تأملات في سفر يونان لقداسة البابا شنودة الثالث – الله في سفر يونان
في هذا السفر الصغير المملوء بالحيوية والتعاليم، تأملنا في حياة يونان النبي نفسه، واهتمامه بكرامته، واعتزازه بكلمته وما وقع فيه من أخطاء مذهلة بسبب هذه الكرامة الزائفة، وكيف كان البحارة الأمميون أفضل منه أيضًا الكائنات غير العاقلة التي أطاعت الله. كما تحدثنا في هذا السفر أيضًا عن أهل نينوى وانسحاق أنفسهم وصدق توبتهم.
ولكن أعمق التأملات في هذا السفر هو الخاص بالله ذاته، تأمل جميل حقًا هو “الله في سفر يونان”. ولعل أول ما يسترعى انتباهنا في هذه القصة الجميلة غير ما سبق ذكره فيما قبل هو بحث الله عن الإنسان.
الله يبحث عن الإنسان
نجد في هذا السفر أن الله هو الذي يبحث عن الإنسان، وليس الإنسان هو الذي يبحث عن الله. تعلَّمناه حياة التوبة أن الإنسان ينبغي أن يرجع إلى الله، كما رجع الابن الضال إلى أبيه، إذ خاطب نفسه قائلا ” أقوم وأرجع إلى أبي” (لو 15: 18).
أما في سفر يونان، فنجد أن الله هو الذي يفتش عن الإنسان لكي يتوِّبه. نراه يبحث عن الكل، يجول يطلب النفوس التي له..
هو بذاته يبحث عن النفوس الموجودة في السفينة ليخلصها. وهو بذاته يبحث عن النفوس الضالة في نينوى لكي يتوبها فتخلص. وهو أيضًا يستخدم كل الوسائل لكي يخلص يونان النبي. إن كان الإنسان لا يأتي إليه، يذهب هو إلى الإنسان، لكي يصلحه ويصالحه. كما قال القديس يعقوب السروجي في مناسبة ميلاد المسيح ” كانت هناك خصومة بين الله والإنسان. فلما لم يذهب الإنسان لكي يصطلح مع الله، نزل الله لكي يصالح الإنسان”.
والله لا يجد أن هذا ضد كرامته، أن يبحث عن الإنسان ويسعى إلى محبته! خالق السماء والأرض يجد لذته في البحث عن التراب والرماد! ليعطينا فكرة عن حنان الأبوة وعن سماحة القلب الواسع.
وفي البحث عن الإنسان لجأ الله إلى طرق متنوعة عديدة (.. منها التخويف، ومنها العتاب، ومنها الاقتناع، ومنها الملاطفة، ومنها العقوبة.. المهم عنده أن يصل إلى قلب الإنسان ويجد له موضعًا فيه.. الله جوعان حبًا إلى هذا الإنسان، يريد أن يستريح في قلبه.
نلاحظ أيضًا أن الله لم يترك الإنسان إلى حريته تركًا كاملًا.. أقصد: لم يتركه إلى حريته، الترك الذي يحمل معنى الإهمال وعدم المبالاة بمصيره، كأنه يقول له “أن جئت، كان بها. وآت لم تأت فأنت وشأنك”!! كلا، بل أن لم تأت إلى، أنا أسعى إليك وأجرى وراءك، وأبحث عنك، وأمسك بك، وأظل هكذا حتى أرجعك. أن رأس الله تريد أن تستريح في قلب هذا الإنسان المتعب لكي تريحه من تعبه، وتحول تعبه إلى راحة..
ونلاحظ في سفر يونان أن بحث الله عن الإنسان كان بحثًا جديًا، وليس بحثًا رسميًا شكليًا. كان بحثا يحمل معنى الإصرار على إرجاع المحبة بأية الطرق، ولو أدى الآمر آن يضرب هذا الإنسان، لكي يستفيق، فيرجع إلى محبته..
هذا هو التأمل الأول. أما الثاني فهو: لا مانع من استخدام العقوبة.
لا مانع من استخدام العقوبة
أن الله الحنون لا مانع عنده من استخدام طرق العقوبة والتخويف، أن كانت نافعة لخلاص الإنسان. وفى سفر يونان نجد ثلاثة أمثلة وهى:
1 – مثال تهديد من بعيد:
مثلما حدث مع أهل نينوى.. مجرد إنذار. سأحرق المدينة بعد أربعين يومًا.. “بعد أربعين يوما تنقلب نينوى”… تهديد، مع إعطاء فرصة، وفرصة طويلة.. ولم تنقلب المدينة، لأنها خافت من الغضب الآتي ومن العقوبة المنتظرة فتابت.
2- مثال أخر أشد وهو لطمة من الخارج:
مثلما حدث مع بحارة السفينة وركابها، ومنهم يونان. هنا لم يكن الأمر مجرد تهديد وإنما بدأ التنفيذ العملي إلى حد ما. أوامر أصدرها الله إلى الزوابع أن تلطم السفينة حتى تكاد تغرق. ولكن نلاحظ أن الله وضع للأمواج حدودًا في الضرب: اضربوا السفينة من الخارج، ولكن لا تدخلي أيتها المياه إلى داخلها. اضربي السفينة، زعزعي السفينة، ولكن لا تَمِسي أحدًا من ركابها بسوء….
نلاحظ هنا أن الضربة سببت بعض الخسائر، إذ أضطر الناس أن “يطرحوا الأمتعة التي في السفينة إلى البحر، ليخففوا عنها”…
هذان مثالان من عقوبة الله. أما الثالث فأشد منهما:
3- في النوع الثالث، دخلت العقوبة في جدية خطيرة..
صدر الأمر إلى الحوت أن يبتلع يونان، نظر إلى ذاته، فوجد نفسه في بطن الحوت….
هذه هي الطرق الثلاث في العقوبة، والله يريدكم أن تصلوا إليه بأية طريقة تروقكم أو تناسبكم..
لو أدى الأمر، لا مانع لدى الله من أن يبتهج الزوابع ضد سفينة حياتكم، ويضطركم أن تلقوا بعض المهمات العالمية خارج السفينة. من الجائز أن تكون سفينة حياتكم محملة بالبر الذاتي، أو محملة بالعناد، أو بمحبة العالم. وعندما تهزها الموجة تتزعزع. خففوا سفينتكم أيها الأخوة. ربما سمح الله أن يضرب السفينة لكي نلقى منها حقيبة البر الذاتي، وزكيبة الشهوات، ومقطف العناد… ارموا كل ما يعطلكم، ولا تبقوا داخلكم سوى محبة الله….
أن لم تصلح معك هذه الطريقة، ربما يرسل لك الرب حوتا ليبتلعك! وأنت تصرخ إلى الله وتقول:
أنا يا رب لا أحتمل الحوت ولا الزوابع. أقل شيء يوصلني إليك. لتكن يدك علي، يدك لا عصاك..
الناس يختلفون في مدى حساسيتهم وفي مدى استجابتهم لصوت الله. منهم من يشير إليه الله من بعيد، مجرد إشارة فيحن ويستجيب.منهم من أصابته أقل إصابة أو أقل لطمة، يتذكر خطاياه ويتوب، ويرجع إلى الله قبل أن يتطور الأمر إلى أسوأ. ومن الناس نوع لا يأتي ألا بالعنف وبالضربة الشديدة…
فلا تلجئوا الله إلى استخدام الطرق العنيفة لاجتذابكم. أن استخدم الله معكم العنف، فأعلموا أن ذلك هو لمقابلة العنف الذي فيكم، العنف الذي في قساوة قلوبكم وعدم استجابتها لحنوا الله..
أن أهل نينوى الذين خافوا من بعيد، لم يستخدم الله معهم العنف. وأهل السفينة الذين استطاعت مجرد الأمواج أن تغير قلبهم، لم يسمح الله مطلقا بإغراق سفينتهم. أما يونان الشديد العنف، فلم تكن تصلح له هذه اللمسات البسيطة. لقد كانت الأمواج تضرب السفينة، والسفينة تكاد تنكسر، والأمتعة يلقيها البحارة في البحر. وفي أثناء كل ذلك كان يونان قد “اضطجع ونام نومًا ثقيلًا”!! انه نوع لا تنفعه العقوبة الخفيفة… في النوم الخفيف يمكن أن ترتب على الكتف أو تلمس الوجه فيصحو النائم. أما من نام نوما ثقيلا، فيحتاج إلى هزة عنيفة لتوقظه… أخاف أن يكون قلوبكم من هذا النوع الثقيل… الله يريد أن يوصلكم إليه فيا ليتكم تستجيبون إلى طرقه الهينة اللينة اللطيفة ولا تلجئوه إلى العنف..
لعل بعضكم يعجب كيف تتفق الطرق العنيفة مع الله ووداعته؟ والجواب بسيط. أن الله يهمه مصيرك الأبدي، أكثر بكثير من حياتك على الأرض. وفي سبيل خلاصك، هو مستعد أن يعمل أي عمل ألهي مهما كان عنيفا، لكي يرجعك إليه.
ونلاحظ أن عنف الله ممزوج بالرحمة والحنو، لأنه مجرد وسيلة. فعندما أرسل الزوابع والأمواج إلى السفينة، لم يسمح أن تمس أحد داخلها. ولما أرسل حوتا ليبتلع يونان،لم يسمح للحوت أن يضره. هو يضرب أحيانا، ولكن على قدر احتمال الإنسان، وعلى قدر ما توصل إليه الضربة….
يبقى بعد كل هذا سؤال هام وهو:
ما هي الطريقة التي تصلح لك، فيستخدمها الله لخلاصك؟
كن صريحا مع نفسك ومع الله. أن كنت لا تأتي آلا بضربة شديدة تصيبك، قل له “اضرب يا رب كما تشاء، ولا تشفق…المهم أن أصل إليك”.. وأن كانت التجارب والضيقات هي التي تقربك إلى الله قل له هكذا” أعترف لك يا رب أنني أن عشت في راحة، أنساك وأتركك. وأن أحاطت بي الضيقات، أعيد صلتي بك.. يكفى أن تسمح لي برئيس متعب، أو بمشكلة في البيت، أو بمرض، لكي تجدني تحت قدميك. وتجد قلبي معك”.
كن صريحا يا أخي مع الله، وتقبل كل تدابيره بفرح وشكر. ولكن أحترس من أن تقودك طرق الله إلى العكس..
كإنسان يرسل الله له ضيقة نافعة لخلاص نفسه، فيتخذها لهلاكه. يرسل الله له حوتًا ليبتلعه، فبدلًا من أن يصلى في جوف الحوت كما فعل يونان، يتذمر ويضجر ويجدف على الله.. مثل كثيرين نراهم كثير الشكوى من الله: لماذا فعل الله بي هكذا؟ لماذا يضطهدني ولماذا ينساني؟!
مساكين هؤلاء أن عصا الله التي يريد بها هدايتهم، يتخذونها للتذمر، ومعالجة الله لهم يقابلونها بالشكوى.. أن أيمانهم ضعيف في عمل الله معهم وفي الثقة بحكمته..
على أية حالات أن الله لا يتضايق من التفاهم معه.
نحن الآن نتذكر صوم نينوى، ونعتبره صوم التوبة. فليتنا نتوب بأية طريقة، سواء طريقة أهل نينوى، أو طريقة ركاب السفينة أو طريقة يونان. ليتنا نتضرع إلى الله ونقول له “خسارة يا رب تعبك معنا هذه السنين كلها، أن ضاع بلا فائدة”. أكمل عملك معنا،”ولا تضيع الطبخة من أجل مليم فلفل”. لقد تعبت في خلقنا وفي رعايتنا وفي فدائنا. فلا يضيع خلاصنا من أجل هذه التوبة، أكمل عملك، ليس فقط بمليم فلفل، بل حتى بمليم شطه.. نريد أن يكون هناك فرح في السماء بتوبتنا، ولا نعطل أفراح السماء!
أخذنا الآن درسين في معاملات الله: الأول أنه يبحث بنفسه عن الإنسان، والثاني انه مستعد من أجل خلاص الإنسان أن يستخدم العنف والعقوبة.. فما هو الدرس الثالث؟ أننا نتعلم من هذا السفر أيضًا، أن الله مستعد أن يرجع عن تهديده.
الله مستعد أن يرجع
أن الله مستعد أن يرجع عن تهديده، إذا رجع الإنسان عن طرقه الخاطئة..
الله ليس من النوع الذي يصر على كل حرف خرج من فمه “أنا قلت كلمة يعنى لازم تنفذ الكلمة مهما حدث”!! كلا، الله ليس من هذا النوع. ما أسهل أن يقول الكتاب أن الرب قد رجع عن حمو غضبه “وندم على الشر الذي قال انه يفعله بشعبه” (خر 32: 12، 14). وفي قصة أهل نينوى يكرر الكتاب نفس العبارة “ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه” (يون 3: 10).
الذي ترفع عنه يونان ووجده ضد هيبته وكرامته، تواضع الله ففعله. يونان تضايق جدًا، “واغتاظ حتى الموت” لأنه قال كلمة ولم تنفذ. والله صاحب هذه الكلمة لم يتضايق مثل يونان، بل فرح بتوبة أهل نينوى وخلاصهم..
الله هو أسهل كائن يمكن أن تتفاوض معه. يكفى دمعة واحدة منك تذيب كل تهديداته وعقوباته، أن كانت دموعك صادقة ومن أعماقك يكفي أن تندم وتتوب، وتعترف وتطلب الحل، فينسى لك كل خطاياك التي تبت عنها “لا يعود يذكرها”.
أن التعامل مع الله سهل. كثير من الناس يسألون ويقولون “وهل هذه الخطية يمكن أن يغفرها لي الله، وينسى لي أني فعلت كذا وكذا؟”.. نعم يا أخي، أن التوبة مع الاعتراف والتناول تمحو جميع الخطايا، وتزيل كل نجاساتك “فتبيض كالثلج أو أكثر” (مز 51: 7؛ أش 1: 18). أن الله الحنون “نيره هين، وحمله خفيف” (متى 11: 30).
انه مستعد أن يرجع عن تهديده، ويترك كل إنذاراته، بعكس الإنسان الصلب العنيف المعتز بكلمته.
أن هيرودس الملك من أجل أنه قال كلمة، لم يستطع كملك أن يرجع في كلمته، مع أنه قالها في ساعة نشوة ولهو، حتى لو اضطرته الكلمة أن يقطع رأس يوحنا العظيم! أما الله، ملك الملوك، فمع أنه قال كلمة عادلة إلا أنه لم يجد غضاضة في أن يتنازل عنها ما دامت قد أوصلت إلى غرضها، لآن توبة الناس كانت بعدل تستحق ذلك.
انه درس أراد الله أن يلقنه ليونان، وكان يونان رافضا أن يستفيد منه. كان يونان يريد كلمة واحدة. أن قال أن تهلك المدينة فلابد أن تهلك، ولا تفاهم في ذلك.
أما الدرس الرابع الذي نتعلمه من سفر يونان، فهو طول أناة الله وصبره.
طول أناة الله وصبره
لا شك أن الله طويل البال في كسب الخطاة. ولا ييأس من أحد مهما كان متعمقا في شره.
لم ييأس من نينوى المدينة الفاسدة الشريرة الوثنية التي لا تعرف يمينها من شمالها. ولم ييأس من يونان العنيف الصلب، المقاوم لإرادة الله، المتمسك بكلمته، الذي لا يهمه خلاص أكثر من 120 ألف نسمة في سبيل أن كلمته لا تنزل إلى الأرض ولم ييأس من أهل السفينة الذين يعبدون آلهة كثيرة..
أن الله باله طويل في كسب الخطاة، ويرى أن الذي لا يتوب اليوم فقد يتوب غدا، والذي لا يتوب الآن فقد يتوب فيما بعد..
يونان يرفض أن يذهب إلى نينوى، ويأخذ سفينة ويهرب. أما الله فيطيل أناته على يونان. سأصبر عليك يا يونان حتى تذهب أخيرا. أن لم تذهب إلى نينوى في هذه المرة، فلابد أنك ستمضي إليها في المرة المقبلة. مهما هربت مني، فسأظل أتتبعك حتى ترجع. أن كنت تدخل إلى سفينة فسأدخل معك. أحيط بك من كل ناحية. تنزل إلى البحر،معك أيضًا. تدخل إلى بطن الحوت،معك أيضًا. أضع عيني عليك في كل موضع، حتى ترجع. لا تظن أن العالم ينجح في أن يجعلك تهرب مني، أو أن عنادك يمنعني عنك، أو يمكنك من أن تبعد عني.
حقا ما أجمل قول داود النبي: “أين أهرب يا رب من روحك؟ ومن وجهك أين أختفي؟” (مز139: 7).
أن الإنسان صعب جدا في معاملاته. أحيانا نغضب بسرعة من أصدقائنا، ومن أقل تصرف نقطع علاقاتنا بهم، وننسى محبتهم القديمة ومحبتنا لهم. صدورنا تضيق بسرعة ولا تحتمل. وعمل واحد للناس يجعلنا نحكم على حياتهم كلها حكما قاسيا ولا نرجع فيه.
أما الله فليس كذلك، انه لا يتخلى عن أحبائه بسرعة مهما أخطأوا..
لو أن واحد فينا سأله الله أن يبدى رأيه في موضوع يونان، لقال له: ولماذا تتمسك يا رب بيونان وهو على هذه الحال؟ لقد جربته فوجدته مخالفا متمسكا بكلمته. استخدم شخصا آخر. هل لا يوجد عندك غيره؟! عندك كثير بلا شك. انك قادر أن تقيم من الحجارة أولادًا لإبراهيم (متى 3: 9)، اترك يونان هذا الذي خالفك، والذي لم يستطيع أن يطاوعك كما طاوعتك الدودة حينما أمرتها أن تأكل اليقطينة. لقد كانت الدودة أفضل منه!! أما هو فوقف ضد أمرك… أتراه يريد أن ينفذ مشيئته عليك؟! ما معنى انه يصر على أن تميت أكثر من 120 آلف نسمة قد تابوا ورجعوا إليك. لا تلتفت إلى هذا النوع. هناك كثيرون أكثر طاعة منه وأكثر خضوعًا لك وإخلاصًا!!…
أما الله فانه يصبر على يونان المخالف العنيد، ويطيل أناته عليه حتى يصلحه، ويقنعه ويفهمه الطريق الصحيح، ويقيمه نبيًا عظيمًا، ويجعله رمز له في الموت والقيامة، ويجعل سفرا مقدسا في الكتاب يحمل أسمه ويقيم له في كنيسته تذكرا أبديًا، وتراتيل ومدائح في تمجيده.. هذا هو عمل الله مع أولاده، تبارك اسمه..
وتبدو طول أناة الله أيضًا، في مهلة الأربعين يومًا التي قدمها لآهل نينوى، فلم يأخذهم بأخطائهم فجأة وإنما أعطاهم زمانًا للتوبة..
عظة أخرى نأخذها من سفر يونان وهي أن الله للجميع.
الله للجميع
من صفات الله الجميلة انه يأخذ جميع عينات الناس، ويجعل لهم نصيبًا في ملكوته. وفي الكتاب المقدس نجد ألوانًا من النفسيات والعقليات…. ملكوت الله مثل شبكة في البحر جمعت من كل نوع… دعا يونان العنيد المتمسك بكلمته، كما دعا آنسانا كثير الشك مثل توما، وأنسانا سريع الاندفاع مثل بطرس. دعا شخصا حليما وديعا مثل موسى، وشخصا ناريا مثل إيليا. دعا إبراهيم الذي كان يخاف، ويقول عن سارة أنها أخته، وجعله أبا لجمهور المؤمنين. أنها عينات من الناس يأخذها الله ويعمل فيها بنعمته وروحه القدوس.
أنها عينات من الناس كأنها كتله من الخشب الخام، يتناولها “أبن النجار” ويعمل فيها. عرق خشب، جزء منه يأخذه بالفارة، وجزء بالمنشار، وجزء بالشاكوش. وهكذا يظل ينشره ويمسحه، ويقطعه ويفصله، ويسمره، حتى يتحول إلى كرسي لطيف يستريح عليه.
أو كأننا قطعة من الطين يتناولها الخزاف العظيم، ويشكلها حتى تصبح إناءا للكرامة. أنه الله الذي كان روحه يرف على وجه المياه، وظل يعمل حتى حول الأرض الخربة الخالية المغمورة بالمياه والظلام، إلى هذه الطبيعة الجميلة التي يتغنى بجمالها الشعراء والأدباء.
هكذا فعل الله مع يونان، ومع أهل نينوى، ومع ركاب السفينة… عمل فيهم جميعا حتى حولهم إلى هياكل مقدسة لروحه، ومنحهم النقاوة والقداسة، حتى يكون فضل القوة لله وليس لنا (2كو 4: 7). وحتى أن افتخر أحد فليفتخر بالرب (2كو10: 17). وحتى لا ييأس أحد من خلاصه أو خلاص غيره.. أنه الله الذي “يخرج من الجافي حلاوة” (قض14: 14).
فلا يقل أحد: أن طبيعتي رديئة، أسوأ من الأرض الخربة الخالية المغمورة بالمياه والظلام. أنا جربت نفسي فوجدت أنني لا أتغير، وقد تعبت في إصلاح أباء الاعتراف وكل المرشدين والمعلمين. الظاهر أنني سأبقى في ظلمة ما قبل اليوم الأول للخليقة!! لآن صوت الله ما يزال يرن في أذني طوال 20 سنة قائلًا “ليكن نور” وأنا ما أزال في ظلمتي بعد…!
كلا يا أخي لا تيأس، أن الذي عمل في يونان قادر أن يعمل فيك أيضًا. والذي عمل مع أهل نينوى وأهل السفينة، قادر أن يعمل معك أيضًا. والذي حول الطين إلى آنية للكرامة، قادر يحولك أنت كذلك..
أصبر، وانتظر الرب. ولكن ليس معنى هذا أن نتهاون ونتراخى وتستمر في الطين حتى يأتي الخزاف.
أن التوبة تحتاج إلى أمرين: عمل من الله، واستجابة من الإنسان. كما استجاب لدعوة الله أهل السفينة فآمنوا ونذروا نذرًا، وكما استجاب أهل نينوى، فتابوا ورجعوا عن طرقهم الرديئة، وكما استجاب يونان أخيرًا..
درس أخر نتعلمه من سفر يونان، وهو أن الله على الرغم من عظمته التي لا تحد، يحب أن يتفاهم مع الإنسان..
الله يحب أن يتفاهم
أن الإصحاح الرابع كله من سفر يونان، يتركز في هذه الحقيقة وحدها تقريبًا، وهي أن الله يحب أن يتفاهم مع أولاده: يناقشهم ويشرح لهم، ويصل معهم إلى نتيجة وإلى إقناع، ويرضى قلوبهم في النقاش..
حقا أن الله أعطانا في هذا السفر أمثلة من العقوبة ومن الإنذار، ولكن فيه أيضًا أمثلة من التفاهم..
ومحبة الله للتفاهم واضحة في الكتاب المقدس كله. “هلم نتحاجج يقول الرب” (أش1: 18). قصة حرق سدوم، تعطينا فكرة واضحة عن كيف تفاهم الله مع إبراهيم (تك 19). كذلك تفاهم الرب مع موسى النبي، ونفذ له رأيه (خر32).
وأعطانا صورة رائعة للتفاهم فالله ليس هدفه في كل مرة يتفاهم فيها معنا أن يقنعنا بشيء يفرضه علينا، وإنما قد ينزل إلى رأينا ويأخذ بفكرتنا، كما تناقش معه موسى فكانت النتيجة أن الرب ندم على الشر الذي تكلم أن يصنعه فلم يصنعه..
والله قد تفاهم مع يونان، وهو الذي بدأ بالتفاهم.. قال له: تعال يا يونان لكي نتفاهم، ولا تغضب. “هل اغتظت بالصواب حتى الموت”.. حقًا أن صوابك قد إطار صوابي!! ولم يتضايق الله من رد يونان، بل ظل يقنعه عمليا وبالكلام، بأنه كان يجب الإشفاق على نينوى..
أن الله لا يستعمل جبروته في تنفيذ مشيئته. انه لا يستخدم عبارة “أنا قلت كده. يعني كده”. هذا الأسلوب يوجد عند الإنسان
والإنسان قد يكون أحيانا غير واثق من كرامته، ويريد أن يثبت كرامته بالتشبث برأيه. إنها عقدة نقص في الإنسان، ولا توجد عند الله المتناهي في كماله، الذي يرى أنه لا ينقص شيئا حينما يتفاهم وحينما يبدو أنه قد رجع عن رأيه.
والعجيب أن الله في تفاهمه مع يونان لم ينظر إلى التفاوت الكبير بينهما. لم يقل “من هو يونان هذا حتى أتفاهم معه!؟ أنا خالق الكل ورب الكل. أيليق بي أن أتفاهم مع حفنة تراب ورماد؟! “.. كلا. لم يقل الله هكذا...
نلاحظ حاليا أن الدول تتفاهم مع بعضها البعض على مستويات. رؤساء وملوك مع رؤساء وملوك، ووزراء مع وزراء، وسفراء مع سفراء، قناصل مع قناصل، نقابات مع نقابات، لكن لا يمكن أن يحدث أن يتفاهم رئيس دولة مع مدير أداره أو سكرتير محافظة!! يقول أن هذا لم يصل إلى مستوى التفاهم معي. يمكن أن يتفاهم مع شخص في مستواه..
ولكن الله لم يفعل هكذا مع يونان. لم يقل: أنا لا أتفاهم معه مباشرة. يمكنني أن أرسل له ملاكًا أو نبيًا مثله، أو أرسل له حوتًا آخر ليتفاهم معه! إنما تنازل الله ليتفاهم مع يونان، ويتفاهم معه مباشرة بلا وسيط.. ويقنعه.
ولعل البعض يسأل: وما الذي يحوجك يا رب أن تتفاهم مع يونان ونقنعه؟! أنت الإله الكلي الحكمة، والمفروض في يونان أن يؤمن بحكمتك. ويؤمن أن تصرفك سليم دون نقاش. وليس من الضروري أن تقنعه. تكفي كلمتك، وإذا كان هو لا يؤمن بحكمة تصرفاتك فانه يكون قد أخطأ خطأ جديدا يحتاج إلى عقوبة.. يونان يجب عليه الطاعة والخضوع، وليس من حقه الجدل مع الله، والتفاهم!
ولكن الله ليس من هذا النوع. انه حنون وطيب. يقول أنا أنزل إلى يونان لكي أرفعه من مستواه…
أنا أتفاهم مع يونان لكي أكسبه. لا أريد أن أخسر هذا التراب.
أريد أن أربح الكل. عن رضى وليس عن إرغام، لا بد أن يتمتع يونان بسعة صدري. ويدرك أني لا أضيق به مهما شرد.
أن قصة الله في العهد القديم هي قصة تفاهم. وما إرساله للأنبياء والرسل إلا محاولة منه للتفاهم.
الله لا يفرض مشيئته ولا يستبد في تصرفاته. إنه مثال للتفاهم. وحتى في معاملته لنا الآن يريد أن يتفاهم.
لقد أعطانا الصلاة كي نتفاهم معه.
لو كان الله لا يميل إلى التفاهم، فما فائدة الصلاة والحديث معه والمناقشة.. أليس حقا أنه لم يسمح فقط أن نتفاهم معه، بل سمح أيضًا أن نصارعه ونجاهد معه؟! ألم يصارعه يعقوب حتى الفجر قائلًا له “لا أتركك..”؟! كما لو كان له سلطان أو له قدرة ألا يتركه!
بلغ من تواضع الله، أنه تفاهم مع الشيطان!.. نلاحظ هذا واضحا في قصة أيوب الصديق، الله يقول للشيطان “هل وضعت قلبك على عبدي أيوب؟” ويجيب الشيطان “أمجانا يعبد أيوب الرب؟”. ويأخذ الشيطان سلطانا من الله أن يجرب أيوب لكي يثبت صحة كلامه.
إنه مبدأ تكافؤ الفرص يتمتع به الشيطان أيضًا.
وظهر تفاهم الله مع الشيطان أيضًا في التجربة على الجبل. وظل الرب يرد عليه أية بأية. ولم ينتهره إلا عندما تجاوز حدوده بما لا يطاق..
وللآن، يريد الرب أن يتفاهم معنا، ونحن الذين نرفض.
درس آخر نأخذه من قصة يونان، وهو أن كل تدابير الله آلت إلى النجاح:
كل تدابير الله ناجحة
كان الجو كله مظلمًا. الجميع في حاجة إلى توبة وإلى هداية. وبدأ الله يعمل مع الكل ومن أجل الكل. ونجح في كل تدابيره: مع أهل السفينة ومع أهل نينوى، ومع يونان، اقتادهم كلهم إلى التوبة وإلى معرفته، إذ عمل مع كل منهم بالطريقة التي تناسبه. إن سفر يونان هو قصة نجاح لعمل الله..
وهذا يعطينا بلا شك شعورا بالاطمئنان إذ نثق أن الله يريد، وأن الله يستطيع، وأنه يمكن أن يقتادنا إلى التوبة مثل هؤلاء جميعهم..
عندما أعتمد يونان على نفسه في تدبير أموره، وعندما أعتمد على عقله وإرادته الخاصة، فشل على طول الخط، ولكنه عندما أستسلم إلى يد الله، أمكن أن يعمل الله به عملًا، وعملًا ناجحًا.
ليتنا نأخذ من هذه القصة درسا في حياة التسليم والطاعة..
انقاذ يونان من قسوته وكبريائه | يونان 4 | تأملات في سفر يونان | تفسير العهد القديم | فهرس |
البابا شنودة الثالث | ||||
تفاسير يونان 4 | تفاسير سفر يونان | تفاسير العهد القديم |