تفسير سفر أيوب ٤ للقمص تادرس يعقوب

أيوب 4-31

 محور أحاديث الأصدقاء الثلاثة

إذ عبَّر أيوب عن مرارة نفسه حتى بدا كمن فقد رجاءه وسقط في اليأس، وجد أصدقاؤه الثلاثة فرصتهم للإفصاح عما في قلوبهم، وهو الشعور بأنه رجل مرائي. لعلهم ناقشوا الأمر فيما بينهم ووصلوا إلى هذه النتيجة، لكنهم أمام هول التجربة لم ينطقوا، حتى بدأ هو بالتعبير عما في داخله.

ظهر الأصدقاء الشيوخ كخصومٍ، وتحول أيوب إلى مُتهمٍ، وكان أليهو مستمعًا وصار وسيطًا فيما بعد. وأخيرًا تدخل الله ليقيّم للكل أمورهم.

خُطب أصحاب أيوب الثلاثة الأولى مغزاها إن كل بلية هي ثمرة الخطيئة، وأن البعد بين الله والإنسان غير محدود، وأن أيوب خاطئ، ويمكنه عند التوبة الحصول على الرجاء بأنه يعود فيفوز بالرضا الإلهي. يجيب أيوب على هذا كله بالتفصيل ويرد على كل المتكلمين.

تمسك أصحابه بأن الكوارث قصاص عادل على جرم أيوب الخفي، وقد قدم أصدقاء أيوب براهين:

أولًا: مصير الأشرار الكوارث المتوالية.

ثانيًا: الأبرار سعداء.

ثالثًا: ما من أحدٍ طاهرٍ أمام الله.

وكل هذا مبني على مبدأينالله يجازي الإنسان حتى في هذا العالم قبل مجيئه في ملكوته الأبدي، وأن الله في عدلٍ يوازي بين الأعمال والمجازاة.

حين تمنى أيوب الموت ليستريح من عذابه وآلامه بكونه مهربًا من الحياة، إذا بأصدقاء أيوب يتكلمون عن الله، أما هو فيكلم الله، وهذا يجعله أكثرهم صدقًا في السفر.

الأصحاح الرابع
الحديث الأول لأَلِيفَاز التَّيْمَانِي

خبرة دينية بلا روح!

حديث أليفاز الأول

كل صديقٍ منهم كان له إيمان حقيقي بالله، الذي يلزم أن نمجده بالسلوك في البرّ. كل منهم عبَّر عن إيمانه من زاوية مختلفة، وربما أليفاز كان أكثرهم خبرة وعمقًا، وإن كان قد شعر بالعجز عن تفسير أعمال الله خلال العقل والتفكير المجرد. يليق بالإنسان أن يدرك أنه أصغر من أن يفسر خطة الله ومعاملاته، ولا يدرك أسرار الله، إلاَّ أنه يجب تقديم ذبائح له من أجل غفران الخطايا [1: 5].

كان أليفاز يعتز بخبرته الشخصية مع الرؤى والأحلام لمعرفة صوت الله. الآن وقد صار بين أيدينا الكتاب المقدس، لسنا محتاجين إلى الرؤى والأحلام.

أبرز أليفاز جلال الله وقداسته وأيضًا ضعف الإنسان وفشله إن سلك أو فكّر خارج دائرة معونة الله. الكتاب المقدس هو سجل المصالحة بين الله والإنسان، مع عجز الإنسان عن تحقيق ذلك بذاته. إنه يعجز عن التمتع بالخلاص بقدرته البشرية كما لا يتمتع بالحكمة والحياة من ذاته، مثله مثل الملائكة.

بدأ أليفاز الحديث (ص 4-5)، والمُرجح أنه كان أكبرهم سنًا، وأفضلهم أخلاقًا. افتتح أليفاز المناقشة بكلام بليغ وأسلوب شعري جميل، وتحدث بمنتهى الأدب والاحتشام عن نفسه وعن مسعاه.

ويمكن أن يقسم حديثه إلى أربعة أقسام:

1- يتعجب من أيوب معزي الآخرين كيف يقع في يأس مثل هذا. فبحسب خبرته الشخصية عبر كل حياته كشيخٍ مختبرٍ “ليس من بارٍ قد هلك“. وأهم ما قاله هنا هو: تقواك هي معتمدك ورجاؤك كمال طرقك.

2- رؤيا أليفاز ص 8:4 – 7:5. وفيها الرد على انتقادات أيوب. يتكلم هنا عن قداسة الله وحماقة الناس والملائكة، وهو يحاول أن يوقظ في أيوب الشعور بنقاوة الله السامية وضعف جميع خلائقه الذي لم يكن أيوب سوى واحد منهم، فهم عرضة للخطأ (ص 17:4-19)، فلماذا يتذمر أيوب على الله؟ فإن كان أولاده هلكوا وسُلبت أملاكه، فهذا نتيجة خطيئته، لأن الذين يزرعون شرًا فإياه يحصدون (ص 8:4)، ثم يحاول أن يعزي أيوب بفكرة أن التعب يعم الناس أجمع، فكيف ينتظر أن يُعفى منه، كان يجب أن يحتمله بخضوعٍ وصبرٍ.

3- يخبره ماذا كان يفعل أليفاز لو كان في موضع أيوب (ص 8:5)، مع حث أيوب على رفع دعواه إلى الله. وكان كلامه مملوءً من التبصر والعطف، وفيه يمدح صفات أيوب السامية ص 3:4-5. ولكن المبدأ المبني عليه كان ضعيفًا. فأثار في أيوب روح المقاومة (ص 6-7). يذكر هنا ما كان يفعله لو كان في مكان أيوب، ويصرح بأنه كان يسلم أمره إلى الله العظيم القوة، والعجيب في كل طرقه، الذي يرفع المتواضعين، ويأتي بالخراف إلى الأمان، وينجي الفقير والبائس.

  1. لماذا يتذمر أيوب على تأديبات الرب له مع أن تأديباته هي بركة لمن يحتملها؟ لأن القدير يجرح ويعصب، يسحق ويداه تشفيان.

أقسامه:

1. استئذانه أيوب للكلام   1-2.
2. مدحه أيوب   3-4.
3. توبيخه على عدم ثباته   5-6.
4. مبدأ لاهوتي عام   7-11.
5. تعزيز رأيه برؤيا   12-21.
من وحي أيوب 4    

1. استئذانه أيوب للكلام

فَأَجَابَ أَلِيفَازُ التَّيْمَانِيُّ: [1]

تكشف هذه المقدمة أن الأصدقاء الثلاثة قد تحاوروا معًا واتفقوا على مواجهة أيوب بأسلوبٍ جادٍ، إذ حسبوه أنه قد خدعهم وخدع الشعب بما أظهره من تقوى وعبادة وعطاء للغير. وأن ظاهره يخفي شرورًا خفية لا يعملها أحد سوى الله.

يقول الأب هيسيخيوس الأورشليمي بأن أليفاز تحدث في غير خجلٍ مع أيوب بروحٍ غير لائقة، فكان كمن يود أن يطيح بهذا البرج الثابت القوي والراسخ. وقد لاحظ أن أيوب فتح فاه (3: 1)، أما أليفاز فأجاب (4: 1). الأول تحدث في براءة، فتح فاه لينطق بكلمات لكي يجد في أصدقائه تعزية لما حلٌ به، أما أليفاز فأجاب كمن حمل هو وأصدقاؤه في داخلهم صراعًا مريرًا، مشتهين أن يحطموه. جاءت كلمات أليفاز إجابة على تساؤلات في نفسه وثورة في داخله!

إِنِ أمْتَحَنَ أَحَدٌ كَلِمَةً مَعَكَ فَهَلْ تَسْتَاءُ؟

وَلَكِنْ مَنْ يَسْتَطِيعُ الاِمْتِنَاعَ عَنِ الْكَلاَمِ! [2]

يبدو أن الأصدقاء بالرغم من صمتهم كانوا يحملون في داخلهم كبتًا لغليان في قلوبهم. يتطلعون إلى أيوب في المزبلة لا بعيني الشفقة، بل بضيقٍ شديدٍ أنه خدعهم وخدع كل من هم حوله، لكن لم يكن ممكنًا للخداع أن يدوم، إذ فضحه الله على شروره وخداعه.

إذ فتح أيوب فمه وتذمَّر، حسبوا أنه قد تجاوز الحٌَد جدًا، ولن يستطيعوا بعد الصمت. إنهم احتملوه طوال الأسبوع حين كان صامتًا، واحتملوا خداعه. الآن بعد أن تذمر وسٌَب يوم ميلاده يحسبون أنفسهم رجال الله المدافعين عن عدل الله وبٌَره!

حسبوا تذمر أيوب وتساؤلاته فيها إهانة لعدل الله، لذا وجب عليهم أن يجيبوا على تساؤلاته في حزمٍ.

يبدأ حديثه بقوله: إن فحص أحد الأمر وتحدث معك بكلمة صريحة، فهل تستاء؟ ولكن حتى إن استأت فإننا لا نستطيع الصمت. يبدو كمن في أدبٍ واحتشامٍ يستأذن أن يتكلم الكل معه. وفي صراحة يحدثه بأنهم مع شعورهم بآلامه غير أنهم لا يستطيعون أن يداهنوه أو يتملقوه. ربما أراد أليفاز أن يطلب من أيوب ألا يسيء فهمهم، فيظن أنهم يقسون عليه، أو أنهم لا يبالون بما يعانيه، فهم لا يودون أن يضيفوا على أحزانه أحزانًا، بل أن يجدوا الباب السليم لعلاج الموقف.

*     أليفاز بالكلمات التي ينطق بها يضرب كما ببوق ليعلن الحرب ضد أيوب.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

*     ليس كل أحدٍ قادرًا على معرفة كيف يخدم من هم في مثل هذه المحن. كثيرون غالبًا ما يضيفون آلامًا إلى الألم، البعض بخسةٍ، وآخرون بغباوةٍ.

من الواضح أن هؤلاء الذين تعهدوا بتقديم كلمات تعزية كانوا بلا خبرة في هذا الأمر، وذلك كالأطباء الذين يزيدون الجراحات. لذلك استحقوا بالحق أن يُدعوا من أيوب أطباء أشرارًا (راجع أي 13:4)، هؤلاء الذين ألهبوا الجرح عن حقدٍ فيهم.

إنه نوع من الخسةٍ أن يظهروا حقدًا بثورةٍ عنيفةٍ، وأن يحسدوا إنسانًا كان منطرحًا على الأرض، ويلقون به في مصاعبٍ لا حصر لها، ذاك الذي كان مستحقًا أن يكون موضع ترفقٍ.

لاحظوا كيف كانت كلماتهم ليست فقط خالية من التعزية، بل وسببت إحباطًا خطيرًا. أثاروا مناقشات طويلة باتهامات متجددة.، لهذا قيل: “لا تضف متاعب أكثر لقلبٍ متضايقٍ” (ابن سيراخ 3:4).

القديس يوحنا الذهبي الفم

جاءت الترجمة السبعينية: “هل تتكلم كثيرا في أسى؟” يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الأسى هنا يقصد بها” الخطية”، وكأنه يقول له: “تحت لسانك مشقة وألم”. (راجع مز 10: 7)

*     لم يقل أليفاز: هل ترتكب أعمالًا شريرة؟ و إنما قال: “هل تتكلم؟” لأن شهرة حياته كانت مشرقة في طول الأرض وعرضها، ففي كل موضع توجد شهادات عن فضيلته. لم يقل له: لا تقل إن أعمالك صالحة، لأن الخطية أحيانا تنبع من الكلمات.

*     “من يحتمل عنف كلماتك” (الترجمة السبعينية)… ماذا قال أيوب؟ لقد ترجى الموت والخلاص من الحياة الحاضرة. هل قال: “لقد لحقت بي شرور كثيرة هكذا بالرغم من بري وفضائلي العظيمة؟” لا، بل قال هكذا: أتوق أن أختفي مع الأشرار، مع خدامي، مع السقط، لأنال ذات ما ناله الأشرار. لم يقل: أنا الذي لي مثل هذه السمات وهذه الأهمية.

القديس يوحنا الذهبي الفم

2. مدحه أيوب

  بدأ أليفاز بمدحه لأيوب من جهة تعليمه وإرشاده وعطائه للكثيرين، وكان لا بُد أن يبدأ هكذا، لأن حياته العملية تشهد بذلك. فمن جهة أراد أن يبرز أنه إنسان عادل لا يغالط الواقع، ومن جانب آخر أراد أن يستخدم هذا المديح للهجوم على أيوب كرجلٍ باطلٍ.

على أي الأحوال كلمات أليفاز كشفت لنا عن شخصية أيوب كقائدٍ حي يحمل روح الأبوة من جهة اهتمامه بإرشاده للكثيرين، وسخائه في العطاء.

هَا أَنْتَ قَدْ أَرْشَدْتَ كَثِيرِينَ،

وَشَدَّدْتَ أَيَادِيَ مُرْتَخِيَةً [3].

يمتدحه كمعلمٍ ومرشدٍ عملي، فقد علّم الكثيرين وشدَّد الأيادي المرتخية لكي تعمل وتخدم. لكنه كمن يقول له: إن كنت قد شددت الآخرين بغناك، فلماذا لا تقدر أن تشدد نفسك؟

*     لنتأمل العلو الشاهق الذي بلغه الرجل، بإرشاده الجهلاء، ومساندته للضعفاء، وتشديده للمتراخين، وذلك وسط اهتمامات بيته، والتزاماته المتعددة، وقلقه نحو أولاده، ومتابعة أعمال كثيرة، فقد كرس نفسه أن يضع الآخرين على الطريق المستقيم. لكن كل الهراطقة والأشرار إذ يسجلون سمو الصالحين يحولون هذا السمو إلى اتهامات..هكذا يبحث (أليفاز) عن فرصة ليسب الطوباوي أيوب من نفس الزاوية التي يروي فيها عن أمور ممدوحة عنه.

البابا غريغوريوس (الكبير)

شكرًا لأليفاز الذي – وإن كان عن علة وليس عن حب – قدم لنا جانبًا رائعًا من جوانب شخصية أيوب. فإنه كملكٍ أو حاكمٍ أو رئيس قبيلةٍ لم يكن بالرجل المحب للسلطة يأمر وينهي، لكنه في أبوة يرشد وينصح ويشدد الأيادي المرتخية.

فإنه يوجد مرشدون كثيرون لكنهم لا يسندون الضعفاء، ولا يحملون روح الأبوة. يقول القديس بولس: “لأنه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح، لكن ليس آباء كثيرون، لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل” (1 كو 15:4). المرشد الروحي الحقيقي يحمل روح الحق، الروح القدس، روح الحب، الذي يقول عنه السيد المسيح: “متى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق” (يو13:16). من يحمل روح الحق يقدم مع الإرشاد عونًا عمليًا، مشددًا الأيادي المرتخية، وكما يقول الرسول: “شجعوا صغار النفوس، أسندوا الضعفاء، تأنوا على الجميع” (1 تس14:5).

يرى القديس أغسطينوس أن هذا هو أسلوب من يقدم الدواء لمواطني مدينة الله أثناء رحلتهم على الأرض، لكي يعمل الروح القدس، واهبًا الشفاء للنفوس المريضة حتى تتمتع بالبلوغ إلى الموطن السماوي(191).

*     إن كنا نبغض الأشرار والعصاة، فإننا بالتالي نكره الخطاة. هكذا، فإنه بالتبعية تجد أنك قد قطعت نفسك من أغلب اخوتك، بالحقيقة تقطعها من الجميع، فإنه لا يوجد أحد بلا خطية.

إن كان يلزمنا أن نكره أعداء الله أشر من الوحوش المفترسة، فإننا نأنف من الكل وننتفخ بالكبرياء مثل الفريسي.

يأمرنا بولس بغير هذا: “أنذروا الذين بلا ترتيب، شجعوا صغار النفوس، أسندوا الضعفاء، تأنوا على الجميع” (1 تس 5: 14)(192).

*     “وإن كان لكم ربوات من المرشدين… لكن ليس آباء كثيرون” (1 كو 15:4)… لا يطلب بولس هنا أية كرامة، بل بالحري يظهر عمق حبه. فالكرامة خاصة بالمرشد، والحب علامة الأب(193).

القديس يوحنا ذهبي الفم

قَدْ أَقَامَ كَلاَمُكَ الْعَاثِرَ،

وَثَبَّتَّ الرُّكَبَ الْمُرْتَعِشَةَ [4].

كم شدد أيوب الأيادي المرتخية للعمل اللائق، أمسك بأيدي المتعثرين ورفعهم من التراب، وشدَّد ركبهم لتحملهم على السير في طريق الحياة بقوة الله. هكذا مدحه أليفاز حتى متى وبخه لا يظن أيوب أنه متحامل عليه، أو متجاهل ماضيه بكل حسناته. لقد عزى أيوب الكثيرين، فيستحق أن يجد من يعزيه.

يرى بعض المفسرين أن أليفاز أورد هذا لتوبيخ أيوب، وكأنه يقول له:

[أنت الذي أرشدت الكثيرين، لماذا لا ترشد نفسك؟

وشددت أيادي متراخية، فلماذا لم تجد راحة لضعفك؟

وإن كنت قد اعنت العاثرين بالكلام، فلماذا أنت منطرح على الأرض بجسدك كما بنفسك؟

إن كنت قد ثبَّت الركب المرتعشة، فلماذا لم تشجع نفسك، بل أنت منهار أمام الأمراض التي حلت بك، سالكًا كما لو كنت مفلوجًا؟

أليس هذا دليلًا على ريائك، لأنك تقدم الدواء لغيرك وترفض أنت أن تقبله للشفاء من مرضك؟ الذي تعلم غيرك ألا ينهاروا هل أنت تنهار؟ “أيها الطبيب أشفِ نفسك” (لو 4: 22).

أنظر فإن حديثك السابق ربما كان باطلًا، أما الخير الذي فعلته ففيه غباوة!]

*     إن إهمالنا لاخوتنا ليس بالخطأ الهين، إنما يجلب علينا عقوبة عظيمة وتأديبًا بغير رحمة…

مداومة النصيحة والتعليم تجعل الإنسان مجتهدًا، وتصيره إلى حال أفضل، وفي هذا أقتبس المثل العام الذي يؤكد هذه الحقيقة وهو أن “قطرات الماء المتواترة تشقق الصخر”.

أي شيء ألين من الماء؟! وأي شيء أصلب من الصخر؟! ومع هذا موالاة العمل باستمرار يغلب الطبيعة. فإن كان هذا بالنسبة للطبيعة، أليس بالأولى تغلب الطبيعة البشرية…؟!

يا له من جزء كبير من جسد الكنيسة يشبه الميت الذي بلا حراك!!

تقولون: وماذا يخصنا نحن في هذا؟

إن لديكم إمكانية عظمي بخصوص إخوتكم. فإنكم مسئولون إن كنتم لا تنصحونهم، وتصدون عنهم الشر، وتجتذبونهم إلى هنا بقوة، وتسحبونهم من تراخيهم الشديد. لأنه هل يليق بالإنسان أن يكون نافعًا لنفسه وحده، ولا يكون نافعًا لنفسه ولكثيرين أيضًا؟

لقد أوضح السيد المسيح ذلك عندما دعانا “ملحًا” (مت 5: 13)، و“خميرة” (مت 13: 33)، و“نورًا” (مت 5: 14)، لأن هذه الأشياء مفيدة للغير ونافعة لهم.

فالمصباح لا يضيء لذاته بل للجالسين في الظلمة. وأنت مصباح، لا لتتمتع بالنور وحدك، إنما لترد إنسانًا ضل، لأنه أي نفع لمسيحي لا يفيد غيره؟! ولا يرد أحدًا إلي الفضيلة؟!

مرة أخرى، الملح لا يُصلح نفسه بل يصلح الطعام لئلا يفسد ويهلك… هكذا جعلك الله ملحًا روحيًا، لتربط الأعضاء الفاسدة أي الأخوة المتكاسلين المتراخين، وتشددهم وتنقذهم من الكسل كما من الفساد، وتربطهم مع بقية جسد الكنيسة.

وهذا هو السبب الذي لأجله دعانا الرب “خميرًا”، لأن الخميرة أيضًا لا تخمر ذاتها، لكن بالرغم من صغرها فإنها تخمر العجين كله مهما بلغ حجمه. هكذا افعلوا أنتم أيضًا. فإنكم وإن كنتم قليلين من جهة العدد، لكن كونوا كثيرين وأقوياء في الإيمان والغيرة نحو الله. وكما أن الخميرة ليست ضعيفة بالنسبة لصغرها، إذ لها قوة وإمكانية من جهة طبيعتها… هكذا يمكنكم إن أردتم أن تجتذبوا أعدادًا أكثر منكم ويكون لهم نفس المستوى من جهة الغيرة…

من أجل هذا لا تجتمعوا هنا باطلًا. بل لا أكف عن أن أتوسل إليكم بكل غيرةٍ كما كنت أفعل من قبل قائلًا: “تعالوا بإخوتكم إلى هنا. أرشدوا إلى هنا. أرشدوا الضالين. علموهم بالعمل لا بالكلام فقط”…

ليت إله السلام والمحبة، الذي ينزع عن أرواحنا كل حنقٍ ومرارةٍ وغضبٍ، يتنازل ويهبنا – بارتباطنا مع بعضنا البعض في وحدة تامة كما ترتبط الأعضاء مع بعضها البعض (أف 4: 16) – أن نقدم له باتفاقٍ واحدٍ وفمٍ واحدٍ وروحٍ واحدٍ تسبيح شكرنا الواجبة له(194).

القديس يوحنا الذهبي الفم

إن تجاهلنا نية أليفاز فإننا نجد شهادة حيَّة لرجل تقي لا ينتسب لإسحق بن إبراهيم، ملك وليس كاهنًا لشعبٍ ما، ومع هذا فقد وضع في قلبه التقي مساندة المتعثرين وتشديد الركب المرتعشة. إنه سيَدين الكثيرين من خدام الله وكهنته في العهد القديم كما في العهد الجديد. فليس من عملٍ رعويٍ أعظم من الانحناء نحو الساقطين أرضًا لنمسك بأياديهم ونقوم معهم. فإن كان الكلمة الإلهي قد تجسد ونزل إلى أرضنا في تواضعٍ، وحملنا فيه إلى السماء، هكذا يليق بكل خادمٍ، بل وبكل مؤمنٍ أن يسند ويعين حتى يتمتع الكل بالشركة مع الله.

لقد قدم لنا أليفاز بعرضه لسمات أيوب منهجًا حيًا للرعاية بل وللحياة الإيمانية، وكيف يهتم كل مؤمن بحياة أخيه خلال الحب، دون تجاهل لاهتمامه بخلاص نفسه وخلاص أهل بيته.

3. توبيخه على عدم ثباته

وَالآنَ إِذْ جَاءَ عَلَيْكَ ضَجِرْتَ!

إِذْ مَسَّكَ ارْتَعْتَ! [5]

يوبخ أليفاز أيوب قائلًا له إنه إذ جاء دوره ليشرب كأس الضيق خرّ وضجر وارتعب. هنا يبدأ الهجوم ليتهمه بالرياء. كأنه يقول له: حين كنت في رخاءٍ كنت تجيد التعليم، لكن إذ سقطت فيما يسقط فيه غيرك انفضح ضعفك، ونفد صبرك.

*     يحارب أصحاب الأذهان المولعة بالجدال حياة الأبرار بطريقتين. إما بتأكيد أن ما ينطقون به خطأ، أو أنهم ينطقون بالحق الذي لا يلاحظونه في سلوكهم. هكذا وُبخ الطوباوي أيوب من أصحابه على طريقة حديثه. يشجعونه لأنه ينطق بأمور صادقة، لكنه لا يحفظها هو… لاحظوا كيف امتدحوه أولًا على لسانه، ثم اشتكوا من ضعف حياته. فإن الأشرار لكي لا يُظهروا أنفسهم أنهم أشرار يقولون أحيانًا أمورًا صالحة عن الأبرار، إذ يعلمون أن الغير يعرفون عنهم هذا.

البابا غريغوريوس (الكبير)

يبرر القديس يوحنا ذهبي الفم ضيق أيوب وتصرفاته، إذ هي رد فعل طبيعي لكثرة الكوارث وشدتها وسرعة حدوثها فجأة، هذا بجانب تصرفات أصدقائه واتهاماتهم له بطريقة مثيرة.

لا يمكننا أن نتجاهل أنه يليق بالقائد وهو في مركز القائد والمرشد والأب ألا يضطرب سريعًا أمام المحن، ليكون سٌر قوة وتعزية لغيره.

*     ليس هناك من يلحق الأذى بالكنيسة أكثر من أولئك الذين لهم صورة القداسة ولقبها ولكنهم يتصرفون تصرفًا فاسدًا. ومن الخطأ الفادح أن نعهد بمكانة الرعاية إلى شخصٍ مقصرٍ حيث أن الرعاية هي القدوة. إساءة اختيار الراعي ينتج عنه عواقب وخيمة، إذ أنه وهو في الخطية، يأخذ كرامة من أجل هذه المكانة التي أخذها. فليهرب كل إنسان غير مستحق من ثقل هذا الإثم العظيم وليتأمل مصغيا بأذني قلبه لهذا الصوت القائل: “ومن أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي، فخير له أن يُعلق في عنقه حجر الرحى، ويغرق في لجة البحر.” (مت 18: 6، لو 17: 2). هنا يرمز حجر الرحى إلى دوامة الحياة، وتشير لجة البحر إلى الهلاك الأبدي. إنه من الأفضل كثيرًا أن يهلك إنسان علماني بمفرده لبس ثوب القداسة صوريًا من أن يخلع هذا الإنسان على نفسه ثوب الرعاية ويُهلك الآخرين بقدوته الشريرة. وإني على يقين من أن عقاب الجحيم سيكون أخف وطأة لو سقط هذا الإنسان فيه بمفرده دون أن يكون سببًا في سقوط آخرين معه(195).

البابا غريغوريوس (الكبير)

*     بالرغم من أنه قد يحفظ الإنسان نفسه نقيَّة من الخطيَّة. ولو في درجات سامية، لكنَّني أعرف أن من كان هذا حاله لا يقدر أن يقود الآخرين إلى الفضيلة. فمن تسلَّم رعاية شعب لا يكفيه التحرَّر من الخطيَّة… بل يلزمه أن يرتفع في صنع الخير كقول الوصيَّة “حد عن الشر وافعل الخير” (مز 37: 27).

فينبغي عليه، لا أن تُمسح آثار الرذيلة من روحه فقط، بل وتكون مزودة بالفضائل، حتى يفوقهم بالحري في الفضيلة أكثر من سموُّه عليهم من جهة الكرامة.

يلزمه ألاَّ يعرف حدودًا لصنع الخير أو النمو الروحي، ولا يظنه ربحًا عظيمًا مجرَّد تفوقه على العاديِّين.

يجب ألاَّ يقيس نفسه بالآخرين، أشرارًا كانوا أو إلى حد ما متقدمين روحيًا، بل يقيس نفسه على ضوء الوصايا. فلا يقيس الفضيلة في ميزان صغير، طالما هي نابعة من الله الأعظم إذ “منه وبه وله كل الأشياء” (رو 11: 36).

القديس غريغوريوس النزينزي

أَلَيْسَتْ تَقْوَاكَ هِيَ مُعْتَمَدَكَ،

وَرَجَاؤُكَ كَمَالَ طُرُقِكَ؟ [6]

هنا يوبخه على ما أظهره من تقوى أثناء رخائه، فأين هذه التقوى؟ وأين رجاؤك واستقامة طريقك؟ أليست هذه كلها ادعاءات باطلة لا جذور لها في أعماقك؟

لقد تمم أليفاز عمل الشيطان وخدم مصالحه، إذ أراد أن يثير أيوب على التجديف على الله، باتهامه بالرياء، وأن تقواه ورجاءه واستقامته هذه كلها كانت مظاهر باطلة.

*     “أليست تقواك قامت على الغباوة، وأيضًا رجاؤك وكمال طريقك؟” (LXX) بهذا يطلب أن يشوه أعماله الفاضلة السابقة… إنه يطعن في نية أيوب وهو يعمل. إنه يعنى إما أنك لم تعمل أو أن حياتك مملوءة خداعًا، أو أنك لم تتقِ الله بنية مستقيمة، بل كان كله كلامًا مجردًا. رجاؤك بلا تعقل، إنه مملوء غباوة… لو إن أعمالك صادقة، وحياتك نقية، ما كنت تخشى هذه الشرور…

ها أنتم ترون كيف يهاجمه أليفاز، يصارعه، ويبذل كل الجهود ليبرهن أن حماقته جلبت عليه هذه الأتعاب…

“بوصايا الرب يبيدون” (9 LXX). لاحظوا أمرًا آخر.. يقول: لا تظنوا أن الشياطين والناس الأشرار المملوئين حقدًا مسئولون عما حلّ بك. فإن الله يؤدبك، لهذا فإن التأديب عن عدلٍ دون جدالٍ.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يعلق البابا غريغوريوس (الكبير) على هذه العبارة :”أين خوفك (تقواك)، وقوتك، وصبرك، وكمال طرقك؟” بأنه وإن كان قد سبّه عن غير حقٍ إلا أنه وصف بدقة تدبير الفضائل وسُلمها أو درجاتها، وهو مخافة الرب، ثم الثقة في الله، فالصبر، وأخيرًا بلوغ الكمال:

أ. المخافة الربانية أو التقوى هي بدء الطريق. “في مخافة الرب ثقة شديدة” (أم 14: 26).

*     ليتنا لا نحسب الغنى أمرًا صالحًا للغاية، فإن الصلاح العظيم، لا أن تملك مالًا، بل تقتني مخافة الرب وكل دروب التقوى(196).

*     الخوف ليس بأقل من السور والحماية والبرج المنيع(197).

 القديس يوحنا الذهبي الفم

ب. خلال مخافة الرب نعبر إلى القوة أو “الثقة القوية في الله” هذه التي لا تظهر إلا في المحنة.

*     مخافة الرب تحوي كل تلك المتطلبات (للفرح المستمر). لأن الإنسان الذي يخاف الرب كما يليق، ويثق فيه، يجمع كل مصادر السعادة، ويقتني الينبوع الكامل للبهجة. كما أن نقطة ماء تسقط في محيط متسع سرعان ما تختفي، هكذا مهما حلّ بمن يخاف الرب يتبدد ويزول في محيط الفرح الهائل.

حقًا إنه لأمر عجيب للغاية، فإنه مع وجود ما يسبب الحزن تجد الإنسان متهللًا. فإنه إذ لا يوجد شيء ما يجلب حزنًا، فإن هذا المر يكون بلا قيمة عنده مقابل تمتعه بالفرح الدائم(198).

القديس يوحنا الذهبي الفم

ج. خلال الثقة في الرب يتمتع المؤمن بالصبر. فالإنسان يتزكى بمعنى الكلمة وينمو في القوة باحتماله أخطاء الغير. فمن لا يقدر على مواجهة من يعارضه يُجرح بسيف الجُبن.

*     لمدة أربعة أيام نحن مشغولون في شرح مثل لعازر (والغني)، مقدمين الكنز الذي نجده في جسم مُغطى بالقروح. كنز ليس من ذهب وفضة، بل من الحكمة والتجلد، من الصبر والاحتمال(199).

القديس يوحنا الذهبي الفم

د. أما الصبر فيقود إلى الكمال. فالإنسان يكون بالحق كاملًا متى كان طويل الأناة على ضعفات الغير. “بصبركم تقتنون أنفسكم” (لو 21: 19).

هذا هو سلم الكمالمخافة الرب وتقواه تهبنا الثقة فيه، وهذه تهبنا قوة وسط المحن، هذه القوة تقدم لنا صبرًا في احتمال الغير بضعفاتهم، وبهذا الصبر نبلغ طرق الكمال.

*     يوجد شكلان للكمال، شكل عادي، وآخر علوي. واحد يُقتني هنا، والآخر فيما بعد. واحد حسب القدرات البشرية، والآخر خاص بكمال العالم العتيد، أما الله فعادل خلال الكل، حكيم فوق الكل، كامل في الكل(200).

القديس أمبروسيوس

*     يتحدث الرسول عن نفسه أنه كامل وغير كامل. فيحسب نفسه غير كاملٍ، متطلعًا كم من برّ لا يزال ينقصه، لكنه كامل حيث لا يستحي من أن يعترف بعدم كماله وأنه يتقدم لكي يبلغ الكمال(201).

القديس أغسطينوس

4. مبدأ لاهوتي عام

اُذْكُرْ مَنْ هَلَكَ وَهُوَ بَرِيءٌ،

وَأَيْنَ أُبِيدَ الْمُسْتَقِيمُونَ؟ [7]

يقدم أليفاز برهانًا عمليًا على ما وجهه إليه من اتهام. فإنه – في رأى أليفاز – لا يوجد إنسان بار قد هلك، ولا مستقيم قد أُبيد. يطلب منه مثلًا واحدًا خلال خبرة أيوب الطويلة في كل عمره عن بارٍ أو مستقيمٍ قد حلّ به ما حلّ بأيوب.

هذا مبدأ لاهوتي أخلاقي كان سائدًا في أذهان الكثيرين، فإنه حتى بعد الشريعة كان داود يدهش معاتبًا الرب كيف يُنجح طريق الأشرار، ويسمح بالضيقات للأبرار. لكن سرعان ما يكتشف الحقيقة، فإنه حتمًا ينال الأبرار مكافأتهم السماوية، ويسقط الأشرار المصرون على شرهم تحت الدينونة. يقول المرتل: “لا تغر من الأشرار، ولا تحسد عمال الإثم، فإنهم مثل الحشيش سريعًا يُقطعون، ومثل العشب الأخضر يذبلون… قد رأيت الشرير عاتيًا وارفًا مثل شجرة ناضرة، عبر فإذا هو ليس بموجود، التمسته فلم يوجد… أما خلاص الصديقين فمن قبل الرب، حصنهم في زمان الضيق” (مز 37).

حديث أليفاز صادق لو أنه قصد بالهلاك والإبادة ما هو أبدي، أما أن يطبقه على النكبات الزمنية فغير صحيح. لهذا فإن حديثه لا ينطبق على أيوب إذ لم يكن قد هلك أبديًا.

يقول النبي: “باد الصديق” (إش 57: 1). ويقول الحكيم: “حادثة واحدة للصديق وللشرير” (جا 9: 2)، حتى تنتهي الحياة الزمنية وفي يوم الرب ينفصل هذا عن ذاك.

*     “أي بريء يهلك؟ وأين يبيد المستقيمون؟” لكن غالبًا ما يحدث في هذه الحياة أن يهلك البريء، ويبيد المستقيمون تمامًا، لكن في هلاكهم يُحفظون للمجد الأبدي. لو أن ليس من بريء يهلك، لما قال النبي: “باد الصديق، وليس أحد يضع ذلك في قلبه” (إش 57: 1). لو أن الله في عنايته لم يبد المستقيمين لما قالت الحكمة عن الصديق: “نعم بسرعة قد أُخذ، لئلا يحول الشر فهمه” (حك 4: 11).

البابا غريغوريوس (الكبير)

*     الإنسان الشرير غير المؤمن حتى إن افترضنا أنه يلتحف بجسمٍ سماويٍ يبقى عاريًا لأنه لا يفعل شيئًا لينال رداء الإنسان الداخلي(202).

القديس ديديموس الضرير

*     يا لنفع التجارب والآلام التي يحسبها البعض شريرة، فلا يحاول القديسون تجنُّبها، بل بالحق يطلبونها بكل قوتهم، محتملين إياها بشجاعة، وبهذا يصيرون أحباء لله، ويحصلون على إكليل الحياة الأبديّة… ويتغنى الرسول الطوباوي قائلًا: “أُسر بالضعفات والشتائم والضرورات والضيقات لأجل المسيح. لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي” (2 كو 12: 10)(203).

الأب تادرس

كَمَا قَدْ رَأَيْتَ أَنَّ الْحَارِثِينَ إِثْمًا

وَالزَّارِعِينَ شَقَاوَةً يَحْصُدُونَهُمَا [8].

يعتمد أليفاز في حججه على عاملين رئيسيين: خبرته وملاحظاته الشخصية: “كما قد رأيت” [8]، ورؤى الليل [13 إلخ].

ظن أليفاز أنه خلال ملاحظاته يقدم نظرية دقيقة، فقد وجد خلال إحصائياته أن الأشرار تحل بهم الكوارث بما يتناسب مع شرورهم أي في عدالةٍ، لكن أيوب كذَّب هذه النظرية (17:21 إلخ).

يبدو أن أليفاز لم يتفاعل مع شدة الضيق الذي حلّ بأيوب، فحسب أن ما حلٌ به آلام بسيطة تتناسب مع شروره الخفية، أما شره الخطير فهو مبالغته في التذمر على الله.

بهذا كان أليفاز يترجى أن يقدم أيوب توبة عن شروره الخفية فتزول عنه الضيقات، أما سبه ليوم ميلاده، فهذا ما يحطمه تمامًا!

يتحقق هذا يوميًا فما يزرعه الإنسان إياه يحصد، وكما كتب الرسول بولس: “إذ هو عادل عند الله أن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقًا” (2 تس 1: 6). وقيل: “إن كان أحد يجمع سبيًا، فإلى السبي يذهب، وإن كان أحد يقتل بالسيف، فينبغي أن يُقتل بالسيف” (رؤ 13: 10). لكن الله في طول أناته ينتظر توبة الأشرار، وفي محبته يسمح بالضيق للأبرار لكي يتزكوا.

كان أصدقاء أيوب يضغطون عليه، أولئك الذين جاءوا لتعزيته! وكأعداءٍ كانوا يزعجونه بكلمات مرّة.

*     التعزية الوحيدة للذين يجدون أنفسهم في بؤسٍ وحزنٍ، هي أن يتبرأوا من الذنب، حتى لا يظهروا وقد حملوا آلامهم ومصائبهم كعقابٍ للخطية. لكن كان يبدو على أصدقائه أنهم يحاولون نزع حتى هذه التعزية من القديس أيوب، ليبدو أنه هو المسبب لتعاسته، كمن جلب غضب الرب بآثامه الخطيرة، وأنه يتكبد تلك الضيقات ثمنًا لأعماله الشريرة! وقد وصفوا عقوبات الأشرار (قابل أي 8:4-9)، الذين غرسوا رذائل، فحصدوا أحزانًا لأنفسهم! هؤلاء هلكوا بأمر الله، لأنهم فنوا بنسمة غضبه، التي هبت على الساكنين بيوتًا من طين فذبلوا (قابل أي 19:4، 21 LXX)، وينبذ الله تخطيطات الماكر، ويسد فم الشرير (قابل أي 13:5، 16LXX )، وما زعمه الأصدقاء كان صحيحًا فيما يختص بقوة الرب، لكنه غير صحيح بالنسبة لاستحقاقات ذلك الإنسان العظيم البارة(204).

القديس أمبروسيوس

بِنَسَمَةِ اللهِ يَبِيدُونَ،

وَبِرِيحِ أَنْفِهِ يَفْنُونَ [9].

كل ما يدبره الأشرار ويخططون له يبيد بنسمة من الله، فتفشل كل تدابيرهم الشريرة. هذه حقيقة، إن الله يطيل أناته على الأشرار كما أطال أناته على فرعون مصر أيام موسى النبي، لكن إذ يمتلئ كأس شرهم يبيدهم حتى لا تستقر عصا الخطاة على الصديقين، فأهلك فرعون وجيشه في بحر سوف. هذا لا ينطبق على أيوب، لأن ما حلٌ به كان لتزكيته وليس لأبادته.

أراد أليفاز أن يُرعب أيوب أن ما حلٌ به من كوارث مُرة ليست إلا البداية، وأنه إن لم يعترف بشروره الخفية، وينزع عن كبريائه فمصيره الإبادة والفناء.

*     (كأن أليفاز يتهمه هكذا:) إنك لست كما تظن في نفسك، في كبريائك، فإنك تسعى بالخداع أن تجعل الآخرين يحسبونك هكذا. أنظر ما قد صنعت حقًا كما هو واضح من فساد جسدك. كما هلك نسلك أيضًا، وأفضل ثروتك، وكل مالك، وتاج ميراثك. فإنك بالحق لست طاهرًا، وحقًا كما تظن. يا لك من مريض في هذا الأمر… فإنه ليس ظلمًا وبلا سبب قد ابتلعتك هذه المصائب، وإنما هي متناغمة مع العدالة، إذ صوبها الله عليك.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

على كل الأحوال، إن كان كل من الصديق والشرير يتعرض للتجارب والضيقات، فإن الأول تتهلل نفسه داخله وسط الآلام لأنه يتقبل الضيقات من يدي الله لتنقيته وتزكيته. أما الشرير فإنه يئن في داخله، ويجد نفسه كمن سقط في شبكة، وله أن يراجع نفسه فيرجع إلى الرب مخلصه، أو يصمم في غباوة وعناء على شره، فيسقط في مرارة في هذا العالم كما في الدهر الآتي.

*     “الرب يمتحن الصديق، أما الشرير ومحب الظلم فتبغضه نفسه” (مز 5:11)… إنه يزكي صديقيه بامتحانهم، أما الأشرار فيبغضهم. نفسه تمقت الأشرار المحبين للظلم…

إنه ديان للصديقين والأشرار، فيُدان الأشرار لأنهم بحبهم للظلم يمقتون أنفسهم… وكما يقول سليمان في الأمثال: “من يرفض التأديب يرذل نفسه” (أم 32:15). إن كان الذي يحب الظلم يحتقر نفسه، فإن من يحب البرّ يحب نفسه”؛ وهذا يتناغم مع المثل: “من يقتني الحكمة يحب نفسه” (راجع أم 8:19)…

“يمطر على الأشرار فخاخًا” (مز 6:11). بلا شك، لأنه الرب الذي يقيم فخاخًا للخطاة أنفسهم، لكي يصطاد هؤلاء الذين أفسدوا حريتهم ويلزمهم أن يسلكوا الطريق المستقيم تحت لجامه، فيعطيهم إمكانية التقدم بالقائل: “أنا هو الطريق” (يو 6:14)(205).

*     “ما أحلى مساكنك يا رب الجنود!” (مز1:84)، ففيها يتحول سكن الإنسان من الأرض إلى السماء… العقل والقلب المملوءان بالشوق إلى مسكن الرب مثمران وسعيدان! عندما يحل الموت بالخاطي لا يجد فكره مشغولًا بهذا المسكن بل بالعقوبات. إنه لا يتأمل في ملكوت السماوات، بل في رعب لهيب جهنم(206).

*     “الأشرار كالتراب الذي يذريه الريح” (مز 4:1). يقول الكتاب المقدس إن الشرير سيكون بائسًا، فلا يكون حتى كتراب الأرض. فالتراب يبدو كأن ليس له كيان، لكن حتمًا له نوع من الوجود في ذاته… إنه يتبعثر هنا وهناك وليس له موضع واحد بل يجرفه الريح، وليس له قوة للمقاومة. نفس الأمر بالنسبة للشرير. ما أن ينكر الله حتى تجرفه نسمة الشيطان بالضلال ويلقيه أينما أراد(207).

*     بائس هو الإنسان الذي له أقنعة للشر، وسعيد هو الإنسان الذي له أقنعة كثيرة للصلاح(208).

القديس جيروم

زَمْجَرَةُ الأَسَدِ وَصَوْتُ الزَّئِيرِ،

وَأَنْيَابُ الأَشْبَالِ تَكَسَّرَتْ [10].

يشبه الظالمين والمضطهدين القساة بأسودٍ مزمجرة زائرة. خلال العدالة الإلهية يتوقف صوت زئيرهم، فلا يعود صوتهم يرعب في البرية أو الغابات. وأسنانهم تتكسر فيعجزون عن التمزيق، أي ينزع الله عنهم سلاحهم، ولا يعودون بعد قادرين على الافتراس [11] فيموتون جوعًا، ولا يتركون أشبالًا تخلفهم.

ربما أراد أليفاز أن يتهم أيوب بطريقة غير مباشرة، فيعلن له أنه كان كأسدٍ مفترسٍ، ليس في المنطقة من يقف أمام سطوته. كلماته كانت كزئير الأسد المرعب، ينهب ويفترس في ظلم واستبداد. لكن هوذا سطوته قد زالت، وثروته تبددت وأسرته قد ضاعت، ولا يوجد له ابن واحد كشبلٍ يحتل مركزه.

هكذا تحول أليفاز من المدح إلى الذم.

اَللَّيْثُ هَالِكٌ لِعَدَمِ الْفَرِيسَةِ،

وَأَشْبَالُ اللَّبْوَةِ تَبَدَّدَتْ [11].

*     من الأهون على الأسد أن يجبُن عن أن يسلك البار حياة سهلة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     يقارن أليفاز أيوب بأسدٍ بسبب قوته الملوكية، لكنه بحقٍ يضيف: “زمجرة اللبوة” (الترجمة السبعينية)، ملمحًا إلى عظمة فضيلة أيوب. أيضًا أضاف “غطرسة التنانين” إذ أرادت أن تتحدث عن روحه، إذ دعا هذا الوحش (التنين) ملكًا بين الزواحف. على أي الأحوال يقول أليفاز إن هذا كله ينكسر، إنها تطأ على آلام البار…

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

5. تعزيز رأيه برؤيا

ثُمَّ إِلَيَّ تَسَلَّلَتْ كَلِمَةٌ،

فَقَبِلَتْ أُذُنِي مِنْهَا هَمْسًا [12].

يروى هنا أليفاز لأيوب رؤيا شاهدها، يقدمها لإدانته. يرى البعض أن الله قد وهب أليفاز هذه الرؤيا ليهدئ نفسه، عندما سمع عما حلّ بأيوب. وأن هذه الرؤيا شاهدها قبل التقائه بأيوب المُجرب.

قدمت له هذه الرؤيا سرًا ككلمة تسللت إليه، كمن يهمس في أذنيه.

في تواضع اعترف أليفاز أنه قبل نصيبًا قليلًا من السرّ الإلهي ولم يدرك الرؤيا كلها كما ينبغي.

فِي الْهَوَاجِسِ مِنْ رُؤَى اللَّيْلِ،

عِنْدَ وُقُوعِ سُبَاتٍ عَلَى النَّاسِ [13].

في وسط الليل حين هدأ الناس ووقعوا في سبات، أي ناموا، كان أليفاز منشغلًا بما هو وراء ما حدث لأيوب، فأظهر له الله هذه الرؤيا. يدعونا المرتل داود أن نتكلم في قلوبنا مع الله، ونصمت حتى يتكلم الله معنا: “تكلموا في قلوبكم على مضاجعكم، واسكتوا” (مز 4: 4). وكما يقول القديس مار اسحق السرياني: “ليسكت فمك، فيتكلم قلبك، وليسكت قلبك فيتكلم الله”.

يليق بنا في الليل أن نذكر الله ونلهج بشريعته فيُعلن لنا أسراره وحكمته. “إذا ذكرتك على فراشي، في السهد ألهج بك” (مز 63: 6).

أَصَابَنِي رُعْبٌ وَرَعْدَةٌ،

فَرَجَفَتْ كُلُّ عِظَامِي [14].

يبدو أنه قبل أن يشاهد الرؤيا شعر برعدة تهز كل عظامه. امتلأ قلبه بمخافة الرب، وأدرك عظمته، وشعر بأنه أصغر من أن يعاتب الله. بهذا تهيأ لقبول الرسالة الإلهية. يحثنا المرتل: “اعبدوا الرب بخوفٍ واهتفوا برعدةً” (مز 2: 11).

فَمَرَّتْ رُوحٌ عَلَى وَجْهِي.

اقْشَعَرَّ شَعْرُ جَسَدِي [15].

مرّ بأليفاز روح، غالبًا ما كان ملاكًا مرسلًا من قبل الله، لخدمة الكلمة. وقد اقشعر شعر جلده، إذ صار السمائيون موضع رعب للإنسان منذ سقوط آدم، يخشى بلوغه رسالة مؤلمة، لا يتوقع أخبارًا طيبة.

في القديم التزم اللاويون أن يحلقوا كل شعر أجسادهم (عد 8: 7) بكونه يمثل أمورًا جسدية لا لزوم لها. هكذا أليفاز إذ يحمل شرًا نحو أيوب، لم يحتمل الروح يمر أمام وجهه، ففقد سلامه واضطرب كل كيانه حتى اقشعر شعر جسمه، علامة كمال اضطرابه حتى بالنسبة لما هو زائد في جسمه.

وَقَفَتْ، وَلَكِنِّي لَمْ أَعْرِفْ مَنْظَرَهَا.

شِبْهٌ قُدَّامَ عَيْنَيَّ [16].

رأى أليفاز الملاك بصورة جلية، جاز به قدامه كما لو كان خيالًا، “شبه قدام عيني“، أو كمن يرى في مرآة، لا يقدر أن يصفه “لم أعرف منظرها“.

جاءه الصوت خفيفًا، فإننا لا نسمع صوت الله الهادئ وسط الضجيج. فلم يلتقِ إيليا بالله وسط العاصفة، وإنما خلال الريح الهادئ الخفيف (1 مل 19: 11-13).

حمل أليفاز أفكارًا جسدانية مُرة من نحو أيوب، لذلك إذ عبر به الروح لم يستطع بفكره الجسداني أن يرى الأمور الروحية، إنما رأى ما هو أشبه بخيالات، ولم يقدر أن يميز صوت الروح الذي كان منخفضًا، لم تقدر أذناه على تمييزه. هكذا اعترف أليفاز دون أن يدري أنه فقد سلامه، فصارت رؤى الليل هواجس مزعجة. لم يستطع أن ينام ويستريح بينما كان البشر نائمين في سباتٍ. ارتجفت عظامه، واقشعر شعر جسمه، وارتبك ذهنه بخيالات. هذا ثمر الإنسان الفاسد الذي يحول الحق إلى باطل، ويفتري على إخوته ظلمًا.

سَمِعْتُ صَوْتًا مُنْخَفِضًا:

أَالإِنْسَانُ أَبَرُّ مِنَ اللهِ،

أَمِ الرَّجُلُ أَطْهَرُ مِنْ خَالِقِهِ؟ [17]

جاءت الرسالة لتوبيخ أيوب بسبب تذمره، فهو لا يجسر أن يدعي بأنه أبرّ من الله، ولا أطهر منه.

“ويل لمن يخاصم جابله… هل يقول الطين لجابله: ماذا تصنع؟” (إش 45: 9).

“أبرٌ أنت يا رب من أن أخاصمك” (إر 1:12).

“لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حيٌ” (مز 2:143).

“ليكن الله صادقًا، وكل إنسان كاذبًا، كما هو مكتوب لكي تتبرر في كلامك وتغلب متى حوكمت” (رو 4:3).

“لأنه بأعمال الناموس كل ذي جسدٍ لا يتبرر أمامه” (رو 20:3).

*     لكي يكون الإنسان بارًا يلزمه أن يحفظ الناموس في كل شيءٍ، الأمر الذي يكاد يكون مستحيلًا أن تحققه الطبيعة البشرية. فإذ كل إنسانٍ كاذب، لهذا فإنه في ذلك اليوم حين يأتي الرب ليدين البشرية، هو وحده يتبرر فيما يقوله، إذ كلماته حق في كل شيءٍ، هي كلمات الحق(209).

 العلامة أوريجينوس

*     إنني لا أثق في نفسي، بل أطلب المراحم التي للحق والعدل الذي لك. “لا تدخل في المحاكمة مع عبدك” (مز 2:143). كيف يعلن النبي بكل وضوح ثقته في حنو المسيح، عندما يقول: “لا تستدعِ عبدك للمحاكمة أمامك”(210).

 القديس جيروم

*     إن كان كل إنسانٍ كاذبًا، والله وحده هو حق، ماذا يليق بنا نحن خدام الله وأساقفته أن نفعل سوى أن ننبذ الأخطاء البشرية ونطيع وصايا الرب؟(211)

 الشهيد كبريانوس

هُوَذَا عَبِيدُهُ لاَ يَأْتَمِنُهُمْ،

وَإِلَى مَلاَئِكَتِهِ يَنْسِبُ حَمَاقَةً [18].

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم إنه يتحدث هنا عن القوات السمائية، فإن الله لا يأتمنهم بمعنى أن طبيعتهم غير معصومة من الخطأ.

يقول القديس باسيليوس في رسالته إلى أمفيليكوس إن للقوات السمائية حرية الإرادة ويمكن أن يميلوا إلى الخير أو إلى الشر، لذا فهم في حاجة إلى مساعدة الروح.

كما يقول في مقاله الثالث ضد أونوميوس إن السلاطين والرئاسات إلخ. لهم القداسة من جهادهم وتأملهم المستمر في الله، وليسوا قديسين من طبيعتهم الذاتية، وإنهم إذ يتوقون إلى الصلاح، ينالون القداسة حسب درجة محبتهم الخالصة لله.

وفي مقاله عن الثالوث يقول إن هؤلاء العلويين يستمدون القداسة من الروح القدس حسب رتبة كلٍ منهم. بهذا يظهر أنهم ليسوا صالحين بالطبيعة، بل بالحرية التي تجتذبهم إلى الصلاح والنعمة.

ما يحفظ الملائكة الآن من السقوط هو أن تأملهم في الله ينمو ويتزايد، والأمر الثاني إدراكهم للتجربة التي حلت بالطغمات الملائكية الساقطة بسبب كبريائهم، هذا مع مقاومتهم المستمرة للملائكة الأشرار يزيدهم شوقًا للصلاح وتذكية أمام الله.

*     تمثل الزنابق جمال الملائكة السمائيين البهي، الذين ألبسهم الله بهاء مجده. إنهم لم يتعبوا ولا غزلوا، إذ تقبلوا من البدء ما هم عليه دائمًا. وإذ في القيامة يصير الناس كالملائكة أراد أن نترجى جمال الثوب السماوي، فنكون كالملائكة في البهاء(212).

القديس هيلاري

*     حقًا يُحسب الناس والملائكة قساة إن قورنوا بك، فأنت وحدك الملك الكلي الحنو… نسألك أن تكون أنت الديان، لأنك تحنو على جميع الأمم!(213)

القديس جيروم

*     طبيعة الملاك ناطقة وعاقلة وحرة، قابلة للتغير، أي متحولة الإرادة. فإن كل مخلوق متحٌول، وغير المخلوق وحده لا يتحول. وكل ناطقٍ حرٍّ. بما أن طبيعته ناطقة وعاقلة فهي حرة، وبما أنها مخلوقة فهي متحٌولة (متغيرة)، لها القدرة على البقاء والتقدم في الصلاح، وعلى التحول إلى الشر…. والملاك خالد ليس بالطبيعة بل بالنعمة(214).

 الأب يوحنا الدمشقي

يبدو أن العبارات التالية ليست جزءً من الرؤيا، وإنما هو تعليق أليفاز.

حتى الملائكة مع أنها كائنات مقدسة لكنها لا تؤتمن على أسرار الله، بل يكشفها الله لمن يشاء. الله هو الراعي الصالح الذي يتعهد كرمه بنفسه، لا يسلم شئونه بالكامل في أيدي السمائيين أو الأرضيين، مهما بلغت طهارتهم أو قداستهم. فالملائكة أن قورنوا بالله حُسبوا حمقي، وإن قورنوا بحكمته حسبوا جهلاء.

*     ليس من حاجةٍ أن تخبر كيف لما عصى موسى وهرون أمر الله عند ماء المريبة لم يدخلا أرض الموعد (عد13:10)، فإن الطوباوي أيوب يروي أن الملائكة وكل خليقة يمكن أن تخطئ” (أي 18:4- المتكلم اليفاز)(215).

القديس جيروم

فَكَمْ بِالْحَرِيِّ سُكَّانُ بُيُوتٍ مِنْ طِينٍ،

الَّذِينَ أَسَاسُهُمْ فِي التُّرَابِ،

 وَيُسْحَقُونَ مِثْلَ الْعُثِّ؟ [19]

بمقارنة حكمة الملائكة بحكمة الله تُحسب الأولى حماقة، وبمقارنة حياة الإنسان الترابي بحياة الملائكة تحسب الأولى عثًا.

إن كان هذا بالنسبة للملائكة الساكنين في السماء، فماذا يكون الأمر بالنسبة للبشر سكان بيوتٍ من طين؟ لعله يقصد بالبيوت هنا الأجساد التي خُلقت من تراب. الملائكة لا يموتون، بينما البشر يُسحقون مثل العث بين أصابع اليد بسهولة وسرعة. فإن كان الله لا يأتمن ملائكته الساكنين معه في السماء، الأرواح النقية، والخالدين، فهل يأتمن الإنسان الذي يسكن على الأرض، المخلوق من تراب، ويموت لأتفه الأسباب كما يُسحق العث؟

*     إننا نسكن بيوتًا من طين، إذ نحن نوجد في أجسام أرضية. إذ تأمل بولس ذلك حسنًا قال: “ولكن لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية” وأيضًا: “لأننا نعلم أنه إن نُقض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السماوات بناء من بيت الله بيت غير مصنوع بيدٍ” (2 كو 4: 7؛ 5:1).

البابا غريغوريوس (الكبير)

*     واضح أن الله لم يأتمن الأبرار كما تثق أنت في نفسك، إذ يعرف الله طبيعتهم وميل أجسادهم للسقوط. الملائكة الساقطون يدفعون (الله) أن يرفض الثقة، إذ يدرك فيهم فسادهم. لقد نزعهم عن كرامتهم الأصلية ورتبهم، وجعلهم منحطين، لأنهم فكروا بالشر عليه. إن كان الأمر هكذا بالنسبة لأولئك الذين لهم هذه الطبيعة وقد سكنوا في الأعالي بين القوات الفاضلة، إن كان هذا أمر الملائكة الذين بطبيعتهم أسمى منا، فماذا نقول عن الآخرين، عن البشر الذين لا يزالون خطاة؟ طبيعتهم ليست فقط ترابًا، ومساكنهم بين الخلائق مصنوعة من الطين (تك 2: 7) هؤلاء الذين بسهولة يفسدون كخطاة، كثوب يأكله العث (يع 5:2).

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

بَيْنَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ يُحَطَّمُونَ،

بِدُونِ مُنْتَبِهٍ إِلَيْهِمْ إِلَى الأَبَدِ يَبِيدُونَ [20].

ليس للإنسان أن يفتخر على الله، ولا يظن أنه صاحب معرفة، فربما بين صباح ومساء قبل عبور اليوم يموت الإنسان ولا يعود بعد يُوجد على الأرض. في كل يوم، بل مع كل دقيقة يموت بشر على وجه الأرض، ومع هذا لا يفكر أحد في موته، ليس من ينتبه إلى هذه الحقيقة ولا من يتعظ في جدية.

*     يُقطع الخاطي من الصباح وإلى المساء، أي من بدء حياته إلى نهايتها يُجرح بارتكابه الخطية… على عكس هذا بحق يحثنا بولس قائلًا: “مفتدين الوقت، لأن الأيام شريرة” (أف 16:5). نفتدي الوقت إن كنا بالدموع نصلح حياتنا الماضية، هذه التي فقدانها بالاستهتار.

البابا غريغوريوس (الكبير)

أَمَا انْتُزِعَتْ حِبَالُ خِيَامِهِمْ؟

يَمُوتُونَ بِلاَ حِكْمَةٍ [21].

تُنزع عنهم حكمتهم البشرية التي يعتزون بها، فيموتون وتموت معهم حكمتهم وتدابيرهم الحمقاء.

*     يقدم أليفاز اتهامًا ضد كل الخطاة بصفة عامة، ولم يخجل من أن يضع أيوب في عدادهم.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

*     كأنه يقول: هؤلاء الذين قلت عنهم “بلا فهم يهلكون إلى الأبد”، هؤلاء بالتأكيد يموتون بلا حكمة… إذ ينظر الأشرار إلى المختارين بطريقة منحطة لأنهم سائرون نحو حياة غير منظورة خلال الموت المنظور، لذلك قيل هنا حسنًا: “يموتون بلا حكمة“.. ولأن أليفاز قال هذه الأمور الصادقة في معناها وهي ضد الأشرار، إلا أنه حسب الطوباوي أيوب مستحقًا للوم، وتعالى في تشامخٍ بالحكمة.

البابا غريغوريوس (الكبير)

هذا ما بلغ إليه الإنسان بسبب الخطية، لكن تجسد الكلمة الإلهي وتقديم الخلاص غيّر الموقف تمامًا.

*     لقد نلنا هذا بسبب “الجسد” الذي قدمه الرب، لقد قدم للآب بكر طبيعتنا. وبسبب كرامة المُقدم وكمال قابل التقدمة، وجد الآب “العطية” مقبولة، فاستلمها بيده وضمها لنفسه وقال (للرب المتجسد): “اجلس عن يميني” (مز 10:68).

ألم يرتفع (الناسوت المتحد باللاهوت) إلى فوق السماوات؟!

أليست هذه كرامة بلا قياس؟!

لقد ارتفعت (طبيعتنا في شخص الإله المتجسد) فوق السماوات، وسمت فوق الملائكة. لقد عبرت فوق رؤساء الملائكة والشاروبيم، وحلقت فوق السيرافيم، عالية أكثر من كل القوات السمائية، واستراحت في العرش الإلهي الحقيقي وحده…

إن سلوك جنسنا كان هكذا شريرًا في الماضي، حتى كان الأمر في خطر من أن يباد كل الجنس البشرى عن وجه الأرض. والآن نحن الذي قبلًا حسبنا غير متأهلين للبقاء في الأرض رفعنا إلى السماوات.

نحن الذين كان قبلًا غير مستحقين للمجد الأرضي، نصعد الآن إلى ملكوت السماوات، وندخل السماوات، ونأخذ مكاننا أمام العرش الإلهي.

هذه الطبيعة التي لنا، التي كان الشاروبيم يحرس أبواب الفردوس منها، هوذا اليوم ترتفع فوق الشاروبيم!

كيف يمكننا أن نعبر على حدث عظيم (عيد الصعود) هكذا عبورًا سريعًا؟!

لأنه نحن الذين أسأنا إلى مثل هذه المراحم العظيمة، حتى صرنا غير مستحقين للأرض ذاتها، وسقطنا من كل سلطان وكرامة، بأي استحقاق نرتفع إلى كرامة علوية كهذه؟!

كيف انتهى الصراع؟!

لماذا زال غضب الله…؟

فإن هذا هو بحق عجيب: إن السلام قد حلّ، لا بعمل قام به الذين أثاروا غضب الله… بل الذي غضب علينا بحق هو نفسه يدعونا إلى السلام. إذ يقول الرسول: “إذًا نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا” (2 كو 20:5). وماذا يعنى هذا؟ أنه بالرغم من أننا أسأنا إليه، فإنه هو الذي يسعى إلينا ويدعونا إلى السلام. إنه حقا هكذا، فإذ هو الله، وهو الإله المحب يدعونا إليه(216).

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     من يعرف وهن الطبيعة البشرية ينال خبرة قوة الله.

الأب مكسيموس المعترف

*     عندما تسمع أن الجلالة الإلهية أسمى من السماوات، وأن مجدها لا يُعبر عنه، وجمالها لا يُصف، وطبيعتها لا يُقترب منها، لا تيأس من أن ترى ما تشتهيه. إنه في مقدورك، ففي داخلك المستوى الذي به تتمكن من إدراك الإلهيات. فإن الذي خلقك وهبك في نفس الوقت هذا السمو العجيب.

القديس غريغوريوس النيسي

من وحي أيوب 4

لتمسح كلماتي بمسحة الحب!

*     وضع أصحاب أيوب في قلوبهم أن يحطموه!

ظنوا أمَّر لحظات نكباته فرصة سانحة للهجوم عليه!

لكن ليهجم العالم كله ضده،

ماذا يصيبه، مادمت أنت في جانبه!

ماذا يهينه، مادمت أنت تشهد له!

*     كثيرًا ما أظن في نفسي حكيمًا،

وأحسب كلماتي صادقة.

لكن ما نفع الفهم والحكمة بلا حب؟

لتمسح شفتي بمسحة روحك القدوس،

ولتقم حارسًا على فمي،

فلا أنطق إلا بما يحمله قلبي من فيض حبك!

لأحبك، فأحب خليقتك،

وعوض النقد اللاذع أملأ كل نفسٍ بالرجاء فيك!

*     رأى أليفاز في أيوب البار إنسانًا مرائيًا،

ما حلّ عليه من نكبات لا تٌحتمل،

هي ثمرة طبيعية لخطاياه الخفية.

حسب أيوب حكيمًا في أعين الناس،

يعلم الآخرين ويرشدهم،

ويراه عاجزًا عن إرشاد نفسه.

يراه إنسانًا غير قادرٍ على تنفيذ ما يوصى به!

*     هب لي عينين مقدستين،

فلا أنظر بعيني أليفاز المملوء حقدًا،

والمتربص لأخيه البار،

كي يقدم ضده اتهامات باطلة!

*     هب لي عينين مترفقتين بإخوتي،

يصرخ قلبي في داخلي:

من يضعف وأنا لا أضعف؟

من يعثر وأنا لا ألتهب؟

*     في أبوة حانية لم يعرف أيوب السلطة،

ولم يكن الآمر الناهي لمن هم تحت سلطانه،

بل في أبوة حانية أرشد الكثيرين.

لم يكن ما يشغله كل أيام حياته،

سوى خلاص كل نفسٍ حتى أفراد أسرته!

كان سندًا للضعفاء،

يشدد أياديهم المرتخية،

ويرفعهم من السقوط،

ويثبت الرُكب المرتعشة!

حمل صورتك يا محب البشر!

وأبى أن يعمل إلا حسب مسرتك الإلهية!

*     أحاطت به التجارب لكي تبتلعه،

وتوالت الكوارث المفاجئة بلا رحمة،

وبدأ أيوب كمن فقد كل شيءٍ حتى صحته!

لكنه كإنسان صرخ إليك في أنات مرة،

أما قلبه فلم ينحرف،

وشفتاه لم تنطقا بكلمة تجديف.

حسب أنه لم يفقد شيئًا،

لأنك أنت كنزه، ومصدر صلاحه وخيراته!

لم يفقد شيئًا، لأنه اقتناك!

*     وجد أليفاز فرصته،

فاستعرض حكمته وفهمه اللاهوتي.

قال: ليس من بارٍ يحل به ما حلٌ بأيوب،

ولا بمستقيمٍ يهلك كهلاكه!

إنما هذه شهادة إلهية لشر أيوب الخفي!

وإذ لم يحل بأحد في التاريخ كله ما حلٌَ به،

فهو أشر الأشرار،

ورئيس كل الخطاة والمرائين.

تطلع إلى أيوب كأسدٍ كان يجول زائرًا يرعب ويهدد،

وها هو الآن يموت جوعًا، ليس لديه فريسة.

فقد كل بنيه، لم يعد له شبل!

صار الأسد سخرية الأطفال وألعوبة لا حول لها!

*     رأى أليفاز رؤيا سماوية،

وعوض أن يرتدع ارتجف وخاف،

وعاد يؤكد أن أيوب ليس أبرّ من الملائكة،

فإن الله ينسب لملائكته حماقة!

من هو أيوب التراب والرماد ليبرر نفسه أمام الله!

هوذا قد نُزعت خيمته،

وصار موته عارًا وخزيًا أمام الكل!

*     في طول أناة ترك الله أليفاز وأصحابه يسخرون،

وبحكمته السماوية سمح لأيوب أن يُهان منهم.

لكن هوذا الإهانة تصير له رصيد مجد أرضي وسماوي.

وكل اتهام ضده يتحول إلى إكليلٍ أبديٍ!

ليتهم الأشرار أولاد الله ظلمًا،

لكن لن يسمح لعصاهم أن تستقر على صديقيه!

*     حقًا لن يتبرر كائن ما أمامك!

أنت وحدك القدوس!

أمام نور بهائك، تختفي كل الأنوار!

أمام برك، لن تتبرر خليقة ما!

*     إن كنت وأنت الديان،

أتيت لتخلص لا لتدين،

فكيف أجسر وأدين أخي؟

كيف أسلبك عرشك يا فاحص القلوب؟

هب لي مع الحكمة حبًا،

ومع شوقي لخلاص الجميع قلبًا مترفقًا!

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى