من الحكمة التي يعيشها الوالدان في الرب. هكذا يقبل الابن بروح الحكمة تصرفات الوالدين المملوءة حبًا حتى في حزمها و تأديبها له.
الابن الحكيم بروح الشعور بالحاجة والامتنان يطلب الحكمة والعون، أما الابن الذي لا يسمع لوالديه، في استهزاء واستهتار، فيفقد بركات الحكمة. يسلك في تشامخ مستهينًا بالغير، رافضًا التأديب والتوبيخ. بروح الاعتداد بذاته يستخف بكلمات الحكماء.
V يا أولادي، كل مَنْ يسمع التأديب ولا يقبله ولا يعمل به، فهو خاسر نفسه، ويُصبح معذَّب النفس دائمًا، لا يهدأ له سرٌّ أبدًا، ويصير غضوبًا حزينًا كئيبًا مهمومًا مغمومًا كثير الأفكار، تُطالبه نفسه بعمل الشر وبالكلام الرديء، لأنّ الأدب هو مثل طريق الملك التي عليها الحرّاس يحرسونها نهارًا وليلاً، فكل مَنْ يسلكها بالنهار أو بالليل يكون آمنًا على نفسه! أمّا الجهالة وقلة السمع والإعجاب بالنفس فهي طريقٌ وعرة غير مسلوكة، وكل مَنْ مشى فيها ضلّ وتعب وربما هلك، لأنّ موطن اللصوص هناك! وكل مَنْ مشى في الطريق المسلوكة واتفق أن عثر في أمرٍ أو عارضٍ كان عُذره مبسوطًا وعلاجه حاضرًا، أمّا مَنْ ترك عنه طريق الملك واختار أن يسير في الطريق الوعرة، فلا عُذر له ولا علاج.
القديس مقاريوس الكبير
عفة اللسان 2-5.
يقول السيد المسيح: “الإنسان الصالح من الكنز الصالح يُخرج الصالحات، والإنسان الشرير من الكنز الشرير يخرج الشرور. ولكن أقول لكم إن كل كلمة بطَّالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حسابًا يوم الدين. لأنك بكلامك تتبرر، وبكلامك تدان” (مت 12: 35-37).
“من ثمرة فمه يأكل الإنسان خيرًا،
ومرام الغادرين ظلم” [ع 2]
يشتهي الإنسان الحكيم الخير للكل، فتصدر كلماته من بين شفتيه مملوءة عذوبة وحنوًا، يأكل منها فتفرح نفسه. أما الإنسان الشرير، فيصدر عن قلبه الغدر والخداع، تُعبر عنها كلماته، يأكل منها فتجوع نفسه بالأكثر إلى العنف والظلم.
بمعنى آخر فيما يقدم الإنسان كلماته للغير إذا بها تصير مأكلاً له. فإن قدم كلماته ممسوحة بالنعمة، تمتع بالنعمة في داخله، وإن قدم كلمات شريرة، ترتد إليه.
V يا ابني… ليكن قلبك متواضعًا، وفمك ينطق دائمًا بالحق.
V لا تغتبْ أحدًا من الناس لئلاّ يُبغِض الله صلاتك. إياك واللعب والاستهزاء، فإنه يطرد خوف الله من القلب.
القديس أنبا أنطونيوس الكبير
V علِّم فمك أن يقول ما في قلبك.
القديس أنبا بيمين
“من يحفظ فمه يحفظ نفسه،
ومن يشحر شفتيه فله هلاك” [ع 3]
من يحفظ فمه، إنما يحفظ حياته. الإنسان الناضج روحيًا يضبط لسانه لبنيانه، والإنسان الغبي يدمر نفسه بكلماته.
يرى البعض في شحر الشفتين أو فتحهما بطريقة مبالغ فيها يقصد بها أن يتكلم الإنسان بطريقة ملتوية، حيث تحمل الكلمات معْنَيين، المعنى الظاهر يخفي معنى خفيًا يدمر النفس.
ويرى البعض أن فتح الشفتين باتساع يعني عدم الالتزام بوضع حدود معينة للكلمات التي ينطق بها، وإنما يتكلم في كل شيء، وفي أي وقت وبلا حدود، بدون تفكير متزنٍ قبل أن يتكلم.
لقد وهب الله الإنسان عينيْن لكي يرى ويفحص ويدقق، وأيضًا أذنين لكي يسمع وينصت في طول أناة، ولكنه وهبه لسانًا واحدًا حتى يتحفظ ويختصر في كلماته، خاصة وأن اللسان محاط بحواجز هي الشفتان والأسنان.
V وليكن كلامك بحلاوة بلا خسارة، لأن المجد والهوان هما من قِبَل الكلام. أَحْبِب الرحمة وتذرَّع بالإيمان.
V يا بُنيَّ، لا تجعل قلبك رديئًا حتى يفكر في الشر، بل اجعله صالحًا، واطلب الصلاح واقتنِ غيرة في جميع الأعمال الحسنة. لا ترفع صوتك، وإذا مضيتَ إلى أحدٍ فليكن خوف الله في قلبك، واحفظ فمك لترجع إلى موضعك بسلامة. لا تُكثِر الكلام عند من هو أكبر منك.
القديس أنبا أنطونيوس الكبير
“نفس الكسلان تشتهي ولا شيء لها،
ونفس المجتهدين تَسمَنُ” [ع 4]
في الأمور الروحية كما في الأمور الجسدية، “إن كل أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضًا” (2 تس 3: 10). من يطلب باجتهاد الحق في كلمة الله يفرح بالكلمة كمن وجد غنيمة. وكما يقول المرتل: “اَبتهج أنا بكلامك كمن وجد غنيمة وافرة” (مز 119: 162).
يليق بنا أن نعمل باجتهاد: “اجعلوا قلبكم على طرقكم” (حج 1: 6).
“أرأيت رجلاً مجتهدًا في عمله، أمام الملوك يقف، لا يقف أمام الرِّعاع (أم 22: 29).
“اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق” (لو 13: 24).
“لذلك بالأكثر اجتهدوا أيها الإخوة أن تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتين، لأنكم إن فعلتم ذلك لن تزلوا أبدًا” (2 بط 1: 10).
“اجتهدوا لتوجدوا عنده بلا دنس ولا عيب في سلام” (2 بط 3: 14).
“أكتب إليكم واعظًا أن تجتهدوا لأجل الإيمان المُسلم مرَّة للقديسين” (يه 1: 3).
V يا ابني… فكِّر في أعمال الله ولا تكسل، لأن صلاة الكسلان كلام باطل. اجتهد أن تبتعد من الناس عادمي الرأي. إذا صنعتَ أعمالاً فاضلة، فلا تفتخر وتقول إني صنعتُها. لأنك إن ظننتَ أنك صنعتَها فلستَ بحكيمٍ. عار عليك أن تأمر غيرك بأوامر لم تصنعها في ذاتك، لأنك لا تنتفع بعمل غيرك. الرجل الحكيم يعرف طريق سلوكه، فلا يبادر بالكلام، بل يتأمل ما يقول وما يصنع.
القديس أنبا أنطونيوس الكبير
V هكذا أراكما ساقطين تحت هذا الضعف من الكسل الذي يصفه سفر الأمثال: “نفس الكسلان تشتهي ولا شيءَ لها”، وأيضًا “شهوة الكسلان تقتلهُ” (أم 13: 4؛ 21: 25). لأنه لا يليق بنا أن نستريح من جهة احتياجاتنا الزمنية مادامت هذه الاحتياجات ضرورية ومتناسبة مع دعوتنا. فإذا ظننا أننا نستطيع أن نقتني لنا ربحًا عظيمًا من تلك المباهج التي تنبع عن المشاعر الجسدية، فلا ننزع عنا سلوان أقاربنا، أما يصدنا قول مخلصنا الذي يستبعدنا عن كل ما ينسب إلى حاجات الجسد، قائلاً: “إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض أباهُ وأمهُ وامرأتهُ وأولادهُ وإخوتهُ وأخواتهِ… فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا” (لو 14: 26)؟[381]
الأب إبراهيم
V يشير سليمان، أحكم الرجال، إلى هذه الرذيلة في كثير من كتاباته إذ يقول: “تابع البطالين يشبع فقرًا” (أم 28: 19)، إما عيانًا أو خفية، حيث لا مناص من أن يتورط المتراخي. ومن تلاحقه النقائص، فلا يفطن قط للتأملات الإلهية أو الكنوز الروحية، التي يشير إليها الرسول المبارك بقوله: “إنكم في كل شيء استغنيتم فيه في كل كلمة وكل علم” (1 كو 1: 5).
أما فيما يتعلق بهذا الفقر الذي يلحق المتكاسل أي الضجر، أيضًا يكتب: “الكسلان يكتسي بالخِرق” (أم 23: 21)، فمن المؤكد لا يستحق أن يتزيَّن بتلك الحُلة التي لن يعتريها البلاء أو الفساد، والتي يقول الرسول عنها: “البسوا الرب يسوع المسيح” (رو 13: 14) وأيضًا: “لابسين درع الإيمان والمحبة” (1 تس 5: 8)، والتي تكلم الرب ذاته عنها إلى أورشليم بلسان النبي قائلاً: “استيقظي، استيقظي، اِلبسي عِزِّك يا صهيون” (إش 51: 1).
أي شخص يستبد به نوم التراخي أو الضجر يفضل أن يكتسي لا بعمله وكده، بل بخرق التكاسل، مقتبسًا عبارات من الكتاب المقدس الراسخ (ويسيء استخدامها)، دون أن يكسو تكاسله بحُلة مجد وفخار، بل برداء العار وتلمس الأعذار. أولئك هم الذين يؤثرون هذا الكسل ولا يودُّون إعالة أنفسهم بكد أيديهم، كما كان الرسول يفعل دائمًا ويكلفنا أن نفعل، قائلين إنه مكتوب: “اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة الأبدية” (يو 6: 27)، وأيضًا: “طعامي أن أعمل مشيئة أبي” (يو 4: 34). ولكن هذه الأدلة هي خِرق منتزعة من حُلة الإنجيل المكين الراسخ، اُقتبست لهذا الغرض، أعني تغطية فضيحة تكاسلنا وعارنا، بدلاً من أن توفر لنا الدفء، وأن نتزين بحلة الفضيلة الفخمة الكثيرة الثمن، إذ قيل إن المرأة التي ورد ذكرها في سفر الأمثال والتي كانت ملتحفة بالعز والبهاء، كانت تصنع ثيابًا إما لنفسها أو لزوجها، حتى يُقال عنها في كل حين: “العز والبهاء لباسها، وتضحك على الزمن الآتي” (أم 31: 25).
يعود سليمان مرة أخرى إلى ذكر آفة التكاسل، فيقول: “طرق الكسلان مفروشة بالأشواك” (أم 15: 29)، أي مفروشة بهذه وغيرها من النقائص المماثلة التي سبق أن ذكر الرسول أنها تنبعث من البطالة. كذلك يقول: “نفس الكسلان تشتهي ولا شيء لها” (أم 13: 4)، ويشير الرسول إلى هذا الاشتهاء حين يقول: “ولا تكون لكم حاجة إلى أحد” (1 تس 4: 12). أخيرًا عدَّد الرسول تلك الآفات التي ذكر سليمان الحكيم أنها غرس البطالة والملل، في الفقرة الآنفة الذكر، بقوله: “لا يشتغلون شيئًا بل هم فضوليون” (1 تس 4: 11). ويضيف إلى هذه الآفة آفة أخرى إذ يقول: “وأن تحرصوا على أن تكونوا هادئين”، ثم “أن تمارسوا أموركم الخاصة، وتشتغلوا بأيديكم وتسلكوا بلياقة عند الذين هم من خارج، ولا تكون لكم حاجة إلى أحد” (1 تس 4: 11).
أما أولئك الذين يسلكون بلا ترتيب ولا يطيعون الوصايا، فالرسول يوصي أبناء الطاعة الجادين أن يعتزلوهم، فيقول: “تجنبوا كل أخٍ يسلك بلا ترتيب، وليس حسب التعليم الذي أخذه منا” (2 تس 3: 6)[382].
القديس يوحنا كاسيان
“الصدِّيق يبغض كلام كذب،
والشرير يخزي ويخجل” [ع 5]
القلب الملتزم بالحق يصير مصدرًا للبرّ العملي في المسيح يسوع. يصير عرشًا للقدوس، ويبغض الرجاسات الباطلة والكذب. يجد سعادته في الشركة مع الله وتمجيد اسمه القدوس في وسط هذا العالم الشرير المقاوم للحق. أما الإنسان الشرير فيفسد أعماقه بخطيته، ليحمل في داخله رائحة الموت والنتانة. يصير عاريًا في هذا العالم، ويُطرح في الظلمة الخارجية في يوم الرب العظيم.
إنسان الله ليس فقط يتجنب الكذب، وإنما يبغضه ولا يطيقه.
إيّاك والكذب، فهو يطرد خوف الله من الإنسان.
القديس أنبا أنطونيوس الكبير
V لنرفض شرف العالم وكراماته لنتخلّص من المجد الباطل، ولنستعمل اللسان في ذكر الله والحق لنتخلّص من الكذب.
القديس أنبا موسى الأسود
غنى البرّ 6-8.
“البرّ يحفظ الكامل طريقه،
والشر يقلب الخاطئ” [ع 6]
من يرغب في جدية أن يسلك ببرّ المسيح في استقامة، فإن البرّ يحفظه من الأخطاء الخطيرة، يحفظه كاملاً في عينيّ الله، لينال شركة المجد الأبدي. أما المصمم على الشر، فإن هلاكه يأتيه من داخله، من الشر واهب الفساد.
“يوجد من يتغانى ولا شيء عنده،
ومن يتفاقر وعنده غنى جزيل” [ع 7]
يتظاهر البعض بالغنى وهم في داخلهم فقراء. هذه هي خطية المجد الباطل وحب العظمة مع الرياء. بينما يوجد أغنياء في أعماقهم يفيضون بالخيرات، وفي تواضعٍ يحسبون أنهم فقراء يحتاجون إلى نعمة الله المستمرة وصلوات الآخرين. يقول الرسول بولس الغني: “كفقراء ونحن نغني كثيرين، كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء” (2 كو 10: 6) بينما يوبخ الرب ملاك كنيسة اللاودكيين، قائلاً: “لأنك تقول إني أنا غني وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شيء ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمي وعريان” (رؤ 3: 16-17).
هذا هو عمل طبيعة الإنسان القديم التي ورثناها عن أبينا آدم، مع فقرنا الداخلي نتظاهر كمن هم أغنياء!
V مرض الغني هو الكبرياء الخطير.
الروح الكبيرة بالحقيقة في وسط الغنى لا تنبطح وتسقط في هذا المرض.
الروح أعظم من غناها، وتسمو فوقه، لا باشتهائها له، بل باستخفافها به.
عظيم بالحق ذاك الغني الذي لا يظن أنه عظيم بسبب غناه. أما إذا حسب نفسه عظيمًا، يكون بهذا متكبرًا ومُعدمًا!… إنه شحاذ في قلبه (الفارغ). إنه منتفخ وغير ممتلئ.
إن شاهدت زقي خمر، زق مملوء، والآخر منفوخ، فإن لهما ذات الحجم وذات الاتساع، لكن ليس فيهما ذات المحتوى. اُنظر إليهما، فلا تقدر أن تميز بينهما، أوْزِنهما فستجد الفارق بينهما. الزق المملوء يصعب تحريكه، والمنفوخ يمكن تحريكه بسهولة…
لست أخبركم أن تبددوا ثروتكم بل أن تنقلوها، إذ يوجد كثيرون رفضوا أن يفعلوا هذا، وللأسف الشديد لم يطيعوا، فقدوا ليس فقط غناهم، وإنما بسببه فقدوا أيضًا نفوسهم…
ليتواضع (الغني). ليُسر أنه مسيحي أكثر من كونه غنيًا. ليته لا ينتفخ أو يتعالى أو يتجبر. ليهتم بأخيه الفقير، ولا يرفض أن يدعو الفقير أخاه. فوق هذا كله، مهما كان غناه فالمسيح أكثر غنى، وقد أراد أن يكون كل الذين سفك دمه من أجلهم إخوته[383].
القديس أغسطينوس
“فدية نفس رجل غناه،
أما الفقير فلا يسمع انتهارا” [ع 8]
يفسر البعض هذه العبارة بأن الغنى كثيرًا ما يسبب فقدان السعادة، فيتعرض بعض الأغنياء للخطف،أو خطف أبنائهم بِغية الطمع في نوال نصيب من أموالهم كفِدية لهم، أما الفقير فليس من يفكر في خطفه!
هنا يتحدث عن الغني الذي يضع كل قلبه في أمواله، فيصير أسيرًا لممتلكاته، تملكه ولا يملكها، فيعيش في قلقٍ واضطرابٍ. كما يتحدث عن الفقير التقي الذي في تسليم كامل لا يهتم بالغد، أي لا تضطرب نفسه ولا تقلق. غير أننا لا ننكر أن بعض الأغنياء الذين وضعوا ثقتهم في الله كإبراهيم أب الآباء الذي كان غنيًا جدًَا جدًا كشهادة الكتاب المقدس، عاش في حياة مطوّبة سعيدة بالله. كما يوجد فقراء وهم لا يملكون شيئًا يعيشون في قلقٍ، لأنهم لم يضعوا قلوبهم في يد الله.
يقول العلامة أوريجينوس إن الذين يسيئون استخدام غناهم يخطئون. ويشاركهم في ذات العقوبة كثير من الفقراء الذين مع معاناتهم من الفقر يسلكون بطريقة خسيسة ودنيئة. بل وحتى الذين هم في حالة وسطى، بين الأغنياء والفقراء، فإن هذه الحال لا يعني أنها تحفظهم من السقوط في الخطية[384].
غنى الشخص يلزم أن يعمل لخلاص نفسه، لا لهلاكها. الغنى هو فداء من يستخدمه حسنًا. يكون الغنى شركًا لمن لا يعرف كيف يستخدمه. فما هو مال الإنسان ما لم يسنده في رحلته؟ الكم الكبير منه هو ثقل، والقليل منه نافع. إننا عابرو سبيل في هذه الحياة، كثيرون يسيرون معًا، لكن يحتاج الشخص أن يسلك طريقًا صالحًا. الرب يسوع مع من يسلك الطريق الصالح[385].
V الغني ليس ملومًا في ذاته، لأن “فدية نفس رجل، غناه“، فإذ يعطي الفقراء يخلِّص نفسه. إذ يوجد موضع للفضيلة حتى في الغنى المادي. إنكم تشبهون مديري دفة وسط بحرٍ متسعٍ. إن أدار الإنسان الدفة حسنًا يعبر سريعًا من البحر، ويبلغ إلى الميناء. أما الذي لا يعرف كيف يدير ممتلكاته، فيغرق مع حمولته. فإن ثروة الأغنياء مدينة قوية جدًا[386].
القديس أمبروسيوس
V في هذا المعني “أوصِ الأغنياء في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا، ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغنى، بل على الله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتع، وأن يصنعوا صلاحُا، وأن يكونوا أغنياء في أعمال ٍ صالحة، وأن يكونوا أسخياء في العطاء، وكرماء في التوزيع” (1 تي 6: 17-18). وكما يقول سليمان: “الغنى” الصالح حقيقة هو “فدية حياة رجل” ، أما الفقر المضاد لهذا الغنى فهو مُدمر، إذ به “لا يقدر الفقير أن يسمع انتهارًا”[387].
العلامة أوريجينوس
V “فدية نفس رجلٍ، غناه“. ماذا تقول؟ ماذا تقصد بتمجيدك مثل هذا الغنى؟ أول كل شيء لا يتحدث (سليمان) عن أي غنى، وإنما عن الغنى الذي يتحقق خلال أعمالٍ شريفة. لهذا فالفقر ليس شرًا. يقول: بالحري ليس من أحدٍ يقدر أن يهدد فقيرًا، حقًا كيف يمكن لأحدٍ أن يرهب من لا يملك شيئًا؟ لهذا فإن مثل هذه الحياة تتجنب الأحزان.
لعل (سليمان) يدعو “غناه” هنا “برُّه” الذي ينتزعه من الموت. فمن هو فقير في الفضيلة ليس لديه سلام العقل حينما يعاني من التهديدات وإعلان العقوبة[388].
V يقول بولس: “غير أن نذكر الفقراء، وهذا عينه كنت اعتنيت أن أفعله” (غل 2: 10). نجد الكثير بخصوص هذا الأمر في كل موضع في الكتاب المقدس. قيل: “فدية نفس رجل، غناه“… ويقول (المسيح): “إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعطِ الفقراء… وتعال اتبعني” (مت 19: 21). هذا هو جزء من الكمال[389].
القديس يوحنا الذهبي الفم
V يؤكد الكتاب المقدس أن الغنى الحقيقي فدية الإنسان، بمعنى إن كان غنيًا يخلص بتوزيعه للغنى. فكما أنه بسحب المياه من الآبار يرجع تدفقها إلى مستوى القياس الأول، هكذا العطاء هو ينبوع حب نافع، بتقديم مياهه للعطاش يزداد ويمتلئ ثانية، وذلك كما اعتاد اللبن أن يفيض من الثدي عندما يُرضع منها أو تُحلب.
القديس إكليمنضس السكندري
V يتوق الرب إلى نفوس المؤمنين أكثر من غناهم. نقرأ في الأمثال: “فدية نفس رجل، غناه“. بالحق يمكننا أن نطلع على غنى الإنسان بكونه الغنى الذي لا يصدر عن شخص آخر أو عن السلب، وذلك حسب الوصية: “أكرم الرب من أتعابك البارة” (راجع أم 3: 9). يصير المعنى أفضل إن فهمنا غنى الشخص أنه الكنوز المخفية التي لا يقدر لص أن يسرقها ولا سارق أن يغتصبها منه (راجع مت 6: 20)[390].
القديس جيروم
V الغنى (الممتلكات) الصالح هو ما يمتلكه مقتني الفضائل… صانع البرّ الذي يمدحه النبي داود، قائلاً: “نسلهُ يكون قويًّا في الأرض. جيل المستقيمين يُبارََك. رغد وغنًى في بيتهِ وبرّهُ قائِم إلى الأبد” (مز 112: 2-3). وأيضًا “فدية نفس رجلٍ، غناهُ” (أم 13: 8). ويتحدث سفر الرؤيا إلى المفتقر والمُعدم من هذا الغنى قائلاً: “أنا مزمع أن أتقيَّأَك من فمي. لأنك تقول إني أنا غني وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شيءٍ، ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان. أشير عليك أن تشتري مني ذهبًا مصفَّى بالنار لكي تستغني. وثيابًا بيضًا لكي تلبس فلا يظهر خزي عريتك” (رؤ 3: 16-18)[391].
الأنبا بفنوتيوس
V افترض أنك شخص وضيع المولد وغير مرموق، فقير، من طبقة وضيعة، بلا بيت ولا مدينة، مريض، محتاج إلى القوت اليومي، ترهب أصحاب السلطة، ترتعد أمام كل أحدٍ بسبب ظروفك، يقول الكتاب المقدس: “أما الفقير فلا يسمع انتهارًا” (أم 13: 8). نعم، لا تيأس ولا تفقد كل رجاءٍ صالحٍ، لأن حالك الحاضر لا تُحسد عليه مطلقًا. بالحري حوِّل أفكارك إلى البركات التي نلتها بالفعل من الله، والبركات المحفوظة لك بالوعد الخاص بالمستقبل[392].
القديس باسيليوس الكبير
فرح البرّ 9.
“نور الصدِّيقين يُفرح،
وسراج الأشرار ينطفئ” [ع 9]
ما هو نور الصدِّيقين إلا روح الله القدوس واهب الاستنارة، فإنه يشرق على الأبرار، ويهبهم ثمره، أي الفرح، كما يفرح الروح بهم. يقول السيد المسيح: “أنا هو نور العالم”، فإذ يشرق على المؤمنين به يفرح بهم كعروسٍ منيرةٍ تحمل انعكاس بهائه، ويصيرون هم أنفسهم نور العالم.
أما سراج الأشرار، فهو نور معرفتهم الذاتية الذي وإن أنار إلى لحظات ينطفئ سريعًا.
يرى البعض أن النور والسراج هنا هما نسل الإنسان، فالأبرار إذ يهتمون بخلاص بنيهم يمتلئ البنون فرحًا، بل ويصير الأبناء مصدر فرح لوالديهم كما للمحيطين بهم. أما نسل الأشرار فيبدو ناجحًا، لكن سرعان ما ينطفئ نورهم.
قيل عن الملك أبيام: “لأجل داود أعطاه الرب إلهه سراجًا في أورشليم، إذ أقام ابنه بعده وثبَّت أورشليم” (1 مل 15: 4). كما قيل: “وأعطي ابنه سبطًا واحدًا ليكون سراج لداود عبدي كل الأيام أمامي في أورشليم المدينة التي اخترتها لنفسي لأضع اسمي فيها” (1 مل 11: 36).
في مَثل العشر العذارى (مت 25: 1-13)، كانت مصابيح العذارى الحكيمات متقدة، وتبقى متقدة أبديًا خلال زيت نعمة الله الفائقة والعاملة بالحب فيهم، أما العذارى الجاهلات فلم يستطعن إشعال مصابيحهن لأنهن لا يحملن زيتًا.
V الأبناء الخاضعون والمخلصون لله في طاعتهم لشريعته يجدون مصدر فيض للسعادة حتى في هذه الحياة الزمنية. الرجل الفقير مع أخلاقيات مسيحية يوحي للآخرين بتقديم الوقار له والحب. بينما من كان له قلب شرير منحرف، لن يُنقذه كل غناه من غضب كل أحد حوله وبغضه له.
القديس يوحنا الذهبي الفم
روح الحكمة والاتفاق 10.
“الخصام إنما يصير بالكبرياء،
ومع المتشاورين حكمة” [ع 10]
تقوم الخصومات التي بين الأفراد أو العائلات أو الدول بسبب الكبرياء. لهذا قدم لنا السيد المسيح الخلاص بنزوله إلينا في تواضعٍ عجيبٍ، وقبوله عار الصليب ليصالحنا مع الآب، كما مع السمائيين، ومع بعضنا البعض.
إذ حدثت مخاصمة بين رعاة مواشي أبرام ورعاة مواشي لوط، استطاع أبرام بروح الحوار المملوءة تواضعًا أن يبطل الخصومة، إذ قال لابن أخيه: “لا تكن مخاصمة بيني وبينك، وبين رعاتي ورعاتك، لأننا نحن أخوان. أليست كل الأرض أمامك؟ اعتزل عني. إن ذهبت شمالاً فأنا يمينًا، وإن يمينًَا فأنا شمالاً” (تك 13: 8-9).
V رجل الخصام الذي لا يهدأ من النزاع هو الذي لا يكتفي بالشقاق الأول فيثور غاضبًا من جديد. أما الذي هو ليس برجل خصام، فحينما يشتعل غضبه يرجع إلى نفسه في الحال، ويلوم نفسه، ويطلب المغفرة من أخيه الذي غضب منه، فيهدأ فيه الخصام لأنه أدان نفسه واصطلح مع أخيه، ولن يجد الصراع له فيه موضعًا كما قلت.
أمَّا الإنسان الغضوب الذي لا يهدأ الشقاق بداخله، والذي إذا غضب لا يدين نفسه بل يثور غضبه بالأكثر دون أن يندم على غضبه قط، بل ولا يكتفي بما قاله في غضبه فيزيد عليه؛ هذا يُدعى رجل خصامولا يهدأ الغضب في داخله، لأن الحقد والمرارة والخبث تتبع الغضب. ليت الرب يسوع المسيح يخلِّصنا من مصير هؤلاء الناس، ويهبنا نصيب الودعاء والمتواضعين!
الأنبا زوسيما
الحكمة والجهاد 11-12.
“غنى البُطل يقِل،
والجامع بيده يزداد” [ع 11]
يرى البعض أن الحكيم يتحدث عن الأغنياء الذين كوَّنوا ثروات طائلة لكنهم لم يبثوا في حياة أولادهم روح العمل والجهاد، فيتكلون على ما يرثونه أو على الربح الصادر من ميراثهم. يفقد الأبناء طعم الحياة خلال الرخاوة والاستهتار، كما قد يفقدون ميراثهم نفسه. أما الذي يدرب أبناءه على العمل والجهاد فإنه يورِّثهم حياة جادة ناجحة ونامية.
V إن علمناهم من البداية حب الحكمة الحقيقية، ستكون لهم ثروة أعظم وأفضل مما يجلبه الغنى. إن تعلم طفل التجارة أو نال تعليمًا عاليًا في مهنة مربحة للغاية، فإن هذا كله يُحسب كلا شيء إن قورن بفن التخلي عن الغنى. إن أردت أن تجعل طفلك غنيًا علمه هذا. يكون بالحقيقة غنيًا ذاك الذي لا يشتهي الممتلكات العظيمة، ولا يحيط نفسه بالثروة، بل لا يطلب شيئًا!
القديس يوحنا الذهبي الفم
يرى البعض أن الحديث هنا خاص بالحياة في الدهر الآتي، حيث يقف الأغنياء الذين تعلقت قلوبهم بالغنى الباطل في خزي، أما المثابرون بروح التقوى فيتمتعون بأمجادٍ فائقة. الإنسان التقي – في نظر القديس أغسطينوس – يميز بين استخدام الشيء والتمتع به. فيستخدم ما يلزم استخدامه، ويتمتع بما يلزم التمتع به، دون الخلط بينهما.
V أن نتمتع بأي شيء يعني أن نلتصق به بقوة لأجل الشيء في ذاته. وأما أن نستخدم شيئًا فهو أن نوظف ما نناله، لنحصل على ما نحتاج إليه، بشرط أن يكون من اللائق بنا أن نحتاجه[393].
V لا تظن أن الفضة أو الذهب يجب أن يُلاما بسبب الجشعين، ولا الطعام والخمر بسبب النهمين والسكارى، ولا الجمال النسائي بسبب الزناة والفاسقين. وهكذا في كل الأمور الأخرى، خاصة حينما ترى طبيبًا يستخدم نارًا بطريقة صالحة بينما قاتل يستخدم خبزًا به سم لتنفيذ جريمته[394].
V إذ فقد أيوب كل غناه وبلغ إلى أقصى الفقر، احتفظ بنفسه غير مضطربة، مُركزًا على الله ليظهر أن الأمور الأرضية ليست بذات قيمة في عينيه، بل كان هو أعظم منها، والله أعظم منه. فلو أن رجال أيامنا هذه لهم ذات الفكر، لما كنا مُنعنا بإصرارٍ في العهد الجديد من امتلاك هذه الأشياء لكي ما نبلغ الكمال. لأن امتلاكنا مثل هذه الأشياء دون التعلق بها لشيء جدير بالثناء أكثر من عدم امتلاكها نهائيًا[395].
القديس أغسطينوس
“الرجاء المماطل يمرض القلب،
والشهوة المتممة شجرة حياة” [ع 12]
هنا يتحدث عن الرجاء الميت، رجاء الإنسان المتهاون الذي يضع رجاءه في أن يبدأ العمل سواء الروحي أو الخاص بوظيفته أو تجارته أو العائلي الخ. في الغد، ولا يقوم بالتحرك. فإن الذي لا يعمل وفي تراخٍ يتوقع أنه يبدأ غدًا، ويؤجل من يومٍ إلى يومٍ، ينحط قلبه ويمرض، ويفقد كل حيوية. أما من يتمم شهوة قلبه ويبدأ بالعمل، فيصير كمن في جنة عدن حيث يجد شجرة الحياة!
أما الرجاء الحيّ فهو الرجاء العامل، حيث يقول مع الابن الضال: “أقوم وأذهب إلى أبي… فقام وجاء إلى أبيه” (لو 15: 18، 20).
الوصية والمعرفة 13-16.
“من ازدرى بالكلمة يخرِّب نفسه،
ومن خشيَ الوصية يُكافأ” [ع 13]
تُقدم لنا الوصية الإلهية لا لتَحد حريتنا، وتكبت إرادتنا، وإنما لكي تشكلنا بروح الله القدوس أيقونة حية للسيد المسيح، نحمل إرادته القوية، وننعم بحياته عاملة فينا. من يستخف بالوصية يعزل نفسه عن الله، فيتحطم. أما من يخاف وصية أبيه الصادرة عن حب الله الأبوي، والتي نتقبلها بروح البنوة، فسننال مكافأة الاتحاد معه، ونُحسب أهل بيت الله، لنا حق الدخول في مدينة الله العليا، ولا نكون متغربين عن الله!
V المُخادع وغير النقي القلب والذي لا يقتني شيئًا نقيًا كما يقول الأمثال: ليس شيء صالحًا بالنسبة للمخادع (راجع أم 13:13) بالتأكيد يُحسب غير أهٍل أن يأكل الفصح، بكونه غريبًا مختلف الجنس عن القديسين، وقد قيل: “كل ابنٍ غريبٍ لا يأكل منه” (خر 12: 43). هكذا عندما ظن يهوذا أنه يحفظ الفصح إذ دبر مؤامرة بخداع ضد المخلِّص، صار متغربًا عن المدينة العليا، وعن الصحبة الرسولية. فقد أمرت الشريعة أن يؤكل الفصح بحرصٍ لائقٍ. أما هو إذ كان يأكله غربله الشيطان ودخل نفسه[396].
البابا أثناسيوس الرسولي
“شريعة الحكيم ينبوع حياة للحيدان عن أشراك الموت” [ع 14]
ما يقدمه الحكيم هو الوصية الإلهية، الينبوع الحيّ الذي يروي النفس، فلا تموت من العطش أثناء رحلتها وسط برية هذا العالم. المؤمن الحقيقي يرى في وصية الرب رفيقًا له في غربته، أشبه بصديقٍ حميمٍ يسنده في مواجهة الحياة. إنها مصدر تعزية له وسط الآلام، ومصدر لذة روحية، تحول وادي الدموع إلي حياة فردوسية مفرحة، لهذا لا يمارس الوصية عن إكراهٍ بل بلذة.
تقودنا الوصية إلى مجاري المياه الحية، فتحفظنا من الموت. الوصية ليست حرمانًا بل هي تمتع بفيض العطايا الإلهية التي تسندنا أثناء تغربنا حتى نبلغ إلى الأبدية. لهذا يقول المرتل: “غريب أنا على الأرض فلا تخفِ عني وصاياك” (مز 119: 19). عمل الوصية الإلهية الأساسي هو تهيئة الإنسان للمواطنة السماوية؛ بها يدرك حقيقة موقفه كغريبٍ ونزيلٍ فينضم إلى رجال الإيمان (عب 11: 13-16). وفي نفس الوقت شعوره بالغربة يدفعه إلى الالتصاق بالوصية كي تسنده كل زمان غربته وترفعه إلى الحياة السماوية.
V يحتاج الغرباء على الأرض إلى وصايا الله لكي تحميهم من أعمال الجسد ومحبة العالم.
من يتبع هذه الوصايا تعتاد نفسه عليها، ولا يقدر العالم أن يغلبه.
لكن توجد وصايا كثيرة مكتوبة برموز مثل: “والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من أمتعته شيئًا” (مت 24: 17؛ مر 13: 15؛ لو 17: 31)؛ “دع الموتى يدفنون موتاهم” (مت 8: 22)… كل هذه ليست واضحة في المعنى، كذلك الوصايا الخاصة بالذبائح والأعياد والحيوانات الطاهرة والنجسة… لهذا يليق بالغريب على الأرض أن يطلب من الله أن يضيء له وصاياه ولا يخفيها عنه، لكي يتممها ويحبها ويصير بلا لوم.
يوسابيوس القيصري
V تتمنى نفسي حفظ أحكامك، وأن تصنعها بشهوة لا بضجرٍ ومللٍ، وإنما بإرادة وموالاة دائمًا.
أنثيموس أسقف أورشليم
“الفطنة الجيدة تمنح نعمة،
أما طريق الغادرين فأوعر” [ع 15]
الفهم الصالح والحكمة الحقيقية تعطي نعمة لصاحبها كما تفيد الآخرين، أما طريق الغدر فوعر بالنسبة للغادرين أنفسهم كما للغير. الغدر أو الخطية تصيِّر الإنسان عبدًا، أما طريقها فمملوء باللعنات والأشواك، ويؤدي إلى جهنم الأبدية.
الأتقياء الذين يرتبطون بكلمة الله، ليدركوا إرادة الله ويتمموها. إنهم يصلون بغيرة طالبين النمو في الحكمة الإلهية والتمتع بالفهم كعطية إلهية، كما يثابرون على طلب نعمة الله لكي تسندهم على ممارسة الوصية لعلهم يبلغون حياة الكمال. هؤلاء يختبرون الحياة المطوَّبة بالرغم من مقاومة الأشرار لهم، وتتحول كلمة الله بالنسبة لهم إلى تسبحة مفرحة تحمل عذوبة خاصة.
V أعطني الحكمة حتى أستطيع أن أختبر شريعتك عمليًا بانتباه لائق بها، وهكذا يمكنني أن أستلم من هذه الشريعة الممارسة العملية.
أعطني الفهم الذي يخص العمل والتأمل، بهذا أستطيع أن “أحفظها بكل قلبي”، واقترب إليها دون ترددٍ.
إن كان يلزم الحكمة لفهم الشريعة، فأية حكمة يلزم أن يهبها الرب للمرتل حتى يكتشف فيها غايتها وهدفها؟
العلامة أوريجينوس
“كل ذكي يعمل بالمعرفة،
والجاهل ينشر حمقًا” [ع 16]
الحكيم لا ينطق بكلمة دون معرفة، فإن جهل شيئًا ما التزم الصمت، واعترف بعدم معرفته. أما الجاهل، ففي حماقة يتكلم حتى بما لا يعرفه.
الحكمة والسلام 17.
“الرسول الشرير يقع في الشر،
والسفير الأمين شفاء” [ع17].
الرسول الشرير الذي لا يقدم شخص ربنا يسوع المسيح في صدقٍ يضلل الآخرين، فيؤذيهم ويؤذي نفسه أو يهلكها. أما من يشهد للسيد المسيح بأمانة، فيقدم كلمات السيد واهبة الشفاء.
طريق الحكمة 18-24.
“فقر وهوان لمن يرفض التأديب،
ومن يلاحظ التوبيخ يكرم” [ع 18].
من يرفض التعليم بوسيلة أو أخرى يفقد كل شيء حتى نفسه، فيصيبه الفقر الداخلي والعار. فيسمح الصوت الإلهي: “أنا مزمع أن أتقيأك، لأنك تقول إني أنا غني” (رؤ 3: 16-17). أما الذي ينحني في تواضعٍ ليتعلم ولو بالتأديب أو التوبيخ، فيتمتع بمعرفة صادقة وكرامة.
“الشهوة الحاصلة تلذ النفس،
أما كراهة الجهال فهي الحيدان عن الشر” [ع 19]
من يشتاق إلى الحياة السعيدة الحكيمة، ويعلن اشتياقه بالتحرك العملي “الشهوة الحاصلة أو العاملة”، تتمتع نفسه بنوعٍ من العذوبة الفائقة. أما الذي يصر على الشر، فيحمل رجاسة (كراهة) الجهال.
لعله يقصد بالشهوة العاملة هنا قبول المؤمن التأديب برضا من أجل التمتع بالحكمة والمعرفة والحق، ويقصد برجاسة الجهال رفض الجهال التأديب، فيفشلون ويحل بهم العار والخزي.
“المساير الحكماء يصير حكيمًا،
ورفيق الجهال يضر” [ع 20].
الحكمة ليست أقوالاً تُتلى، ولا نظريات نتمسك بها، لكنها حياة تُعاش في كل تصرفاتنا. فالدخول في صداقات مع الحكماء بقصد التعلم والتدرب على الحياة الحكيمة يسند المؤمن. كذلك الدخول في صداقات وطيدة مع الأغبياء الأشرار له فاعليته في حياة الإنسان مهما كان حذرًا.
يُقال: “أرني أصدقائك والكتب التي تقرأها والأماكن التي تذهب إليها، وأنا أعرف شخصيتك!” كما يوجد مَثل شائع في كثير من اللغات: “الطيور على أشكالها تقع”.
V قال أحد الآباء: “إذا عاش راهبٌ عمّال في مكان لا يوجد فيه رهبان عمّالين آخرين فلا يمكنه أن ينمو، إنه يستطيع فقط أن يصارع لكي لا يتأخر (أي تسوء حالته الروحية). ولكن إذا سكن راهبٌ متهاون مع رهبان عمَّالين فهو ينمو إن كان متيقِّظًا، وإلآّ فإنه لا يتأخر (أي يرجع إلى الوراء)”.
V قال آخر: “إذا مشيت مع رفيق صالح من قلايتك إلى الكنيسة فهو يجعلك تتقدم ستة أشهر، وإذا مشيت مع رفيق رديء من قلايتك إلى الكنيسة فهو يؤخرك سنة”.
بستان الرهبان
V لا تكن صديقًا لمحب الضحك والذي يؤثر أن يهتك الناس، لأنه يقودك إلى اعتياد الاسترخاء. لا تُظهِر بشاشةً في وجه المنحلّ في سيرته وتحفّظ من أن تبغضه. عبِّس وجهك لدى مَنْ يبتدئ أن يقع في أخيه قدامك… ينبوع عذب هو محادثة الفضلاء. مشير حكيم كسورٍ من الرجاء. صديق جاهل هو ذخيرة خسارة. أن تشاهد النادبات في منزل البكاء أفضل من أن ترى حكيمًا تابعًا لأحمق.
القديس مار اسحق السرياني
V إن كانت لك صداقة مع أحد الإخوة ويلومك فكرك على أن مخالطتك له تضرك فاقطع نفسك منه. وأنا أقول ذلك، أيها الحبيب، لا لكي تبغض الناس بل لكي تقطع أسباب الرذيلة.
القديس مار أفرام السرياني
V في الحقيقة أنه بنعمة الرب لا يمكن لأيّة عقبةٍ أن تُطيح بهدفكم السماوي: لا شهوة للغِنى، ولا تذكُّركم لأهلُكم، ولا ميراث من أقربائكم، ولا الألفة مع إخوتكم، ولا محبة أسركم، ولا المسرات أو التنعُّمات الجسدانية، ولا ولائم، ولا علاقات الصداقة، ولا مجد هذا الدهر؛ ولكنكم قد ازدريتم بكل ذلك، وأعمالكم نفسها تقتفي إثر كلام الرسول القائل: “من أجله خسرتُ كل الأشياء، وأنا أحسبها نفايةً لكي أربح المسيح” (في 3: 8).
أنبا سيرابيون
V لا ترتبط بصداقةٍ مع أي إنسانٍ إلاّ مع إخوتك الفقراء، لا تُسرع نحو أي إنسان لكي يعمل لك خيرًا، بل أسرع إلى الله وحده واهتم بخدمته، إنه هو الذي يضمّك في أحشاء أبوّته. أما أنت فاحترس من الدالَّة مع الناس ولا تكن دالَّتك كلها إلاّ بينك وبين الله. لا تُسرع نحو أي إنسانٍ لكي تستمتع بالراحة في دالَّتك معه، لا تكن لك دالَّة على مسكنه، ولا تمكث عنده دون أن تتلقّى أمرًا بذلك حتى لا تكون ثقيلاً عليه. يا أخي، إذا أردتَ أن تكون في راحةٍ كل حياتك، وأن تكون أفكارك متحدةً بالله كل ساعةٍ، اِحترس من الدالَّة مع الناس. إذا أتى إليك أخوك حسب الجسد ولم تُرد أنت أن تصدّه، فخذه وسلِّمه ليديّ أخٍ آخر حيث يجد في قلوب الإخوة راحةً له لأنها قلوبٌ مخلصة، أما أنت فامكث في مسكنك حتى لا تفقد كنوز غناك.
القديس مقاريوس الكبير
V تجرَّد من الشرّ وارتدِ البساطة، اِخلع عنك العين الشريرة والبس البساطة والقلب الرحيم. لا تُبغض أي إنسان، لا تمشِِ إطلاقًا مع ذي السيرة الرديئة، بل مع مَنْ له سيرة أكمل منك ومع الذي يكمِّل تدبيره. لا تخشَ مذمّة الناس، اِبغض كل شيء فيه ضرر لنفسك، لا تترك إرادة الله لتعمل مشيئة الناس لكي يكون الله معك.
القديس أنبا أنطونيوس الكبير
“الشر يتبع الخاطئين،
والصدِّيقون يجازون خيرا” [ع 21].
يحل الشر على الخاطئين، لأنه يقتفي أثرهم حتى يحدق بهم. لقد فتحوا له الباب، وسلموه عجلة قيادة حياتهم، فيقودهم إلى الدمار. أما الصدِّيقون فتنتظرهم المكافأة.
ربما يدهش البعض أن الأشرار يزدهرون في العالم، بينما تحل بالصدِّيقين كثرة من الأحزان. لكن وإن نال الشرير الكثير مما يبدو نجاحًا وازدهارًا، إلا أنه فاقد لسلامه الداخلي، ويخشى الغد. أما المؤمن البار ففي وسط كثرة أحزانه تعزيات الله تملأ قلبه، وتنفتح بصيرته لرؤية الأمجاد المعدة له أبديًا.
“الصالح يورِّث بني البنين،
وثروة الخاطئ تُذخر للصدِّيق” [ع 22]
يقدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفم تفسيرًا رمزيًا، فيرى في الصالح هنا رمزًا للعقل الذي غالبًا ما يشبه والدًا ينجب أبناء صالحين، أي أفكارًا صالحة، وهذه بدورها تولد أفكارًا صالحة فتصير آباء لأعمال مماثلة[397].
نضرب مثلاً عمليًا لذلك، فإن القديسة مريم وهي بارة ومن الصدِّيقين، فاقت السمائيين والأرضيين، ليس لها بنين ولا أحفاد حسب الجسد. لكنها وقد حملت في أحشائها محب البشر، مخلص العالم، اتسع قلبها بالحب نحو كل البشر، فصارت حواء الجديدة، أم كل حيّ. صار لها أبناء حسب الروح، أي في المسيح يسوع. ماذا ورَّثت أبناءها وأبناء أبناءها؟ لقد تمتعت بالتطويب، إذ قالت: “هوذا منذ الآن جميع الأجيال تُطوِّبني” (لو 1: 48). ولعل أول من ورث من أبنائها هذا التطويب اللص اليمين، إذ تترنم الكنيسة في الجمعة العظيمة قائلة: “طوباك يا ديماس اللص”.
“في حرث الفقراء طعام كثير،
ويوجد هالك من عدم الحق” [ع 23]
يقارن الحكيم بين إنسان فقير له حقل صغير يستغل إن أمكن كل بوصة منه، فيأتي بثمرٍ كثيرٍ، وإنسان غني له حقول متسعة، وفي تراخٍ وإهمال يترك الكثير من الأراضي بلا زراعة!
أما روحيًا فيشير هنا إلى الفقراء الذين يلتزمون بالعمل لساعات طويلة من أجل إعالة أسرهم، ومع هذا فيُصرُّون على تكريس أوقات ولو قليلة للعبادة، مع ذكر اسم الله وتقديم ذبائح شكر دائمة طول النهار، فينالون طعامًا روحيًا وفيرًا، بينما يعتذر بعض الأغنياء بأنه ليس لديهم الوقت للعبادة. يعتذرون بعدم وجود وقت لله، وفي الحقيقة ليس لديهم القلب المكرس لله!
V اُذكر أن القدِّيس باسيليوس الكبير قد أجاب على السؤال: كيف استطاع الرسل أن يصلُّوا بلا انقطاع؟ قائلاً إنهم في كل شيء كانوا يفعلونه يفكِّرون في الله، عائشين في تكريس دائم لله. هذا الحال الروحي كانت صلاتهم التي بلا انقطاع[398].
الأب ثيوفان الناسك
“من يمنع عصاه يمقت ابنه،
ومن أحبه يطلب له التأديب” [ع24]
عدم التأديب ليس حبًا أو حنوًا نحو الأبناء، بل هو نقص في الحب، لأن الوالدين اللذين يتجاهلان تأديب أبنائهما إنما يُعِدانهم للفشل والمرارة. هذا ما سقط فيه عالي الكاهن. إذ قال الرب لصموئيل: “قد أخبرته بأني أقضي على بيته إلى الأبد، من أجل الشر الذي يعلم أن بنيه قد أوجبوا به اللعنة على أنفسهم، ولم يردعهم، ولذلك أقسمت لبيت عالي أنه لا يُكفَّر عن شر بيت عالي بذبيحة أو بتقدمة إلى الأبد” (1 صم 12: 3-14).
V لا تخافوا من أن تنتهروهم وتعلموهم الحكمة بحزم، لأن تأديبكم لا يقتلهم، بل بالأحرى يحفظهم… من يهمل في نصح ابنه وتعليمه يكرهه[399].
قوانين الرسل
V إصلاح الأب لابنه، هذا الذي لا يمنع عصاه نافع، حتى يرد نفس الابن إلى الطاعة لوصايا الخلاص. أنه يؤدب بعصا، كما نقرأ: “سأؤدب معاصيهم بعصا” (راجع مز 89: 32)[400].
القديس أمبروسيوس
V لا يأتي فساد الأطفال من فراغ بل من الجنون الذي يلحق بالآباء نحو الاهتمامات الأرضية. الاهتمام بالأرضيات وحدها، واعتبار كل شيء غيرها ليس بذي قيمة، يدفعهم لا إراديًا نحو إهمال نفوس أطفالهم. أقول، إن هؤلاء الآباء (ولا يظن أحد أن هذه الكلمات تتولد فيّ عن غضب)، أشر من قتلة الأبناء. الأول يفصل الجسم من النفس، أما الآخر فيطرح كليهما معًا في نيران جهنم. الموت أمر محتم حسب النظام الطبيعي، أما المصير الثاني فيُمكن للآباء تجنبه لو لم يؤدِ إهمال الآباء إليه. الموت الجسماني يمكن أن ينتهي في لحظة بالقيامة حينما تحل، لكن لا توجد مكافأة تنتظر النفس المفقودة. أنها لا تنعم بالقيامة، بل تعاني آلامًا أبدية. هذا يعني أنه ليس بغير عدلٍ ندعو هؤلاء الآباء أشر من قتلة الأبناء. إنه ليس بالأمر القاسي أن تَسِن سيفًا وتمسك به باليد اليمنى لتغرسه في قلب طفلٍ مثلما أن تحطم النفس وتذلها، فإنه ليس من شيءٍ يعادل النفس.
القديس يوحنا الذهبي الفم
الشبع الداخلي 25.
“الصدِّيق يأكل لشبع نفسه،
أما بطن الأشرار فيحتاج” [ع 25]
قد يأكل الصدِّيق القليل من الطعام، لكنه يأكل بفرحٍ وبهجة القلب، فإن ما يشغله ليس لذة التذوق، بل شكر الله الذي يهبه الطعام ويقدم له الحياة. أما الشرير فلا يشبع مطلقًا، كلما أكل يطلب المزيد، حتى وإن امتلأت معدته، إذ ليس من شبع في أعماقه.
في مثل لعازر والغني كان الغني يتنعم كل يومٍ مترفهًا، لكن يطلب المزيد، وبعد خروجه من العالم صار يشتهي أن يُرسل إبراهيم لعازر المسكين ليبل إصبعه بماء ويبرِّد لسانه لأنه مُعذب في اللهيب (لو 16: 14).
V “فتأكلون خبزكم للشبع” (لا 26: 5)، لا أحسب هذا خاصًا ببركة مادية، كما لو كان الإنسان الذي يحفظ ناموس الله سينال ذاك الخبز العام في وفرة. لماذا لا؟ أليس الخطاة الأشرار أيضًا يأكلون خبزًا، ليس فقط في وفرة، بل وأيضًا في رغد وترف؟ لذا ليتنا بالحري نتطلع إلى ذاك القائل: “أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء” (يو 6: 51) “وإن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد” (يو 6: 51). إذ نلاحظ أن الذي قال هذا هو الكلمة الذي تقتات عليه النفس، نتحقق أي خبز هذا الذي يقول عنه الله في البركة: “تأكلون خبزكم للشبع”، يعلن سليمان عن أمرٍ مماثلٍ بخصوص الصدِّيق، إذ يقول في سفر الأمثال: “الصدِّيق يأكل ليشبع نفسه، أما نفوس الأشرار فتحتاج”. لو فهم هذا حرفيًا فقط لبدت باطلة، لأن نفوس الأشرار تأكل بأكثر نهمٍ، وتصارع لكي تشبع بينما الصدِّيق أحيانًا يجوع. أخيرًا فإن بولس كان إنسانًا صدِّيقًا وقد قال: “إلى هذه الساعة نجوع ونعطش ونعرَّى ونُلْكَم” (1 كو 4: 11) وأيضًا يقول: “في جوع وعطش، في أصوام مرارًا كثيرة” (2 كو 11: 27). كيف إذن يقول سليمان أن الصدِّيق يأكل لشبع نفسه؟[401]
الأب قيصريوس أسقف آرل
اعتمـد القديس إكليمنضس السكندري على عبارات كتابية خاصة من سفر الأمثال (13: 5؛ 17:15،23: 3؛ 24: 41-44) ليقدم صورة حيَّة لسلوك المسيحي من جهة الطعام، ولذلك في كتابه “المُربي” ك2، ف1. جاء فيه:
- الطعام ليس هدفًا نشتهيه، بل وسيلة حياة، فتقودنا كلمة الله لا لشهوة الطعام، بل للتمتع بالأبدية.
[لا يكون الطعام هو شغلنا الشاغل، ولا هو متعتنا وهدفنا في الحياة، بل هو وسيلة لحياتنا التي يدبِّرها الرب “الكلمة” ليقودنا إلى الأبدية.]
[لم يدركوا أن الله أعطى مخلوقه الإنسان الطعام والشراب لكي يعيش ويستمر في الحياة، وليس من أجل اللذة.]
[لقد خُلقنا لا لنأكل ونشرب، بل لنكرس أنفسنا لمعرفة الله… فإن البطن الشرير لا يشبع أبدًا (أم 13: 25)، إذ تملأه الشهية التي لا تشبع ولا ترتوي.]
- 2. ليكن كل شيء باعتدال، فلا نطلب الأطعمة الشهية المبالغ فيها، بل الطعام البسيط السهل الهضم.
[يلزم أن يكون لدينا نوع من التمييز فيما يختص بالطعام، فيكون الطعام بسيطًا، عاديًا جدًا، مناسبًا لأولاد بسطاء… يمهد لحياة تقوم على أمرين أساسيين هما الصحة والقوة. هذا يتفق مع كون الطعام بسيطًا بلا تعقيد، فيكون سهل الهضم، يجعل الجسد خفيفًا رشيقًا، يحقق النمو والصحة.]
[فن الطهي التعس يفسد التذوق، كما يحدث في فن صناعة الحلوى والفطائر.]
[لا يكتسب الجسم البشري أية فائدة من البذخ في أصناف الطعام، بل على العكس من ذلك فإن الذين يستخدمون الحد الأدنى من الطعام هم أكثر قوة وأفضل صحة وأكثر شرفًا وكرامة، فنرى الخدم أحسن صحة من سادتهم، والفلاحين أكثر صحة في البدن من أصحاب الأملاك.]
- الطعام المعتدل يسند الإنسان في قدرته الفكرية.
[الفلاسفة أحكم من الأغنياء، لأنهم لا يدفنون العقل تحت أكوام الطعام، ولا يخدعون أنفسهم باللذات والمُتع، ولكن وليمة المحبة “أغابي” هي في الطعام السماوي، وفي وليمة العقل والتفكير السليم.]
[النهِم يكون كمن يدفن عقله في بطنه.]
- الانشغال بالطعام السماوي المشبع لاحتياجات النفس:
[يقول الكتاب المقدس: “لا تشته أطايب الطعام لأنها خبز أكاذيب” (أم 23: 3)، لأنها تنتمي إلى نوع من الحياة الكاذبة والدنيئة، إذ يُولون اهتمامهم للأطباق الفاخرة من الأطعمة، والتي بعد قليل يكون مصيرها أن تُلقى في مجرى القاذورات. أما الذين يبحثون عن الطعام السماوي الباقي فيلزمهم أن يُخضعوا شهوات البطن، التي هي في مرتبة أدنى بكثير من السماويات.]
[حقًا أنه لجدير بالإعجاب أن نرفع عيوننا إلى فوق، إلى ما هو حق وصدق… فنتذوق ونستمتع بما هو بالبهجة الحقيقية والفرح الطاهر. لأن هذه هي المحبة (الأغابي) الحقيقية؛ هذا هو الطعام الآتي من المسيح والذي يليق بنا أن نشترك فيه.]
[الطعام الصادق الحق هو الشكر لله، فمن يقدم الشكر والحمد لله لا يشغل نفسه بالملذات والمتع.
إن أردنا تشجيع رفاقنا الضيوف على السلوك في الفضيلة، يلزمنا أن نبتعد عن الأطباق الفاخرة الغنية (عندما نستضيفهم)، فنُظهر أنفسنا نماذج واضحة متألقة للفضيلة… فنكسب إنسانًا للمسيح بقليل من ضبط النفس.]
V خُلقنا لا لكي نأكل ونشرب، بل لكي نبلغ إلى معرفة الله. يقول الكتاب المقدس: “الصدِّيق يأكل ويشبع نفسه، أما بطن الأشرار فدائمًا محتاجة”، جائعة على الدوام في جشع لا يمكن قمعه[402].
القديس إكليمنضس السكندري
V يلزمنا أن نحسب الطعام الموعود به في الناموس هو طعام النفس، الذي لا يشبع كِلا عنصري طبيعة الإنسان وإنما النفس وحدها: كلمات الإنجيل مع إمكانية احتوائها على معنى عميق، إلا أنه يُمكن أن تفهم في معناها الواضح البسيط، إذ تعلمنا ألا نقلق ونضطرب من وجهة طعامنا وملابسنا، لكن ونحن نعيش في بساطة ونطلب فقط ما هو ضروري نضع ثقتنا في عناية الله[403].
العلامة أوريجينوس
يرى العلامة أوريجينوس أن هذه العبارة لا يمكن تفسيرها حرفيًا بل روحيًا، فكثير من الصدِّيقين يجوعون ويحتاجون، بينما تشبع بطون الأشرار بالأطعمة والشراب. فالرسول بولس يقول: “إلى هذه الساعة نجوع ونعطش ونُعرَّى ونُلْكم، وليس لنا إقامة” (1 كو 4: 11)، كما يقول: “في جوع وعطش، في أصوام مرارًا كثيرة” (كو 11: 27). فما يقوله سليمان الحكيم إنما عن طعام آخر، وهو كلمة الله وحكمته، حيث تشبع نفس الصدِّيق منه[404].
V نتغذى نحن أيضًا بالكلمة التي تشبع نفوسنا لأنه مكتوب “الصدِّيق يأكل لشبع نفسه” (أم 13: 25)، ونوعية الطعام الذي نتغذى به لا يصدر عنها إلا الكلام الصالح وليس أي كلام آخر[405].
القديس باسيليوس الكبير
من وحي أمثال 13
من يديك أتقبل التأديب،
فتهبني الحكمة الجالسة على عرشك
V هب لي أن أتجاوب مع تأديباتك الأبوية.
فأتعلم، وأنعم بالحكمة الصادرة من لدنك.
يتقدس قلبي بحكمتك،
وتحمل كلماتي لمسات نعمتك.
تخرج كلماتي مملوءة حنوًا،
تُفرِّح قلوب الكثيرين،
فيتهلل قلبي أيضًا مع قلوبهم.
V ضع حارسًا لفمي، وبابًا حصينًا لشفتي،
فتصير نفسي مُصانة بنعمتك.
لن ينفتح فمي لينطق بكلمات بلا ضابط.
بل يحمل مسحة روحك القدوس.
V قدِّس مع كلماتي تصرفاتي،
فلا يكون للكسل أو الخمول موضع فيَّ.
بقلب ملتهب أعمل مجتهدًا بلا توقف.
V برّك يُشبع نفسي، فهو غنايَ وكنزي.
برّك يُفرح أعماقي!
برَّك يُنير لي الطريق.
برّك يهبني روح الوحدة مع إخوتي.
برّك يهبني الرجاء الحيّ،
فأعمل بفرح مترقبًا الدخول في أورشليم العليا.
برّك يعطي لوصيتك عذوبة في فمي.
V أخضع لها بفرحٍ، فأنعم بالحياة.
برّك يجعلني سفيرًا أمينًا لك،
ماذا أقدم لأبنائي وأحفادي في الأجيال القادمة،
سوى برّك العجيب في عمله!
V برّك يقدِّس حتى طعامي،
فلا أعيش لكي آكل، بل آكل لكي أعيش.
لست عبدًا لبطني، بل بك أكون سيدًا عليها.
تفسير أمثال 12 | تفسير سفر الأمثال | تفسير العهد القديم |
تفسير أمثال 14 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر الأمثال | تفاسير العهد القديم |