شرح سفر يونان النبي أصحاح 2 للقديس كيرلس الأسكندري

 

(يونان 2: 1 ) – (يونان 1: 17) : “وَأَمَّا الرَّبُّ فَأَعَدَّ حُوتًا عَظِيمًا لِيَبْتَلِعَ يُونَانَ. فَكَانَ يُونَانُ فِي جَوْفِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال“.

11- أمر الله الحوت حين هدأت الأمور بالصلوات. لأن الله حين يريد أن يصل شئ إلى أبعد حد يتم بواسطة قوة الناموس أي الأمر. لأننا لا نقول أنه أمره كما بالنسبة لنا أو بالنسبة للملائكة، أي أن إله الكل فكر في ذهنه وأمر الحوت بصوت عال. لأن هذه سذاجة عظيمة ولا نبتعد كثيرًا عن الغباء أن نظن بأن إله الكل يتوجه أيضا للحيوانات بمثل هذه الطريقة، بل حين يقال أنه أمر شيئاً أو حيواناً غير عاقل أو عناصر أو جزء من الخليقة، نقول إنه ناموس وأمر يريده هو. لأن الكل يذعن لمشيئاته وأن طريقة طاعة الكل لهي سرية تمامًا، لكن هذه الطريقة معروفة لدي الله. هكذا إبتلع الحوت يونان بدون أن يصيبه بأي أذي وبقي في داخله ثلاثة أيام وثلاثة ليال. ربما سوف يعتقد البعض أن الأمر هو سخيف وأبعد من المنطق السليم لأنهم سوف لا يؤمنون، وبالحري الآخرين الذين لا يعرفون بطبيعته أنه الإله الحقيقي، إذ هم ملتصقون بضلالات الشياطين سيقولون إذن كيف كان في إستطاعته أن ينقذ وهو كان موجوداً في بطن الحوت. وكيف لم يتحلل طالما أبتلع؟ أو كيف تحمل الحرارة الطبيعية والوسط المحيط من السوائل، التي في بطن الحوت ، كيف عاش؟ أو بالحري كيف، وهو الذي كان طعاماً، لم يتحلل ولم يهضمه؟ لأن الجسد هو ضعيف جدا ومهيئ جدا للتحلل والفساد.

حسنا نقول أنه حقا أمر غريب وبسهولة يمكن إعتبار الحدث أنه أبعد من المنطق ومن الأمور المعتادة. لكن لو قلنا أن الإنجاز هو إنجاز الله، مَنْ يكون هذا الذي سوف يتشكك في الأمر. لأن الله هو كلي القدرة ويغير طبائع الكائنات بسهوله كما يريد هو، ولا يقف شيىء ضد مشيئاته غير المنظورة. لأن هذا الذي يفسد بطبيعته، يمكن أن ينتصر علي الفساد لو أراد الله، والثابت وغير المتزعزع وغير الخاضع لنواميس الفساد ، سوف يخضع بسهوله للفساد، لأن طبيعة الكائنات تصير طبقا لإرادة الخالق. علاوة علي ذلك ليتنا نعرف الآتي، اليونانيون الذين صنعوا بأنفسهم أساطيرهم يقولون إن هيراكليس إبن دياس والكمينيس قد إبتلعه حوت لكنه هرب من حرارة الحوت الداخلية برأسه الصلعاء وشعره فقط هو الذي سقط. ذكر هذا الحدث “ليكوفرون” الذي هو واحد من خطبائهم والذي قال عن هذا الأمر:

أسود الليالي الثلاثة، التي كانت علي حدود

ترتيوناس إبتلعت كلب البحر

لكننا لا نؤكد الأمور الإلهية من أساطير أولئك، لكن نذكر أمور مفيدة لهؤلاء الذين لا يؤمنون، وأن تاريخ هؤلاء لا يرفض هذه الروايات. لكن لأنني أري من الحتمي أنه يجب أن أتوافق مع الأمر الغريب والأمور التي تصير أيضا الآن وفق إرادة الله، فلنمض ونقول هذا الأمر، فداخل الرحم يعوم الجنين في السوائل، لكن كأنه مدفون في البطن التي تحمل به ولا يمكن أن يتنفس، ويحيا أيضا في هذه الحالة ولديه طعامه بطريقة عجيبه وفق إرادة الله. لكن أي شرح منطقي لا يستطيع أن يُعطي ولا هو ممكن لأمور الله أن تُدرك بالعقل لأنه وفق المكتوب “مَنْ عرف فكر الرب”؟ (رو 11: 34). أو مَنْ يستطيع أن يعرف طرق الغرائب فالعقل سوف لا يستطيع أن يتخطي الأمور التي تفوق المنطق؟ بالتالي عدم الإيمان هو أمر بالنسبة لنا أمر خطير وغير لائق، فلو فعل الله شيئًا من الأشياء التي هي أبعد كثيرًا من قوة المنطق، علينا أن نقبله ونُسلم به تاركين الجدل المتطرف.

لكن أعتقد أنه يجب، بسبب أن النبي قد أُدرك كنموذج لخدمة المسيح أن نضيف بالضرورة الآتي: لقد صارت الأرض في خطر، والجنس البشري تعرض لشتاء قارص وأمواج الخطية إنقضت عليه واللذة المرعبة والتي لا تطاق التفت عليه وغطته والفساد مثل أمواج هائجة هبت عليه والرياح الشديدة المتوحشة قهرته، أقصد رياح الشيطان والقوات الشريرة التي توجد تحت سيادته وتعمل معه. لأننا كنا نوجد في هذه الحالة وتراءف علينا الخالق إذ أرسل الله الآب من السماء إبنه الذي أخذ جسداً بشريًا وجاء إلي الأرض المعرضة للأخطار وللشتاء القارص وأسلم ذاته بإرادته للموت لكي تتوقف العاصفة ويسكن البحر ويهدأ الموج وتنتهي العاصفة ، لأننا خلصنا بموت المسيح والشتاء مر وزال والنوء والأمواج توقفت وضعفت الرياح وعم الهدوء، والآن توجد في سكينة روحية طالما تألم المسيح لأجلنا. شئ مثل هذه الأشياء موجود في الكتابات الإنجيلية. ففي مرة تعذبت سفينة الرسل من الأمواج وهم في بحيرة طبرية. إذ هبت فجأة عاصفة شديدة وتعرضوا لعذاب شديد وقارص لا يُحتمل ووجدوا أنفسهم أمام خطر عظيم ، فأيقظوا المسيح الذي كان معهم صارخين بقوة : “يا سيد نجنا فإننا نهلك” (مت 8: 25). وللتو قام المسيح وإنتهر البحر بسلطانة “فصار هدوء عظيم” (مت 8: 26) ، وأنقذ التلاميذ إذن الحدث كان نموذجاً لكل ما صار للطبيعة البشرية. لأننا بواسطة المسيح تحررنا من الموت والفساد والخطية والشهوات والشتاء القديم قد إبتعد ( والأمور البشرية عادت مرة أخرى إلى الهدوء.

(یونان 2: 1-2) : “فَصَلَّى يُونَانُ إِلَى الرَّبِّ إِلهِهِ مِنْ جَوْفِ الْحُوتِ، 2وَقَالَ: «دَعَوْتُ مِنْ ضِيقِي الرَّبَّ، فَاسْتَجَابَنِي. صَرَخْتُ مِنْ جَوْفِ الْهَاوِيَةِ، فَسَمِعْتَ صَوْتِي.

12- حسناً، بدون أن يعاني أي ضرر بل كان يستخدم الحوت كأنه منزله، وكان بكامل وعية يشعر بحاجته لمعونة الله وتحقق من أن الله كان راضيًا عليه ولم يكن يجهل أن السبب في الذي حدث أنه قد رفض الخدمة، إلتفت للصلوات موجها تمجيدات وتشكرات، وفي نفس الوقت إعترف بمجد مخلصه وأعجب بسيادته وكرز بصلاحه. لأنه قال أنه قبل صلاته، وأعتقد أنه أدرك هذا بفضل موهبته النبوية. قوله من عمق الهاوية” يعني من بطن الحوت مشبها الحوت بالهاوية والموت لأنه يعرف أن الحوت حين يقتل يبتلع ويشفط ضحيته.

 

(يونان 2: 3-4) : “لأَنَّكَ طَرَحْتَنِي فِي الْعُمْقِ فِي قَلْبِ الْبِحَارِ، فَأَحَاطَ بِي نَهْرٌ. جَازَتْ فَوْقِي جَمِيعُ تَيَّارَاتِكَ وَلُجَجِكَ. فَقُلْتُ: قَدْ طُرِدْتُ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيْكَ”.

13. إنه يشرح بطرق كثيرة الحدث مصعدا إلي أعلي النعمة ومؤكدا علي الإرادة الإلهية بأنها تستطيع أن تنقذه بسهولة من أي شر. لأنه يقول بأنه وُجد في عمق قلب البحار وفي مياه كثيرة كأنها أمواج نهر أحاطت به وقد أتت عليه نكبة عظيمة حتى أنه وصل إلي التفكير بأنه طرد من أمام عينى الله ويأس من خلاصه. هو أمر مخيف ومهلك أن يخرج، أقصد خارج نظر الله. وحقا داود توسل قائلاً : ” لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي لَا تُخَيِّبُ بِسَخْطِ عَبْدَكَ. قَدْ كُنْتَ عَوْنِي فَلَا تَرْفُضْنِي وَلَا تَتْرُكْنِي يَا إِلهَ خَلاصِي” (مز 27: 9). نتيجة لإنصراف وجه الله عنه، هو علي أي حال يعاني من نتائج الغضب الإلهي، أو بالحري غضب إنصراف وجه الله سوف يُعلن وسوف يسبق المعاناة من نتائج الغضب.

(يونان 2: 4) : “وَلكِنَّنِي أَعُودُ أَنْظُرُ إِلَى هَيْكَلِ قُدْسِكَ

14- لقد أدرك أنه حفظ حيًا بقوة الله وعاش وأنقذ لأنه حُسِبَ أهلاً أن يكون لديه معونة سماوية داخل الحوت في بطن هذا الوحش بطريقة عجيبة تفوق المنطق. لكنه تشكك في إن كان سوف يطرده الوحش ويخرجه ثانية إلي النور. فهو يعلن شوقه العظيم ويتمني حقاً أن ينتقل إلي الهيكل الإلهي ويقدم تمجيداته لله الذي خلصه، وتمني أن ينعم بهذه النعمة، مؤكدًا . كما قلت. أن الله يقدر أن يفعل كل شئ.

(يونان 2: 5-6) : “قَدِ اكْتَنَفَتْنِي مِيَاهٌ إِلَى النَّفْسِ. أَحَاطَ بِي غَمْرٌ. الْتَفَّ عُشْبُ الْبَحْرِ بِرَأْسِي. نَزَلْتُ إِلَى أَسَافِلِ الْجِبَالِ. مَغَالِيقُ الأَرْضِ عَلَيَّ إِلَى الأَبَدِ. ثُمَّ أَصْعَدْتَ مِنَ الْوَهْدَةِ حَيَاتِي أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهِي“.

15- لأن الله أنقذه بقوته التي لا توصف، أراد أن يوجه إليه تسابيح الشكر المجيدة. لقد روي الأحداث ويشرح بالتفصيل الكارثة التي وقع فيها ، وكرز ثانيةً بالطريقة التي أنقذ بها. حسنًا بكونه وجد في البحر وفي هاوية عميقة وفي أسافل الجبال لأن الحوت نزل في أحجار وكهوف البحر، كنبي لم يكن يجهل هذا الأمر، لكنه يقول إنه نزل إلي الأرض ، “مغاليق الأرض”، أي إلي الهاوية، ليس بالطبع أنه وُجد في الهاوية (لأننا لا نري أنه قد مات). بل ضخامة المخاطر وما حدث جعله يبدو كأنه ميت وأنه قد وصل إلي الهاوية، حيث لن يمكنه أن يخرج إطلاقا ويرجع، وهو قد أُغلق عليه لأن قول “مغاليق الأرض” يعلن أنها بلا أبواب تفتح ولا أحد أبدا ينتصر عليها أي يحطمها. لكن كون أنه لم يمت بل عاش في بطن الحوت وكان فيه بدون أن يعاني شيئًا يقوده إلي الموت أو التحلل، يمكن أن يظهره بسهولة بأنه كان يحفظ رجاءه في الخلاص. لذلك يقول : “ثم أصعدت من الوهدة حياتي أيها الرب ، لأنه تمني أن يخرج إلي النور وكأنه من الهاوية يخرج من بطن الحوت.

(يونان 2: 7) : “حِينَ أَعْيَتْ فِيَّ نَفْسِي ذَكَرْتُ الرَّبَّ، فَجَاءَتْ إِلَيْكَ صَلاَتِي إِلَى هَيْكَلِ قُدْسِكَ.

16- بالنسبة للذين يريدون الترقي، فالألم ليس هو بلا مكسب، ولا يمكن أن تُعتبر الضيقة أمرًا مؤذيًا وضارًا. ويؤكد هذا الأمر داود الطوباوي قائلاً : ” في ضيقي دعوت الرب” (مز 18: 6) ، بينما نبي آخر يقول : “يارب في الضيق طلبوك” (إش 26: 16). أيضا بولس الرسول أثني علي الضيقة، أقصد الضيقة التي تساهم في إكتساب الفضائل. لأنه يقول : ” الضيق ينشئ صبرا والصبر تزكية والتزكية رجاء والرجاء لا يُخزي” (رو 5: 3-5). إذن عندما إنطفئت حياة النبي، أي عندما عاني من خطر عظيم وألم شديد حينذاك أيضًا نشأ شئ مفيد لأن وفق البعض، فإنه حين إنزلق في هوة اليأس لم يشتك من القرارات الإلهية بل تذكر المخلص مباشرةً، لأنه صرخ مشتاقاً لمعونته وبدون أن يجهل صلاح قوته وتفوقها وجه توسلاته إليه مترجيًا إياه أن يخلص حياته من الموت والفساد. هكذا إنه لأمر عظيم وجدير بالإعجاب أن لا يُظهر أحد لا مبالاة حين يتألم بل بالحري بتضرعات وتوسلات يحاول أن يُرضي الرب ويطلب منه أن يوقف الشر ويوقف النكبة.

(يونان 2: 8-9) : “اَلَّذِينَ يُرَاعُونَ أَبَاطِيلَ كَاذِبَةً يَتْرُكُونَ نِعْمَتَهُمْ. أَمَّا أَنَا فَبِصَوْتِ الْحَمْدِ أَذْبَحُ لَكَ، وَأُوفِي بِمَا نَذَرْتُهُ. لِلرَّبِّ الْخَلاَصُ

17- يقول إن آخرون يجهلون أنك أنت رب الكل والخالق وبالتالي هم ممسوكين في شباك البطل ويعبدون الآلهة الكاذبة ويترقبون الطيور التي تطير، أي الرجاء حيث يستندون علي الشعوذة ويرعون أباطيل، إذ لا يطلبون رحمتك ولا هم حصلوا أبداً علي هذا الرجاء. لكن أنا لم أكن أبدًا مثل أولئك بل اعترف بك معينا وصالحاً ورحومًا.

لأجل هذا ، أصرخ بصوت عظيم سوف أمجدك وسوف أقدم لك تسابيحيى كأنها شئ من الروائح الطيبة ، أي سوف أقدم لك ذبائح الشكر والحمد والتسبيح. وسوف أتمم صلواتي لأجل خلاصي أي لأجل كل ما يساهم في خلاصي ويُفيد نفسي، وهذا معناة الخضوع لكل شئ يُسر به الله، وإكتمال العمل النبوي تاركاً اللامبالاة وعدم الإحتمال والصبر.

إذن لقد صلي النبي بالرغم من أنه كان في بطن الحوت والرمز بالطبع هو بشري، لكن المسيح هو الصورة الحقيقية، إذ قبل الصليب الكريم وساعة الألم كانت قد أتت، قال للآب السماوي: “يَا أَبَتاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ، وَلَكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ” (مت 26: 39). أيضا بالإضافة إلي هذا سنجد بطرس الحكيم يشهد عنه بهذه الأمور التي قالها داود : “لأنك لن تترك نفسي في الهاوية ولا تدع قدوسك يري فسادًا” (أع 2: 27 ، مز 15: 10) . ” حقاً جسده لم يعرف فسادًا لأنه عاد ثانية إلي الحياة بعد ثلاثة أيام إذ لم يكن ممكنا أن يُمسك منه” (أع 2: 24) .

(يونان 2: 10) : “وَأَمَرَ الرَّبُّ الْحُوتَ فَقَذَفَ يُونَانَ إِلَى الْبَرِّ“.

18. لقد تلقي الحوت أمرًا من قوة الله غير الموصوفة وتحرك تجاه المكان الذي يريده الله وأخرج من بطنه النبي بدون أن يزيل ما إستفادة من ضيقته بل بالحري حرضه من جراء اختباره هذا أن يتعلم بكل وضوح أنه لأمر خطير أن يعارض أحد أوامر الرب.

تفسير يونان 1 يونان 2  تفسير سفر يونان
تفسير العهد القديم تفسير يونان 3
القديس كيرلس الكبير
تفاسير يونان 2  تفاسير سفر يونان تفاسير العهد القديم

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى