تفسير المزمور 103 للقمص تادرس يعقوب ملطي

مبارك أنت أيها الرب الرحوم!

كتب داود النبي هذا المزمور وهو يُسَبِّح في لُجة محبة الله الفائقة ومراحمه العظيمة. يُسَجِّل لنا خبرته المفرحة مع الله غافر الخطايا، الذي يكلل مؤمنيه بالرحمة والرأفة.

يرى البعض أن هذا المزمور ليس له مثيل كتسبحة للرب في كل الأدب في العالم. يرى كثير من الدارسين أن هذه القصيدة هي قطعة شعرية غاية في الإبداع، مشحونة بمشاعر إيمانية ملتهبة، وتكشف عن قلب مملوء إيمانًا يتلامس مع مراحم الله الفائقة تخص حياتنا الزمنية ومصيرنا الأبدي.

هذا المزمور هو تسبحة شكر يُقَدِّمها المؤمن المُخْلِص في حياته في كل عصر من العصور، والمُخْتَبِر لعذوبة الخلاص.

يدعونا هذا المزمور إلى تقديم ذبيحة التسبيح للرب بكونه الخالق والمُخَلِّص الرحوم، مقدمًا حجج خاصة تدفعنا للتسبيح، بعضها من خبرة الكاتب نفسه أي داود النبي، وبعضها خاصة بمعاملات الله مع شعبه، وأخرى تخص مراحم الله على كل الخليقة. يرى المرتل في الله أنه يستحق كل تسبيح من كل الخليقة، لأنه يفيض بمراحمه على الجميع.

كان اليهود يستخدمون هذا المزمور في عبادتهم. ولا زال اليهود الأرثوذكس يستخدمونه في أيام الأعياد والمناسبات.

مناسبته

جاء في الترجمة السريانية أن داود سجَّل هذا المزمور في شيخوخته، وكأنه يُمَثِّل وصية أبوية يقدمها لمؤمنيه كأولاد له لكي يمارسوا حياة التسبيح لله. وجاء في النسخة الكلدانية أن هذا المزمور نبوي، فهو يوجهنا للتلامس مع عمل المسيح الخلاصي الذي طالما تنبأ عنه الأنبياء واشتهوه بفرحٍ وتهليلٍ.

 

1. باركي يا نفسي الرب

 

1 –2.

2. خلاص فائق

 

3 –7.

3. الله كلي الرحمة

 

8 –18.

4. العرش الإلهي

 

19 –22.

من وحي مزمور 103    

1. باركي يا نفسي الرب

تسبحة شخصية وذبيحة شكر، لكنها ليست خاصة، فإن المرتل يشتهي أن يُقَدِّمها كل مؤمنٍ ليتمتع بحياة التسبيح التي تملأ النفس بالبهجة.

لِدَاوُدَ

بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ،

وَكُلُّ مَا فِي بَاطِنِي لِيُبَارِكِ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ [1].

جاءت كلمة “باركوا” ومشتقاتها في هذا المزمور ست مرات.

يرى القديس أغسطينوس أن تعبير “كل ما في باطني” إنما هو تكرار لقوله “نفسي“، فالمرتل لا يعني ما في داخل جسده كالرئتين والكبد الخ، إنما ما في نفسه.

* عندما تأتي إلى الكنيسة لكي تتلو تسبحة، فإن صوتك يتلو تسابيح الله. إنك ترنم قدر ما تستطيع. وعندما تترك الكنيسة لتجعل نفسك تتلو تسابيح الله. إنك مشغول في عملك اليومي، لتكن نفسك مُسَبِّحة لله. أنت تتناول طعامك، انظرْ ماذا يقول الرسول: “فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئًا، فافعلوا كل شيء لمجد الله” (1 كو 10: 31). أتجاسر فأقول عندما تنام لتُسَبِّح نفسك الله. لا تكن أفكار الحماقة تثور فيك. لا تكن حيل السرقة تثور فيك، ولا تجعل خطط المعاملات الفاسدة تثور فيك، بل ليكن صوت نفسك حتى وأنت نائم هو البرّ [1].

القديس أغسطينوس

بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ،

وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ [2].

معاملات الله مع الإنسان حتى في لحظات التأديب، تفيض بالمراحم أو الإحسانات. يصعب على الإنسان أن يُقَدِّم قائمة بكل إحسانات الله عليه أو على البشرية.

* لا يمكن أن تكون حسنات الرب قدام عينيك، ما لم تكن خطاياك أمام عينيك. لا تسمح للذة في الخطية الماضية أن تكون قدام عينيك، بل لتكن إدانة الخطية هي أمام عينيك. لتكن الإدانة من جانبك، والغفران من جانب الله. فإنه هكذا يكافئك الله، فتقول: “بماذا أكافئ الرب عن كل حسناته لي؟” (مز 116: 12) [2].

القديس أغسطينوس

* أقول يا لعظمة كل ما نراه، فقد خلق الله لنا! شكَّلنا لكي نولد ونعيش، ونكون قادرين على التَحَرُّك، وأن نتعرَّف على خالقنا. إنه يميزنا عن الحيوانات التي تُستَخدَم لحِمْل الأثقال، فقد خلقها محنية لكي تتطلع إلى الأرض، أما نحن فقد جعلنا منتصبين لنحملق في السماوات. بالحقيقة عظيمة هي كل هذه، ولكن ما هو أعظم منها أنه من أجلنا قد وُلد! كيف وهو بالطبيعة الله لم يحسب نفسه خلسة أن يكون مساويًا لله، إنما أخلى نفسه، وأخذ شكل العبد… وأطاع حتى الموت، موت الصليب (في 2: 6-8). لأننا كنا قابلين للموت، خضعنا له بسبب خطايانا، ورسم لنفسه أن يموت عن القابلين للموت حتى نسترد الحياة خلاله [3].

القديس جيروم

2. خلاص فائق

يبدأ العمل الخلاصي بمغفرة الخطايا، فينعم المؤمن بشفاء النفس من جراحاتها، ولا يتعثر في الطريق، ولا يسقط في فخاخ العدو الخفية، إنما يتمتع بعمل الروح القدس الذي يجدد الأعماق على الدوام، ويسنده الرب في وسط ظلم الأشرار ومقاومتهم.

الَّذِي يَغْفِرُ جَمِيعَ ذُنُوبِكِ،

الَّذِي يَشْفِي كُلَّ أَمْرَاضِكِ [3].

تبدأ إحسانات الله بطول أناته كغافر للخطايا والذنوب. ومع المغفرة يشفي الجراحات التي تسببها الخطية في حياة الإنسان، خاصة في أعماقه. إنه دائمًا يود تجديد حياتنا الداخلية، ليسكب علينا عدم الفساد، عوض الفساد الذي حلّ بنا. إنه طبيب النفوس والأجساد! يعمل لأجل تمتعنا بالحياة الأبدية المجيدة نفسًا وجسدًا!

* اسمعوا ما هي كل حسناته. “الذي يغفر جميع ذنوبك، الذي يشفي كل أمراضك”. تطلعوا إلى إحساناته. ماذا يستحق الخاطئ سوى العقوبة؟ ماذا يستحق المُجَدِّف سوى نار جهنم؟ إنه يهبكم هذه الإحسانات حتى لا ترتجفوا بفزع، وتخافوه بدون حب… فإنك خاطئ. ارجع ثانية وتقبَّل إحساناته. إنه “يغفر جميع ذنوبك”… ومع هذا فبعد غفران الخطايا تهتز النفس ذاتها بأهواءٍ معينة، ولا تزال في مخاطر التجربة. إنها لا تزال تُسر ببعض المقترحات، إنها لا تُسر ببعضها، وأحيانًا تقبل البعض وتُسر بها: إنها تنجرف فيها. هذا هو ضعف، لكنه، “يشفي كل أمراضك”. تُشفى كل ضعفاتك، فلا تخف! إنها ضعفات خطيرة، لكن الطبيب أعظم. لا يوجد ضعف يوضع أمام الطبيب القدير غير قابل للشفاء. فقط اسمحْ لنفسك أن تُشفَى. لا تقاوم يديه؛ إنه يعرف كيف يتعامل معك. لا تُسر فقط عندما يدللك، وإنما احتمله عندما يمسك السكين. احتملْ ألم العلاج، فإن له تأثيره على مستقبلك [4].

القديس أغسطينوس

“الذي يشفي كل أمراضك” نفوسنا مُصابة بأمراضٍ كثيرة. توجد أمراض للنفس متعددة قدر ما توجد خطايا. إنه لأجل تعليمنا جاء عن المرأة التي في الإنجيل التي كانت مريضة لمدة ثمانية عشر سنة بسبب روح (شرير)، وانحنت ولم تكن قادرة على التطلع إلى فوق (لو 13: 11).

لاحظوا معنى ما يقوله الإنجيل. عندما يُصاب أحد بمرضٍ بسبب روحٍ، ينحني وينظر إلى أسفل، متطلعًا إلى الأرض، عاجزًا عن التطلع إلى السماء [5].

القديس جيروم

*   وجب علينا تذكر خمسة أشياء وعدم نسيانها:

أولًا: مغفرة خطايانا [3]… كما حرر الرسول: “متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه، لإظهار برّه من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله” (رو 3: 25)…

ثانيًا: شفاء أمراضنا الجسدية والروحية [3].

ثالثًا: نجانا من الفساد [4]، وذلك بقيامته من الأموات. بقولنا إنه نجانا من البلاء والفساد، لا يعني أنه خلَّصنا من الموت الذي هو مفارقة النفس من الجسد… لكن ربنا له المجد منحنا سبيلًا أن نبرأ من الموت الذي هو مفارقة النفس من الحياة الأبدية، ومن الانحدار إلى الهلاك والجحيم…

رابعًا: أننا كُللنا بمواهب عظيمة، وهي أن نصير أبناء الله بالتبني. هذا هو الإكليل الذي من أجله كتب الرسول: “قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيرًا قد وضُع لي إكليل البرّ الذي تهبه ليّ في ذلك اليوم الرب الديان العادل، وليس لي فقط، بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضًا” (2 تي 4: 7-8). هذا الإكليل مُضَفر من الرحمة والرأفة، لأنه من رحمة الله معطي الرحماء.

خامسًا: ملأنا من الخيرات الروحية التي يشتهيها الصديقون [5]، واشتهاها آدم أيضًا، وهي أن نكون آلهة. لأنه بهذه الشهوة أغواه المحتال إلى أكْلِ الثمرة المُنهَى عنها. إذًا رغمًا عن الشيطان منحنا ربنا الإلوهية، وجعلنا شركاء صورته بنعمة المعمودية المقدسة التي بها تتجدد طبيعة البشر، لنزع الإنسان العتيق البالي، ولبس الإنسان الجديد، مثل النسر الذي ينزع ريشه العتيق، فينبت له ريش جديد. هكذا تحصل النفس مثل النسر أن تكون ملكة على شهوات الجسد وعالية للطيران حتى إلى علو السماوات.

الأب أنسيمُس الأورشليمي

*   ربنا ومخلصنا هو الطبيب الحقيقي والكامل، يهب الشفاء للجسم، ويرُد الصحة للنفس [6].

الأب خروماتيوس

*     دعنا إذًا نُسْرِع إلى تقبُّل المنّ السماوي، الذي يُعْطِى لكل فم الطَعْمِ الذي يرغب فيه. فلنستمع أيضًا إلى ما يقوله الرب لمن يقترب إليه: “وكما آمنت يكون لك” (مت 8: 13). لذلك، فإن تقبَّلت كلمة الله، التي تسمعها في الكنيسة، بإيمانٍ كاملٍ وورعٍ، فستكون لك هذه الكلمة: “كما تشاء: فعلى سبيل المثال، إن كنتَ حزينًا فسيعزيك قوله: “القلب المنكسر والمنسحق لا يرذله الله” (مز 50: 17).

وإذا فرحتَ آملًا في المستقبل، فسيزيد فرحك عندما تسمع: “افرحوا بالرب، وابتهجوا يا أيها الصديقين” (مز 32: 11).

وإذا كنتَ غاضبًا، فستهدأ عندما تسمع: “كف عن الغضب، واترك السخط” (مز 37: 8).

وإن كنتَ في ألمٍ، فَسَيُبْرِئُك سماع: “الرب يشفي كل أمراضك” (مز 103: 3).

وإن كنتَ منسحقًا بالفقر، فستتعزى حينما تسمع: “الرب المقيم المسكين من التراب، الرافع البائس من المزبلة” (مز 103: 7).

إذًا فالمنّ الذي يعطيه لك كلمة الله، سوف يكون في فمك بالطَعْمِ الذي تشاء.

العلامة أوريجينوس

*     في صراع كهذا تكون النصرة عظيمة جدًا، لا إلى حين بل إلى الأبد، حيث ليس فقط ينتهي المرض، إنما لا يعود يظهر مرة أخري (هناك في الأبدية). فليُسمع البار نفسه وهو يقول: “باركي يا نفسي الرب، ولا تنسي كل حسناته، الذي يغفر جميع ذنوبك، الذي يشفي كل أمراضك” (مز 103: 2-3).

إنه غافر ذنوبنا، إذ يسامحنا عن خطايانا، وهو شافي أمراضنا، إذ يضبط الشهوة الشريرة.

غافر ذنوبنا بعطية الغفران، وشافي أمراضنا بالعفة.

الأولى يتمتع بها المعترفون في العماد، والثانية تُنفَّذ في نضال المجاهدين، حيث يَغلبون خلال نعمته.

واحدة تحدث، إذ يصغي إلى قولنا “اغفر لنا ذنوبنا” (مت 6: 12). والأخرى عند سماعه قولنا “لا تدخلنا في تجربة”، إذ يقول الرسول يعقوب: “ولكن كل واحد يُجرَّب إذا انجذب وانخدع من شهوته” (يع 1: 14). ونحن نطلب ضد هذا الخطأ دواءً من الرب، هذا الذي يقدر أن يشفي كل مثل هذه الأمراض.. لذا يلزم علي كل من يسمع هذا أن يصرخ، قائلا:ً “أنا قلت يا رب ارحمني، اشف نفسي، لأني قد أخطأت إليك” (مز 41: 4). فإنه لا تكون هناك حاجة لشفاء النفس ما لم تكن قد فسدت بصنع الخطية.. فتضاد ذاتها، وتكون مريضة في جسدها [7].

*     في كل خطية يوجد بلا شك عمل شهوة ضد المسيح، ولكن عندما يقود ذاك الذي “يشفي كل أمراضنا” (مز 103: 3) كنيسته في الشفاء الموعود به، عندئذ سوف لا يكون في أيّ عضو من أعضائنا أيّ غضن أو دنس.

إذن سوف لا يشتهي الجسد ضد الروح قط، وعندئذ لا يكون هناك أيّ داعٍ لكي يشتهي الروح ضد الجسد. سينتهي هذا النـزاع، سيكون هناك اتفاق بين العنصريْن علي أعلي مستوي، وسوف لا يكون هناك أحد جسديًا، حتى أن الجسد نفسه سيكون “روحيًا”.

فما يفعله من جهة جسده ذاك الذي يحيا حسب المسيح، إذ يشتهي ضد الشهوة الشريرة ذاتها، مقاومًا إياها لكي يُشفَى، لكنه لم يُشفَ بعد إذ هي فيه، إلا أنه مع هذا يُنعش طبيعة الجسد الصالحة ويلاطفها، حيث “لم يبغض أحد جسده قط” (1 يو 1: 8). هذا أيضًا بذاته يفعله السيد المسيح من جهة كنيسته وذلك إن قارنا الأمور الصغيرة بالأمور الكبيرة. لأن السيد المسيح يضغط عليها بالانتهار، لكي لا تتكبر خلال سموها، ويرفعها بالتعزيات حتى لا تسقط في الهاوية بالضعفات. وهذا ما يقوله الرسول: “لأننا لو حكمنا علي أنفسنا لما حُكم علينا، ولكن إذ قد حُكم علينا نؤدب من الرب لكي لا نُدان مع العالم” (1 كو 11: 31-32وهذا ما جاء في المزمور: “عند كثرة همومي في داخلي، تعزياتك تلذذ نفسي” (مز 94: 19) [8].

*     بالتأكيد لا يتحقق تجديد الإنسان الداخلي في لحظةٍ واحدةٍ عند قبول الإيمان، إنه ليس مثل التجديد الذي يحدث في العماد الروحي الذي يحدث في لحظة قبولنا لمغفرة الخطايا، في اللحظة التي فيها يُنزع عنا كل ما هو ضدنا، ولا يبقى شيء بلا مغفرة (مز 103: 12).

الشفاء من الحمى شيء، واستعادة الإنسان لصحته بعد معاناته من الضعف بسبب المرض شيء آخر.

نزع الحربة من الجسم شيء، والشفاء من الجرح المميت بالعلاج الطويل والرعاية شيء آخر.

إني أخبركم أن إزالة العلة هو مجرد الخطوة الأولى للعلاج، هذه الخطوة الأولى التي فيها تهتم بشفاء نفسك هي اللحظة التي فيها تُغفر خطاياك.

بالإضافة إلى هذا توجد حاجة إلى الشفاء من المرض الروحي نفسه، هذا يتحقق تدريجيًا، يومًا فيومًا، إذ تُمحى تدريجيًا صورة الإنسان الساقط الذي في الداخل، وتتجدد حسب صورة الله.

كل من هاتين العمليتين وُضعت في آية واحدة (مز 103: 3). يشير المرتل:

أولًا: إلى ذاك الذي يغفر كل خطاياك، هذا يتحقق في العماد بمراحم الله.

ثانيًا، نقرأ أنه هو نفسه يشفي أمراضكم، هنا يتحدث عن التقدُّم اليومي الذي فيه تنمو صورة الله بقوة فينا.

القديس أغسطينوس

الَّذِي يَفْدِي مِنَ الْحُفْرَةِ حَيَاتَكِ،

الَّذِي يُكَلِّلُكِ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ [4].

جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: “المنقذ من الفساد حياتك.

حلّ الفساد بنا بسبب الخطية، وتمتعنا بعدم الفساد والمجد الأبدي خلال الرحمة الإلهية وعمل الله الخلاصي.

* “الذي يفدي من الهلاك حياتك”. لقد ُأشتريتم بثمن، فلا تجعلوا أنفسكم عبيدًا للناس (1 كو 7: 23). أي ثمنٍ أعظم من أن يسفك الخالق دمه من أجل الخليقة؟

“الذي يكللكِ بالرحمة والرأفة”. إنه يتوجكم. إذ يخلصكم يكللكم.

إنه يهبك تاجًا، ليس عن استحقاقك، وإنما من أجل حنو رأفته. يا رب إنك تتوجنا بدرع إرادتك الصالحة (راجع مز 5: 13).

لاحظوا ماذا يقول؟ يا رب تتوجنا بدرع إرادتك الصالحة. لعلك تسأل: هل بالحقيقة يتوج أحد بدرعٍ؟

بالحقيقة من يتوج، إنما يتوج بالزهور أو الذهب أو بأكاليل أخرى. الآن كيف يُتوج أحد بدرعٍ؟ درع الرب هو تاج، لأنه يحوطنا بحمايته ويدافع عنا، هكذا يتوجنا. الرحمة والرأفة في هذا المزمور يعنيان ما يعنيه الدرع في مزمور آخر. والدرع إذ يحوط بنا ويحمينا هو رحمته ورأفته [9].

القديس جيروم

“الذي يفدي من الفساد حياتك”… لتُفَكِّرْ في صحتك… إن كان ضعفك ذاته يؤكد أنك مريض فلتهتم بصحتك. المسيح هو صحتك، فلتفَكِّرْ في المسيح. تقبَّل كأس صحته المخلِّصة “الذي يشفي كل ضعفاتك”، فإن أردتَ ذلك تقتني هذه الصحة (السيد المسيح)… فإن حياتك تُفتدَى من الفساد…

“الذي يكللك بالرحمة والرأفة“. ربما بدأتَ تتشامخ بنوعٍ ما، لتسمع الكلمات: “الذي يكللك” [10].

القديس أغسطينوس

*     إنها تقيم من البشر كهنة!

نعم إنه كهنوت يجلب مكافأة عظيمة!

الرجل الرحوم (الكاهن) لا يرتدي ثوبًا إلى الرجليْن، ولا يحمل أجراسًا، ولا يلبس تاجًا، لكنه يتقمَّط بثوب الحنو المملوء ترفقًا، الذي هو أقدس من الثوب المقدس!

إنه ممسوح بزيتٍ لا يتكون من عناصر مادية بل هو نتاج الروح…! يحمل أكاليل المراحم، إذ قيل: “يتوجك بالمراحم والرأفات” (مز 103: 4).

عوض الصدرية الحاملة اسم الله، يصير هو نفسه مثل الله.

كيف يكون هذا؟ إنه يقول: “لكي تكونوا مثل أبيكم الذي في السماوات” [11].

القديس يوحنا الذهبي الفم

الَّذِي يُشْبِعُ بِالْخَيْرِ عُمْرَكِ،

فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ النَّسْرِ شَبَابُكِ [5].

الله هو وحده كلي الصلاح، أو الصلاح غير المتغيِّر، أما صلاح الإنسان فيتغيَّر من شخص إلى آخر، ومن زمانٍ إلى زمانٍ. فإن أردنا أن نشبع بالصلاح الحقيقي أو بالخير الحقيقي يليق بنا أن نقتني الله نفسه مصدر الصلاح.

توجد قصص كثيرة عجيبة بخصوص تجديد النسر لشبابه. منها أنه ككثير من الطيور يتمتع كل عام بريش جديد يجدد طاقاته، لهذا يُقال أنه من أكثر الطيور الطائرة عمرًا، هذا ويتسم بنظره الحاذق، فيرى أصغر الأشياء وهو على بُعد شاهق.

كما أنه لا يعاني من الضعف في شيخوخته كسائر الطيور. يُحسَب ملك الهواء (راجع خر 19: 4؛ تث 28: 49؛ أم 30: 19؛ إش 40: 31؛ إر 4: 13؛ حب 1: 8).

*     لأن البار الذي يحيا بالإيمان يرجو الحياة الأبدية دون أدنى شك، وكذلك الإيمان الذي يجعل الجياع والعطاش إلى البرّ يتقدمون به بتجديد الداخل يومًا فيومًا (2 كو 4: 16). ويرجو أن يشبع به في الحياة الأبدية، حيث يتحقق ما قيل عن الله في المزمور: “الذي يُشبع بالخير عمرك” (مز 103: 5) [12].

القديس أغسطينوس

*     لقد دُعوا نسورًا، إذ يتجدد مثل النسر شبابهم، ويَحمِلون أجنحة ليأتوا إلى آلام المسيح [13].

القديس چيروم

* لنصعدْ من هنا، أي من أمور هذا الجيل ومن أمور العالم. إذ يقول الرب: “قوموا ننطلق من ههنا”، معلمًا كل واحدٍ أن ينطلق من الأرض ويرفع نفسه الراقدة على الأرض، يرفعها إلى الأمور العلوية، ويدعوه نسره، هذا الذي يُقال عنه: “يجدد مثل النسر شبابك” [14].

القديس أمبروسيوس

*   لهذا فإن لداودَ الحقَ أن يصرخ، كإنسانٍ قد تجدَّد، “سآتي إلى مذبح الله، إلى الله الذي يعطي فرحًا لشبابي” (مز 4: 43). كما قال قبلًا إنه شاخ وسط أعدائه، كما نقرأ في المزمور السادس (قابل مز 8: 6) وهو يقول هنا إنه قد استعاد الشباب بعد طول شيخوخة وسقوط الإنسان. لأننا قد تجددنا بالتجديد الذي نلناه في المعمودية، وتجددنا خلال سكب الروح القدس، وسنتجدد أيضًا بالقيامة، كما يقول في نصٍ آخر: “فيتجدد مثل النسر شبابك” (مز 103: 5). فاعلموا طريقة تجديدنا: “تنضح عليَّ بزوفاك فأطهر، تغسلني فأبيض أكثر من الثلج” (مز 9: 51) وفي إشعياء: “إن كانت خطاياكم حمراء كالقرمز، تبيض كالثلج” (إش 18: 1). ومن يتغيَّر من الظلمة، ظلمة الخطية، إلى نور الفضيلة وإلى النعمة، إنما قد تجدَّد فعلًا، لهذا فإن ذاك الذي تلطخ قبلًا بالدنس الأحمق، يشرق الآن بسطوع أكثر بياضًا من الثلج [15].

القديس أمبروسيوس

*     من المعلوم يا إخوتي أن كل منَّا يطلب راحته وسروره، إلاَّ أنه لا يطلب ذلك كما يجب ولا حيثما يوجد. فالأمر يتوقف على تمييز السرور الحقيقي من السرور الكاذب، وبالعكس فإننا غالبًا ما نُخدَع بخيالات السرور الباطل والخير الكاذب.

فالبخيل والمتجبِّر والشرِه والشهواني، كل منهم يطلب السرور، إلاَّ أن هذا يضع سروره في جمع غِنَى وافر، وذاك في شرف الرُتَب والكرامات. وهذا في المآكل والمشارب اللذيذة، وذاك في إشباع شهواته النجسة. ليس منهم من يطلب سروره كما يجب ولا حيثما يوجد، من ثم لا يجده أحد منهم رغم أن الكل يشتهونه.

فكل ما هو في العالم لا يقدر أن يشبع النفس، ويخول لها سرورًا حقيقيًا، فلماذا إذًا تتعب أيها الإنسان الغبي، وتطوف باطلًا في أماكن كثيرة متوقعًا أن تجد خيرات تملأ بها نفسك وترضي بها جسدك؟!

أحبب خيرًا واحدًا يحوي جميع الخيرات، ففيه وحده تجد الكفاية.

استرح إلى الخير الواحد العظيم العام، ففيه الكفاية عن كل شيء.

وأما أنتِ يا نفسي، فباركي الرب الذي يشبع بالخيرات عمرك (مز 103: 2، 5).

القديس أغسطينوس

*     سأل أخ عن هذه الآية: “يتجدّد مثل النسر شبابك” (مز 103: 5). فقال له القديس مقاريوس: “مثل الذهب إذا حُمِّي في النار يتجدّد. هكذا أيضًا النفس إذا كان لها من الفضيلة ما يُنقِّيها من أدناسها ومن كل دناياها، فستتجدّد وتطير إلى الأعالي”. فسأله الأخ أيضًا: “ما هو الطيران إلى الأعالي يا أبي؟” فقال له: “مثل النسر إذا طار في أعالي الجو. فهو ينجو من فخاخ الصيّاد. ولكنه إذا هبط إلى الأرض، يسقط في فخاخ الصيّاد. هكذا النفس هي أيضًا إذا كانت غير مباليةٍ، وإذا هبطت من أعالي الفضيلة، فهي تسقط في فخاخ صيّاد الأرواح.”

فردوس الآباء

اَلرَّبُّ مُجْرِي الْعَدْلَ وَالْقَضَاءَ لِجَمِيعِ الْمَظْلُومِينَ [6].

جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: “الرب صانع الرحمة والقضاء لسائر المظلومين”.

إذ يعيش المؤمنون الحقيقيون في كل العصور في متاعب، ويتعرضون للظلم والضيق، يؤكد الكاتب المقدس أن الله يجري الرحمة والقضاء في نفس الوقت. كثيرون يتخيلون وجود تناقض بين الرحمة والقضاء، أو بين الرحمة والعدل، لكن الله كلي الرحمة في عدله، وكلي العدالة في رحمته. بمحبته للبشرية طويل الأناة ومتحنن لعل الكل يرجع إليه، فيتمتعوا بالأكاليل والبركات خلال الحكم والعدل.

يرى القديس أغسطينوس أنه إذ قُدمتْ امرأة زانية للسيد المسيح لكي تُرجَم حسب الناموس(يو 8)، وقفت أمام واضع الناموس. وهو بدوره انحنى ليكتب على الأرض (التراب)، عندئذ اكتشف الممسكون بها ضمائرهم الزانية، فخجلوا وانسحبوا. هكذا يليق بنا أن نتعامل مع الخطاة، ونسندهم لا بكونهم خطاة بل بكونهم بشرًا يحتاجون إلى من يسندهم ضد الخطية. نقبل الخطاة لا باسم الخطاة لئلا نهلك، وإنما باسم مخلص الخطاة، فيتمتعون بالرحمة ويتبررون عند القضاء بذاك الذي غفر لهم وبررهم.

لنُقدِّمْ للخطاة الرحمة الإلهية فننعم نحن أيضًا بها.

عَرَّفَ مُوسَى طُرُقَهُ،

وَبَنِي إِسْرَائِيلَ أَفْعَالَهُ [7].

سلَّم الله الشريعة لموسى، وكشف له خطته الإلهية، لا ليدين ويحكم، إنما لكي يدرك الكل حاجتهم إلى المخلص، الطبيب الإلهي المملوء حبًا!

“عرَّف موسى طرقه”… فقد أُعطي الناموس بهذا الغرض: أن يقتنع المريض بضعفه، ويطلب الطبيب… لكي يتقبل النعمة [16].

القديس أغسطينوس

*   طُرُق الله هي أفعال الرحمة والقضاء لجميع المظلومين، لأنه صنع لشعبه رحمة وقضاءً عندما نجاهم من الفراعنة، وأباد أعداءهم. وقد عرفها لموسى وبواسطته لبني إسرائيل أيضًا. أما مشيئاته (أفعاله) فهي وصاياه: لا تقتل، وتزنِ، لا تسرق، وما تلى ذلك.

أيضًا طُرُقه ومشيئاته هي أعمال تجسده التي صنعها ابن الله لأجل خلاصنا. لأن اجتيازهم البحر كان رسمًا لاصطباغنا بماء المعمودية، والمياه التي انفجرت من الصخرة ورَوَتْ العطاش كانت رسمًا للدم الكريم الذي انفجر من جسد ربنا وأحيانا. والمن كان رسمًا لغذائنا الروحي. هذه كلها صارت سبيلًا لخلاصنا. وقد عرفَّها بالرمز لموسى وبني إسرائيل، أعني للأنبياء الناظرين الله.

الأب أنسيمُس الأورشليمي

3. الله كلي الرحمة

يحتوي هذا القسم على تأمل في العهد الموسوي (خر 34: 6-7)، والكرازة النبوية (هو 11: 1؛ إش 1: 2-4؛ إر 3: 4، 19؛ 4: 22).

الرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَءُوفٌ،

طَوِيلُ الرُّوحِ، وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ [8].

يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن الرب عرَّف موسى طرقه، وذلك حينما وقف على رأس جبل سيناء وحده، ونزل الرب في السحاب، واجتاز الرب قدامه ونادى الرب: “الرب إله رحيم ورءوف، بطيء الغضب، وكثير الإحسان والوفاء، حافظ الإحسان إلى ألوفٍ، غافر الإثم والمعصية والخطية… فيرى جميع الشعب الذي أنت في وسطه فعل الرب، أن الذي أنا فاعله معك رهيب” (خر 34). هذا ما عرّف الرب موسى به ليدرك أن الرب يأخذ جسدًا ويصير منظورًا، فيرجع الشعب إليه ولا يهلكون.

يقول القديس أغسطينوس إنه يليق بنا ألا نُسيء فهم طول أناة الله، فنكون مثل الغراب الذي خرج من فلك نوح ولم يرجع. لقد خرج وهو يصرخ “Cras! Cras!”، أي “غدًا، غدًا”. لكن متى يأتي غدًا؟ يبقى هكذا يصرخ مؤجلًا رغبته في الرجوع إلى حضن الله، ولا يأتي هذا الغد!

لاَ يُحَاكِمُ إِلَى الأَبَدِ،

وَلاَ يَحْقِدُ إِلَى الدَّهْرِ [9].

الله ديان الأرض، وأب مملوء حنوًا، يطيل أناته، ويفتح أبواب مراحمه لكي تتهيأ النفوس الأمينة للمجد في يوم الرب العظيم.

لَمْ يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا،

وَلَمْ يُجَازِنَا حَسَبَ آثَامِنَا [10].

إن كانت خطايانا كثيرة وثقيلة للغاية، فإن الله بطول أناته حتى في تأديبه يطلب راحتنا وسلامنا، لا مجازاتنا.

* شكرًا لله، إذ يهبنا هذا. لا ننال ما كنا نستحقه “لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا حسب آثامنا” [17].

القديس أغسطينوس

لأَنَّهُ مِثْلُ ارْتِفَاعِ السَّمَاوَاتِ فَوْقَ الأَرْضِ،

قَوِيَتْ رَحْمَتُهُ عَلَى خَائِفِيهِ [11].

يؤكد الكتاب المقدس عظمة لطف الله وحنوه (مز 36: 5؛ 57: 10؛ 108: 4؛ إش 55: 7-9).

هذا التشبيه يكشف عن حنو الله الفائق غير المحدود، وقدرة الله للخلاص عظيمة، ترفع النفس كما من التراب إلى السماء.

* لاحظوا السماء، ففي كل جانب تغطي الأرض. ولا يوجد جزء من الأرض لا تغطيه السماء. يخطئ البشر تحت السماء، يصنعون الأعمال الشريرة تحت السماء، لكن السماء تغطيهم. من تلك السماء تنعم العيون بالنور، ومنها ننال الهواء، والنَفَسْ، والمطر على كل الأرض، من أجل الثمار، ومن السماء ننال الرحمة. انزع معونة السماء عن الأرض، فإن الأخيرة تنهار للحال. كما أن حماية السماء تحل على الأرض، هكذا حماية الرب تحل على الذين يخافونه. أنت تخاف الله، حمايته فوقك. قد تتألم وتظن أن الله ينساك. الله ينساك لو أن حماية السماء تترك الأرض [18].

القديس أغسطينوس

*   صار غِنَى الله ظاهرًا عندما أظهر رحمته نحو أولئك الذين رذلهم الناس ووطأوا عليهم، هؤلاء الذين وضعوا رجاءهم لا في غناهم، ولا في قوتهم، بل في الرب [19].

العلامة أوريجينوس

*     تحتوي كلمات النشيد المقدسة بعض الأفكار المخفية، وكأن عليها نقاب سميك تختفي وراءه، فتبدو صعبة في الفهم. لذلك يلزم أن نوجه اهتمامًا كبيرًا للنص. وفي الحقيقة نحن نحتاج مساعدة من خلال الصلاة وقيادة الروح القدس، حتى لا تضيع منا المعاني، مثل من يتطلع إلى معرفة أسرار النجوم. فعندما نتطلع إلى جمال النجوم البعيدة لا نعرف كيف خُلقتْ. ولكننا نتمتع بجمالها، ونتعجب للمعانها وأوضاعها في السماء، تضيء بعض النجوم التي ذكرت في الكتاب المقدس وتتلألأ، وتملأ عيني النفس بالضياء، كما يقول النبي: “لأنه مثل ارتفاع السماوات فوق الأرض” (مز 103: 11). فإذا كان هذا مكان صعود نفوسنا، كما في مثال إيليا، حيث تُخطَف عقولنا إلى أعلى في المركبة النارية (2 مل 2: 11)، وترتفع إلى الجمال السماوي، نحن نفهم أن المركبة النارية هي الروح القدس الذي أتى ليمنحها للساكنين على الأرض، على هيئة ألسنة قُسمتْ على التلاميذ، سوف لا نيأس من الاقتراب من النجوم، أي من البحث في الأمور المقدسة التي تضيء نفوسنا بكلمة الله السماوية الروحية [20].

القديس غريغوريوس النيسي

*     يجاوب النبي الذين اكتأبوا مرة، وأتوا قائلين: “قد تركني الرب، وسيِّدي نسيني”، قائلًا: “هل تنسى الأم رضيعها، فلا ترحم ابن بطنها؟” (إش 49: 15-14) كأنه يقول: يستحيل على الأم أن تنسى رضيعها، فبالأولى لا ينسى الرب البشرية، وهو بهذا لا يقصد تشبيه حب الله لنا بحب الأم لثمرة بطنها، وإنما لأن حب الأم يفوق كل حبٍ، غير أن حب الله حتمًا أعظم منه… تأمل كيف تفوق محبة الله محبة الأم…؟

يؤكد رب الأنبياء وسيِّد الجميع أن حبه يفوق محبة الأب لأولاده، كما يفوق النور الظلمة، والخير الشر، كاختلاف الخير عن الشر، هكذا تعلو محبة الله عن عواطف الوالدين…

توجد أمثلة أخرى كحُب الحبيب لمحبوبته، ليس أن حب الله لنا يعادل هذا الحب، وإنما هو مثال من قبيل التشبيه مع الفارق..، لهذا يقول داود: “لأن مثل ارتفاع السماوات فوق الأرض، قويت رحمته على خائفيه” (مز 103: 11).

كما أن الإنسان في حبه يراجع كلماته بجنونٍ، خشية أن يكون قد نطق بشيءٍ يجرح مشاعر محبوبته. هكذا يقول الرب: “ما أن تكلمت حتى ندمت على كلامي… رجع قلبي” (هو 11: 8). فلا يستنكف الرب من استخدام هذه الصورة القاسية لإعلان حبه لمحبوبته…

أعمال عناية الله أسطع من الشمس، إذ ذكر مَثَل الأب والأم والعريس… وشبَّه نفسه بالبستاني الذي يتعب من أجل عمل يديه… وبالحبيب الذي يحزن لئلاَّ يُحزن محبوبته ولو بكلمة… مؤكدًا لنا أن محبته مختلفة عن كل أنواع الحب هذه كاختلاف الخير عن الشر [21].

القديس يوحنا الذهبي الفم

كَبُعْدِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ،

أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا [12].

كما لا يستطيع الإنسان أن يقيس البعد بين المشرق والمغرب، هكذا ينزع الله عنا معاصينا بطريقة يصعب علينا أن نصفها أو نضعها تحت حسابات بشرية.

كما أن المشرق والمغرب لن يلتقيا في نقطة واحدة، هكذا فإن مراحم الله قادرة أن تزيل عنا معاصينا أبديًا، كأن لا علاقة لها بنا، أو نحن بها.

جاء في التقليد الكنسي في الشرق كما في الغرب، أنه عند جحد الشيطان وكل قواته وأعماله الشريرة ينظر طالب العماد (مع اشبينه) نحو الغرب، وعندما يعترف بالثالوث القدوس ينظر نحو الشرق. لهذا يسألنا القديس أغسطينوس أن ننظر دومًا نحو المشارق طالبين نعمة الله أن تشرق علينا وتَثْبت فينا إلى الأبد، ونعطي ظهورنا للغرب، معلنين رفضنا التام لإبليس وأعماله، فتغْرُب عنا خطايانا كما بلا رجعة.

* يليق بك أن تتطلع إلى المشارق، وتترك المغارب. اتركْ خطاياك، وارجع إلى نعمة الله، فحين تسقط خطاياك ترتفع أنت وتنتفع… لتسقط خطايانا إلى الأبد، ولتثبت النعمة إلى الأبد.

القديس أغسطينوس

*   لم يجد العقل البشري كيف يُقَدِّر رحمة الله على خائفيه أكثر من ارتفاع السماء عن الأرض، وأكثر من بُعْد المشرق عن المغرب. أيضًا تُشَّبه الفضائل بالسماء وبالمشرق بسبب ارتفاعها ونورها. أما الذنوب فعكس هذا. فكل من يخاف الرب ويتجنب المعاصي، يقترب مرتفعًا إلى السماء، ويبلغ إلى المشرق حيث أقام الله الفردوس، ويتمتع برؤية نور مجد الله، ويحصل على الابن ويتمتع برؤيته.

الأب أنسيمُس الأورشليمي

* ابتعدوا عن المغارب، واتجهوا إلى المشارق. انظروا إنسانًا، شاول وبولس؛ شاول في المغارب، وبولس في المشارق. مُضْطهِد في المغارب، وكارز في المشارق… في المغارب الإنسان العتيق، وفي المشارق الإنسان الجديد [22].

الأب قيصريوس أسقف آرل

كَمَا يَتَرَأَّفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ،

يَتَرَأَّفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ [13].

مخافة الرب لا تدخل بنا إلى حالة من الرعب، بل إلى تذوُّق أبوة الله الحانية، وكما يقول السيد المسيح: “أم أي إنسانٍ منكم إذا سأله ابنه خبزًا يعطيه حجرًا، وإن سأله سمكة يعطيه حية. فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه” (مت 7: 9-11).

ليغضب (الله) كيفما يريد، فإنه أبونا! ليؤدبنا ويسمح لنا بالحزن، ويجرحنا، فإنه أبونا. أيها الابن، إن كنت تولول، فلتفعل هذا تحت (عيني) أبيك. لا تفعل هذا بسخطٍ، لا تفعله بتشامخ الكبرياء. ما تعاني منه وأنت تحزن، إنما هو دواء لا عقوبة. لا ترفض التأديب، إن كنت تود ألا تُحرَم من ميراثك. لا تفكر في العقوبة وأنت تتألم من التأديب، بل في الموضع الذي لك في العهد [23].

القديس أغسطينوس

*   يظهر لنا المحبة الأبوية إذ تٌبناه، لأنه يعرف بأنه جبلنا في البداية من التراب، وأنه أخذ على أقنوم لاهوته جبلتنا الترابية، واختبر ضعفنا.

الأب أنسيمُس الأورشليمي

لأَنَّهُ يَعْرِفُ جِبْلَتَنَا،

يَذْكُرُ أَنَّنَا تُرَابٌ نَحْنُ [14].

الله في محبته يتعامل معنا حسب ضعفنا، فهو يعْلم أننا تراب نحتاج إلى من يقيمنا منه.

* فانه يليق به بالأكثر، أن يصلي النبي بهذه الكلمات: “اذكر أننا تراب نحن”، أي تعاطف معنا؛ فإنك تعرف (إذ تألمتَ) بخبرة شخصية المعاناة من ضعف الجسد. لذلك فإن الرب المُعَلِّم صالح للغاية موثوق فيه، ومتعاطف معنا؛ وذلك من قبل عظم محبته للطبيعة الخاصة بكل إنسانٍ [24].

القديس إكليمنضس السكندري

*     لقد فعل إرميا نفس الشيء، محاولًا التماس المغفرة للخطاة، فقال: “وإن تكن آثامنا تشهد علينا يا رب، فاعمل لأجل اسمك” (إر 7:14). وأيضًا: “عرفت يا رب أنه ليس للإنسان طريقه، ليس لإنسانٍ يمشي أن يهدي خطواته” (إر 23:10)، “يذكر أننا تراب نحن” (مز 14:103).

من عادة المتضرعين عن الخطاة، أنهم إذ لا يجدون أمرًا صالحًا يقولونه في حقهم، يبحثون عن أي ظلٍ لعذرٍ لهم حتى وإن كان ليس صحيحًا حرفيًا أو لاهوتيًا. لأن ذلك يُحسَب نوعًا من العزاء للنائحين على عناد الخطاة. إذًا لا تفحص الكلام حرفيًا، لكن ضع في ذهنك أنها كلمات تصدر عن نفسٍ مُرَّة تسعى أن تجد فرصة لإنقاذ الخطاة، وحكمًا عادلًا لحسابهم [25].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*  “لأنه يعرف جبلتنا“، أي ضعفنا. إنه يعرف ما قد خلقه، كيف يسقط، وكيف يُصلح أمره، وكيف يتبناه، وكيف يغنيه [26].

*     يستطيع في رحمته أن ينظر إلى ضعفنا ويرانا، كما قيل: “يذكر أننا تراب نحن” (مز 103: 14). إنه ذاك الذي صنع الإنسان من التراب وأحياه، من أجل صنعته الخزفية أسلم ابنه إلى الموت، من يستطيع أن يوضح، من يستحق أن يدرك مقدار محبته لنا؟ [27]

القديس أغسطينوس

*      “لماذا نسيتني؟” (مز 42: 9) ولماذا رفضتني؟ (مز 43: 2)، والله لا ينسى، فمن المستحيل حقًا أن ينسى، لأن كل الأحداث الماضية والمستقبلة حاضرة عنده، لكن خطايانا جعلته يوقع عقوبةَ النسيان، لكي يمحو أولئك الذين يعرف أنهم غير مستحقين لافتقاده، لأن “الرب يعرف خاصته” (2 تى 2: 19). وعندما يقترف البعضُ شرًا، يقول لهم: “أنا لا أعرفكم” (مت 7: 23). فمن إذن يقدر أن يقول لله: “لماذا نسيتني؟” لكن هذا الشعور يشترك فيه القديسون ونحن الضعفاء. فالقديس يتحدث وكأنه واعٍ لاستحقاقه. لكنه كلما ازداد قداسةً، ازداد تواضعًا، لكن إن كان القديس يتحدث بمشقةٍ بالغة، فمن أنا الخاطئ حقًا، إلا أن أعود لتلك الشكوى: لماذا نسيتَ عملك؟ (قابل عب 6: 10). لماذا نسيت افتقادك؟ أجل لماذا نسيتَ ضعفي؟ لأنه من هو الإنسان حتى تفتقده؟” (قابل مز 8: 5 (4)؛ عب 2: 6). لهذا لا تنسَ من هو ضعيف، تذكرْ يا رب أنك خلقتني ضعيفًا، تذكرْ أنك جبلتني ترابًا” (قابل مز 103:14، أي 10: 9)، فكيف أقوى على الوقوف إن لم تشملني برعايتك دائمًا لتقَّوىَ هذا الطين، متى تأتي قوتي من وجهك؟ “فحين تحجب وجهك يرتاعُ كل شيءٍ!” (مز 104: 29) إن مارستَ عنايتك فالويل لي! فأنت لا ترى فيَّ سوى أدرانَ الخطايا! وما من فائدة أن أُترك، أو يُعتنى بي، لأنه حتى ونحن موضع رعايتك، نقترف الآثام! لكن مع ذلك، لا أزال متيقن أن الله لا يرفض الذين يعتني بهم، لأنه يُطَهِّر الذين يراهم، ونار توقد أمامه تحرق الخطية (قابل يؤ 2:3) [28].

القديس أمبروسيوس

*     بينما يُطلب منَّا التعمُّق في فحص أنفسنا حتى ينطبق سلوكنا على أوامر الله وتعاليمه، نجد البعض يشغلون أنفسهم بالتدخُّل في شئون الآخرين وأعمالهم، فإذا وقفوا على خطأ في أخلاق الغير عمدوا إلى نهش أعراضهم بألسنة حدَّاد، ولم يدروا أنهم بذم الآخرين يذمون أنفسهم، لأن بهم مساوئ ليست بأقل من مساوئ الغير في المذلَّة والمهانة، لذلك يقول الحكيم بولس: “لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان كل من يدين، لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك، لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها” (رو 2: 1)، فمن الواجب علينا والحالة هذه أن نشفق على الضعيف، ذاك الذي وقع أسيرًا لشهواته الباطلة، وضاقت به السُبل، فلا يمكنه التخلُّص من حبائل الشرّ والخطيّة.

فلنُصَلِّ عن مثل هؤلاء البائسين القانطين، ولنَمِدْ لهم يدَ العون والمساعدة، ولنَسع ألاَّ نسقط كما سقطوا، فإنَّ “الذي يذم أخاه، ويدين أخاه، يذم الناموس ويدين الناموس” (يع 4: 11). وما ذلك إلا لأن واضع الناموس والقاضي بالناموس هو واحد، ولما كان المفروض أن قاضي النفس الشريرة يكون أرفع من هذه النفس بكثير، ولما كنا لا نستطيع أن ننتحل لأنفسنا صفة القضاة بسبب خطايانا، وجب علينا أن نتنحَّى عن القيام بهذه الوظيفة، لأنه كيف ونحن خطاة نحكم على الآخرين وندينهم؟!

إذن يجب ألا يدين أحد أخاه، فإن حدَّثتك نفسك بمحاكمة الآخرين، فاعلمْ أن الناموس لم يُقِمك قاضيًا ومُحاكمًا، ولذلك فانتحالك هذه الوظيفة يوقِعك تحت طائلة الناموس، لأنك تنتهك حُرمته.

فكل من طاب ذهنه لا يتصيَّد معاصي الغير، ولا يشغل ذهنه بزلاَّتهم وعثراتهم، بل عليه فقط أن يتعمَّق في الوقوف على نقائصه وعيوبه، هذا كان حال المرتل المغبوط وهو يصف نفسه بالقول الحكيم: “إن كنت تُراقب الآثام يا رب يا سيِّد، فمن يقف” (مز 130: 3). وفي موضع آخر يكشف المرتل عن ضعف الإنسان، ويتلمَّس له الصفح والمغفرة، إذ ورد قوله: “اذكرْ أننا تراب نحن” (مز 103: 14)…

سبق أن بيَّن السيِّد الخطر الذي ينجم عن نهش الآخرين بألسنة حداد فقال: “لا تدينوا لكي لا تدانوا“، والآن أتى السيِّد على أمثلة كثيرة وبراهين دافعة تحضّنا على تجنُّب إدانة الآخرين، والحُكْم عليهم بما نشاء ونهوى، والأجدر بنا أن نفحص قلوبنا، ونُجَرِّدها من النزعات التي تضطرم بين ضلوعنا، سائلين الله أن يطهِّرنا من آثامنا وزلاَّتنا.

فإنَّ السيِّد ينبهنا إلى حقيقة مُرَّة مألوفة، فيخاطبنا بالقول: كيف يمكنك نقد الآخرين والكشف عن سيئاتهم وشرورهم، وفحص أسقامهم وأمراضهم، وأنت شرِّير أثيم ومريض سقيم؟! وكيف يمكنك رؤيّة القذَى الذي في عين الغير، وبعينك خشبَة تحجب عينك فلا ترى شيئًا؟!

إنك لمتجاسر إذا قمتَ بذلك، فالأوْلي بك أن تنزع عنك مخازيك، وتطفئ جذوة عيوبك، فيمكنك الحكم بعد ذلك على الآخرين، وهم كما سترى مذنبون فيما هو دون جرائمك.

أتريد أن تنجلي بصوتك، فتقف على مبلغٍ ما في اغتياب الآخرين من مقت وشرٍ؟

كان السيِّد يجول يعمل خلال الحقول النضرة، فاقتطف تلاميذه المبارَكون سنابل القمح وفركوها بأيديهم، ثم أكلوا ثمارها طعامًا شهيًا لذيذًا، وما أن وقع نظر الفريسيِّين على التلاميذ حتى اقتربوا من السيِّد وخاطبوه بالقول: انظرْ كيف أن تلاميذك يعملون في السبت ما ليس بمحلَّل مشروع، نطق الفرِّيسيُّون بهذا القول وهم الذين عبثوا بحُرْمَة القدس، وتعدُّوا على وصاياه وأوامره على حد نبوَّة إشعياء عنهم: “كيف صارت القرية الآمنة زانية؟! ملآنة حقًا كان العدل يبيت فيها، وأما الآن فالقاتلون، صارت فضتك زغْلًا، وخمرك مغشوشة بماء، رؤساؤك متمرِّدون ولُغفاء اللصوص، كل واحدٍ منهم يحب الرشوة ويتبع العطايا، لا يقضون لليتيم، ودعوى الأرملة لا تصلْ إليهم” (إش 1: 21-23).

بالرغم من هذه المُنكرَات المُخزيات التي ارتكبها هؤلاء الناس، تمادوا في خِزيهم ومكرهم، ودسُّوا لتلاميذ السيِّد المباركين، واتَّهموهم بالتعدِّي على يوم السبت المقدَّس، إلا أن المسيح ردَّ خِزيهم، إذ أجابهم بالقول: “ويلٌ لكم أيها الكتبة والفرِّيسيُّون المراءون، لأنكم تعشِّرون النعنع والشبت والكمُّون، وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان، أيها القادة العميان الذين يُصفُّون عن البعوضة، ويبلعون الجمل” (مت 23: 23-24).

كان الفرِّيسي كما ترى مرائيًا غادرًا، يحاسب الناس على التعدِّيات الواهية، بينما يسمح لنفسه بارتكاب أشد المخازي نكرانًا، وأعظم الشرور فُجورًا، فلا غرابة أن دعاهم المخلِّص: “قبورًا مبيضَّة تَظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة” (مت 23: 27).

هذا هو شأن المرائي وهو يدين الآخرين، ويرميهم بأشنع المساوئ والعيوب، وهو عن نفسه أعمى، إذ لا ينظر شيئًا، لأن الخشبة في عينيه تحجب الضوء عنه.

إذن يجب أن نعني بفحص أنفسنا قبل الجلوس على منصَّة القضاء للحكم على غيرنا، خصوصًا إن كنَّا في وظيفة المُرشد والمعلِّم، لأنه إذا كان المُربِّي نقي الصفحة، طاهر الذيل، تزيِّنه نعمة الوقار والرزانة، وليس على معرفة بالفضائل السامية فحسب، بل يعمل بها ويسلك بموجبها، فإنَّ مثل هذا الإنسان يَصحُ له أن يكون نموذجًا صالحًا يُحتذَى به، وله عند ذلك حق الحُكْم على الآخرين، إذا حادوا عن جادة الحق والاستقامة.

أما إذا كان المُرشِد مهمِلًا ومرذولًا، فليس له أن يدين غيره، لأن به نفس النقص والضعف الذي يراه في الآخرين، كذلك ينصحنا الرسل الطوباويون بالقول: “لا تكونوا معلِّمين كثيرين يا إخوتي، عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم” (يع 3: 1)، ويقول المسيح وهو يكلِّل هامات الأبرار بالتيجان المقدَّسة، ويعاقب الخطاة بشتَّى التأديبات: “فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلَّم الناس هكذا، يُدعَى أصغر في ملكوت السماوات، وأما من عمِل وعلَّم، فهذا يُدعَى عظيمًا في ملكوت السماوات” (مت 5: 19) [29].

القديس كيرلس الكبير

الإِنْسَانُ مِثْلُ الْعُشْبِ أَيَّامُهُ،

كَزَهْرِ الْحَقْلِ كَذَلِكَ يُزْهِرُ [15].

تشبيه حياة الإنسان على الأرض وقِصَر مدتها بالعشب الذي سرعان ما يظهر وسرعان ما يذبل أمر شائع في الكتاب المقدس (مز 37: 2؛ 90: 5؛ إش 40: 6-8؛ يع 1: 10-11؛ 1 بط 1: 24).

* لماذا يتكبر الشعب، إن كان الآن ينتعش، وفي وقت قصير يجف…؟ حسن لنا أن تحل رحمته علينا، ونتحول من عشب إلى ذهب…

لا تدهش أنك ستشاركه أبديته، فإنه هو نفسه شارك أولًا في كونك عشبًا. هل ذاك الذي أخذ منك ما هو سفلي، يرفض أن يهبك ما هو ممجد؟ [30]

القديس أغسطينوس

لأَنَّ رِيحًا تَعْبُرُ عَلَيْهِ فَلاَ يَكُونُ

وَلاَ يَعْرِفُهُ مَوْضِعُهُ بَعْدُ [16].

يرى البعض أن تشبيه حياة الإنسان بالريح هنا، يقصد به الرياح المدمرة المعروفة في آسيا، بهبوبها سرعان ما تُدَمِّر مناطق كثيرة تمامًا، ولا تترك أثرًا للحياة عليها.

* “لأن ريحًا تعبر عليه فلا يكون، ولا يعرفه موضعه بعد” [16]. لا يتكلم عن العشب، وإنما يتكلم عن هؤلاء الذين من أجلهم حتى الكلمة صار عشبًا. أنت إنسان، ولحسابك صار الكلمة إنسانًا. “كل جسد عشب” “والكلمة صار جسدًا” (يو 1: 14). كم يكون الرجاء الذي للعشب عظيمًا مادام الكلمة صار جسدًا؟ هذا الذي يبقى إلى الأبد لم يستخف بأن يكون عشبًا، حتى لا ييأس العشب من ذاته [31].

القديس أغسطينوس

أَمَّا رَحْمَةُ الرَّبِّ فَإِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ عَلَى خَائِفِيه،ِ

وَعَدْلُهُ عَلَى بَنِي الْبَنِين [17].

إن كانت الحياة الزمنية زائلة، بل وسريعة الزوال، وبزوالها تبدو كأنها لم تكن، فإن مراحم الرب بالنسبة لخائفيه الذين يتمتعون بالدخول في عهد معه أبدية وخالدة. يتمتع خائف بها هنا، وتبقى آثارها على بنيه وبني بنيه، كما تُقَدِّم له شركة في الأمجاد الأبدية.

* إذ تتأمل في نفسك فَكِّرْ في وضعك السفلي، فكر في العشب، لا تتشامخ. إن كنت في حالٍ أفضل إنما تبلغ هذا بنعمته، تصير هكذا برحمته… يا من لا تخشاه ستصير عشبًا، وفي حال العشب الأليم، فإن الجسد سيقوم إلى العذاب. ليت الذين يخافونه يفرحون، لأن رحمته عليهم.

“وبرَّه (عدله) على بني البنين” [17]. إنه يتحدث عن المكافأة لبني البنين.

كم من خدام لله ليس لهم بنين، فكم بالأكثر يكون بنو البنين؟ إنه يدعو أعمالنا أبناءً لنا، فمكافأة الأعمال هي بنو البنين [32].

القديس أغسطينوس

*   بدون شك تفوق الإلهيات البشريات، وتفوق الروحيات الجسديات، لذلك من يرغب في الحياة الحقيقية ينتظر ذاك الخبز الذي من خلال ممارسته غير الملموسة يقَّوي القلوب البشرية [33].

القديس أمبروسيوس

لِحَافِظِي عَهْدِهِ وَذَاكِرِي وَصَايَاهُ لِيَعْمَلُوهَا [18].

الله بطبعه رحوم وعادل في نفس الوقت، وهو غير متغير. فإن تمتعنا برحمته يتوقف على قبولنا لمخافته، ورغبتنا في حفظ عهده والطاعة لوصاياه. إنه يُقَدِّم نعمته المجانية لبني البشر، لكنه لا يغصبهم على قبولها قسرًا. “فأعلم أن الرب إلهك هو الله الأمين، الحافظ العهد والإحسان للذين يحسبونه ويحفظون وصاياه إلى ألف جيل” (تث 7: 9).

يبدو أن القديس أغسطينوس لم يكن يحفظ الكثير من نصوص الكتاب المقدس عن ظهر قلب بل كان يهتم بالتأمل فيها وممارستها عمليًا. لهذا يقول للمستمعين إليه: [إنك تعتز منتفخًا بأنك تتلو المزمور لي عن ظهر قلب، الأمر الذي لا أفعله أنا، أو من الذاكرة لتتلو كل الناموس. بلا شك أنك أفضل مني من جهة الذاكرة، بل وأفضل من أي إنسان تقي لا يعرف الناموس كلمة بكلمة، بينما أنت تحفظ الوصايا.]

* كيف تحفظ (وصاياه)؟ ليس خلال الذاكرة بل خلال الحياة. هكذا يكون حفظ وصاياه في الذاكرة، لا تلاوتها بل بممارستها [34].

القديس أغسطينوس

4. العرش الإلهي

ختام مجيد حيث يرفع قلوبنا إلى العرش الإلهي، لقد تعرَّف داود النبي منذ صباه أن الله “رب الجنود، إله صفوف إسرائيل” (1 صم 17: 45). وبهذا الإيمان الحي انتصر على معيِّر الله وشعبه.

اَلرَّبُّ فِي السَّمَاوَاتِ ثَبَّتَ كُرْسِيَّهُ،

وَمَمْلَكَتُهُ عَلَى الْكُلِّ تَسُودُ [19].

عرش الله عالٍ في السماء، ليس ما يعلو عليه، ولا ما يُقارَن به، ولا ما يصحبه، ولا ما يعنيه، ولا ما يعوقه عن العمل، ولا ما يخفيه (راجع أي 9: 4؛ إش 44: 28؛ 46: 10؛ أف 1: 5؛ في 2: 13) [35].

ينسب الله كرسيه للسماوات، لأنها أسمى من الأرض بارتباكاتها المستمرة واضطراباتها وعدم ثباتها. قيل عن الأرض: “المزعزع الأرض من مقرها فتتزلزل أعمدتها” (أي 4: 6).

السماوات مرتفعة لا تتسلل إليها خداعات الشياطين، ولا المكر البشري، ولن يلحقها دنس أو نجاسة، إنما هي طاهرة ونقية ومجيدة.

* من هو إلا المسيح الذي يعد عرشه في السماء؟ هذا الذي نزل وصعد، هذا الذي مات وقام من الأموات. هذا الذي رَفَعَ إلى السماء الناسوت الذي أخذه لنفسه، مُعدًا العرش في السماء.

القديس أغسطينوس

*   السماء هي أعلى وأجمل من المخلوقات المنظورة، لذلك يخصها الناس كمكانٍ له، كما يخصصون أشرف الأماكن للملك الأرضي. وأيضًا لوجود مراتب الملائكة فيها. ويقال إنه راكب وجالس ومستقر عليهم، وذلك لرضاه عنهم من أجل طهارتهم وقداستهم. وأيضًا لأن نفوس الصديقين تصعد إلى هناك، وإلى هناك صعد بجسده بعد قيامته من الأموات، ومن هناك سيأتي بعد انقضاء الدهر ليدين العالم… ولئلا يُظَن بأنه محصور، وأن سيادته في السماء فقط، ألحق النبي بقوله: “ومملكته على الكل تسود”. أما سيادته على الناس فنوعان: قهرًا أو طوعًا. يسود قهرًا على غير المستحقين لملكوته، لأنه مبدع الكافة وسيدها؛ وأما طوعًا، فيسود على الصديقين الذين أعد لهم ملكوت السماوات. لأجل هذا سبيلنا نحن المؤمنين أن نجعل سيرتنا في السماوات التي منها ننتظر الرب يسوع مخلصنا (في 3: 20)، كما كتب الرسول بولس: “إن كنتم قد قُمْتم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله” (كو 3: 1). طوبى للذين يخضعون لسيادة الرب طوعًا.

الأب أنسيمُس الأورشليمي

بَارِكُوا الرَّبَّ يَا مَلاَئِكَتَهُ الْمُقْتَدِرِينَ قُوَّةً،

الْفَاعِلِينَ أَمْرَهُ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ كَلاَمِهِ [20].

قيل هنا عن الملائكة أربعة أمور [36]:

أ. أنهم منسوبون لله: “ملائكته”.

ب. مقتدرون، ليس في الخليقة من يساويهم في سلطانهم وقدرتهم.

ج. يخدمون الله: يُقَدِّم لنا الكتاب المقدس بعهديه الملائكة كمُرسَلين لله وخدام له، يحملون روح الطاعة له، وروح الحب لنا، فإن كانت الملائكة الساقطة وعلى رأسهم إبليس لا يكفون عن مقاومة الحق فينا لكي يسحبوننا إلى البنوة لإبليس والاستعباد له، فبلا شك لا تقف الملائكة في سلبية، بل تصلي وتعمل في شوقٍ حقيقيٍ لكي نتمتع بالبنوة لله، ونتحرر من أسر إبليس وملائكته.

د. مُقَدَّسون، يتممون مشيئة الله، وموضع سروره. يُعَبِّر المرتل عن عمل الملائكة الدائم في طاعة لله وبقوة، قائلًا: “باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة، الفاعلين أمره، عند سماع صوت كلامه” (مز 20:103).

لم يُقَدِّم المرتل هذه الأغنية بلحن منفرد، لكنه وسط فرقة متناغمة تضم ملائكة الله المقتدرين، وجميع جنوده خدامه العاملين، كما تضم جميع أعماله في كل موضعٍ. كان المرتل يجد سعادته في أن ترافقه كل الخليقة السماوية والأرضية في التسبيح، أو هو يرافقها في هذا العمل المفرح.

هذا ويُعْتَبَر هذا القسم ذات أهمية خاصة عن التطلع إلى العمل، فإن كان الله يعمل لأجل مسرة خليقته، فالقوات السمائية أيضًا تعمل، والإنسان المقدَّس في الرب يجد في العمل مسرة خاصة، ويطلب أن يعمل في شركة مع إخوته كما مع الخليقة، بل ويقول الرسول “العاملان مع الله” (1 كو 3: 9) [37].

*   يلزم أن تميز بين كونك تعمل، وبين أن تتعب، فهذا شيء وذاك آخر، لكن هل يوجد عمل بدون تعب؟ هل هذا ممكن؟ نعم، هكذا كانت إرادة الله، لكنك رفضتَ هذه الإرادة. فقد أعدَّك في الجنة لكي تعمل، وحدد لك ما تعمله، وإن كان لم يمزجه بالتعب. لأنه لو كان التعب منذ البداية، لما صار عقابًا بعد ذلك (تك)، إذن كان من الممكن أن يعمل الإنسان بدون تعب مثل الملائكة. فالملائكة تعمل أيضًا، اسمع ماذا يقول؟ “باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة، الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه” (مز 103: 20)، إن غياب الصحة (الذهنية) هو الذي يسبب التعب الكثير، لكن في البداية لم يكن الأمر هكذا… الله أيضًا ما يزال يعمل كما يؤكد المسيح: “أبي يعمل، وأنا أعمل” (يو 5: 17) [38].

*   يمكنك أن تعمل ولا تقلق، كما يعمل الملائكة [39].

*   ما هي أكبر العظائم التي نراها (في الملائكة)؟ أليس طاعتها لأوامر الله؟ تلك هي الشهادة التي يقدمها داود من جهة هذه القوات بتعجبٍ: “باركوا الرب يا جميع جنوده، يا خدامه العاملين مرضاته” (مز 103: 20). ما من خير يعادل هذا الخير في تلك الأرواح الطاهرة [40].

*   إني أطوَّب القوات غير المرئية، لأنهم يحبون الله، ويخضعون له في كل شيء [41].

*   ليتنا لا نقدم التشكرات فقط من أجل البركات التي تحل بنا، وإنما من أجل البركات التي تحل بالآخرين… هذا هو الأمر (الشكر) الذي يحرر الإنسان من الأرض، ويرفعنا إلى السماء، ويجعلنا ملائكة بدلًا من أن نكون بشرًا، فإن الملائكة يُشَكِّلُون طغمة تُقَدِّم التشكرات لله من أجل الصالحات الموهوبة لنا، قائلين: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة (لو 14:2) [42].

القديس يوحنا الذهبي الفم

* ليس من أمرٍ يعوقنا عن بلوغ كمال القوات العلوية، بسبب سكنانا على الأرض. وإنما يمكننا ونحن نقطن هنا أن نفعل كل شيء، كما لو كنا في العلا. فما يقوله هنا هو هذا: “كما أن كل شيءٍ يتم بلا عائق، والملائكة لا يطيعون (الله) جزئيًا ويعصونه جزئيًا، وإنما في كل شيءٍ يخضعون ويطيعون، إذ يقول “مقتدرين قوة، فاعلين كلمته”، هكذا فلتهبنا نحن البشر (أيضًا) ألا نعمل إرادتك بطريقة جزئية، بل نفعل كل شيءٍ حسبما تريد [43].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*   الروح القدس الذي يأمر أولًا نفس الصديق أن تبارك الرب، الآن يدعو الملائكة لهذا العمل. يأمرهم أن يباركوا الرب. فكيف إذن يجسر قوم ويقولون أن الروح القدس مساوٍ للملائكة في القدر، وها هو يأمرهم كما يأمر نفس الإنسان. ليعلموا من هذا أن الروح القدس هو رب، خالق مساوٍ للآب والابن في جوهر اللاهوت والقوة والسلطان، وليس في منزلة الملائكة المخلوقين…

حيث أن الملائكة يفرحون لأجل توبة الخطاة، لذلك يحثهم الروح القدس أن يباركوا الرب ويقدموا الشكر له، لأجل توبة الأمم، وخلاصهم بإيمانهم بالمسيح.

الأب أنسيمُس الأورشليمي

*     “لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض”، ملائكة الله المقدسون المباركون يصنعون مشيئة الله، كما قال داود: “باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة، الفاعلين أمره” (مز 103: 20)، وعلى هذا نعني بالصلاة: “كما في الملائكة تكون مشيئتك، هكذا لتكن على الأرض فيَّ يا رب” [44].

القديس كيرلس الأورشليمي

*     إذ كانوا “مقتدرين قوة” (مز 20:103) في تنفيذ مشيئة الله، وفي السعي لإهلاك العُصاة، ففي هذا برهان على أنهم يقفون قدام الله، ويخدمونه كأنهم يده إلىُمنى (لو 19:1)، وذلك بسبب إرادتهم الصالحة [45].

العلامة أوريجينوس

*     عندما تستعمل كلمة “قوة” في صيغة المفرد تعني قوة الله، بينما حين تُستعمَل في صيغة الجمع تعني قوة الملائكة، فمثلًا “المسيح” قوة وحكمة الله (1 كو 1: 24)، يوضح هنا استخدام كلمة قوة بصيغة المفرد على ألوهية السيد المسيح. وعلى الجانب الآخر نجد في (مز 103: 21) “باركوا الله في جميع قواته“، هنا توضح صيغة الجمع الطبيعة الروحية للملائكة. إن تعبير “المقدرة” الذي يُستخدَم مع كلمة قوة يُرَكِّز أكثر على المعنى، ويعمل الوحي الإلهي في بعض الأحيان على جعل المعنى أكثر تأكيدًا باستخدام كلمات لها نفس المعنى. كمثال التعبير الآتي: “الرب صخرتي وحصني ومنقذي، إلهي صخرتي به أحتمي، تُرس وقرن خلاصي وملجأي، أدعو الرب الحميد فأتخلص من أعدائي” (مز 18: 2-3). فكل كلمة تُعَبِّر عن نفس المعنى، ولكن استعمال الكلمتيْن معًا يُعطي تأكيدًا للعبارة، لذلك فاستخدام صيغة الجمع لكلمة قُوة، وكلمة مقدرة بنفس المعنى تشير إلى طبيعة الملائكة [46].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

بَارِكُوا الرَّبَّ يَا جَمِيعَ جُنُودِهِ،

خُدَّامهُ الْعَامِلِينَ مَرْضَاتَهُ [21].

تستخدم هذه العبارة والسابقة لها للكشف عن كرامة العمل، فهو لا يُمارَس كعقوبةٍ أو تأديبٍ، إنما التأديب هو ارتباط العمل بالتعب: “بعرق وجهك تأكل خبزًا” (تك 3: 19).

فالله الآب يعمل وأيضًا الابن والروح القدس. يقول السيد المسيح: “أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل” (يو 5: 17). والطغمات السمائية كما نرى هنا تعمل. ووهب للإنسان الأول قبل السقوط أن يعمل، لكن في العمل يتشبه بالله الدائم الحب.

ربما يشير هنا إلى أعمال الله مثل الشمس والقمر والكواكب وبقية الخليقة التي تنضم إلى مصاف السمائيين لتسبيح الله وتباركه بلغتهم الخاصة بهم. كل الخليقة تُسَبِّح الله وتباركه، لكن باللغة التي تناسبها، أحيانًا بلغة الهدوء والسكون.

*     هذه القوات المنتظمة في المعركة هي القوى الدائمة إلى الأبد، والتي تمسك بزمام الأمور، وتسيطر على كل شيء، فالعروس ثابتة والسلطات تبقى خالية من العبودية وتُمَجِّد هذه القوى لله دون انقطاع، ولا يبقى السيرافيم الطائرون ثابتون ولا تتغير أماكنهم، ولا يتوقف الشاروبيم عن حمل عرش الله العالي، ويبارك جميع جنوده خدامه العاملين مرضاته (مز 21:103) [47].

القديس غريغوريوس النيسي

بَارِكُوا الرَّبَّ يَا جَمِيعَ أَعْمَالِهِ،

فِي كُلِّ مَوَاضِعِ سُلْطَانِهِ،

بَارِكِي يَا نَفْسِيَ الرَّبَّ [22].

يليق بنفسي أن تتعلم من كل من وما حولها، فتمارس ما يمارسه السمائيون وأيضًا بقية الخليقة الأرضية من تسبيح وشكر لله. هذا هو عملي الأول والرئيسي!

يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن الروح القدس لا يدعو الملائكة وحدهم ليباركوا الرب من أجل انفتاح باب الخلاص للأمم خلال الإيمان بالسيد المسيح، وإنما يطلب أيضًا من كل أعمال الرب بما فيها نفوس الصديقين أن تشارك الملائكة هذا العمل.

* لا يقل أحد: لا أستطيع أن أُسَبِّحَ الرب في الشرق، لأنه رحل إلى الغرب. أو لا أستطيع أن أُسَبِّحَه في الغرب، لأنه هو في الشرق… الله في كل موضع، فيمكن أن نفرح به في كل موضع، حيث نحيا حسنًا في كل جانب… العبارة الأخيرة مثلها مثل الأولى، فالتسبيح (التطويب) هو رأس المزمور وهو نهايته. نبدأ ننطلق بالتسبيح، ونرجع أيضًا إلى التسبيح، ليتنا نملك بواسطة التسبيح [48].

القديس أغسطينوس

*     ينصت المشاهدون في المسارح لرسائل الإمبراطور في صمتٍ وهدوءٍ – لأنه حينما تُتلَى هذه الرسائل هناك، والولاة حاضرين مع المحافظين، ورجال مجلس الشيوخ، والشعب وقوفًا في صمتٍ مطْبقٍ أمام الكلمات، فإن قفز أحد فجأة وسط هذا السكون الشديد، وصرخ، فإنه يَلقى أشد العقاب؛ إذ أهان الإمبراطور. لكن هنا، فإن الرسائل قادمة من السماء، وبينما تُتلَى تسود فوضى في كل مكان، مع أن مُرسِل هذه الرسائل أعظم بما لا يقاس من ملكنا الأرضي، والحشد المجتمع أكثر وقارًا، فالحاضرون ليسوا من الناس فقط، بل من الملائكة أيضًا، والرسائل تنقِل إلينا أخبار الانتصارات، والأخبار السارة التي تثير فينا رهبة أكثر من أمور الأرض، لهذا لا يحتشد الناس فقط، بل الملائكة ورؤساء الملائكة وكل شعوب السماء وكل سكان الأرض يُؤمَرون بالتسبيح، كالمكتوب: “باركُوا الربَّ يا جميع أعماله” (مز 103: 22).

أجل، فإن أعمال الرب ليست بالإنجازات الهينة، بل تفوق كل حديثٍ، وكل فكرٍ، وكل فهمٍ للإنسان [49].

القديس يوحنا الذهبي الفم

من وحي مزمور 103

لأشترك في خورس مُسَبِّحيك!

 

*   هبْ لي يا مخلصي أن اشترك في خورس مُسَبِّحيك!

نفسي تتهلل باسمك القدوس.

أنت هو القدوس، تقدس أعماقي بروحك القدوس.

تغفر لي ذنوبي،

وتشفي أمراض نفسي وجسدي!

تُخَلِّصني من فخاخ العدو المخفية.

وتنقذني من الحفرة التي أعدها لهلاكي.

تشبعني بك يا أيها الخبز النازل من السماء.

تجدد مثل النسر شبابي.

ماذا أطلب بعد سوى الالتصاق بك أبديًا!

*   إن صار الظلم هو قانون العالم،

فأنت وحدك تُعِين المظلومين.

يكتشف لي عن مراحمك،

فلا أخشى المظالم!

تعلن لي عن طول أناتك، فتستريح أعماقي.

تغفر لي ذنوبي، فترفعني من الأرض إلى السماء.

تحملني من المغارب،

وتدخل بي إلى المشارق.

لا يعود لإبليس ولا لقواته ولا لخداعاته سلطان عليّ مادمت في أحضانك!

*   خلقتني من التراب، لكنك قبلتني ابنًا لك.

حياتي كالعشب، لكن السماء تنتظرني.

العالم دائم التغيُّر، لكن وعودك ثابتة إلى الأبد.

*   اسمح لي أن انضم إلى خورس المُسَبِّحين.

أنعم بالشركة مع الطغمات السماوية.

أتمثل بهم، وأتمتع بحبهم ومسنادتهم لضعفي.

لأباركك معهم إلى أبد الأبد. آمين.

_____

[1] On Ps. 103 (102).

[2] On Ps. 103 (102).

[3]Homily 29 on Ps 102 (103).

[4] On Ps. 103 (102).

[5]Homily 29 on Ps 102 (103).

[6] Tractate of Matthew 16: 4.

[7] Continence,16.

[8] Continence,23.

[9]Homily 29 on Ps 102 (103).

[10] On Ps. 103 (102).

[11] In 2 Cor. Hom. 20 (P. G 61: 540).

[12] Letter & Spirit, 56.

[13] PL 23:179

[14] Death as a Good, 5: 16.

[15] Prayer of David 4:9:35.

[16] On Ps. 103 (102).

[17] On Ps. 103 (102).

[18] On Ps. 103 (102).

[19] Commentary on Rom. 9: 23.

[20] عظة 10 على نشيد الأناشيد ترجمة الدكتور جورج نوّار.

[21] العناية الإلهية للقدِّيس يوحنا الذهبي الفم، ترجمة عايدة حنا بسطا.

[22] Sermon 226: 3.

[23] On Ps. 103 (102).

[24] Paedagogus, 1: 8.

[25] في مديح القديس بولس، 3.

[26] On Ps. 103 (102).

[27] Sermon on NT Lessons, 7:13.

[28] Prayer of David 4:6:22.

[29] عظة عن إنجيل لوقا 32، 33.

[30] On Ps. 103 (102).

[31] On Ps. 103 (102).

[32] On Ps. 103 (102).

[33] Exposition of Luke 4:19-20.

[34] On Ps. 103 (102).

[35] W.S. Plummer, Ps. 103.

[36] W.S. Plummer, Ps. 103.

[37] راجع نبذة عذوبة العمل البنَّاء: كنيسة مارجرجس باسبورتنج.

[38] Homilies on John, homily 36.

ترجمة: دكتور جورج عوض إبراهيم.

[39] In Hebr., homily 36: 2.

[40] الأب الياس، ص 268.

[41] Homilies on Rom. Hom 10.

[42] In Matt. Hom 25:3.

[43] On Matthew, homily 19.

[44] الأسرار 5، 14.

[45] De Principiis 1:8 (Henri De Lubac).

[46] عظة 4 على نشيد الأناشيد ترجمة الدكتور جورج نوّار.

[47] عظة 15 على نشيد الأناشيد ترجمة الدكتور جورج نوّار.

[48] On Ps. 103 (102).

[49] عظة ربنا يسوع المسيح على الجبل.

زر الذهاب إلى الأعلى