سر التوبة في اعتبار الله وتدبيره
الله دائماً طرف أساسي وفعال في توبة الإنسان : « هانذا واقف على الباب وأقرع » ( رؤ 3: 20). نداء الله للخاطىء ودعـوتـه للتراثي أمامه جزء هام من تدبير الله منذ البدء « آدم … أين أنت ؟ » (تك 3: 9).
الله دائماً في حوار مع الخطاة ليجذبهم إلى الخروج من الورطة : « هلم نتحاجج يقول الرب ، إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج» (إش1: 18).
كان لما اغتاظ قايين في قلبه على أخيه ، ودخلت خطيئة البغضة قلبه من نحوه ، لأنه نال نعمة في عيني الرب أكثر منه ، فانكسرت نفسه ، وسقط وجهه وفكر في قتل أخيه ؛ أن الرب قابله واقتحم عليه طريق تفكيره في هذا الإثم المريع ، ووقف يحذره : « عند الباب خطيئة رابضة تشتاق إليها وأنت تسود عليها ( لو شئت)» (تك ٤ : ٧)، وفي نفس الـوقـت يـفـتـح أمـامـه طـريـق التوبة والخروج من المأزق : « لماذا سقط وجهك ؟ إن أحسنت أفلا رفع ؟ »(تك 4: 6 ، 7).
أولا : تحذير. ثانياً: تأنيب . ثالثاً : تشجيع على القيام .
هكذا الله يتعقب الخطيئة و يطاردها مع الإنسان ، وهي لا تزال في الضمير، الرب يدخل دائماً نصيراً مع الإنسان في المعركة ضد الخطيئة . يقوي أولاً جانب الرفض عنده بالتحذير والتخويف والإنذار، لذلك فإن الإنسان حينها تدخله المشورة المشئومة باقتراف الخطيئة و يـنـبـري له صوت الله، في الحال تجده يرتجف و يتردد و يغشاه اضطراب ودوار. هـذا الـصـراع الـبـاطني يـتـفـاوت مـقـداره، ولكن يستحيل أن تخمد ناره لأن الخطيئة عنصر غريب على الإنسان.
الخطيئة لا يمكن أن تسود على الإنسان ، إلا إذا انحاز إليها دون صوت الله ؛ ولكن حـيـنـا يـرفـض الإنسان مشورة الله المباركة، و يرتد نهائياً عن التحذير، و يتجمد قلبه، ويـتـشـدد لإقـتـراف الإثم؛ يتقدم إلى الخطيئة بقوة ليست من ذاته ، لأن الخطيئة تهبه سلطانها، والحـيـة تـنـفـخ فـيـه شئها، فيتخدر و ينصاع وتمتد يده إلى الإثم في جرأة الشيطان .
ولـكـن صوت الله لا يكف ولا يزال يرن في الضمير، حتى و بعد اقتراف الخطيئة . وهـو عـينه الذي ينشىء في القلب حالة من الندم والأسف والتوبيخ والمرارة، التي هي بذرة التوبة، خصوصاً بعدما يتحقق الإنسان أنه خدع، وانتهك شرفه ، وتسجلت ضده الجريمة !
وبذلك نرى أن صوت الله الذي حذر وأنذر أولاً قبل السقوط والذي عاد وصار مـصـدراً للتوبيخ والندم والمرارة ، هو نفسه الذي يبدأ يحاجج الخاطيء و يشجعه للتوبة والقيام وتجديد الحياة .
وهـكـذا نرى أن الإنسان يمكن أن يسود على الخطيئة حتى ولو خضع لها وسقط في غوايتها ، لو أنه انحاز مرة لصوت الله ، إما أثناء التحذير قبل السقوط الفعلي فيمتنع ، وإما أثناء الندم والتوبيخ فيقوم و يتوب : « ليتك أصغيت لوصاياي ، فكان كنهر سلامك ، و برك كلجج البحر» (إش 48: 17).
ومـن هذا يتبين دور الله الفعال في توبة الإنسان، الذي يبدأ به في نفس الإنسان مبكراً جداً قبل السقوط، وقبل التورط في الإثم . أليس هذا سراً من أسرار الرحمة الإلهية الـعـامـلـة في التوبة ؟ ومسلك الله تجاه الخطاة يعتمد أساساً على فعل رحمة الله وسخائه ، فـتـتـحـرك أحشاؤه حتى قـبـل بـكـاء الخاطىء وندامته . فرحمة الله متغلغلة في كيان الإنسان ، فـاعـلة فيه قبل أن يخطىء، وأثناء ما يخطىء، و بعد ما يخطىء: « و يكون أني قـبـلـا يـدعون أنا أجيب ، وفيا هم يتكلمون بعد ، أنا أسمع» ( إش 65: 24)، «لا تـبـكـي بـكـاء… يـتـراءف عـلـيـك عند صوت صراخك ، حينا يسمع يستجيب لك » ( إش 30: 19).
فالله لا يحجز رحمـتـه عـن الخاطيء إطلاقاً، إن هو رجع إليه ، مهما كانت أثقال خطاياه ومهما كان زيغانه . فالله يكيل رحمته بمكيال بجده و يسخو في الغفران ، بمقتضى لطفه ، ويحب الخطاة بدافع لذته الخصوصية .
وفي هذا يقول إشعياء، موضحاً الفارق الشاسع بين مسلك الخطاة تجاه الله ومسلك الله تجاه الخطاة :
ـ « اسـتـخـدمـتني بخطاياك وأتعبتني بآثامك . أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي . وخطاياك لا أذكرها » ( إش 43: 24).
ـ «قـد محـوت كغيم ذنوبك وكـسـحـابـة خـطـايـاك . ارجع إلي لأني فـديـتـك » ( إش 43: 24).
ـ « مـن أجـل إسـمـي أبطىء غضبي ، ومن أجل فخري أمسك عنك حتى لا أقطعك » ( إش 48: 9).
أما تدبير الله في توبة الإنسان وإنقاذه من ورطة الخطيئة وعقوبتها ، فكانت وسيلتها في العهد القديم متركزة في اتجاهين :
الأول : إنذار الخـطـاة، وتوبيخهم المستمر على فم الأنبياء، ليكفوا عن سلوكهم الرديء .
الثاني : تشجيعهم على العودة ، وإعلان رحمة الله ، واستعداده للصفح « أقسم الرب» (مز4:110).
فكانت التوبة قديماً قائمة هكذا : «ارجعوا لتُمحى خطاياكم» (أع 3: 19).
ولـكـن بـإعلان التجسد الإلهي وتكميل ذبيحة الصليب ، اتخذ الرب الإله موقف المبادرة ؛ وابـتـدا هـو الخطوة الأولى في طريق توبة الإنسان الخاطيء، مما جعل توبته أكثر فعالية في إعادة الخاطيء إلى حياة مقدسة، لأن بالصليب استعلن فعل الرحمة الإلهـيـة مجسّماً أمام الخطاة، الذي على أساسه كان يدعو الخطاة سابقاً بوعود وأقسام ، أما الآن فبسفك دم ابن الله يؤكد الله رحمته ، و يقدمها مسبقاً، و يبرهن على صدق كل مواعيده وأقسامه التي أقسم بها أن رجوع الخاطىء عمل من أعمال مشيئته .
الله كان يدعو الخطاة قديماً بكلمة من فم الأنبياء، وهذه كانت تكفي ، لولا جحود الإنسان وثقل أذنيه عن سماع صوت الله وانصداده بالباطل عن الحق . أما الآن فنرى الرب يسوع، الإبن الحبيب لأبيه ، قائماً مذبوحاً على الصليب ، ودمه يتكلم في صمت ، و يـقـسـم بحـيـاتـه المـسـفـوكـة في بلاغة وروعة وأمانة مذهلة : هاخطاياكم قد غفرت علانية ، فتعالوا … و بذلك صارت التوبة في عهد المسيح هكذا :
لقد غفرت لكم خطاياكم فتعالوا ! …
وفي هذا المعنى يـكـلـمـنـا سفر العبرانيين قائلاً: « الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً، بأنواع وطرق كثيرة ، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في إبنه الذي … بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي» (عب 1: 1-3).
و يـود الرسول هنا أن يقول إن الله في الأول وعد، أما الآن فعمل . في الأول تكلم بفم الأنبياء، أما الآن فتمم ببذل ابنه على الصليب . في الأول وعد، أما الآن فنفذ ما وعد به.
و يـشـدد رسـول المحبة على هذا المعنى قائلاً: «أكتب إليكم أيها الأولاد لأنه قد غفرت لكم الخطايا من أجل اسمه» (1يو 2: 12).
ولكن بالرغم من الحالة السعيدة التي صارت للإنسان الخاطيء في العهد الجديد ، ببذل الله ابـنـه يسوع المسيح على الصليب فدية عن الخطاة حتى لا يهلك كل من يؤمن به ؛ إلا أننا لا نريد قط أن نقلل من قيمة وعد الله في دعوته للخطاة قديماً، لأن وعد الله قـديمـاً لا يـقـل قـيـمـة عـن عمله حالياً وكلمته لهم بفم الأنبياء كان لها سلطان المغفرة الكامل كما لها الآن .
ولكن ميزة العهد الجديد هي أن المغفرة صارت حاضرة بدون وعد، كون الصليب هونفسـه تـتـميم وعد، وهو حالة قائمة ذات عمل دائم مستمر، واستعداد تلقائي في الـصـفـح عن كل الخطايا السالفة لكل من يؤمن ، من أقصى الأرض إلى أدناها « وهو كفارة لخطايانا ، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً» (1يو 2: 2).
كما أنـنـا في العهد الجديد نرى أن نماذج المسيح لدعوة الخطاة للتوبة تخلو جميعاً من عنصر عن التوبيخ والتهديد والتأنيب ، التي كانت عنصراً أساسياً في دعوة الخطاة قديماً، مما يدل على أنه قد حدث تغيير جوهري في قضية توبة الخطاة شكلاً وموضوعاً، أولا : من جهة الشكل، نجد أن الله الداعي إلى التوبة أصبح يحمل صفتين ، صفة الديان ، وصفة المحامي في نفس الوقت : « من هو الذي يدين ، المسيح… الذي أيضاً يشفع فينا » !! ( رو34:8)، «الآب … أعـطـى كـل الدينونة للإبن» (يو 5: 22)، « هو حي في كل حين ليشفع في المذنبين» (عب 7: 25).
مـن أجـل ذلـك نـرى أن الإتهام والـتـو بـيـخ والـتأنيب للتوبة، التي كانت عمل الـديـان ، سـقـطـت مـن تلقاء نفسها ؛ لأن الديان أصبح أيضاً هو نفسه الذي يشفع في الخطاة. لأنه معروف أن الديان ، إذا لم تكن له صفة الشفاعة . الخطاة، كان عليه أن يـؤتـب و يوبخ ويهدد. أما إن كـان الـديان هو هو الشفيع ، فهنا لا يكون محل لا للتأنيب ولا للتوبيخ ولا للتهديد .
وأما من جهة الموضوع ، أي من جهة الخاطيء نفسه ، فتوبته أصبحت ليست قائمة على أساس احتياجه إلى تبرئة ، لأن تـبـرثة جميع الخطاة قد تمت مرة واحدة بموت المسيح: «لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرة واحدة» (رو6 : 10)، والتبرئة حدثت وتمت للجميع، بينها الجميع رازح تحت الضعف لا يحرك ساكناً «لأن المسيح ، إذ كـنـا بـعـد ضـعفاء، مات في الوقت المعين لأجل الفجار» (رو5 :6). فهنا المسيح الشفيع لا يشفع بالكلام ولا بوساطة استعطاف ، وإنما بسفك دمه ، ، أي بآلامه وتحمله لعنة الصليب وتذوقه الموت كاملاً، هذه التي هي كلها عقوبة الخطيئة بكل نتائجها . إذن ، فـعـودة الخاطىء وتوبته لم تعد تحتمل في العهد الجديد أي توبيخ أو تأنيب أو ملامة، لأن كل ذلك حمله المسيح مرة واحدة عن الخطاة :
ـ « أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجـل معاصينا ، مسحوق لأجل آثامنا ، تأديب سلامنا عليه و بخبره شفينا … الرب وضع عليه إثم جميعنا … ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه … ضرب من أجل ذنب شعبي ومجعل مع الأشرار قـبـره… على أنه لم يـعـمـل ظـلـمـاً ولم يكن في فمه غش» (إش 53: 4 -9).
لذلك، وهو عالم بالثمن الفادح الذي سيغرم به عن الخطاة، استطاع أن يقول للمرأة التي أمسكت في الخطيئة : « ولا أنا أدينك اذهبي ولا تخطئي أيضاً» (يو 8: 11)، هذه التي كانت الـشـريـعـة الـقـديـمـة تـأمر برجمها بلا رحمة !! والخطاة والأئمة الذين كان الناموس يحرم حتى مجرد السلام عليهم والإقتراب إليهم ، صاروا محبوبين وقريبين جداً لقلب المسيح « هذا يقبل خطاة و يأكل معهم » ( لو 15: 2)!! « دخل ليبيت عند رجل خاطىء» (لو 19: 7)، «وكان جميـع الـعـشـاريـن والخـطـاة يـدنـون منه » ( لو 15: 1). « لو كان هذا نبياً لعلم من هذه المرأة التي تلمسه وما هي ، إنها خاطئة » ( لو 7: 39).
واضح، إذن، أنـه قـد حـدث تغير جوهري في اعتبار الله وتدبيره ، من جهة توبة الإنسان بسبب التجسد وموت المسيح ، إذ جعل طريق التوبة سراً إلهياً ينطق بفضل الله ولطفه .
ولـكـن أمـام هـذا الفضل الإلهي ولطف المسيح الذي يجعل طريق التوبة حديثاً ، عـبـارة عـن قـبـول كـرامـة واسـتـقـبال فرح الله ، لا يسعنا إلا أن نحترس ونخاف لأنه : «کیف ننجو نحن إن أهملنا خلاصاً هذا مقداره » ( عب 2: 3).
وإذا تـعـمـقـنا هذا التغيير الجوهري في رسم التوبة قديماً وحديثاً، نستطيع أن نفهم لماذا قال المسيح : « رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل و يدينونه لأنهم تابوا بمناداة يونان، وهوذا أعظم من يونان ههنا » ( لو 11: 32).
رسم مبسط للتوبة في الناموس
أولا، بالذبيحة :
« فإن كـان يـذنب في شيء من هذه يقر بما قد أخطأ به ، و يأتى إلى الرب بذبيحة لإثمه عن خطيته » (لا 5: 6،5).
كـان يـلـزم للخاطىء، لكي ترفع عنه خطيته فلا يموت و يقطع من شعب الله ، أن يأتى إلى الهيكل ومعه ذبيحته ، وأمام الكاهن، ويضع يده عليها ، و يقر بما قد أخطأ به ! …
وهـنـا في الـواقـع رسـم عـملي لخمسة شروط لا يمكن الإستغناء عنها لتكميل التوبة وقبول الصفح، فالتائب :
أولا : لابد أن يقف أمام الله .
ثانياً: لا يسمح له أن يـتـراءى أمام الله فـارغـاً فلابد أن يحمل ذبيحة أمامهكواسطة .
ثالثاً: ولابد من وجود الكاهن كشاهد ورسول بين طرفين لينقل سؤال الخاطىء إلى الله (رمز المسبح)، و يوصل صفح الله إلى الخاطيء .
رابعاً: لابد من أن يقر الخاطىء أمام الكاهن معترفاً بما قد أخطأ به ، حتی پرشده إلى تكمـيـل تـكـفير خطاياه حسب شروط الناموس ، إما برد أشياء أو التعويض عنها أو غسل الجسد. وكل خطية لها قانون تكفير: « فيكفر عنه الكاهن من خطيته التي أخطأ فيصفح عنه » (لا 5: 10).
خامساً: لابد أن يضع المعترف يده على رأس ذبيحته أثناء اعترافه لتنقل خطيته إلى الذبيحة ، فيتبرأ من حكم الموت الذي هو عقاب كل خطيئة .
ولـيـعـلـم الـقـارىء أنـنـا وفـيـنا هذه الشروط الخمسة شرحاً وتوضيحاً في كتابنا : «الكنيسة الخالدة » ، ويمكن الرجوع إليه ( من صفحة ٢٨-٥٦ ، الطبعة الثانية ١٩٧٤).
ثانياً، بالضمير: صور لوصايا التزم بها الضمير الإنساني لتكميل التوبة في العهد القديم :
لم تـكـن أوامر الناموس الموضحة في الشروط الخمسة كقانون التوبة كافية لإراحة ضمير الإنسان من جهة الخطيئة ، وخصوصاً عند ذوي الضمائر الحساسة ، والذين تـقـدمـوا في معرفة الرب وكانت لهم معه عشرة ووفاء، كاعتراف بولس الرسول : «لا يمكـن مـن جـهـة الضمير أن تكمل الذي يخدم » ( عب 9: 9)، لذلك نقرأ عن ناموس آخـر تـأمـر بـه الشريعة ، يلزم بالصوم والبكاء، ونواح وصراخ ، وإحناء الرأس، وتذلل ولـبـس مـسـوح شـعـر خشن على الجسد العاري ، والجلوس على التراب ، وتعفير الجبين والرأس، والمشي بالحفاء، وتغطية رأس الرجال ، وتمزيق الثياب، والتزام السكوت والإعتكاف .
ولا يظن القارىء أن هذه أمور زائدة أو غير مناسبة ، كأنها كانت غير مرضية أمام الله ، بل على الـعـكـس نـقـرأ بوضوح أنها قبلت لدى الله ووجد أصحابها نعمة في عيني الله، وصـفـحـاً لم يكن مترقباً قط ، كما في حالة آخاب الملك، الذي كان مثلاً للخيانة وقـائـداً مـضـلاً للشعب ، الذي لما سمع من إيليا بالشر الذي نوى الرب أن يجلبه عليه وعلى بـيـتـه ، تـاب : « ولما سمع آخاب هذا الكلام شق ثيابه وجعل مسحاً على جسده وصام واضطجع بالمسح ومشى بسكوت ، فكان كلام الرب لإيليا التشبي قائلاً: هل رأيـت كـيـف اتـضـع آخـاب أمـامـي . فمن أجل أنه قد اتضع أمامي لا أجلب الشر في أيامه » ( 1مل 21: 27 و 28).
هذا هو آخاب الذي قال عنه الكتاب : « ولم يكن كآخاب الذي باع نفسه لعمل الشر في عيني الرب » ( 1مل 21: 25).
كذلك كانت الإستجابة للتذلل في توبة وصيام الملك واضحة كل الوضوح : « ولما تذلل ارتد عنه غضب الرب » ( 2أخ 12: 12).
وقد أدرك داود النبي في اختبار حياته مع الله ، قيمة التذلل الفعلي والإتضاع أمام الله ، ومـقـدار اسـتـجـابـة الله لمشاعر الإنسان القلبية التي يقدمها بدافع حريته للتوبة ، بـالـنـسـبـة لـتـتـميم حرفية أوامر الناموس : « لو كنت تسر بالذبائح لكنت الآن أعطي ولكنك لا تسر بالذبائح ، فالذبيحة الله روح منسحق ، القلب المنكسر والمتواضع أنت لا تـرذله» (مز 51: 16 و 17). لذلك نجده في يوم بليته يسلك سلوكاً تذلليًا عالي المثال ، جعل قلب الله وقلب كل مخلص الله يقف بجواره : « وأما داود فصعد… باكياً ورأسه مغطى ويمشي حافياً… وكانوا يصعدون وهم يبكون… شمعي بن جيرا يسب … و يرشق بالحجارة داود… فقال الملك… دعوه يشب لأن الرب قال له … لعل الرب ينظر إلى مذلتي » ( 2صم 15، 16).
ولكن لئلا يظن أحد أن هذا عقاب كان يفرضه الخاطىء على نفسه ، بدافع شعوره بالإثم و يتحمله ثمناً لخطيئته ، نقدم مثل أيوب الصديق الذي شهد له الله أنه لم يكن في الأرض كلها مثل أيوب ، رجل يخاف الله ويحيد عن الشر، وفي الوقت نفسه كان يشعر أيوب و يصرح أنه لا يعتقد أن بليته كانت بسبب خطئه قط ، و بالرغم من ذلك نسمعه يقول : « خطت مسحاً على جلدي ودسست في التراب قرني . أحمر وجهي من البكاء» ( أي 16 : 15و 16).
ولم يـكـن الـتـذلل والـصـوم والبكاء ولبس المسوح حالات فردية فقط، بل مارسها الـشـعـب أيـضـاً وكانت استجابتها سريعة وواضحة للغاية ، مثل ما قدمه الشعب في السبي أيـام أستير الملكة: « كـانـت مناحة عظيمة عند اليهود وصوم و بكاء ونحيب ، وانفرش مسح ورقاد لكثيرين » ( أس3:4).
كذلك وجدنا في العهد القديم أمثلة من أفراد عاديين في الشعب ، كانوا أمثلة عالية جداً في إحساس ضمائرهم بمسئوليتهم الشخصية عن خطايا الآخرين، فذللوا أنفسهم عـن الـشـعـب كـله، وقبلت مذلتهم واستجيبت توبتهم عن الآخرين ، وكانوا سبباً في يقظة الشعب ! … من هذه الأمثلة :
عزرا الكاتب الماهر التقي الكامل : « فلما صلى عزرا واعترف وهو باك وساقط أمام بيت الله اجتمع إليه من إسرائيل جماعة كثيرة جداً من الرجال والنساء والأولاد لأن الشعب بكي بكاء عظيماً» (عزرا 1:10).
مردخاي الـرجـل البار: « ولما علم مردخاي كل ما عمل (لإبادة الشعب )، شق مردخاي ثيابه ولبس مسحاً برماد، وخرج إلى وسط المدينة وصرخ صرخة عظيمة مرة » ( أس1:4).
كذلك دانـيـال الـرجـل المحبوب : « فوجهت وجهي إلى الله السيد طالباً بالصلاة والـتـضـرعـات، بالصوم والمسح والرماد، وصليت إلى الرب إلهي واعترفت وقلت أيها الرب الإله العظيم المهوب حافظ العهد والرحمة لمحبيه وحافظي وصاياه، أخطأنا وأثمنا وعملنا الشر وتمردنا وجدنا عن وصاياك وعن أحكامك» (دا 9: 3-5).
كذلك يهـوديـت المرأة الحـكـيـمـة التي خلصت شعبها بتذللها : « دخلت یهودیت مخدعها، ثم لبست مسحاً وألقت رماداً على رأسها، وسجدت على وجهها أمام الرب وصرخت بصوت عظيم إلى الرب » (يهو 9: 1).
أما في مثـل داود فنرى صورة نادرة المثال لإنسان في العهد القديم ، يصوم و يبكي و يتذلل، و يلبس المسوح من أجل أعدائه الذين كانوا يسيئون إليه و يدبرون له الشر: « أما أنا في مرضهم كان لباسي مسحاً. أذللت بالصوم نفسي… كأنه قريب ، كأنه أخي ، كنت أتمشي كمن ينوح على أمه ، انحنيت حزيناً، ولكنهم في ظلعي (بليتي ) فـرحـوا واجتمعوا ، اجتمعوا علي شاتمين ولم أعلم ، مزقوا (سيرتى واسمي ) ولم يكفوا » (مز 35: 13 – 15).
وهـنـاك صـورة للـتـوبة المقبولة في العهد القديم ، تعتبر نادرة أيضاً. إذ نجد أن الذي تقدم بها ليس هو شعب الله ، وإنما شعب غريب عن الله ، لم يكن لهم وصايا ولا نبوات ولا نـامـوس ولا ذبائح، وهو شعب نينوى ، الذي قدمه الكتاب لنا مثلاً حياً لإ تساع قلب الله في قبول أي إنسان على وجه الأرض، إذا تاب إليه وتذلل أمامه ، مهما كانت حالته وبعده عن الحق : «لا يعرف شماله من يمينه » ( يون 11:4)، الأمر الذي كان يـعـرفـه يـونـان عـن الله جيداً، مما حدا به إلى أن يرفض تبليغ أهل نينوى بعزم الله على إبادتهم، إذ كان واثقاً أن رجوع الشعب بالتوبة والتذلل إلى الله كفيل بالصفح عنهم ، وقـد كـان . « فآمـن أهـل نـيـنـوى بـالله ونـادوا بـصـوم ولبسوا مسحاً من كبيرهم إلى صـغـيـرهـم ، وبلغ الأمـر مـلـك نينوى فقام عن كرسيه وخلع رداءه عنه وتغطى بمسح وجلس على الرماد، ونودي وقيل في نينوى عن أمر الملك وعظمائه قائلاً : لا تذق الناس ولا البهائم … شيئاً» (يون 3: 75)، فصفح الله عن المدينة … مما أغاظ يونان جداً. ولا يزال يـوجـد اليوم من هم مثل يونان النبي الذين لا يوافقون على خلاص وتوبة من عن ليس مثلهم .
ونـقـرأ أيـضـاً في الكتاب عن حالة تذلل وتوبة ، يقدمها جماعة من الشعب ، تشفعاً عن إنسان في ضيقة وخطر، لقيامه بمهمة لخير الآخرين ، كما في حالة أستير حينها أرادت أن تـقـابـل الملك وتحدثه بشأن خلاص شعبها : «اذهب أجمع جميع اليهود الموجودين في شـوشـن ، وصـومـوا مـن جـهـتـي ولا تأكلوا ولا تشربوا ثلاثة أيام ليلاً ونهاراً وأنا أيضاً وجواري نصوم كذلك» (أس 4: 16).
وفي موضع آخر، نقرأ ليوثيل النبي، دعوة حارة يحث بها الكهنة وخدام المذبح ، أن يقدموا توبة وتذللاً، بصفتهم مسئولين عن خطايا الشعب التي سببت غضب الله ، وذلك بمناسبة قرب مجيء المسيا : «تنظقوا ونوحوا أيها الكهنة، ولولوا ياخدام المذبح ، ادخلوا بـيـتـوا بـالمـسـوح يـا خـدام إلهي… قدسوا صوماً. نادوا باعتكاف… اخرجوا إلى الرب » (یوئیل 13:1 ،14).
ولا نـظـن أن التذلل كان في الـعـهـد الـقديم على مستوى المشيئة الحرة كناموس تستجيب لـه الـنـفس طواعية بغير قانون ، بل كانت له أصول محددة وكان له قانون وعـقـوبـة ونـظـام على مستوى جماعي، حددت له الشريعة زماناً معيناً، وأفرد له سفر اللاويين موضعاً رسمياً في العبادة العامة : « وكلم الرب موسى قائلاً : أما العاشر من هذا الشهر السابع فهو يوم الكفارة، محفلاً مقدساً يكون لكم تذللون نفوسكم وتقربون وقـوداً للرب . عملاً ما لا تعملوا في هذا اليوم عينه لأنه يوم كفارة للتكفير عنكم أمام الرب إلهكم. إن كل نفس لا تتذلل في هذا اليوم عينه تقطع من شعبها … عملاً ما لا تـعـمـلـوا فريضة دهرية في أجيالكم في جميع مساكنكم . إنه سبت عطلة لكم فتذللون نفوسكم » (لا 23: 26 – 32)
وقد حرص الكتاب المقدس أن يوضح في مواضع كثيرة ومتفرقة ، استجابة حالات تذلل كانت صادقة ، حتى يشجع هذا السلوك موضحاً أثره ونتيجته ، وقد سجل الكتاب أن الله يسمع التذلل و ينظر إليه و يراه و يذكره :
ـ « الرب قد سمع لمذلتك » (تك 11:16).
ـ « الرب قد نظر إلى مذلتي» (تك 29: 32).
-« قد رأيت مذلة شعبي» (خر 3: 7).
– والملاك جـبـرائـيـل يـؤكد هذا الأمر لدانيال النبي شهادة سماوية صادقة عن قيمة وسرعة استجابة التذلل : « فقال لي (الملاك ) لا تخف يادانيال لأنه من اليوم الأول الذي فيه جعلت قلبك للفهم ولإذلال نفسك قدام إلهك ، شمع كلامك وأنا أتيت لأجل كلامك» (دا 10: 12).
رسم مبسط للتوبة في العهد الجديد
أولا : بالذبيحة الحقيقية، الكاهن الحقيقي، الإعتراف ، الحل :
الذبائح الدموية التي كان يتقدم بها الخاطىء في العهد القديم إلى هيكل الله للتكفير عن خطاياه ، يقول عنها بولس الرسول أنها « رمز للوقت الحاضر… لا يمكن من جـهـة الـضمير أن تُـكـمـل الذي يخدم » ( عب 9: 9)، و يفسرها أنها كانت « فرائض جسدية فقط موضوعة إلى وقت الإصلاح» ( عب 9: 10). أما رفع الخطايا فعلاً فكان يتم بإطـاعـة الـوصـيـة فـقـط : «لأنه لا يمكن أن دم ثـيـران وتـيـوس يرفع خطايا » ( عب 4:10).
أما الذبيحة الحقيقية التي لها سلطان الكفارة عن كل الخطايا والفداء الكلي من عبودية الفساد، فقد استعلنت لنا في موت المسيح عن الخطاة « وأما المسيح … ليس بدم تــوس وعـجـول بـل بـدم نـفـسـه دخـل مـرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبدياً » ( عب 12،11:9)
وعوض الذبائح الكثيرة التي كانت تقدم كل مرة عن كل خاطيء صارت ذبيحة المسيح كـافـيـة مرة واحدة عن كل الخطايا لكل الخطاة : « الآن قد أظهر مرة عند انـقـضـاء الـدهور ليبطل الخطيئة بذبيحة نفسه » ( عب 26:9). وبكل وضوح يقول بولس الرسول أن المسيح «قدم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين » ( عب 28:9).
وإذا كان من المستحيل ، حسب الناموس ، أن يتراءى الخاطيء أمام الله في العهد الـقـديم ، دون أن تكون يده موضوعة على رأس ذبيحته حتى ترفع خطاياه عنه وتنقل إلى الذبيحة التي تموت عوضاً عنه ويحيا هو، هكذا في العهد الجديد، فإنه يستحيل أن يتراءى الخاطىء أمام الله لترفع خطاياه بدون تمسكه بدم المسيح، الذي « وضع عـلـيـه إثم جميعنا» (إش 6:53). ومات هو لنحيا نحن… لقد صار في ذبيحة المسيح تكميل كامل لكل ترتيب الناموس، من جهة تقديم تضحيات وذبائح . وبمجرد تمسك الخاطيء بدم المسيح ، فإن هذا كفيل أن يرفع طبيعة الخطيئة الميتة ونتائجها المميتة من طبيعة الإنسان، ويهبه حياة جديدة في المسيح ، حياة بدمه أو في دمه … حياة إلهية غير مائتة.
أي أنه كما كان على الخاطيء قديماً أن يعترف في هيكل الله ، مقرأ بذنبه على رأس ذبيحته أمام الكاهن، و بشهادته ، لكي تنتقل خطيته عنه إلى ذبيحته ، و يعتق هو من حكم الموت الذي وقع فيه ، كذلك الآن أيضاً نعترف بخطايانا مقرين بها لتقع على كـتـف المسيح كـ«حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29)، لتصير محسوبة ضمن الخطايا التي حملها الرب يسوع في جسده على الصليب وأكمل عقوبتها عنا بموته ، فتعتق من حكم الموت ونتقبل بالتوبة حياة جديدة من لدن الله .
الخطيئة أنشأت خشية واختباء وانفتاح العين بالشهوة ، والتوبة عودة إلى الثقة والـتـراءي أمام الله ، واغتسال العين بالدموع للنقاوة. وكما أن المعمودية يستلزم فيها أن يخلع الإنسان ثيابه التي حتمتها الخطيئة والعين المفتوحة على الخطية ، كذلك فالتوبة يـسـتـلـزم فيها أن يتعرى الإنسان من أسراره وخوافيه ، و يكشف علله وزلاته وأوجاعه أمام الله والكاهن .
الـكـاهـن كـان في العـهـد الـقديم رمزاً للمسيح ، أما الكاهن في العهد الجديد فهو المسيح ، كقول القديس أغناطيوس . فالكاهن لا يستمع إلى الخطايا كأنه سيوصلها إلى المسيح، كأنما المسيح لا يسمع إلا من الكاهن، بل إن المسيح هو هو الذي يقبل الإعتراف بنفسه ، كما تؤمن الكنيسة وكما يصلي الكاهن : « اقبل إليك اعترافات شعبك ».
المسيح يسمع بأذن الكاهن، والمسيح غير محتاج إلى توسط الكاهن أو كلامه ، الـكـاهـن في وقت الإعتراف تتلاشى شخصيته ولا يسمع الإعتراف لنفسه بل يسمعه للمسيح كالمسيح.
أمـا الـكـاهـن بـشخصه فهو يقف في الهيكل مع الخاطىء كخاطىء مثله ، يطلب الحل للخاطيء كخاطىء معه !! « عبيدك آبائي وأخوتى وضعفي، هؤلاء المنحنين برؤوسهـم أمـام مجدك المقدس ، ارزقنا رحمتك واقطع كل رباطات خطايانا وإن كنا أخطأنا إليك بشيء…» ( تحليل الإبن يقال في نهاية صلاة رفع البخور).
الخاطيء لا يستلم الحل من شخص الكاهن، ولكن يستلمه من شخص المسيح بفم الكاهن الخاطىء، أما الكاهن في وقت إعطاء الحل فلا ينظر نفسه كالمسيح بل ينظـر نفـسه كخاطىء، وفي وقت تقبل الحل والمغفرة ، لا ينظر إلى الكاهن بشخصه كإنسان خاطيء مثله بل ينظر إليه كالمسيح ، ولا يعطى الحل من نفسه كصاحب حل ولكنه يطلبه من الله للخاطىء ولنفسه معه دائماً « عبيدك آبائي وإخوتى وضعفي » ( رفع البخور) « عبيدك الذين يخدمونك في هذا اليوم المقدس القمامصة والقسوس والشمامسة والإكـلـيـروس وكل الشعب وضعفي ، حاللنا » ، يطلبه أولا من فم الثالوث الأقدس ، وثانياً من فم الكنيسة كلها باكليروسها الحاضر والغائب وبشعبها الحاضر والغائب ، وثالثاً من فم الإثنى عشر رسولاً ، ورابعاً من فم الرسول الخاص المرسل للبلاد المصرية مرقس الإنجيلي ، وخامساً من فم البطريرك ساويرس الأنطاكي الذي نفي من بلاده بسبب الإيمان والتجأ إلى بلادنا ، وسادساً من فم البطريرك ديوسقوروس الذي نفي من بلادنـا ومـات غـريباً في منفاه ، وسابعاً من فم البطريرك أثناسيوس الذي حامى عن الإيمان كـل حـيـاتـه و وضـع قـانونه ، وثامناً من فم البطريرك بطرس الشهيد القديس الـذي مـات عـن الإيمان، وتاسعاً البطريرك كيرلس الذي حامي عن الإيمان وثبت دسـتـوره ، وعـاشـراً مـن فـم بـاسـيـلـيوس أسقف قيسارية الذي شرح الإيمان وعاشه ، وحادي عشر من فم غريغوريوس الذي نطق بكلمات إلهية عن الثالوث ، وثاني عشر مـن فـم الـثـلاثمائة والثمانية عشر أسقف المجتمعين من أنحاء العالم بنيقية الذين قرروا الإيمان وقـانـون البيعة، وثالث عشر من فم المائة والخمسين أسقف المجتمعين من أنحاء الـعـالـم بـالقسطنطينية لتوضيح العقيدة، ورابع عشر من فم المائتين أسقف المجتمعين من أنحاء العالم في أفسس لتوضيع العقيدة والختم عليها ، وخامس عشر من فم البطريرك الـزمـاني القائم على البيعة، وأخيراً وآخر الكل من فم الكاهن طالب الحل « ومن فم حقارتی ».
ثانياً، الضمير: بطلان التكفير عن الخطايا بتعذيب الجسد :
كـانـت الذبائح المقدمة عن الخطايا في العهد القديم عاجزة فعلاً عن إراحة ضمير الخاطيء «لا يمكـن مـن جهة الضمير أن تكمل الذي يخدم » ( عب 9: 9). لذلك كان الخطاة دائماً، اً، حتى و بعد تقديم الذبائح ، في حالة ثقل قلب ولوم من جهة الضمير. ولم يـسـتـطـع دم الـتـيـوس والعجول المسفوك أمام أعينهم أن يزيل الأثر الكئيب الذي كانت تتركه الخطية والنجاسة في قلوبهم …
ذلك ألجأ الناموس أن يفرض عليهم فرائض إضافية ، مثل الصوم والتذلل والبكاء واحناء الرأس ولبس المسوح والجلوس على التراب «أمثل هذا يكون صوم اختاره . يوماً يذلل الإنسان فـيـه نـفـسـه ، يحني كـالأسـلـة رأسه ، و يـفـرش تحته مسحاً ورماداً» ( إش 58: 5 ) حتى يـواجـه الخاطىء عذاب الضمير بتعذيب الجسد ، و يكفر عن تعديه للـوصـايـا بـفـرض وصـايـا إضافية على نفسه، لكي يظهر أمام نفسه وأمام الله كإنسان باغض للخطايا ، نادم على التعدي ، طالب وجه الله .
ولـكـن مـهـا كـانـت الأعمال التعذيبية التي كان يقوم بها الإنسان للتكفير عن خطاياه، فهي لا تخرج عن كونها وسائل جسدية تعمل بالجسد، في الجسد، للجسد ؛ ولـكـن الخـطـيـئـة تلوث الروح ، تهتك النفس ، تدنس القلب ، تفضح الضمير، فكيف تكفر الأصوام عن خطيئة النجاسة ؟ أو ماذا يصنع التذلل وإحناء الرأس ولبس المسوح والجلوس على التراب ، في خطيئة الكذب على الله ، أو إهمال الواجب الذي يتسبب عنه موت إبن أو إبنة أو هلاك خراف الله ؟
لذلك صارت كل الأعـمـال الـنـاموسية التي أكملها شعب الله قديماً، مع كل الـفـرائـض والقوانين التعذيبية التي فرضها الأنبياء وقادة الشعب على أنفسهم ، عاجزة عن رفع أثر الخطيئة من النفس البشرية وتطمين قلب الخاطيء وإراحة ضميره ، لأنها كانت أعمالاً وفرائض جسدية : « موضوعة إلى وقت الإصلاح» (عب 9: 10)، «تلك الذبائح عينها التي لا تستطيع البتة أن تنزع الخطيئة» ( عب 10: 11)، «لأن دم ثـيـران وتـيـوس ورماد عجلة مرشوش على المنجسين يقدس إلى طهارة الجسد فقط » ( عب 13:9).
وهـكـذا ظـل الخاطيء في حاجة ماسة إلى عمل روحي فائق ، يتغلغل روحه ، و يشفي نفسه ، ويجدد قلبه ، و ينعش و يفرح ضميره …
لـقـد عـمـل الخاطىء في العهد القديم كل ما يمكن عمله للتخلص من خطيئته ، وجـاهـد إلى أقصى غاية الجهد البشري لرفع أثر الخطيئة من نفسه وضميره ، ولكنه فشل وفـشـل نهـاثـيـاً عـن بـلـوغ ما كان يتمناه : « لم يستطع آباؤنا ولا نحن أن نحمله » (کما اعـتـرف بـطـرس الرسول في مجمع أورشليم الأول أع 15 : 10)، لماذا ؟ لأنه اعتمد على أعـمـال جسدية، التي يقول عنها بولس الرسول بوضوح : «حسب وصايا وتعاليم الناس التي لها حكاية حكمة بعبادة نافلة وتواضع وقهر الجسد، ليس بقيمة ما من جهة إشباع البشرية» (کو 2: 22 ، 23).
أما الآن ، فشكراً الله من أجل يسوع المسيح ، لأن دمه الإلهي المسفوك يعمل روحياً فـيـنـا نحن الخطاة : « بقوة حياة لا تزول » ( عب 7: 16). بعمل إلهي سري يتغلغل كل الـكـــان الإنساني حتى الأعـمـاق ، حتى مفارق النفس والروح ، إلى المخاخ والمفاصل ونيات القلب .
وهذا الضمير الإنساني الملطخ بشعور الخطيئة ، المعذب بالإحساس بالذنب ، الذي مزقه الندم وزاده الفشل، من جراء التكفير بالمحاولات الجسدية ، تمزيقاً فوق تمزيق ، الآن يـدخـلـه عـنصر شـافي جديد، عنصر إلهي غير جسدي ، غير منظور، ينفخ فيه روح حياة، و يعطيه غفراناً أبدياً وسلاماً… « دم المسيح، الذي بروح أزلي قدم نفسه الله بلا عيب يطهر ضمائركم » ( عب 9: 14)!!
الآن ، لم يعد للتائبين الذين يتقدمون إلى الله متمسكين بدم المسيح، مجال أن يتبقى لهـم شـعـور بالذنب وقلق وكآبة في الضمير، إذ يقول الكتاب : « وهم مطهرون مرة لا يكون لهم أيضاً ضمير خطايا » ( عب 10: 2)
فأي شعور بالذنب ، وأي إحساس بالقلق في الضمير من جراء الخطايا السالفة التي عنى عنها الله نهائياً كوعده : «لأني أكون صفوحاً عن آثامهم ، ولا أذكر خطاياهم وتـعـديـاتهم فيما بعد » ( عب 8: 12)، إن أي شعور مثل هذا ، يعتبر انتقاصاً من مقدرة المسيح في التطهير الكلي « إلى التمام»، وتشككا في وعد الله . ونحن نعلم علم اليقين ، بشهادة كلمة الله القاطعة ، أن المسيح «يقدر أن يخلص أيضاً إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله، إذ هو حي في كل حين ليشفع فيهم » ( عب 7: 25)!!