تفسير سفر ايوب اصحاح 19 للقديس يوحنا ذهبي الفم
الإصحاح التاسع عشر
رد أيوب
لماذا تسحقونني بأحاديثكم
1- ” فأجاب أيوب وقال: حتى متى تعذبون نفسى وتسحقونني بالكلام ؟” (19: 1، 2).
انظر إليهم (أيها القارئ)، فإنهم ليس فقط لم يجلبوا له أية تعزية، بل أيضاً عملوا العكس متضامنين مع الشيطان، ومتحدين فى محاربة أيوب وسحق قوته. وكأن ما مر به من أحداث لم يكفيه.
انظر إلى الثلاثة معاً وقد تبنوا – كرجل واحد – نفس اللهجة (الهجومية) في الكلام معه.
2- قال أيوب: ” فقط اعلموا أن الرب هو الذى عاملني هكذا” (3:19).
أي ليت – على الأقل – أن مركز من عاقبنى يجعلكم تغيّرون رأيكم. ولا ينبغي أن ندوس تحت أقدامنا أناساً عاقبهم الله مثله، بل ينبغي أن نتأوه ونحزن على مصيرهم وعلى الأخص لا ينبغى الشماتة من موت أى شخص لأنه لن يظل بغير عقاب من يتناسى قدرة (ومركز) من عاقبه.
3 – قال أيوب: “أنتم تتكلمون ضدى دون خجل منى وتزجرونني. نعم حقاً وبالحقيقة أنني ضللت ويوجد في خطأ، ونطقت كلمة لا ينبغى أن أتفوه بها، وكلماتي حادت وخرجت عن الصواب” (19: 3-4).
إن أيوب قال هذا على سبيل التنازل، وهو دائماً يتصرف هكذا مكثراً من التنازلات، ولم يترك الحديث يفتر عند هذه النقطة بل عاود الجهاد من جديد.
فقال أيوب: لنفترض (يا أصدقائي) أنكم توبخون الغباء العظيم والثرثرة الفارغة واللامعقولية التى فى كلماتي، لكن لا ينبغى لكم أن تسبوننى حتى لو كان الأمر هكذا، بل ينبغي أن تحترموا بليتى وتخشوا ممن ضربني، وتغفرون لى لأجل عظم بلاياي
4 – قال أيوب: “لكن وآسفاه وحيث أنني صرت لكم فرصة للتصلف وتهينونى بتوبيخاتكم فاعلموا أن الرب هو الذي كدرني” (19: 5-6).
ماذا تعنى هذه الكلمات؟ هل تعنى أنه يلزم الاحترام والخشية؟
في رأيي أنه يريد التمليح بهذا، وأنه إن كان يعانى كثيراً، فهذا أيضاً ليس بسبب أخطائه.
وإن ابتلى الله إنساناً، فهل هذا الإنسان يتألم دائماً لأجل خطاياه؟ كذلك ولا أيوب أيضاً (تألم لأجل خطاياه إنما لكي يُجرب ويظفر بأكاليل أكثر.
5 قال أيوب: “إنه أقام حصنه ضدى هوذا سأتكلم فى صور (تشبيهية) ولن أتكلم “(19: 6-7)
أى سأعبر عن نفسى بوضوح في صور (تشبيهية)، أو كما لو كنت أتحدث مع شخص ما.
“سأصرخ وليس حكم” (7:19).
هذه هي النقطة الأساسية فى بليتي: لا أحد يسمعنى لا أحد يحكم، لا أحد يجيب. ألا ينبغي الإشفاق على هذا الإنسان؟ إننى لا أرى إنساناً يقف بجانبي، ونا محاصر من كل الجوانب، وأصرخ ولا أحد يسمعني.
6- قال أيوب: “إننى محاط بسور مرتفع يستحيل عليَّ تخطيه وعلى سبلى جعل ظلاماً” (4:19)
إنه يقصد سبل فكره أو سبل مسلكه، وهذا يعني: إن الله أغرقني في الظلمة ولست أعلم إلى أين أذهب، إنني أعمى وعاجز.
7- “أزال عنى كرامتى ونزع تاج رأسى. إنه مزقنى من كل جهة، فطلبت الرحيل (أى الموت)” (9:19- 10).
قال أيوب: لكنه قيدنى من كل جهة وأنا لا أراه أو أرى أى شخص آخر.
8- إنه قلع (حرفياً هدم) مثل شجرة رجائى وأضرم علي غضبه وحسبني كأعدائه وهاجمتني جماعاته المسلحة كرجل واحد، ومجرمون أحاطوا بطرقي” (19: 10- 12).
إنه يقصد من تآمروا ضده وسلبوا بهائمه. كثيرة هى حيل الشيطان الذين قد بقوا عائشين من أقربائه جعلوا بليته عديمة الاحتمال أكثر من الذين ماتوا. فالآخرون لم يعد بإمكانهم أن يصنعوا له شيئاً الآن، بينما الأحياء وبخوه ورفضوا أن يسمعوا له وتكلموا ضده.
الكل حادوا عنى – أشفقوا علي (يا أصدقائي)
9- قال أيوب: “ابتعد إخوتى عنى وفضّلوا معرفة الغرباء عنى، وأصدقائي صاروا عديمي الشفقة. أقربائى تجاهلوني عن تصنع والذين عرفونى بالاسم نسونی جیرانی أقربائی خدمی و عبیدی اعتبرونی كأجنبى. صرت في أعينهم غريباً دعوت عبيدي فلم يجيبوا. بفمى تضرعت بالحاح توسلت إلى زوجتى دعوت متودداً إلى أبناء سراري لكنهم جحدونى تماماً. عندما أقوم يتحدثون ضدى، الذين رأونى اشمئزوا منى والذين أحببتهم قاموا ضدى. تحلل لحمى تحت جلدی و عظامی انضغطت من الآلام. اقتربوا منى وأشفقوا عليّ يا أصدقائى أشفقوا عليّ لأن يد الرب مستنى لماذا تطاردونني كما الرب؟ ألم تشبعوا من لحمي؟ من يمكنه أن يضمن لي أن كلماتي ستكتب؟» (19: 13- 23).
إنه يقصد إما عن قصة بليته أو عن حياته وعن أعماله الفاضلة التي تشهد لهم أنه لم يكن شريراً. وهذا آت مما يشعر به في نفسه. فهو قال إنني متأكد أنني لم اقترف ظلماً نحو إنسان، وأريد بعد هذا أيضاً أن تُكتب قصة بليتى، لأن هذا الأمر سيجلب لي بعض التعزية.
أريد أن تُحفر فى صخر كلماتي: أنا أعلم أن الله سيخلصنى.
10- “من يتيح أو يضمن لي أن كلماتي تودع فى كتاب إلى الأبد بقلم من حديد وتنقر على الرصاص أو على الصخر؟” (19: 23، 24).
وهوذا قد كُتبت كلماتك يا أيوب ليس بقلم من حديد، بل بطريقة أفضل لم تخطر لك. لأنه لو كتبت كلماته (كالمعتاد) لكانت قد مُحيت مع الوقت، لكنها كتبت بطريقة أفضل (إذ تسجلت ضمن الأسفار المقدسة).
11- قال أيوب: “نعم أنا أعلم أنه أبدى ذاك الذى سيخلصنى على الأرض” (25:19).
أى الله هو الذي سيخلصنى فى الأرض. وماذا يعنى هذا؟ لو كان الله خالداً (وهو بالحق كذلك)، فلماذا تريد أن تُكتب كلماتك، ويبقى تذكارك إلى الأبد بطريقة لا تُمحى؟
لاحظ أيها القارئ نفسية من هم في البلية إنهم يريدون ليس فقط من هم معاينون فعليون للأحداث، بل أيضاً الذين سيأتون فيما بعد أن يشهدوا على بلاياهم بطريقة تجتذب – إن جاز القول – من كل الأوجه بعض التعاطف لهم.
وأنا اعتقد أن هذا بالضبط ما جازه الغنى الذى جاء ذكره في الإنجيل (انظر لو 16: 19) عندما أراد أن يُعلم من هم على الأرض ببلاياه وفى أى موقف يوجد من عاش من قبل في الرخاء.
12- ” إنه سيقيم جسدى الذى عانى هذه الآلام، لأن الرب هو الذي سببها” (26:19).
هل يعلم أيوب بعقيدة القيامة ؟ أنا اعتقد بهذا بل وقيامة الجسد[1]: على الأقل لن نقول إن القيامة التي تحدث عنها هي التخلص من البلايا التى ضغطته. لهذا السبب قال أيوب أنه حتى بعد خلاصى من هذه البلايا أريدها أن تكون خالدة.
إن هذه طريقة فى منتهى الحكمة أن يضع الإنسان أمام عينيه عقوبات الله له حتى بعد أن تمضى. وعلى أية حال كانت هذه هي الطريقة التي استخدمها الله نفسه في حالة الصفائح النحاسية (انظر عدد 16: 39، 40) ، وفى حالة السادوميين والحية النحاسية وفي الأماكن التي ارتبط اسمها بعقوبة كما قال بالأخص من جهة وادى عخور في الماضى (انظر يش 7: 24- 26 ، هو 2: 15، إش 65: 10)
قال أيوب: «لأن الرب هو الذي سبب هذه البلايا».
إن أيوب محق فى قول (أن) الرب سيكون السبب الحقيقى فى تغيير حاله، إذ قال «لأن الذي ضرب هو الذي سيشفي (18:5).
13- أنا الذى أدرك (فى نفسي) ما رأته عيناى وليس آخر. لكن كل شيء تحقق لي في حضني” (19: 27).
قال أيوب: فى الواقع أنه ليس إنسان هو المسئول عن هذه المكيدة. وعلى ذلك ما حدث لبهائمي، فأنا أعلم مما حدث لجسدى أنها ضربة من الله.
لهذا السبب تكلم أيوب عن «الذي أدركه في نفسه» قال أيوب: لى معلّم قادر على أن يوضح لى أن الضربة وراءها الله. فهذا ما حدث لى بالضبط.
فمثلاً عندما قال أيوب: «لأنى أشتم طعامى كرائحة أسد مقزز» (6: 7)، فهذا لم يكن نتيجة لمرض عادى ( حرفياً طبيعي)؛ إذ أن جسده قد سقط (أى تهرأ) منذ وقت طويل. ولكي لا يظنوا أنه تكلم هكذا وكأن ضميره شرير، لذلك أضاف قوله «حفظت وصيتك» (مز 119: 6-8)[2] ، لكن إن لم تصدقونني وتناقضونني فاخشوا مما هو مخفى في المستقبل، إذ ينبغي أن يهلك على كل حال من عاش في الشر، وأنا أعاني هذه البلايا لأنني عشت في الضلال، حينئذ أنتم أيضاً ينبغى أن تخشوا وتخافوا من هذه البلايا!
احترسوا في كلامكم
14- لكن لو قلتم أيضاً: ماذا قلنا ضده وأى علّة نقاش وجدناه فيه، فاحترزوا أنتم أيضاً لأن تدانوا لأن الغضب سيهبط على الأشرار وسيدركون حينئذ أن قوتهم لم تعد موجودة” (19: 28، 29)
- حول إيمان أيوب بقيامة الجسد، يبدو لي أن مركز ذهبي الفم مذبذب بعض الشيء، وهذا يرجع بدون شك إلى إمكانية التفسير المزدوج لكلمة أناستسيس اليونانية وهى تعنى القيامة (للجسد أيضاً في مفهوم العهد الجديد)، أو القيامة من المرض أو إعادة التجديد فمن جهة أيوب قال ذهبي الفم في تعليقه على (7: 17) . يبدو لي أن أيوب يجهل عقيدة القيامة، لأنه لو عرفها لما كان مثقلاً بهذا القدر». وهنا على العكس يبدو ذهبي الفم أكثر تأكيداً على معرفة أيوب بقيامة الجسد، لكنه يلمح للتطبيق الآخر لهذه الكلمة وهو الخلاص من البلايا التي ضغطته. وفى الرسالة الثانية لذهبي الفم إلى الشماسة أوليمبيا كان كلامه قاطعا إذ قال «كان أيوب باراً و (لكن) لم تكن لديه أية فكرة عن القيامة.
- بالطبع هذا القول هو لداود النبى وليس لأيوب، لكن هناك قول لأيوب يوفى بنفس الغرض وهو أخفيت كلماتك في حضني (أى في قلبي) (32:21).
تفسير أيوب 18 | سفر أيوب 19 | تفسير سفر أيوب | تفسير العهد القديم | تفسير أيوب 20 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | ||||
تفاسير سفر أيوب 19 | تفاسير سفر أيوب | تفاسير العهد القديم |