تفسير سفر الأمثال ١٩ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح التاسع عشر
يا لعظمة السلوك بالكمال
يربط سليمان الحكيم في سفر الحكمة كما في سفر الأمثال بين الحكمة والتقوى، كما بين الحماقة والشر. فالإنسان الحكيم يخشى الله ويتقيه ويسلك بالحب لله والناس، أما الأحمق ففي كبريائه يرفض الوصية الإلهية ويسلك بقلبٍ ملتوٍ في غير استقامةٍ.
- بين طريق الحق والطريق المعوج1-3.
- محبة المال تفسد الحياة 4-7.
- الحكمة وخلاص النفس 8.
- شهادة الزور والكذب 9.
- ترف الجاهل وتسلط العبد 10.
- التعقل والغضب 11.
- كسب أصحاب السلطة في الرب 12.
- الأسرة المؤمنة 13-14.
- التراخي والكسل 15.
- حفظ الوصية عمليًا 16-17.
- التأديب الأبوي 18-19.
- قبول المشورة 20-21.
- محبة الفقراء 22.
- مخافة الرب 23.
- الكسل 24.
- التأديب 25.
- الابن المتمرد 26-27.
- شهادة اللئيم 28.
- القصاص 29.
بين طريق الحق والطريق المعوج
“الفقير السالك بكماله،
خير من ملتوي الشفتين وهو جاهل” [ع 1].
يقارن بين إنسانٍ فقيرٍ ماديًا لكنه يسلك بالاستقامة ،،طالبًا حياة الكمال، وإنسان يفتخر بما لديه من غنى ومعرفة وهو جاهل. فإن الحكمة أو الاستقامة في الحياة (التقوى) أو الكمال أفضل من غنى العالم.
يتكون الإيمان من أمور عديدة، ويبلغ إلى الكمال بأنواع كثيرة. إنه يشبه بناءً يُبنى بقطع كثيرة من الأعمال البارعة، يرتفع إلى القمة.
V لتعلم يا عزيزي أن الحجارة تُوضع في أساسات المبنى، ويرتفع البناء كله فوق الحجارة حتى يتم. هكذا الحجر الرئيسي ربنا يسوع المسيح هو أساس كل إيماننا. عليه يتأسس الإيمان. عليه يقوم كل بنيان الإيمان حتى يكمل.
فالأساس هو بدء كل البناء… بنيانه لا يمكن أن تزعزعه الأمواج، ولا تؤذيه الرياح، ولا تسقطه العواصف، لأن البناء يُشيد على صخرة الحجر الحقيقي.
إن كنت قد دعوت المسيح الحجر، فهذا القول ليس من عندي، فقد سبق الأنبياء وتنبأوا عنه ودعوه “الحجر”[601].
القديس أفراهاط
V إنني لن أكتفي بأي شيء معتدل يبقى فيك، بل أشتاق أن تسمو في كل شيء فتكون كاملاً في كل أمر[602].
القديس چيروم
V مكتوب: طوبي للرجل الذي لا يسلك في مشورة الأشرار. طوبى للذي تؤدبه وتعلمه شريعتك، طوبى للذين لا يتنجسون في الطريق.
طوبى للذين يتكلون عليك.
طوبى للشعب الذي إلههم هو الرب.
طوبى لمن لا يدين.
طوبى للرجل الذي يخاف الرب (مز1: 1، 94، سيراخ 14: 2، مز 112: 1)…
ألا ترون كيف أن الشرائع الإلهية تعلن في كل موضع الطوبى لا للأغنياء ولا للأشراف، ولا لأصحاب المجد، بل لمن يقتني الفضيلة. فإن ما يُطلب منا هو الأساس. فإن غرست هذا كجذر فإنه يكون موضع سرورك لا الحياة السهلة والمكرمة والمجيدة فقط، وإنما حتى العداوات والنكبات والإهانات والعار والعذابات، كل هذه دون استئناء تُبهجك!
وكما أن جذور الأشجار مرة في ذاتها، لكنها تنتج ثمارًا حلوة، هكذا فإن الحزن السليم يجلب سعادة فائقة…
وكما أقول على الدوام، ليس طبيعة الأشياء بل وضعنا هو الذي يجعلنا حزانى أو فرحين[603].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“أيضًا كون النفس بلا معرفة ليس حسنًا،
والمستعجل برجليه يخطأ” [ع 2]
ينتقد الإنسان المتجرد من المعرفة، وفي غيرته يتعجل في قراراته أو تحركه بغير فهم أو حكمة. إذ يليق بالإنسان أن يكون حكيمًا، وأن يتروَّى في قراراته، فلا يتحرك قبل أن يفكر باتزانٍ.
“حماقة الرجل تعوِّج طريقه،
وعلى الرب يحنق قلبه” [ع 3].
التجرد من الحكمة السماوية يدخل بالإنسان إلى الطريق المعوج، وفي اعتداده برأيه وتثبته بفكره يحنق قلبه على الرب نفسه. المثل الواضح في هذا شاول الطرسوسي، فقد تربى على يديّ غمالائيل معلم الناموس، وكان فريسيًا غيورًا على تقليدات آبائه وكرامة شعبه وحفظ الناموس، يحسب نفسه ربما أبرّ رجل في العالم بعد معلمه، لكن في جهالة جدف على الله، واضطهد كنيسة المسيح، وافترى على المؤمنين، كما اعترف بنفسه فيما بعد.
V عندما يسمعون المسيح يعلن في الإنجيل: “تعالوا إليَّ يا جميع المُتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم”، للحال يلقون عنهم ثقل خطاياهم، ويتحققون ما قد جاء بعد ذلك: “لأن نيري هيّن وحملي خفيف” (مت 11: 28، 30).
إذن طريق الرب مريح لمن يحفظ وصيته. لكننا إذا كنا ببعض السهو المتعب نجلب لأنفسنا أحزانًا وأتعابًا فإننا نبذل جهدًا عظيمًا تابعين طريقًا معوجًا لحفظ وصايا العالم، وفي هذا الطريق نجعل نير المسيح ثقيلاً وحمله صعبًا، وذلك كقول العبارة: “حماقة الرجل تعوّج طريقهُ وعلى الرب يحنق قلبهُ” (أم 19: 3). وإذ يقال “ليست طريق الرب مستوية” يجيب “أَطريقي هي غير مستوية؟ أَليست طرقكم غير مستوية؟!” (حز 18: 25).
في الحقيقة تستطيع أن تتبين كيف أن نير المسيح أسهل، وحمله أخف جدًا إذا ما قارنت زهرة البتولية الحلوة العطرة الرائحة، ونقاوة الطهارة بالنسبة لحمأة الشهوة الدنسة الكريهة الرائحة، وقارنت هدوء الرهبان وسكونهم وابتعادهم عن المخاطر والخسائر التي تشغل أذهان الناس في العالم، باهتمامات الغنى واضطراباته القارضة المملوءة قلقًا…[604]
الأب إبراهيم
V ينبغي أن نعظ الغضوب بطريقةٍ، والحليم بطريقةٍ أخرى.
علينا أن نقول للغضوبين إنهم عندما يهملون تطهير أرواحهم يندفعون بتهورٍ إلى أخطاءِ كثيرة حتى التي لا يقصدونها، لأنه من الواضح أن التهور يدفع الذهن إلى حيث لا يشاء أو يرغب.
في مثل هذه الحالة الذين يسقطون في التهور يقومون بأفعال لا يدركون منتهاها، وسيندمون عليها عند الإقرار بفعلها. وعندما يتصرف غير الحلماء تحت تأثير العواطف يفعلون ذلك على عكس طبيعتهم، وبالكاد يدركون الخطأ الذي ارتكبوه. وعندما لا يقاومون الاضطرابات العقلية يقلبون الأمور الخيِّرة التي كان يمكن أن يفعلوها في حالة صفاء الذهن. وبالانفعال الفجائي يهدمون ما قد شيدوه بالعمل المتواصل الممتد. وحتى فضيلة المحبة، وهي أمٌ لكل الفضائل، تتوارى بسبب الغضب، لأنه مكتوب: “المحبة تتأنى وترفق.” (1 كو 13: 4) لذلك إن اِنعدمت المحبة انتفى الحلم. وبسبب عدم الحلم، يتلاشى التعليم الذي هو تمريض للفضائل، فالكتاب يقول: “تَعَقُّلُ الإنسان يُبطئُ غَضَبَهُ” (أم 19: 11).
فبقدر ما يفتقر الإنسان إلى الحلم، بقدر ما يبدو وكأنه يضيق بالتعليم وهو لا يستطيع في الحقيقة أن يقتني ما هو صالح بالتعليم إنْ كان لم يتعلم في حياته الخاصة كيف يحتمل شرور الآخرين بهدوء بالٍ وسكينة[605].
البابا غريغوريوس (الكبير)
- محبة المال تفسد الحياة
“الغني يُكثر الأصحاب،
والفقير منفصل عن قريبه” [ع 4]
في الآيات 4-7 يبرز الحكيم كيف أفسدت محبة المال الحياة في العالم مقدمًا أمثلة لذلك، أولها أن الناس غالبًا في محاباةٍ يطلبون ود الأغنياء، ويطمعون في صداقتهم، بينما يهربون من الالتصاق حتى بأقربائهم الفقراء. لقد أعطى الإنسان للمال تقديرًا يفوق مشاعر الصداقة والود والمحبة.
“يا إخوتي لا يكن لكم إيمان ربنا يسوع المسيح رب المجد في المحاباة. فإنه إن دخل إلى مجمعكم رجل بخواتم ذهب في لباس بهي و دخل أيضًا فقير بلباس وسخ. فنظرتم إلى اللابس اللباس البهي، وقلتم له اجلس أنت هنا حسنًا، وقلتم للفقير قف أنت هناك أو اجلس هنا تحت موطئ قدمي. فهل لا ترتابون في أنفسكم، وتصيرون قضاة أفكار شريرة؟ اسمعوا يا إخوتي الأحباء أما اختار الله فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان وورثة الملكوت الذي وعد به الذين يحبونه؟ (بع 2: 1-5)
V لا وجود للعظيم بغير الصغير، ولا للصغير بدون العظيم، بل يرتبط بعضنا البعض لأجل نفع الجميع. لنأخذ الجسد كمثال: فالرأس لا يقدر أن يوجد بغير الرجلين، ولا الرجلان بغير الرأس، “بل بالأولى أعضاء الجسد التي تظهر أضعف هي ضرورية” (١ كو ١٢: ٢١-٢٢)، ونافعة للجسد كله. نعم إن الأعضاء كلها تعمل في وفاق، وترتبط مع بعضها في طاعة كاملة لأجل سلامة الجسد كله.
بهذا نحفظ جسدنا المسيحي أيضًا في كماله، فيخضع كل منا لصاحبه حسب عطيّته الخاصة. فيلزم على القوي أن يهتم بالضعيف، والضعيف أن يحترم القوي. ويعول الغني الفقير، والفقير يشكر الله الذي وهبه من يعوله. والحكيم لا يُظهِر حكمته في كلام بل في أعمال صالحة. والمتواضع لا يتباهى بتواضعه بل يترك الشهادة له من الغير. والعفيف أيضًا لا يفتخر عالمًا أن ضَبْطَ نفسه هو عطيّة من آخر (الله). يلزمنا أن نحب الإخوة من القلب، هؤلاء الذين خلقوا من نفس المادة التي خلقنا نحن منها[606].
القديس إكليمنضس أسقف روما
الغني الحكيم لا يبدد أمواله، بل يكسب به أصدقاء. وكما يقول رب المجد: “اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم، حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية” (لو 16: 9).
فالمال عطية يمكنك أن تكون مقدسة إن أُُحسن استخدامها، ويمكن أن تكون شريرة إن استخدمت للتباهي والتشامخ والانغماس في الملذات والشهوات.
V الثروة ليست ملكية، إنها ليست مقتنيات، بل هي قرض للاستخدام. إذ كيف تزعم بأنها مقتنيات بينما عندما تموت أردت أو لم ترد يذهب كل شئ إلى آخرين، وهم بدورهم يتركونه لآخرين مرة أخرى. فكلنا رُحًّل… الملكية في الواقع ليست إلا كلمة، فكلنا مُلاك لكن لمقتنيات أناس آخرين… فالثروة ليست ملكنا، والمقتنيات ليست ممتلكات بل هي قرض. الفضيلة وحدها قادرة أن ترحل معنا وترافقنا في العالم العلوي.[607]
V أليست الأرض وملؤها لله؟ فإن كانت ممتلكاتنا تخص الرب العام للكل، فهي أيضًا تخص العبيد رفقاءنا. ممتلكات الرب عامة للكل.[608]
V إن كنت تحزن على ثروة ما، لا تنتفع شيئًا. إن كان بسبب مرض لا تربح شيئًا، بل يزداد حزنك. سمعت كثيرين بعد خبرة طويلة يلومون أنفسهم، ويقولون: أي نفع نلته على حزني (من أجل مال أو صحة الخ)، فقد أضررت نفسي[609].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“شاهد الزور لا يتبرأ،
والمتكلم بالأكاذيب لا ينجو” [ع 5]
إذ يتحدث عن إساءة استخدام المال، أو محبة المال، يشير إلى شهادة الزور والكذب، كثيرًا ما يكون دافعهما الربح المادي أو الحيز للأغنياء وأصحاب السلطة، وتجاهل حقوق الفقراء والمظلومين.
لقد استأجرت الملكة إيزابيل شهود زور ضد نابوت اليزرعيلي لكي تغتصب حقله بعد قتله! إنها قتلت وورثت!
V يجب على كل أحدٍ أن يعطى اهتمامًا عظيمًا لئلا يسلبه “الكذب”، لأن الكذاب لا يتحد مع الله.
الكذاب غريب عن الله. ويقول الكتاب المقدس بأن الكذاب هو من الشيطان إذ هو “كذاب وأبو الكذاب” (يو 44:8).
هكذا ُدعي الشيطان أبو الكذاب، أما الحق فهو الله، إذ يقول بنفسه: “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو 6:14).
أما ترون إذن كيف أننا نصير غرباء عن الله بالكذب وبمن نتحد (عن طريقه)؟! لذلك إن أردنا بحق أن نخلص، يلزمنا أن نحب الحق بكل قوتنا وكل غيرتنا، ونحرس أنفسنا من كل كذب، حتى لا يفصلنا عن الحق والحياة.
الأب دوروثيؤس
“كثيرون يستعطفون وجه الشريف،
وكلُّ صاحب لذي العطايا” [ع 6]
كما أن محبة المال تجتذب الكثيرين لمصادقة الأغنياء، فإن الانشغال بالمصالح الشخصية تسحب الكثيرين لمصادقة الشرفاء أصحاب السلطة ومجاملتهم. أما السيد المسيح فقد جاء يصادق الخطاة والمرذولين والمحتاجين (لو 15: 1). انتقد الرسول يعقوب الكنيسة متى سلكت في محاباة للأغنياء (يع 2: 1-6).
V لننزع عن النساء الشريفات زينتهن وعن السادة عبيدهم، فستلاحظ أن هؤلاء لن يختلفوا بأي شكل عن العبيد الذين يُشترون بالمال، ولا في طريقه المشي ولا في الملامح ولا في أحاديثهم. وإنما يشبهون في كل شيء من هم خاضعين لهم. وإن اختلفوا عنهم في شيء، إنما في أنهم أضعف في البنية وأقل قوة من الآخرين (العبيد)، لأنهم نشأوا نشأه مترفة تعرضهم للمرض[610].
القديس إكليمنضس السكندري
“كل إخوة الفقير يبغضونه،
فكم بالحري أصدقاؤه يبتعدون عنه،
من يتبع أقوالاً فهي له” [ع 7]
ينسحب عن الفقير ليس فقط الغرباء والأصدقاء وإنما حتى الأقرباء والإخوة حسب الجسد. إنهم يتجاهلونه. لقد افتقر مسيحنا الغني، واهب الغنى، لكي بفقره يغنينا (2 كو 8: 9). فنجد سعادتنا في اللقاء معه خلال إخوته الفقراء، ونغتني بحبه الذي يسكبه فينا، فنحب الكل، خاصة المحتاجين دون انتظارٍ لمكافأة!
- الحكمة وخلاص النفس
“المقتني الحكمة يحب نفسه،
الحافظ الفهم يجد خيرًا” [ع 8]
في دراستنا لسفر الحكمة رأينا كيف يربط الحكيم بين الحكمة والبرّ، فالإنسان الحكيم في الرب يتمتع بالبرّ الإلهي، فيتقي الله ويحب البشرية. لكن كيف يمكنه أن يتقي الله ما لم يدرك حقيقة نفسه الثمينة موضوع حب الله وعشقه. وكيف ينفتح قلبه للآخرين ما لم يكتشف ملكوت الحب القائم فيه. لا يستطيع الإنسان الحكيم أن يعزل اهتمامه بأعماقه عن اهتمامه بالغير.
من يقتني حكمة الله يُحسن إلى أعماقه الداخلية، إذ يدرك اهتمام الله واعتزازه به. بهذا يحفظ وصية الله بفهمٍ وتحفظه الوصية، وتحرسه أعماقه كأنها كنز ثمين.
الحكمة ترد للإنسان كرامته الداخلية الحقيقية أمام الله كما أمام نفسه قبل نوال أية كرامة من البشر.
من يزرع الحكمة بروح الله القدوس يتمتع بثمرها، بنوال خيرات لا حصر لها من عمل المخلص.
- شهادة الزور والكذب
“شاهد الزور لا يتبرأ،
والمتكلم بالأكاذيب يهلك” [ع 9]
يشهد الإنسان بالزور، أي ينطق بالكذب، فيسبب أضرارًا لأبرارٍ، إما لنوال رشوة أو مكسب مادي أو لكسب ود إنسان غني أو صديق أو قريب. لكن حتمًا سينكشف الكذب، هذا وتتخلى عنه نعمة الله، فيسقط في متاعبٍ لا ينجو منها. وأخيرًا يمضي إلى حيث يوجد إبليس أب الكذابين، أي إلى الظلمة، ويهلك أبديًا.
- ترف الجاهل وتسلط العبد
“التنعم لا يليق بالجاهل،
كم بالأولى لا يليق بالعبد أن يتسلط على الرؤساء” [ع 10]
أمران خطيران في حياة الإنسان كما على المجتمع، أن يعيش جاهل في رفاهية حتى وإن كان من أصلٍ نبيلٍ وغنيٍ، فيبدد موارد المجتمع دون نفع له أو لغيره، وتزيده الخيرات الزمنية حماقة. والأمر الثاني أن يحتل إنسان عبد (لشهواته أو ممتلكاته أو للكرامة الزمنية) لم يذق عذوبة الحرية الداخلية، مركز قيادة، فتصير قيادته إذلالاً للناس بلا حنو ولا لطف ولا عدالة!
- التعقل والغضب
“تعقل الإنسان يبطئ غضبه،
وفخره الصفح عن معصية” [ع 11].
الذي تعلم في مدرسة الله الطويل الأناة، وتجاوب مع روح الله القدوس، فنال ثمرة الحب، إن غضب يُطيل أناته ويضبط نفسه، ويعطي لغيره الأعذار، كما يبذل كل الجهد لكسب من أساء إليه، وإذا بلغ إلى الصفح عن المسيء إليه يكون قد بلغ المجد الداخلي. لقد تمم الوصية الإلهية: “كن مراضيًا لخصمك مادمت معه في الطريق” (مت 5: 25).
V لا تظنوا أن الغضب أمر يُستهان به، إذ يقول النبي “تعكرت (ذبلت) من الغضب عيناي” (مز 6: 7).وبالتأكيد لا يستطيع متوعك العينين أن يعاين الشمس. فإذا حاول رؤيتها تؤذيه ولا تبهجه.
القديس أغسطينوس
V يجب قلع سم الغضب القاتل من جذوره في أعماق النفس، لأنه إذا بقي روح الغضب واستقر في قلوبنا أظلمت عقولنا وفقدت قدرتها على الرؤية، لأن الغضب يصيب بالعمى وبظلمة ضارة تجعل الرؤية الروحية مستحيلة. فلا تقدر على الحكم الصائب في أمرٍ من الأمور، بل يتعذر علينا التأمل الصالح الذي ينمي الحكمة فينا، بل لا نقدر أن نثبت في الصلاح، أو نقبل النور الحقيقي الروحي، لأنه مكتوب: “عيني قد تعكرت من الغضب” (مز 6: 7).
وقد يمدحنا الناس كحكماءٍ، ولكننا لن نكون حكماء إذا لازمنا الغضب، لأنه مكتوب: “الغضب يسكن مستريحًا في صدر الأحمق” (جا 7: 9 LXX). وهو يعرضنا لفقدان ميراث الحياة الأبدية. وقد يظهر لنا أننا نفهم الطبيعة الإنسانية وندرك أسرارها، ولكن إذا ظل الغضب فينا، تم فينا ما هو مكتوب: “الغضب يدمر الحكماء” (أم 15: 1 LXX). ويحرمنا الغضب من إدراك “برّ الله”، لأننا بسبب الغضب نفقد الإفراز، ومع أن الناس قد يقولون عنا إننا قديسون وكاملون إلا أنه مكتوب “غضب الإنسان لا يصنع برّ الله” (يع 1: 20)[611].
القديس يوحنا كاسيان
V لقد طلبت من الله أن يعرفني جواب سؤالك فقال لي: طهِّر قلبك من كل أفكار الإنسان العتيق وأنا أجيبك إلى سؤال قلبك، لأن مواهبي إنما تكون في الأطهار ولهم تعطي، ومادام قلبك يتحرك بالغضب وبالحقد وبسائر الآلام العتيقة، فلن تدخل فيه الحكمة.
إن كنت تشتهي أن تنال نعمتي ومواهبي فاخرج رجل العدو وأبعده عنك، ومواهبي تأتي إليك…
فمن يشتاق إلى مواهبي فليقتفِ آثاري، لأني مثل الحمل الذي لا شر فيه…
ومع أني أوصيتكم بأن تكونوا ودعاء مثل الحمام، إذ بي أجدكم قد اتخذتم لأنفسكم قسوة الآلام.
الأنبا برصنوفيوس
- كسب أصحاب السلطة في الرب
“كزمجرة الأسد حنق الملك،
وكالطل على العشب رضوانه” [ع 12]
مع اعتزاز المؤمن بانتسابه لله، وعدم خوفه من الناس، ولا من الموت، لكن بروح التواضع يلتزم بأن يخضع لأصحاب السلطة في الرب، معطيًا الكرامة لمن له الكرامة، فيستريح، ويقضي أيامًا هادئة مطمئنة في كل تقوى ووقار (راجع 1 تي 2: 2). كان بعض الربيَين يصلون: “يا رب بارك الإمبراطور، واحفظه بعيدًا عنا”.
إن كان هذا هو موقف المؤمن من الملك أو الرئيس حتى وإن كان غير مؤمنٍ، فماذا يكون موقفه من ملك الملوك ورب الأرباب؟ إنه الأسد الخارج من سبط يهوذا، جاء لخلاص البشرية، وليس لدينونتهم. لكنه سيأتي يوم الدينونة، فتتهلل نفوس المؤمنين الحقيقيين، ويحسبه الأشرار يوم غضبه العظيم، من يقدر أن يقف أمامه؟
يقول العلامة ترتليان: [لذلك فإنه بخصوص الكرامات الواجبة للملوك والأباطرة، لدينا نص كافٍ أنه يليق بنا أن نكون في تمام الطاعة وذلك كوصية الرسول “أن يخضعوا للرياسات والسلاطين” (تي ٣ : ١) ولكن حدود الطاعة في هذا أن نحفظ أنفسنا منعزلين عن عبادة الأوثان. ولنا في هذا أيضًا مثال الثلاثة فتية، الذين مع طاعتهم للملك نبوخذنصر ازدروا بتقديم التكريم لتمثاله فلم يقبلوا العبادة له… وهكذا أيضًا دانيال، كان خاضعًا لداريوس في كل الأمور، ثابتًا في واجبه مادام بعيدًا عن أساس إيمانه (دا ٦)[612].]
- الأسرة المؤمنة
“الابن الجاهل مصيبة على أبيه،
ومخاصمات الزوجة كالوكف المتتابع” [ع 13]
ما أبأس البيت الذي يضم ابنًا جاهلاً وزوجة مخاصمة. غالبًا ما يتفق الاثنان معًا، فحيث توجد خصومات في الأسرة ينحل الأبناء، ويحاولون القيام بدورٍ خطيرٍ بين الوالدين، ليظهروا لكل منهما أنهم في جانبه، ويكسبون الود، وينتفعون بنوال تسهيلات، يُنزع عن الأبناء الشعور بالالتزام والمسئولية.
V إن كان الرسول يأمرنا أن نهتم بالآخرين أكثر من اهتمامنا بأنفسنا، وإن كنا نُحسب مخطئين متى أهملنا ما هو لنفعهم، ألسنا بالأكثر نكون مخطئين إن كان هذا يخص من هم قريبون منا؟
سيقول لنا الرب: “ألست أنا الذي أعطيت لهؤلاء الأطفال مكانًا في عائلتكم؟ ألست أنا الذي عهدت بهم لرعايتكم، وجعلتكم سادة وحراسًا وقضاة عليهم؟ لقد أعطيتكم سلطانًا كاملاً عليكم. سلمتهم بالكامل لأيديكم من أجل تنشئتهم.
ستخبرونني أنهم لم يريدوا أن يحنوا رقابهم للنير، وأنهم طرحوه عنهم. لكن هذا كان يُمكن تجنبه من البداية ذاتها. كان يليق بكم أن تحنوا نفوسهم الصغيرة تحت نير الالتزام، وتعودوهم على ذلك، وتعلموهم هذا، وتضمدون الجرح في بداية انفتاحه.
كان يليق بكم أن تقتلعوا الزوان عندما بدأ يظهر حول النبات، وما كان يليق بكم أن تنتظروا حتى تتعمق جذوره، فصار لا يمكن ضبط الأهواء وترويضها بتقويتهم تدريجيًا خلال تكوينهم ونموهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
الحوار الهادئ البنَّاء نافع للأسرة، فيه يحترم كل طرف الأطراف الأخرى، ولا يتشبث برأيه، فيتعلم الأبناء روح الحوار المقدس. أما الخصومات والنزاع والغضب واعتزال الواحد الآخر، يفقد البيت حلول السيد المسيح في وسطهم، كما يفسد روح التقوى في الكل: الآباء والأبناء، ويبث في الجيل الجديد روح التمرد والتشبث بالرأي.
يشبِّه الزوجة المحبة للخصام بقطرات المياه التي تتساقط باستمرار دون توقف. يشعر الزوج – كما الأولاد – أنهم في بيت تتساقط من سقفه قطرات ماء بلا انقطاع، فلا يعرفون كيف يعملون أو يستريحون أو ينامون، لا يجدون في البيت مكانًا جافًا يلجأون إليه.
من كلمات القديس غريغوريوس النزينزي في مديحه لوالديه:
[هوذا الراعي الصالح هو ثمرة صلوات زوجته وإرشادها، وقد تعلم منها حياته الرعوية المثالية. بقوة هرب من عبادة الأوثان، وبعد ذلك صارت الشياطين تهرب منه… لقد صارا متساويين في التعقل والبهاء، غيورين يسندان بعضهما البعض، يطيران فوق الجميع…
كان لهما جسدان، ولكن كأنه قد تحول الجسدان إلي روحٍ، حتى قبل انحلالهما… كانا يملكان كل شيء ولا يعوزهما شيء. لقد رفضا الغنى، فصارا غنيين في الكرامة …
أقول فقط كلمة واحدة عنهما، إنهما بحقٍ وعدلٍ قد عُين كل واحدٍ منهما لجنسه، عُين هو زينة للرجال، وهي زينة للنساء، ليس فقط زينة، بل ومثالاً للحياة الفاضلة[613].]
“البيت والثروة ميراث من الآباء،
أما الزوجة المتعقلة فمن عند الرب” [ع 14]
يرث الإنسان منزلاً أو أراضٍ أو أموالاً عن والديه، أما الزوجة الحكيمة فهي عطية إلهية، يقدمها الرب لمن يعيش بحق بروح التقوى، وله نظرة صائبة في مفهوم الزواج، ويطلب من الله أن يرشده ويختار له. حين تخضع الإرادة للرب، يقدم الرب الزوجة أو الزوج حسبما يرى فيه خلاص البيت كله.
لدى الله أبناء وبنات مقدسين أعزاء لديه، يود أن يقدمهم لمن يطلب خاضعًا لمشيئته، فيقدم له أو لها ما يناسب الشخص.
ما أجمل أن يقدم الإنسان لله ذبيحة شكر يومية من أجل عطية شريكة الحياة التي تسلمها من يد الله!
V عندما تحدث الرسول عن الزواج والبتولية قال: “ليكن كل واحدٍ له موهبته من الله، الواحد هكذا والآخر هكذا” (1 كو 7: 7). أنه يقول بأن الزواج هو موهبة. فقد كتب: “المرأة أُعطيت للرجل من عند الرب” (أم 19: 14)، لكن هذه العطية ليست موهبة روحية بطريقة حازمة، فإنه توجد أمور كثيرة يمكن أن تُدعى عطايا من الله مثل الغنى والقوة الجسمانية والجمال الجسدي والسلطة الزمنية. هذه العطايا هي أيضًا من الله، وكما يقول دانيال: “يعزل ملوكًا وينصب ملوكًا” (دا 2: 21)[614].
العلامة أوريجينوس
- التراخي والكسل
“الكسل يلقي في السبات،
والنفس المتراخية تجوع” [ع 15]
كثيرون لا يدركون قيمة العمل والالتزام، وأيضًا قيمة الوقت، وإن التهاون في العمل وإضاعة الوقت وعدم الالتزام، كلها أمور تُفسد حياة الإنسان الروحية والاجتماعية والنفسية والصحية البدنية، وتُفقده حتى ما قد ناله، ويعطي حسابًا عن هذا كله!
يقول الرسول: “مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة” (أف 5: 16) “اسلكوا بحكمة من جهة الذين من خارج، مفتدين الوقت” (كو 4: 6).
V غالبًا ما نناله بالغيرة يحطمه الكسل، وما يفقده التردد يعيده الاجتهاد[615].
القديس غريغوريوس النزينزي
- حفظ الوصية عمليًا
“حافظ الوصية حافظ نفسه،
والمتهاون بطرقه يموت” [ع 16]
من يحفظ الوصية الإلهية تحفظه الوصية أبديًا. في الطاعة للوصية لذة الحب لله، وتذوق لبركة الطاعة، وتمتع بالغلبة على الموت بالمسيح واهب النصرة. أما من يستخف بالوصية فيستخف بالله نفسه، ويُلقي بنفسه في هوة الموت الأبدي.
V يليق بنا أن نتطلع إلى وصايا اللَّه عندما تُقرأ، أو عندما تستدعيها الذاكرة وذلك كمن يتطلع في مرآة كقول الرسول يعقوب. مثل هذا الإنسان يريد أن ينظر إلى وصايا اللَّه كما في مرآة ولا يرتبك، لأنه يختار لا أن يكون سامعًا للوصايا فحسب بل وعاملاً بها. لهذا يرغب في أن تتجه طرقه نحو حفظ قوانين اللَّه. كيف تُوجه إلا بنعمة اللَّه؟ وإلا فإنه لا يجد في شريعة اللَّه مصدر فرحٍ بل مصدر ارتباكٍ، إن اختار أن ينظر إلى الوصايا ولا يعمل بها.
القديس أغسطينوس
V من يحفظ وصية ويترك غيرها يكون قد غدر بجميع الوصايا، إذ يهين اللَّه الذي أوصى بها وربطها بعضها ببعض. فإن الذي قال لا تزنِ قال أيضًا لا تسرق، فإن سرقت تصير مدينًا للشريعة كلها، ولكن من يحرص على جميع الوصايا لا يخزى في يوم الدينونة الرهيبة.
أنثيموس أسقف أورشليم
“من يرحم الفقير يقرض الرب،
وعن معروفه يجازيه” [ع 17].
يربط حفظ الوصية بالرحمة، خاصة بالنسبة للفقراء. فإن خالق الفقير يحسب كل حنوٍ يُقدم للفقير مقدمًا له شخصيًا، ويعتبره قرضًا يرده مضاعفًا. يقول داود المرتل: “كنت فتى وقد شخت، ولم أرَ صديقًا تُخلِّيَ عنه، ولا ذرَّية له تلتمس خبزًا، اليوم كله يترأف ويُقرض ونسله للبركة” (مز 37: 25-26).
V إن كان الرسول قد قدم اعترافًا كهذا (1 كو 15: 9) كم بالأكثر يليق بالخاطئ أن يعترف؟ يقول الكتاب: “البار يتهم نفسه حين يبدأ يتكلم” (راجع أم 19: 17).
V إن كان البار يتأهب لاتهام نفسه كم بالأكثر يكون الخاطئ؟[616]
القديس جيروم
V تمسكوا إذن بطلب الدين منه، فإنه من غير اللائق أن نتركه ونطلب سداد الدين من آخر سواه، فإنه يرى فيما تفعلونه خطأ، وكأنه يقول لكم: لماذا تفعلون هذا وبأي جحود تتهمونني، هل تزعمون أنني فقير؟ حتى إنكم تعتزمون أخذ الدين من آخرين؟ فهل تقرضون (الله الواحد) ثم تطلبون من آخر أن يسدد هذا القرض؟ لأنه رغم أن الإنسان هو الذي أخذ القرض، فإن الله هو الذي أوصاكم أن تعطوه، ومشيئته أن يكون هو المدين بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وفي الحقيقة، إن الرب يعطيكم أضعاف أضعاف الفرص لاسترداد الدين منه في كل حين وفي كل مكان. فلا تدعوا هذه الفرصة السانحة تضيع منكم هكذا بسهولة، ولا تبددوا هذا السخاء الوفير طالبين الدين ممن لا يملكون شيئًا. فلأي غرض تظهرون رحمتكم بالمساكين؟ ماذا؟ ألم أكن أنا الذي قلت لكم أعطوا، ألم تسمعوا ذلك مني، أن تستردوا عطاياكم مني أنا، ألم أقل “من يرحم الفقير، يقرض الرب” (أم 19: 17)، وأنتم قد أقرضتم الله، فضعوا هذا الدين على حسابه، حتى لو لم يسدد لكم الدين كله الآن، حسنًا، إنه إنما يفعل ذلك لخيركم أيضًا. فيا له من مدينٍ، ليس ككثيرين يرغبون هكذا ببساطة أن يردوا ما اقترضوه من دين، بينما الرب يدبر كل شيء، لاستثماره في أمانٍ لأنه قرض مُعطى للرب. لهذا كما ترون يسدد بعضه هنا ويؤجل الدين للبعض الآخر[617].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- التأديب الأبوي
“أدِّب ابنك لأن فيه رجاء،
ولكن على إماتته لا تحمل نفسك” [ع 18]
بروح الرجاء يؤدب الإنسان ابنه في حزمٍ ممتزج بالحنو والحب. أما العقوبات العنيفة المتطرفة فتحمل جريمة قتل، كما تثير الأبناء، وتدفعهم إلى العناد، فلا يكون التأديب للإصلاح بل للتحطيم.
خلال التأديب يلزم الدخول في حوار بنََّاء ليدرك الابن ما وراء التأديب، ويدرك الأب ما وراء تصرف ابنه، فلا يؤدب بتسرعٍ وانفعال
الحرية المتسيبة والحزم العنيف كلاهما مهلكان ومحطمان للأبناء كما للأسرة.
شاول الملك في غضبه عوض الحوار المفتوح من ابنه يوناثان صوَّب نحوه الرمح ليطعنه (1 صم 20: 33)، ففقد الابن ثقته في أبيه، وانعزل بقلبه عنه.
V يحتمل الله كل ضعفات البشر، لكنه لن يسمح بترك الإنسان الدائم التذمر بدون تأديب[618].
القديس مار اسحق السرياني
“الشديد الغضب يحمل عقوبة،
لأنك إذا نجيته فبعد تعيد” [ع 19]
يربط البعض بين هذا المثل والمثل السابق له، فيفسرونه هكذا. إنه إذا كان الابن شديد الغضب يلزم تأديبه أو معاقبته بحكمةٍ وتروٍ حتى يكف عن الغضب، فإن لم يؤدب سيكرر هذا الانفعال فيسقط تحت عقوبة أمر، أي يعاقب نفسه بنفسه. كأن من لا يؤديه والداه، سيؤدب نفسه بنفسه، أو كما يُقال: “من لا يؤدبه والداه، يؤدبه الزمن”.
- قبول المشورة
“اسمع المشورة واقبل التأديب،
لكي تكون حكيمًا في آخرتك” [ع 20]
يرى البعض أن هذا المثل مفتاح السفر كله، الدعوة لقبول المشورة لكي يصير المؤمن حكيمًا. يزدري الحمقى بالمشورة، أما الحكيم فيقبل المشورة بفرحٍ، ويفكر بجديةٍ في التوبيخ أو الانتهار بل وحتى في التأديب الذي يحل عليه، لأنه محب للتعلم والانتفاع بخبرة الآخرين.
“في قلب الإنسان أفكار كثيرة،
لكن مشورة الرب هي تثبت” [ع 21]
كثيرًا ما يتردد الإنسان في أفكاره، ما يقبله الآن قد يرفضه بعد دقائق أو العكس. وقد ينصت إلى مشيرين كثيرين فيُصاب بنوع من الارتباك والتشويش، لكن الالتجاء إلى الله العارف وحده الحق، والمحب لخليقته، فهو يقدم مشورة صادقة ناجحة وثابتة.
- محبة الفقراء
“زينة الإنسان معروفة،
والفقير خير من الكذوب” [ع 22].
زينة الروح معروفة، وهي الحب والحنو والرحمة مع العطاء. تتزين الروح بإزالة كل أنانية، لتتسع وتحوي الآخرين فيها. مع هذا الحب العملي يلزم للروح أن تكون صادقة مع نفسها، فإن كان الإنسان عاجزًا عن عطاءٍ معين، فليكن صريحًا ويعتذر لفقرة أو عجزه، ولا يعد الآخرين وهو يعلم بعجزه عن التنفيذ.
في صراحة كاملة أعلن بطرس للمُقعد عجزه عن العطاء المادي، لكنه يقدم له ما هو أعظم، إذ قال له: “ليس لي فضة ولا ذهب، ولكن الذي لي فإياه أعطيك. باسم يسوع المسيح الناصري قم وأمشٍ” (أع 3: 6).
- مخافة الرب
“مخافة الرب للحياة،
يبيت شبعان لا يتعهده شر” [ع 23]
الذي يخاف الرب ويتقيه، يلجأ إليه ويحتمي فيه كملجأ له وحصنه. يعيش في أمان، لا يعوزه شيء. يشعر أن كل الأمور تعمل معًا للخير. يتغنى دومًا بأنشودة النصرة، قائلاًَ مع الرسول بولس: “ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارها بالذي أحبنا. فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا عُلو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسـوع ربنا” (رو 8: 27-29). هكذا يتهلل خائف الرب، إذ ترتوي نفسه من ينابيع حب الله، وتشبع من المائدة السماوية.
V الصلاح العظيم، ليس أن تملك مالاً، بل أن تقتني خوف الرب، وكل وسائل التقوى[619].
القديس يوحنا الذهبي الفم
V إن أراد أحد أن ينال حب الله، فليكن فيه خوف الرب، لأن الخوف يولِّد بكاء، والبكاء يولد قوة. وإذا ما كملت هذه كلها في النفس، تبدأ النفس تثمر في كل شيء. وإذ يرى الله في النفس هذه الثمار الحسنة، فإنه يشتمها رائحة بخور طيبة، ويفرح بها هو وملائكته، ويشبعها بالفرح، ويحفظها في كل طرقها حتى تصل إلى موضع راحتها دون أن يصيبها ضرر.
إذ يرى الشيطان الحارس العلوي العظيم يحيط بالنفس، يخاف أن يقترب منها أو يهاجمها بسبب هذه القوة العظيمة.
إذًا، اقتنوا هذه القوة حتى ترتعب الشياطين أمامكم، وتصير أعمالكم سهلة، وتتلذذوا بالعمل الإلهي، لأن حلاوة حب الله أشهي من العسل.
حقًا أن كثيرين من الرهبان والعذارى في المجامع، لم يتذوقوا هذه الحلاوة الإلهية، ولم يقتنوا القوة الإلهية، ظانين أنهم قد نالوها، بالرغم من عدم جهادهم. أما من يجاهد لأجلها فينالها حتمًا خلال المراحم الإلهية، لأن الله لا يحابى الوجوه.
فمن يريد أن يكون له نور الله وقوته، يلزمه أن يستهين بكرامات هذا العالم ودنسه، ويبغض كل أمور العالم ولذة الجسد، وينقى قلبه من كل الأفكار الرديئة. ويقدم لله أصوام ودموعًا ليلاً ونهارًا بلا هوادة كصلوات نقية، عندئذ يفيض الله عليه بتلك القوة.
اجتهدوا أن تنالوا هذه القوة، فتصنعوا كل أعمالكم بسهولة وُيسر، وتصير لكم دالة عظيمة قدام الله، ويهبكم كل ما تطلبونه[620].
القديس أنطونيوس الكبير
- الكسل
“الكسلان يخفي يده في الصحفة،
وأيضًا إلى فمه لا يردها” [ع 24]
يصور الحكيم الإنسان الكسول وقد قُدمت أمامه مائدة فاخرة، مملوءة بالأطعمة، يمد يده ويضعها في الصحفة، ومن شدة كسله ورغبته في النوم والنعاس، يستصعب أن يرفع يده ليضع الطعام في فمه. يُفضل أن يعاني من الجوع وهو متراخٍ عن أن يمد يده بالطعام ليأكل ويشبع.هكذا يفعل كثيرون، إذ يقدم لهم الله مائدة شهية في الكتاب المقدس، غذاء النفس، لكنهم في رخاوة وكسلٍ لا يستفيدون من الفرصة المقدمة لهم ليأكلوا ويشبعوا.
- التأديب
“اضرب المستهزئ فيتذكَّى الأحمق،
ووبخ فهيمًا فيفهم معرفة” [ع 25]
إن تُرك المستهزئ يمارس استخفافه بالوصية أو بالآخرين دون توبيخ أو تأديب يجد ما يبرر تصرفاته، غير مبالٍ بنتائج شروره. أما الحزم مع المستهزئ فإن لم ينتفع به الشخص نفسه، فسينتفع الآخرون، إذ يخشون لئلا تحل بهم عقوبات. أما الفهيم فإذ يُوبخ على خطأ ارتكبه ينتفع من التوبيخ، إذ يود دومًا أن يتعلم وينمو في كل عملٍ صالحٍ.
- الابن المتمرد
“المخرب أباه والطارد أمه
هو ابن مخز ومخجل” [ع 26]
الابن المتمرد يخرب أباه، إذ يبدد ثروته ومقتنياته لأجل تحقيق ملذاته وشهواته. وفي عناده يفقد كل حنو حتى على أمه فيطردها، فيوصم الأسرة بالخزي والعار. يظن المتمرد أنه بهذا السلوك المشين مع والديه يمارس حقه في الحرية، وكسر كل القيود، ولا يدري أنه يمارس التهور والتسبب، وتنتهي حياته بالفضيحة والدمار.
إن كان التمرد ضد الرئيس أو الملك يدفع بصاحبه إلى القتل أو الإعدام، فماذا تكون عقوبة الطاغية المتمرد على الله ووصيته؟
يقول القديس أغسطينوس إنه بالتمرد فقد بعض السمائيون مركزهم، وانحدروا إلى الهلاك الأبدي، ولم يعد لهم حق الشركة مع الملائكة. بينما (بالطاعة) ينال الإنسان وعدًا أن يصير بعد القيامة معادلاً للملائكة[621].
“كف يا ابني عن استماع التعليم للضلالة عن كلام المعرفة” [ع 27]
يقدم الحكيم نصيحته أو وصيته للابن المتمرد، الذي يعتنق مبادئ وفلسفات الإباحية والتمرد، حاسبًا في الضلالة عن الحق وعدم المبالاة بالحياة الروحية دعوة لممارسة الحرية. يطالبه الحكيم أن يحمل روح التمييز، ليسلك في النور ويرفض الظلمة. يسد أذنيه عن التعاليم المضللة، لينصت ويخضع للحق الإلهي.
- شهادة اللئيم
“الشاهد اللئيم يستهزئ بالحق،
وفم الأشرار يبلع الإثم” [ع 28].
إذ يشهد الشرير على قريبه باطلاً يدفع نفسه إلى سلسلة من الشرور وممارسة الظلم والعنف، ويحسب فمه الذي أقسم باطلاً وشهد بالكذب معملاً للإثم.
- القصاص
“القصاص معد للمستهزئين،
والضرب لظهر الجهال” [ع 29]
المستهزئون الذين يستخفون بالمقدسات الإلهية يلقون بأنفسهم في قصاص خطير، ويُضربون كجهلاء وحمقى.
يوم الرب قادم حتمًا، وتحل الدينونة على الأشرار حقًا إن ملذات الخطايا وقتية، لكن عقوبتها أبدية!
يصور لنا القديس يوحنا الذهبي الفم يوم الرب العظيم الذي فيه تتم الدينونة، ويُحاكم الأشرار، فيقول:
V كل الأشياء ستكون مذهلة للغاية ومملوءة رعبًا ورعدة. حتى الملائكة أنفسهم سيتملكهم الخوف، ليس فقط الملائكة بل ورؤساء الملائكة والعروش والسلاطين والرؤساء والقوات. إننا نقرأ: “وقوات السماوات تتزعزع” (مت 24: 29). لأن العبيد رفقائهم يُطلبون أن يقدموا حسابًا عن حياتهم على الأرض. لو أن مدينة واحدة تُدان أمام حكام هذا العالم، لأرتعب كل الناس حتى الذين هم خارج الخطر، فكم إذا أًستدعى العالم كله أمام ديانٍ كهذا لا يحتاج إلى شهودٍ ولا إلى إثباتات، وإنما بدون هذا كله يستحضر الأفعال والكلمات في صورة يراها الذين يرتكبون الخطايا والذين يجهلونها، أليس من الطبيعي أن تُذهل كل القوات وترتعب؟[622]
القديس يوحنا الذهبي الفم
من وحي الأمثال 19
هب لي أن أسلك طريق الحق!
V هب لي أن اَتحد بك يا أيها الحق الإلهي،
فأسلك في الحق، ولا اَنحرف يمنيًا ولا يسارًا.
V أعيش بك في كمال الحرية،
فلا تستعبدني ثروة ما مهما بلغت قيمتها.
أراك أنت كنزي وغناي.
لا يشغلني شيء سوى أن ألتقي بك في أمجادك.
حيث تنعم نفسي مع جسدي بالأمجاد الأبدية.
V أقتنيك أيها الحق،
فلا يجد الكذب له فيَّ مأوى.
ولا يتسلل الجهل إلى أعماقي.
ولا يسيطر الغضب على مشاعري.
V أحبك واَنشغل بك،
أعطي الكرامة لمن له الكرامة،
وأُكرِّم كل إنسانٍ مهما كان عمره أو مركزه.
V تتجلى في أعماقي، فتقيم مني هيكلاً لك.
وتعلن حضورك في أسرتي،
فتصير كنيسة سماوية متهللة،
قانونها الحب والتواضع والعطاء الدائم.
V روحك يلهب قلبي بالحب الباذل.
أعمل وأُعطي بلا توقف.
لا أعرف الخداع ولا الخبث.
V أتَّقيك كابنٍ خاضع بالحب لأبيه.
أخشاك حتى لا أجرح مشاعرك.
أقبل كل تأديب من يديك،
واثقًا في حكمتك ورعايتك!
تفسير أمثال 18 | تفسير سفر الأمثال | تفسير العهد القديم |
تفسير أمثال 20 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر الأمثال | تفاسير العهد القديم |