شرح سفر يونان النبي أصحاح 1 للقديس كيرلس الأسكندري
(يون 1: 1-2) : ” وَصَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إِلَى يُونَانَ بْنِ أَمِتَّايَ قَائِلاً: قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَادِ عَلَيْهَا، لأَنَّهُ قَدْ صَعِدَ شَرُّهُمْ أَمَامِي”
2. وأنا أتأمل في خدمة ورسالة يونان النبي خطر في ذهني ما قاله بولس الطوباوي : ” أَمِ اللهُ لِلْيَهُودِ فَقَطْ؟ أَلَيْسَ لِلأُمَمِ أَيْضًا؟ بَلَى، لِلأُمَمِ أَيْضًا لأَنَّ اللهَ وَاحِدٌ ، هُوَ الَّذِي سَيُبَرِّرُ الْخِتَانَ بِالإِيمَانِ وَالْغُرْلَةَ بالإيمان” (رو 3: 29-30). وهذا ما علمة بطرس الرسول من واقع خبرته وكرز لنا به قائلاً: “بِالْحَقِّ أَنَا أَجِدُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ الْوُجُوهَ بَلْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، الَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبَرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ” (أع 10: 34-35). لأنه خلق “السموات والأرض البحر وكل ما فيها” (مز 146: 6) ، خلق أيضا في البداية الإنسان ” علي صورتنا كشبهنا” (تك 1: 27)، حتى يتمم الأعمال التي تقود إلي الفضيلة، لكي يحيا في بهاء بالقداسة الطوباوية، ثم بعد ذلك إنجذب إلي الخطية منخدعاً من حيل الشيطان وهكذا سلم لللعنة والفساد. لكن عين مسبقاً وعُرف قبل بداية العالم أن المسيح سيعيد إصلاح الكل. لأن الله الآب أراد أن “يجمع كل شئ في المسيح ما في السموات وما علي الأرض” (أفس 1: 10). لكن مثل هذه الأنواع من الإنجازات حفظت الوحيد الجنس حين صار مثلنا وأشرق علي العالم بالجسد. وقبل وقت مجيئه أظهر العناية بالضالين، وأولئك الذين إنخدعوا عن جهل أنعم عليهم بزيارته، وأراد أن نعرفه أيضًا من هذه الأمور ذاتها. لأنه أمر النبي الطوباوي أن ينتقل إلي نينوى. كانت نينوى مدينة فارسية توجد في الشرق وهي مدينة مشهوره، وكما قال إرميا النبي “كانت أرض المنحوتات” ( أر 50: 38 ) . مدن كثيرة متاخمة لليهودية كانت تسجد للأصنام. علي سبيل المثال (تيروس وسيسون) وكل جليل الأمم كانوا يسجدون لأعمال أيديهم وكان لديهم عدد لا يُحصي من أنواع الشياطين والمذابح والهياكل. لماذا ، إذن إخبرني، بينما كانت المدن المجاورة في ضلال، أُرسل النبي إلي نينوى البعيدة حيث كان يوجد بالفعل جمع أمي قد مالوا لعبادة الشمس، والنجوم والنيران؟ لأنهم قد إفتتنوا بلا حدود بالسحر الذي يبغضه الله. حقا قيل عنه من جانب الله بفم ناحوم : ” مِنْ أَجْلِ زِنَى الزَّانِيَةِ الْحَسَنَةِ الْجَمَالِ صَاحِبَةِ السِّحْرِ الْبَائِعَةِ أُمَمًا بِزِنَاهَا ، وَقَبَائِلَ بِسِحْرها” (نا 3: 4)، أعتقد أن الله الذي يعرف كل شئ أراد أن يُظهر شيئًا مفيدا لهؤلاء الأقدمين، بأن هؤلاء الذين إبتعدوا جدًا وأمسكوا في قبضة الضلال سوف ينجذبون في وقت ما إلي شبكة معرفة الحق حتى لو كانوا في قساوة ووصلوا للدرجة التي لا ينفع فيها أي لجام يضبطهم. لأن كلمة الله قادرة أن تغذي العقل وتقنعه وتعلمه كل ما سوف يجعله حكيمًا. إسمع ما قاله لأرميا : ” من أجل أنكم تتكلمون بهذه الكلمة هانذا جاعل كلامي في فمك نارًا وهذا الشعب حطبًا فتأكلهم” (إر5: 14 ) ، وأيضاً ” أليست هذه كلمتي كنار يقول الرب وكمطرقة تحطم الصخر” (أر 23: 29).
لم يُرسل يونان بلا هدف إلي أهل نينوى، بل لكي يُعطي برهان للصلاح الذي لدي الله، وسوف يظهره في وقت ما لأولئك الذين ضلوا عن جهل. لكن في نفس الوقت فإن الأمر يهدف إلي إدانة إسرائيل لأنه كان صعب جدًا في تربيته إذ كان غير مطيع وعاصي ولم يبال بنواميس الله لأن أهل نينوى الذين كرز لهم واحد ، تغيروا مباشرة وتابوا ، بالرغم من أن ضلالهم كان عظيماً جدا، بينما أولئك إحتقروا موسي والأنبياء، بل إحتقروا المسيح ذاته، بالرغم من أنه أرفق تعليمه بمعجزاته والتي كانت بالطبع مقنعة لهم، وبسهولة جدا . وبالرغم من أنه كان الله بطبيعته، صار إنسانًا (أنظر فيلبي 2: 6-7)، لكي يخلص كل المسكونة وقبل الكل هؤلاء الآخرين. وهذا الأمر سوف يدين بني إسرائيل، إذ وضحه المسيح ذاته، قائلاً : ” رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هُنَا!” (مت 12: 41)، كيف يوجد في حالة المسيح شيئ أعظم من يونان؟ لأن يونان هدد فقط بهلاك أهل نينوى، بينما المسيح أُعجبوا به لأنه وبخهم بمعجزاته التي لا توصف. لأن المعجزة كأنها ماكينة جذب تساعد دائما القول من جهة تصديقه والإيمان به. إذن أُرسل يونان عن عمد لكي يكرز لسكان مدينة نينوى ، إذ أن صراخ شرهم وصل إلي إله الكل لأنه لا يجهل إطلاقا أي شئ. لأنه بكونه الله فهو ديان الكل. أيضًا قيل أن دم هابيل كان يصرخ عاليًا من الأرض إلي الله (أنظر تك 4: 10 )، وكذلك ” صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيتهم قد عظمت جدا” (تك 18: 20 ) .
(يونان 1: 3) : ” فَقَامَ يُونَانُ لِيَهْرُبَ إِلَى تَرْشِيشَ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ، فَنَزَلَ إِلَى يَافَا وَوَجَدَ سَفِينَةً ذَاهِبَةً إِلَى تَرْشِيشَ، فَدَفَعَ أُجْرَتَهَا وَنَزَلَ فِيهَا، لِيَذْهَبَ مَعَهُمْ إِلَى تَرْشِيشَ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ.“.
3. يافا هي مدينة ساحلية في فلسطين وميناء لنقل المنتجات من اليهودية للمدن الآخري الشرقية. نزل إذن هناك النبي ووجد سفينة تبحر إلى ترشيش لأن منها إبتعد عن طريق نينوى، فدفع أجرتها ونزل فيها ليذهب معهم إلي ترشيش. ترشيش هي المدينة التي تُدعي طرسوس . البعض ظن أن مدينة ترشيش هي في الهند وأثيوبيا وحقا بالنسبة لأولئك مدينة ترشيش وكل بلاد الهند تُعرف بكلمة ترشيش، لكن هنا الآن فالحديث ليس علي تلك المدينة، لأن الذين يريدون أن يسافروا إلي الهند لن يذهبوا عن طريق يافا، بل بالحري عن طريق البحر الأحمر، فيما عدا لو ظن أحد أن النبي أراد أن يذهب إلي بلاد أثيوبيا عن طريق بلاد فارس وأشور لكن هذا الأمر أحمق تماماً. إذن أهل ترشيش هم الآن أهل طرسوس إنها مدينة كليكية يُمطر عليها مياه ” كودنون” وتوجد في وديان جبل تافروس والذي هو أعظم جبل في كليكية.
إذن إرتحل النبي ودافع مجيئه كان الذهاب بعيدا عن الله. بالتالي هنا حديث ذهابه ليس هو غير مشروح بل بالحري طريقة ذهابه. أعتقد أن مسألة ذهابه بعيدًا عن الله لا تعني شيئًا آخرًا إلا أنه كان يريد أن يرفض الرسالة ويهرب من الخدمة. أما مسألة ذهابه إلي ترشيش لأي سبب وما الذي يفكر فيه، لا أستطيع أن أفهم. فيما عدا لو فكر أحد أنه بالنسبة له وكذلك بالنسبة للقديسين الأقدمين كانت المعرفة صغيرة عن الله لأن البعض إعتقد أن سيادة إله الكل هي مقصورة فقط علي بلاد اليهودية، وتنحصر فقط في هذه المنطقة وإستحالة إمتدادها إلي أرض أخرى. وحقا يعقوب قد ذهب مرة من منزله الأبوي وذهب إلي لابان في. منطقة ما بين النهرين. ثم بعد ذلك رأي سلم من الأرض تصل إلي السماء وملائكة الله تصعد وتنزل عليها ، وعلي قمة السلم هناك الرب واقف عليها. وقام وقال: ” حقا إن الرب في هذا المكان وأنا لم أعلم” (تك 28: 16).
أعتقد – إذن – أن شئ مثل هذا فكر فيه النبي الطوباوي ورحل عن اليهودية وذهب تجاه المدن اليونانية ، وعلته أنه هرب من رسالته ولم يرد أن يتمم تأهب الخدمة التي سوف نعرفها من أقواله ذاتها. لأنه أعلنها بطريقة مكشوفة بعد رحيله. لكن لأن نبوته ليست لها نهاية حسنة حزن حزنا شديدًا وقال: “آه يَا رَبُّ، أَلَيْسَ هَذَا كَلَامِي إِذْ كُنْتُ بَعْدُ فِي أَرْضِي؟ لِذلِكَ بَادَرْتُ إِلَى الْهَرَبِ إِلَى تَرْشِيش لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ إِلَهُ رَؤُوفٌ وَرَحِيمٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَنَادِمٌ عَلَى الشَّرِّ فَالآنَ يَارَبُّ ، خُذْ نَفْسِي مِنِّي، لأَنَّ مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي” (يونان 4: 2-3). لأنه كنبي كان لا يجهل نهاية الخدمة، بل ربما كان خائفًا أن لا يكون لكرازته نتيجة حسنة، إذ كان أهل نينوى يجهلون صلاح الله الذي رحمهم . فخاف أن يفعلوا به شرا ويقتلونه كمنافق ومضل وكاذب وأنه يتعب باطلاً لإقناعهم. لأن البرابرة دائما هم علي أتم إستعداد للتهور والغضب وفعل الشر بسهولة كأنهم ثيران مجنونة، حتى لو لم يكن يوجد سبب كافي لهذا الجنون.
(يونان 1: 4-5) : “فَأَرْسَلَ الرَّبُّ رِيحًا شَدِيدَةً إِلَى الْبَحْرِ، فَحَدَثَ نَوْءٌ عَظِيمٌ فِي الْبَحْرِ حَتَّى كَادَتِ السَّفِينَةُ تَنْكَسِرُ. فَخَافَ الْمَلاَّحُونَ وَصَرَخُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى إِلهِهِ، وَطَرَحُوا الأَمْتِعَةَ الَّتِي فِي السَّفِينَةِ إِلَى الْبَحْرِ لِيُخَفِّفُوا عَنْهُمْ. وَأَمَّا يُونَانُ فَكَانَ قَدْ نَزَلَ إِلَى جَوْفِ السَّفِينَةِ وَاضْطَجَعَ وَنَامَ نَوْمًا ثَقِيلاً.”
4. إنطلقت الأمواج ضد السفينة حسب ترتيب الله للأمور وكذلك أُعاصير شديدة جعلت البحر يضطرب ويهيج بتأثير الريح العاتية. والركاب إستولي عليهم الخوف وصارت أحاديثهم عن نهايتهم، كذلك مالت السفينة وكانت علي وشك الدمار. قام الملاحون بإستخدام المساعدات اللازمة في مثل هذه الظروف وألقوا الأمتعة التي كانت في السفينة ليخففوا عنهم، لكي تصعد السفينة فوق الأمواج وتسير بسرعة فوقها. وأكبر دليل علي تأزم الموقف وسوء الأحوال الجوية هو أن الملاحون ذاتهم قد إستولي عليهم الخوف لدرجة أنهم كانوا يتوسلون بلا إنقطاع لآلهتهم أن تأتي لتخلصهم، لأنهم هم أنفسهم قد قفدوا رجاءهم في الخلاص.
(يونان 1: 6) : فَجَاءَ إِلَيْهِ رَئِيسُ النُّوتِيَّةِ وَقَالَ لَهُ: «مَا لَكَ نَائِمًا؟ قُمِ اصْرُخْ إِلَى إِلهِكَ عَسَى أَنْ يَفْتَكِرَ الإِلهُ فِينَا فَلاَ نَهْلِكَ».
5. عدم المبالاة بالصلاة لا تتناسب مع نبي أثناء المخاطر ولا يليق أيضا بأن يظل هذا النبي مضجعاً ونائماً عندما تستدعي الأمور اليقظة والسهر والتعب حيث الحاجة بالحري لمعونة الله. ومن هذا الموقف نستطيع أن نفهم أن النوم أخذه قبل أن تبدأ العاصفة. لأنه مسألة أن ينزل إلي جوف السفينة تظهر أنه إنسان قد تعود أن ينعم بالهدوء. لأن القديسون يحبون دائما تجنب ضوضاء العالم ويبتعدون عن العالم وأن يبقوا بمفردهم كما يقول إرمياء النبي : ” جَيِّدٌ أَنْ يَنْتَظِرَ الإِنْسَانُ وَيَتَوَقَّعَ بِسُكُوتِ خَلاصَ الرَّبِّ. جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يَحْمِلَ النِّيرَ فِي صِبَاهُ. يَجْلِسُ وَحْدَهُ وَيَسْكُتُ، لأَنَّهُ قَدْ وَضَعَهُ عَلَيْهِ ” (مراثي أرميا 3: 26-28).
6. غريب جداً، الملاحون يفحصون شيئًا غير معتاد وفضولي، مسألة أنهم يريدوا أن يعرفوا بالقرعة هذا الذي أغضب الله. لكن نُسق هذا بطريقة مفيدة، لكي يصير واضحاً مَنْ هو الذي ظن أنه يمكنه أن يهرب من أعين الله. لأن القرعة وقعت عليه وبدا أن هذا الأمر ظاهر من الأمور ذاتها التي حدثت لأنه، كما هو طبيعي، لأنه ربما خاف الإدانة . بالتالي من الحكمة أن يحفظ النصيحة : “لا تستحي أن تعترف بخطاياك ولا تغالب مجرى النهر” (حكمة سيراخ 4: 31).
(يونان 1: 8-10) : ” فَقَالُوا لَهُ: «أَخْبِرْنَا بِسَبَبِ مَنْ هذِهِ الْمُصِيبَةُ عَلَيْنَا؟ مَا هُوَ عَمَلُكَ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ؟ مَا هِيَ أَرْضُكَ؟ وَمِنْ أَيِّ شَعْبٍ أَنْتَ؟» فَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا عِبْرَانِيٌّ، وَأَنَا خَائِفٌ مِنَ الرَّبِّ إِلهِ السَّمَاءِ الَّذِي صَنَعَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ». فَخَافَ الرِّجَالُ خَوْفًا عَظِيمًا، وَقَالُوا لَهُ: «لِمَاذَا فَعَلْتَ هذَا؟» فَإِنَّ الرِّجَالَ عَرَفُوا أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ، لأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ.“.
7. لقد سأله الملاحون أسئلة مفيدة حيث أنهم عرفوا من القرعة أنه هو السبب دون أن يتمكنوا أن يتحققوا بوضوح من طريقة خطيته. لكن لأنهم كانوا عابدي أوثان أمروه أن يقول لهم، ما هو عمله، ومن أين أتي وما هي أرضه ومن أي شعب هو. واعتقد أنهم طلبوا أن يعرفوا مَنْ هو الإله الذي قاومه، لأن كل واحد من الملاحين له إله ولم يكن بالنسبة لهم إله الكل واحد، واعتقدوا إنهم لو أرضوا الإله الغضوب مع شياطنيه بأنهم سوف يفلتون من الشر الناتج من سوء الأحوال الجوية. لكن لأن النبي دعا ذاته عبد الله الذي خلق الأرض والسماء وقال أنه يعبد هذا الإله، فهموا مباشرة أنه هرب بعيدا عن إلهه وأيضا فهموا لماذا هرب. لأنه غير مسموح لليهود أن يبتعدوا عن الأرض التي أعطيت لهم نصيبا ولا مسموح لهم أن يزوروا أمم أخري ولا يذهبوا لمدن يعيش فيها عابدو الأصنام. الأمر يبدو لهم ملوماً وبه شبه عصيان، وبدا لهم أنه مخالف للناموس وجدير بالإدانة والعقاب. وحقا يؤكد الرب بوضوح لليهود أنهم سوف يفقدون الخلاص الذي يتحقق بالإيمان إذ لم يطلبوه وهو حاضر معهم وكان مازال في العالم. لأنه قال: “أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا يَسِيرًا بَعْدُ، ثُمَّ أَمْضِي إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي. ستَطْلُبُونَنِي وَلَا تَجِدُونَنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا لَا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا” (يو 7: 33-34). لكن هؤلاء قالوا بجهل تام: «إِلَى أَيْنَ هَذَا مُزمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ حَتَّى لَا نَجِدَهُ نَحْنُ؟ أَلَعَلَّهُ مُزمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى شَتَاتِ الْيُونَانِيِّينَ وَيُعَلِّمَ الْيُونَانِيِّينَ؟” (يو 7: 35).
فكأنه شئ سطحي وغير مفيد وبعيد تماماً عن عاداتهم، إذ يعتبرون أن الإختلاط بجموع الأمم جدير باللوم. إذن لأنه لم يبق في حدود اليهودية بل سافر معهم إلي ترشيش تشككوا من جهته وإستنتجوا أنه رفض الحياة وفق الناموس وقبل عادات الأمم وحرص علي الذهاب بعيد عن الله.
(یونان 1: 11-12) : “فَقَالُوا لَهُ: «مَاذَا نَصْنَعُ بِكَ لِيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنَّا؟» لأَنَّ الْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ اضْطِرَابًا. فَقَالَ لَهُمْ: «خُذُونِي وَاطْرَحُونِي فِي الْبَحْرِ فَيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنْكُمْ، لأَنَّنِي عَالِمٌ أَنَّهُ بِسَبَبِي هذَا النَّوْءُ الْعَظِيمُ عَلَيْكُمْ»“.
8. إذن لقد خافوا من البحر الذي إزداد هياجا ضدهم بطريقة لا تطاق، كذلك إرتعبوا خوفا من إله العبرانيين بنفس القدر. لأن قوته ومجده لم تكن بالنسبة لهم . غير معروفة بالرغم من أنهم من أمم غريبة. ولأنه قال لهم أنه عبد الله ، سقطوا في حيرة وتشاوروا معا. لقد ترددوا في مسألة الشروع في قتله لأنهم خافوا من غضب الله كلي القدرة. لكن لأن البحر يزداد هياجا ضدهم إعتبروه أمراً إجباريا بأنه يجب أن يحرصوا علي ذواتهم . لأجل هذا طلبوا منه أن يقول لهم ماذا ينبغي أن يفعلوا لكي تهدأ الأمواج ويتجنبوا هم أنفسهم الخطر الأعظم. وماذا قال لهم النبي؟ إعترف بخطيته وخجل من عمله وأدان فكرة الشرير. لأنه يقول “خذوني وأطرحوني في البحر”. أي قال لهم أنه يجب أن يُعاقب بواسطتهم لأنه تنصل من رسالته. لأنه كان يعرف أن العاصفة سوف تهدأ لو أخذت ما تريده وسوف يتوقف البحر عن هياجه عندما يأخذ ذاك الذي قاوم الله.
(يونان 1: 13-15) : ” وَلكِنَّ الرِّجَالَ جَذَفُوا لِيُرَجِّعُوا السَّفِينَةَ إِلَى الْبَرِّ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا، لأَنَّ الْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ اضْطِرَابًا عَلَيْهِمْ. فَصَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ وَقَالُوا: «آهِ يَا رَبُّ، لاَ نَهْلِكْ مِنْ أَجْلِ نَفْسِ هذَا الرَّجُلِ، وَلاَ تَجْعَلْ عَلَيْنَا دَمًا بَرِيئًا، لأَنَّكَ يَا رَبُّ فَعَلْتَ كَمَا شِئْتَ». ثُمَّ أَخَذُوا يُونَانَ وَطَرَحُوهُ فِي الْبَحْرِ، فَوَقَفَ الْبَحْرُ عَنْ هَيَجَانِهِ.” .
9- حكم النبي علي نفسه بالموت إذ كان يهدف لأن يزيل خوفهم بأن يضع حياته في خطر. لكن هؤلاء كانوا مازالوا خائفين ومترددين في الإقدام علي القتل، أرادوا أن ينقذوا هذا الذي كان عبد الله ويحتفظوا به حيًا ليرجعوه إلي اليابسة، وهكذا يقللوا من هذا الغضب. كذلك بذلوا مجهودات عنيفة لكي يُرجعوا السفينة إلي البر لكن هدف مبررهم كان بلا نفع، لأن الهواء كان يزداد إضطرابًا مما جعل السفينة تسرع مندفعة من جراء هياج العاصفة. هكذا، إذن، حاولوا أن يهدءوا السفينة بالصلاة وتوسلوا لله أن يغفر لهم لأنهم لا يريدون أن يُقدموا علي مسألة القتل، بل أذعنوا الإرادة يونان حيث أُجبروا أخيرًا علي إلقاءه في البحر وهكذا القوة. وعندما أُلقي يونان في البحر هدأ ونشر سكينة وأعطي للملاحين رجاء الخلاص. وكونه قد أذعن دائمًا للمشيئات الإلهية وأطاع بسرعة الأوامر السيدية، فهذا قد ظهر من الأحداث ذاتها.
(يونان 1: 16) : “فَخَافَ الرِّجَالُ مِنَ الرَّبِّ خَوْفًا عَظِيمًا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَةً لِلرَّبِّ وَنَذَرُوا نُذُورًا.” .
10. كان ربحهم عظيمًا لأنهم آمنوا بأن الله هو واحد بطبيعته، بالرغم من أنهم كانوا قد إنفصلوا عنه وسلموا أنفسهم لضلال مبين واعتقدوا أنه كان يوجد عدد لا يحصي من الآلهه في العالم. حسنًا لقد ذبحوا للذي بطبيعته هو الله الحقيقي والوحيد متخلين عن آلهتهم تاركين أولئك الذين كرموهم وهم في ضلال أولئك الذين سرقوا المجد الذي يليق بالله. أقاموا للإله الحقيقي صلوات بالرغم من أنهم إعتادوا أن يفعلوا هذا الأمر لشياطين البحار. لأن اليونانيين كانوا يؤمنون بأن السيادة علي البحر قد أعطيت لإله إسمه “بوسيدوناس”، وكل ما يؤمنون به هو أساطير وأكاذيب وغباء محكم. نحن نمجد الذي بطبيعته إله ونقول له :” أَنْتَ سَحَقْتَ رَهَبَ مِثْلَ الْقَتِيلِ بِذِرَاعِ قُوَّتِكَ بَدَّدْتَ أَعْدَاءَكَ لَكَ السَّمَاوَاتُ. لَكَ أَيْضًا الْأَرْضُ الْمَسْكُونَةُ وَمِلْؤُهَا أَنْتَ أَسْسْتَهُمَا. الشِّمَالُ وَالْجَنُوبُ أَنْتَ خَلَقْتَهُمَا تَابُورُ وَحَرْمُونُ بِاسْمِكَ يَهْتِفَانِ” (مز89: 10-12).
تفسير يونان – مقدمة | يونان 1 | تفسير سفر يونان |
تفسير العهد القديم | تفسير يونان 2 |
القديس كيرلس الكبير | ||||
تفاسير يونان 1 | تفاسير سفر يونان | تفاسير العهد القديم |