تفسير انجيل لوقا اصحاح 2 للأنبا غريغوريوس
الفصل الثاني
2: 1-7 ميلاد السيد المسيح
هي وفي تلك الأيام صدر مرسوم من أوغسطس قيصر إمبراطور الرومان بإجراء تسجيل لسكان العالم كله. إذ كانت الدولة الرومانية قد امتدت سيطرتها إلى كل بلاد العالم المعروفة في ذلك الحين، ومن بينها بلاد اليهود التي كان يحكمها حينذاك كيرينيوس الوالي الروماني لسوريا. وكان القصد من ذلك التسجيل الذي حدث لأول مرة هو إجراء حصر شامل لجميع الرعايا الخاضعين للإمبراطورية الرومانية في كل أنحائها، لفرض الجزية عليهم. وكان هذا يقتضى طبقاً لأوامر الإمبراطور أن يسجل كل فرد من الرعايا اسمه في مسقط رأسه، أي في موطن العائلة التي ينتسب في الأصل إليها. ومن ثم ذهب الجميع لتسجيل أسمائهم، كل واحد في مدينة عائلته. وإذ كان يوسف خطيب سيدتنا العذراء مريم ينتسب إلى بيت الملك داود، وكان من عشيرته، ذهب من مدينة الناصرة بإقليم الجليل حيث كان يقيم مع خطيبته إلى مسقط رأس داود وعشيرته، وهي مدينة بيت لحم التي كانت بإقليم اليهودية، مصطحباً خطيبته التي كانت أيضاً من بيت داود وعشيرته، ليسجلا اسميهما هناك، وإذ كانا فقيرين ذهبا إلى فندق متواضع في تلك المدينة . ولكنهما لم يجدا لهما مكاناً فيه لازدحامه بالذين جاء والتسجيل أسمائهم. فأقاما في حظيرة الماشية كانت ملحقة بالفندق. وكانت سيدتنا العذراء حينذاك حبلى. وقد اتفق أن حان موعد ولادتها في ذلك الوقت، فولدت ابنها الإلهي، الذي وإن كانت لم تلد غيره، قيل إنه ابنها البكر، تمشياً مع العرف الذي جرى بتلقيب المولود الأول بالابن البكر، لأنه فاتح رحم (خر 13: 12و13)، (34: 19). وقد قمطته في الغالب ببعض ثيابها أو ثياب خطيبها، وإذ لم يكن ثمة في الحظيرة فراش أو ما يشبه الفراش تضعه فيه، مهدت له مكاناً في منود من مذاود الماشية بالحظيرة وأضجعته فيه.
وهكذا أعطى السيد المسيح في لحظة ميلاده ذاتها للبشر أول درس من دروسه السماوية، إذ أنه وهو ابن الله العلى العظيم المالك لكل شيء قـد شـاءت حكمـتـه أن يولد في مكان لا يمكن الإنسان أن يتصور مكاناً أكثر منه تواضعاً، مشاركاً بذلك أفقر الفقراء بؤسهم وفقرهم. فبرهن بذلك على أن العظمة الحقيقية لا تكمن فيما يملك الناس على الأرض من الثروات الضخمة أو القصور الفخمة أو أي شيء من تلك الأمور الزائفة الزائلة التي يتكالب الناس عليها، ويحارب بعضهم بعضاً للحصول عليها والاستئثار بها، ولو أراقوا في سبيل ذلك بحوراً من الدماء، وإنما العظمة الحقيقية تكمن في البر والخير وصفاء القلب ونقاء الضمير وكل ما ينطوى على تقوى الله، تطلعاً لا إلى أمجاد الأرض الوقتية الفانية، وإنما إلى أمجاد السماء الأبدية التي لا فناء لها ولا إنتهاء.
وقد تحققت بميلاد السيد المسيح في بيت لحم نبوءة ميخا النبي إذ قال «أما أنت يا بيت لحم أفراتة وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا. فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل، (مي 5: 2).
كما أنه بميلاد السيد المسيح في ذلك الوقت بالذات الذي انقرض فيه ملوك اليهود وفقدوا حريتهم وأصبحوا عبيداً للرومان، يدفعون لهم الجزية التي هي صك العبودية بمقتضى ذلك الأمر الذي أصدره أوغسطس قيصر، تحققت نبوءة يعقوب أبي أسباط اليهود، إذ قال لأبنائه في ساعة احتضاره اجتمعوا لأنبئكم بما يصيبكم في آخر الأيام… لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه، حتى يأتي شيلون، وله يكون خضوع شعوب، (التكوين 49 : ۱و ۱۰). أى أنه حين لا يعود لليهود ملك ذو قضيب أو صولجان، ولا يعود لهم مشرع من جنسهم يقضى بينهم، يأتي شيلون، أي المخلص، الذي تخضع لشريعته الشعوب .
2: 8- 20 الملاك يبشر الرعاة بميلاد المسيح
بيد أن ذلك الطفل الذي لم تجد له أمه في الأرض مكاناً تضجعه فيه غير مذود للماشية، لم تلبث أن هتفت بمجده السماء، وترنمت بعظمته الملائكة إذ كان في تلك الناحية التي شهدت ميلاد فادينا، رعاة بالبادية يتناويون السهر بالليل في حراسة قطعانهم. وإذا بملاك الرب يظهر فجأة قبالتهم ومجد الرب يضئ من حولهم، فارتعبوا ارتعاباً شديداً. فقال الملاك لهم ولا تخافوا. فها أناذا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب إذ ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب، ، إذ كان مجيء المسيح هو الحدث المفرح المبهج الذي ينتظره اليهود جميعاً منذ زمان بعيد، على مقتضى نبوءات أنبيائهم إذ قال إشعياء النبي ،فرح أبدى على رؤوسهم. ابتهاج وفرح يدركانهم، ويهرب الحزن والتنهد، (إش 15: 10) كما قال “افرحوا وابتهجوا إلى الأبد” (إش 65: 18). وهذا لأن ذلك الآتي الذي كانوا ينتظرونه هو الذي سيخلصهم من غضب الله عليهم، ومن استعباد الشر والأشرار لهم. ولقد طالما وعدتهم النبوءات بذلك . إذ قال إشعياء النبي وقولوا لابنة صهيون هوذا مخلصك أت، (إش 62: 11). وقال «قولوا لخائفى القلوب تشددوا. لا تخـافـوا.. هو يأتي ويخلصكم، (إش 35: 4). وكان مما يؤكـد لدى الرعاة أن المولود الذي بشرهم به الملاك هو المخلص الذي ينتظرونه، والذي كانوا يعلمون من النبوءات أنه سيجيء من نسل داود، ويولد في بيت لحم التي كانت هي مدينة داود، أن الملاك قال لهم إن هذا المولود قد ولد في مدينة داود، كما قيل مما يؤكد لديهم ذلك أنه أطلق على هذا المولود لقب المسيح، لأن النبوءات كانت تطلق هذا اللقب على المخلص المنتظر، إذ قال دانيال النبي ، فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعاً، (دا 9: 25). وكان أخيراً مما يؤكد هذه الحقيقة أن الملاك قال عن المولود الذي بشرهم به إنه هو الربه، أي هو الله ذاته، مصداقا لقول النبوءات عن المسيح إنه ابن الله، إذ ردد إشعياء في نبوءاته قول الله ويولد لنا ولد ونعطى ابنا وتكون الرئاسة على كتفه ويدعى اسمه عجيباً مشيراً ، إنها قديراً، (إش 9: 6). ومصداقاً لقول النبوءات عن المسيح إنه كما أنه ابن الله فإنه في الوقت نفسه هو الله ذاته، إذ قال عنه هوشع النبي إن «مخارجه منذ القديم. منذ أيام الأزل، (مي 5: 2) ، وقال عنه دانيال النبي إن «سلطانه سلطان أبدى ما لن يزول، وملكوته مالا ينقرض، (دا 7: 14). وجاء في المزامـيـر أن كل الأمم تتـعـبـد لـه .. كل الأمم يطوبونه… ومبارك اسم مجده إلى الدهر” (المزمور 72: 11، 17 ، 19)، وتنبأ إشعياء النبي بلسان السيد المسيح قائلاً «أنا هو. أنا الأولى وأنا الآخر. ويدى أسست الأرض ويميني نشرت السماوات، (إش 48: 12و 13). ولكي يتحقق الرعاة مما قاله لهم الملاك وصف لهم المكان الذي يمكنهم أن يروا فيه الطفل الإلهي الذي بشرهم بميلاده ، قائلا لهم «إليكم هذه العلامة : إنكم ستجدون الطفل مقمطا ومضجعا في مذوده . ولعل الرعاة قد استولى عليهم الذهول وتولتهم الدهشة من هذه المفارقة العجيبة بين شخصية المولود الإلهي الذي بشرهم الملاك بميلاده وتواضع ذلك المكان الذي قال لهم إنهم سيجدونه فيه. فقد كان اليهود يعتقدون أن المسيح الذي ينتظرونه حين يجيء سيجلس على عرش داود ليكون ملكا أرضياً، ومن ثم كانوا يتوقعون أن يذكر لهم الملاك أنهم سيجدونه في مهد فخم في قصر ضخم من قصور الملوك بيد أنهم فيما كانوا غارقين في ذهولهم وحيرتهم لم يلبثوا أن تبدي لهم مشهد آخر مهیب رهيب، زادهم ذهولاً على ذهولهم وحيرة على حيرتهم. إذ ظهرت بغتة . الملاك كوكبة من الملائكة الآخرين من جند السمـاء. يسبـحـون الله قائلين «المجـد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس مسرته،. وقد كان تمجيدهم لله هو الترنيمة التي يسبحون بها على الدوام الله الذين هم ماثلون أمامه على مدى الزمان في الأعالي. بيد أنه وقد حل الله على الأرض ليحل فيها السلام بحلوله، جاء الوقت الذي يظهرون فيه الى الأرض ليرددوا في مسامعهم تلك الترنيمة الأزلية، مفضين إليهم بذلك السر الإلهي العجيب، مبشرين إياهم برحمة الله التي أسبغها عليهم بالفداء العجيب الذي رتبه لهم لغفران خطاياهم وخلاصهم من الهلاك المحكوم به عليهم. لأنه إذ وجد مسرته في خلقهم منذ البداية واعتباره إياهم أبناءه، وجد مسرته أيضاً في خلاصهم وهدايتهم وعودتهم بعد عقوقهم وتمردهم، ، أبناء مخلصين مطيعين له.
وكان في ظهور تلك الكوكبة من جند السماء للرعاة وما سمعوه من تسبيحهم لله وترنمهم بما أتى به إلى أبناء الأرض من السماء، توطد إيمانهم بما قاله لهم الملاك الذي ظهر لهم أولاً. فلما ذهبت عنهم الملائكة منطقة إلى السماء، قال بعضهم لبعض في لهفة واشتياق، وفي إيمان لا تشوبه ريبـة ، هلموا الآن إلى بيت لحم، لنبصر هذا الحدث الذي أنبأنا به الرب.. ثم جاءوا مسرعين فوجدوا سيدتنا العذراء مريم وخطيبها يوسف والطفل الإلهي مضجعاً في المذود . فبعد أن أيصروا الطفل، طفقوا يخبرون أمه وخطيبها وكل من الدقوا به بما قيل لهم. فتعجب كل الذين سمعوا الرعاة مما قالوه لهم. وأما سيدتنا العذراء الطاهرة، فقد كان هذا ب برهاناً جديداً أضيف إلى ما سبق أن رأته من براهين على طبيعة ابنها القدوس، ومن ثم كانت تحتفظ بكل هذه الأمور في قلبها، متأملة فيها، متقبلة إياها في صمت وخشوع، متهالة بما أسبغه الله عليها من نعمة لم يسيغها على أحد غيرها من البشر في كل الأجيال إلى إنتهاء الزمان .
وأما الرعاة فقد رجعوا وهم يمجدون الله ويسبحونه من أجل كل ما سمعوه ورأوه وفقا لما قيل لهم. وهكذا فإن السيد المسيح كما شاءت حكمته أن يكون ميلاده الإلهي في أكثر الأماكن تواضعاً، شاءت حكمته كذلك أن يكون أول إعلان عن ذلك الميلاد المجيد، لا إلى ملوك الأرض أو أثريائها أو علمائها أو أي فئة ممن كانوا يعتبرون أنفسهم ويعتبرهم الناس من عظمائها. وإنما أعلن ذلك إلى أكثر الناس تواضعاً في مهنتهم وفي مكانتهم بين الناس، لأن أمـجـاد هذا العالم تعمی أبصار الذين يستأثرون بها، كما تعمى بصائرهم عن رؤية مجد الله، بسبب كبريائهم واستعلائهم . وأما البسطاء والفقراء فإن عقولهم البريئة وقلوبهم الصافية التي لم يحجب عنها قناع الكبرياء والاستعلاء ذلك المجد الإلهي، فإنهم سريعاً ما يتقبلونه فاتحين له عقولهم وقلوبهم، مرتوين بنعمته كما ترتوى الأرض العطشى بالمطر حين ينهمر عليها، فيبث فيها الحياة ويكسوها بالأزاهير والزرع النضير والشجر ذي الثمر الوفير.
2: 21 ختان السيد المسيح وتسميته بيسوع
وقد كانت الشريعة اليهودية تقضى بختان الطفل في اليوم الثامن من ميلاده. كما كانت تقضى بتسميته بالاسم الذي اختير له في وقت ذلك الختان. إذ جاء في سفر التكوين “قال الله لإبراهيم… هذا هو عهدي الذي تحفظونه… يختن ملكم كل ذكر… أبن ثمانية أيام يختن ملكم كل ذكر في أجيالكم” (تك 17: 9و10و12). وجاء في هذا السفر “ودعا إبراهيم اسم ابنه المولود له، الذي ولدته له ساره ، إسحق. وختن إبراهيم ابنه وهو ابن ثمانية أيام كما أمره الله.” (تك 21: 3 و 4) وكان ختان الطفل رمزاً لتطهيره من النجاسة التي لحقت بالإنسان بسبب خطيئته، كما كان علامة دخول في عهد مع الله (تك 17: 11)، وإذ كان كل عهد يختم بالدم قال الله أما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته، فتقطع تلك النفس من شعبها، (تك 17: 14) . وإذ شاءت حكمة الله أن يجيء السيد المسيح من أمة اليهود وأن يخضع لشريعتهم، فعلى الرغم من أنه كان طاهراً طهارة كاملة منذ الحبل به وولادته، اقتضى خضوعه لهذه الشريعة في جملتها خضوعه كذلك لهذا الإجراء الذي تقضى به فلما بلغ يومه الثامن تم ختانه . وفي نفس ذلك اليوم دعى أسمه يسوع كما سماه الملاك قبل الحبل به في بطن أمه، إذ قال الملاك لأمه حين بشرها رها أنت ذي ستحبلين وتلدين ابنا تسمينه يسوع، (لو 1: 31). قلم تكن هي التي أطلقت عليه هذا الاسم، ولم يطلقه عليه بشر، وإنما أطلقته عليه الحكمة الإلهية ذاتها. واسم يسوع، في الأصل العبري ويهوشع»، وهو مكون من كلمتين مندمجتين هما كلمة يهوه وهي اسم الله كما أعلنه الله لموسى النبي في صحراء سيناء، ومعناه الدائم، (خر 3: 14 و 15) أو السـرمـدى، أو السـرمـد ، وكلمـة «هوشع، ومعناها المخلص، ، ثم تطور اسم يهوشع، إلى يشوع، بالعبرية، أو «يسوع.. ومن ثم فإن معنى الإسم كاملاً هو الدائم المخلص، أو الأزلي الأبدي المخلص، ولذلك جاء في إنجيل متى أن الملاك ظهر ليوسف خطيب سيدتنا العذراء لينبئه بحبل خطيبته الطاهرة من روح القدس، وقال إنها ستلد ابنا وتسميه يسوع، لأنه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم، . ثم قال له إنه يدعى عمانوئيل الذي تفسيره الله معناء (مت 1: 21و 23). وبذلك يكون يسوع قد أخذ لقباً آخر هو عمانوئيل، أي أنه هو الله وقد صار معنا على الأرض بتجسده وإتخاذه صورة إنسان.
2: 22- 24 تقديم الطفل يسوع المسيح إلى الرب في هيكل أورشليم
وكانت الشريعة اليهودية تقضي كذلك بأنه إذا حبلت امرأة وولدت ذكراً تكون نجسة سبعة أيام.. وفي اليوم الثامن يختن.. ثم تقيم ثلاثة وثلاثين يوماً في دم تطهيرها.. ومتى كملت أيام تطهيرها.. تأتي بخروف حولى محرقة، وفرخ حمامة أو يمامة ذبيحة خطيئة.. إلى الكاهن، فيقدمها أمام الرب.. وإن لم تنل يدها كفاية لشاة تأخذ يمامتين أو فرخي حمام، الواحد محرقة، والآخر ذبيحة خطيئة فيكفر عنها الكاهن فتطهر، (لا 12: 1-8) . كما جاء في الشريعة أن كل فاتح رحم من كل جسد يقدمونه للرب، (عد 18: 15) وعلى الرغم من أن السيدة العذراء طاهرة طهارة كاملة، لأنها لم تحبل من إنسان، وإنما من روح الله ذاته، فلم تلحق بها النجاسة التي تلحق بسائر النساء في حبلهن وولادتهن، بل على العكس صارت بحلول الروح القدس عليها، وبحلول الله الكلمة في أحشائها كلية الطهارة والقداسة، فإنها كما خضع مولودها الإلهى للشريعة، خضعت هي ا أيضاً لها. ومن ثم فإنها لما تمت أيام التطهير على مقتضى شريعة موسی، صعدت بالطفل مع يوسف خطيبها إلى أورشليم ليقدماه للرب، عملاً بما هو مكتوب في شريعة الرب من أن كل فاتح رحم من الذكور يدعى مكرساً للرب (خر 13: 2و12) ، (22: 29)، (34: 19)، (عد 3: 13)، (8: 17)، (18: 15)، وليقدما الذبيحة التي تفرضها شريعة الرب. وإذ كانت سيدتنا الطاهرة فقيرة لا تملك ثمن شاة، قدمت ما تقضي به الشريعة على الفقراء من الذبائح في هذه المناسبة، بدلاً من الشـاة ، وهو زوجـا يمام أو فـرخـا حـمـام (لا 12: 8).
2: 25- 35 سمعان الشيخ يرى الطفل يسوع ويتنبأ له
بيد أن حكمة الله قد شاءت أنه في كل مرة يبدو تواضع السيد المسيح بالمقاييس الأرضية البائدة، لا يلبث أن يتجلي مجده بالمقاييس السماوية الخالدة. فحين حبلت به العذراء الفقيرة، مجده ملاك الله الذي بشرها عندما رأى دهشتها قائلاً إنه سيكون عظيما وابن العلى يدعى (لو 1: 32) . أي أنه ابن الله. وعندما ولدته في حظيرة ماشية وأضجعته في مذود، مجده ملاك الله الذي بشر الرعاة قائلاً عنه إنه هو المسيح الرب» (لو 2: 11) . وهنا أيضاً عندما قدمته أمه إلى الهيكل كأفقر الفقراء، إذ تبين أنها لم تكن تملك ثمن شاة ، مجده روح القدس قائلاً عنه أيضاً إنه هو المسيح الرب . إذ حدث أنه كان في أورشليم رجل بار تقي اسمه سمعان، ينتظر تعزية إسرائيل بمجيء المخلص الذي سيمنح بخلاصه العزاء لبني إسرائيل الذين سيؤمنون به، وللبشر جميعاً، وفقاً لنبوءة إشعياء النبي على لسان السيد المسيح، إذ يقول إن «الرب مسحنى لأبشر المساكين، لأعصب منكسرى القلوب.. لأعزي كل النائحين.. لأعطيهم جمالاً عوضاً عن الرماد، ودهن فرح عوضاً عن النوح، ورداء تسبيح عوضاً عن الروح اليائسة.. بهجة أبدية تكون لهم، (إش 61: 1 – 7) . وكان روح القدس على سمعان، وكان قد أوحى إليه بالروح القدس أنه لن يرى الموت قبل أن يرى المسيح الرب. ولهذا الوحي قصة مثيرة ذكرتها بعض المصادر التاريخية، ومؤداها أن سمعان الشيخ هذا كان ضمن سبعين شيخاً وقع عليهم اختيار إليعازر رئيس أساقفة اليهود ليقوموا بترجمة أسفار العهد القديم من اللغة العبرية إلى اللغة اليونانية بناء على طلب بطليموس الثاني الملقب فيلادلفوس ملك مصر اليوناني لمنفعة يهود مصر الذين كانوا يتكلمون باليونانية، وقد نسوا لغة آبائهم العبرية، وقد خصص لهم بطليموس مساكن وأماكن للعمل، وخصصوا هم لكل منهم سفراً يترجمة. فكان نصيب سمعان ترجمة سفر إشعياء النبي. حتى إذا بلغ في ترجمته الآية الرابعة عشرة من الفصل السابع وقف أمام القول الإلهي ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل، وقد خشي أن يترجم كلمة العذراء التي هي بالعبرية ،ها عالماه،، إلى الكلمة المقابلة لها باليونانية وهي «بارثينوس، ومعناها العذراء التي لم يسبق لها زواج، ، فـيـسـخـر اليونان من الكتاب المقدس لليـهـود، وبذلك يجلب تجـديـفـاً على إله إسرائيل، ومن ثم استبدل بكلمة «بارثينوس، كلمة «نيانيس، التي معناها باليونانية وفتاة، وهي تطلق على كل امرأة شابة سواء أكانت متزوجة أم غير متزوجة. بيد أنه حين هم بكتابة هذه الكلمة غير المطابقة للمعنى الأصلي سمع صوتاً من السماء يقول له «أكتب ما تقرأ، ولن تموت حتى ترى المسيح الرب . وفعلا بقى سمحان حيا، حتى إذا جاءت سيدتنا العذراء مع ابنها الإلهي إلى الهيكل، أوحى الروح القدس إليه بأن يذهب إلى هناك حيث سيرى المسيح الرب الذي كان يتوقع مجيله ويشتهي أن يراه، بعد أن تلقى الوعد بأنه لن يموت حتى يراه . فذهب سمعان إلى الهيكل. ولما دخل بالطفل يسوع أبواه ليؤديا عنه ما كانت تفرضه الشريعة، حمله سمعان على ذراعيه في فرح، وبارك الله في امتنان. وإذ تحقق له ما كان يتمنى أن يعيش حتى يتحقق، وإذ كان بدافع من بره وتقواه زاهدأ في الدنيا متطلعاً إلى أمـجـاد السماء، ابتهل إلى الله أن يطلق سراح روحه من سجن الجسد، قائلاً الآن أطلق يا سيدى عبدك بسلام وفقاً لكلمتك، فإن عيني قد أبصرنا خلاصك الذي أعددته أمام كل الشعوب، نوراً يتجلى للوثنيين، ومـجـداً لشـعـبك إسرائيل، . وقد أشار بذلك إلى نبوءة إشعياء النبي التي يقول الله الآب فيها للسيد المسيح وجعلتك نوراً للأمم لتكون خلاصى إلى أقصى الأرض، (إش 49: 6). وقد كان هذا القول من سمعان إشارة أخرى أضيفت إلى كل الإشارات السابقة التي تبدت للسيدة العذراء عن حقيقة شخصية المولود المقدس الذي اختاره الله ليتـجـسـد في أحشائها. ومن ثم لا تفتأ مع خطيبها يوسف يتعجبان مما قيل عنه. وقد باركهما سمعان، لأنه أيقن أنهما مستحقان للبركة، إذ أسبغ الله عليهما هذا الشرف. وإذ كان ممتلداً من الروح القدس تنبأ لسيدتنا العذراء مريم قائلاً إن هذا قد جعل لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، وسيكون هدفاً للمقاومة»، أي أنه سينكره بعض بني إسرائيل فيسقطون في الهلاك الأبدي، وسيؤمن به بعضهم الآخر فيقومون إلى الحياة الأبدية، مصداقاً لنبوءة إشعياء النبي القائل إن السيد المسيح «يكون مقدساً.. وصخرة عثرة لبني إسرائيل.. فيعثر بها كثيرون ويسقطون» (إش 8: 14و 15). وقد تنبأ سمعان بأن السيد المسيح سيكون هدفاً للمقاومة من أولئك المنكرين له، حتى إنهم سيقومون عليه آخر الأمر يقتلونه. ولذلك قال سمعان لسيدتنا العذراء ، وأنت أيضاً سينفذ في نفسك سيف، أي أنك ستعانين من الألم عندما ترين أبنك الحبيب مقتولاً ما يضاهي ألم المطعون بالسيف ثم قال لها وحتى تتكشف نوايا قلوب كثيرة، أي أن تلك المقاومة للسيد المسيح وما تؤدى إليه من قتله، ستنجلي عن كشف النوايا الحقيقية للقلوب : فالذين كانوا صادقين ومخلصين في إيمانهم بإعلانات الله على فم أنبيـانه هم الذين سيؤمنون بالسيد المسيح. وأما الذين كانوا مـراتين ومخادعين ومتظاهرين بذلك الإيمان كذباً ونفاقاً، فيستكشف عندئذ رياؤهم وخداعهم وكذبهم ونفاقهم. وأولئك هم الذين سيقاومون السيد المسيح ويقتلونه.
2: 36- 38 حنه النبية تتحدث عن يسوع باعتباره المسيح المنتظر
ولم يكن سمعان الشيخ وحـده هـو الـذي أدرك حقيقة شخصية الطفل الإلهي في الهيكل في ذلك اليـوم ، وإنمـا كـان ثمة نبيـة اسـمـهـا حـنة بنت فنوتيـل مـن سـبـط أشيـر أحـد أسباط اليهـود الاثني عشر. وكانت طاعنة في السن . وقد عاشت مع زوجها سبع سنوات مـنـذ بكوريتـهـا، ثم ظلت أرملـة مـدة أربـع وثـمـانـيـن سـنـة، أي أنهـا كـانـت فـي ذلك الحين قـد تجـاوزت المائة من عمرها ببضع سنوات ، وكانت لا تبرح الـهـيـكـل مـتـعـبـدة بالصـوم والصـلاة ليلا ونـهـاراً، ومـن ثـم كـانـت كـثـيـرة القـراءة للأسـفـار المقدسة ونبـوعات الأنبيـاء، دائمـة التـأمـل فـيـهـا. ولكثرة تعبدها وصـومـهـا وصلاتها تلك السنوات الطويلة اكتسبت شفافيـة فـي الـروح جعلتـهـا تـنـال موهبـة التنبؤ التي لا ينالهـا إلا الأنقيـاء القلب المؤمنون إيماناً صادقاً. الله ومـواعـيـده . ومن ثم كانت كسمعان الشيخ تنتطر مجىء المسيح مخلص البشر على مقتضي نبوءات الأنبياء، وتتوقع ذلك المجيء وشيكا. ففي تلك الساعة حين رأت الطفل الإلهي مع أمه أدركت على الفور أنه هو المسيح المخلص الذي تنتظره ، فتقدمت نحوه وأخذت تحمد الله بشأنه وتحدث عنه كل من كان ينتظر الخلاص في أورشليم . وذلك أن كثيرين من اليهود الأتقياء كانوا يتوقعون مجيء المسيح في ذلك الوقت بالذات، لأنهم كانوا يعلمون من نبوءات دانيال النبي علي الخصوص أن هذا المجىء قد اقترب موعده . إذ جاء في هذه النبوءات “إذا بالرجل جبرائيل الذي رأيته في الرؤيا.. قال يا دانيال إنى خرجت الآن لأعلمك الفهم.. فتأمل الكلام وافهم الرؤيا : سبعون أسبوعاً قضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة لتكميل المعصية وتتميم الخطايا، ولكفارة الإثم، وليؤتي بالبـر الأبدي ولختم الرؤيا والنبوءة ، ولمسح قدوس القدوسين… فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعاً” (دا 9 : 21- 25) . وقد كان المقصود بالأسبوع في هذه النبوءة ليس سبعة أيام، وإنما سبع سنين، على مقتضى تعبير اليهود. وكانوا يسمونه في هذه الحالة «سبت السنين، . ومن ذلك ما ورد في سفر اللاويين، إذ يقول «تعد لك سبعة سبوت سنين، سبع سنين سبع مرات . فتكون لك أيام السبعة السبوت السنوية تسعاً وأربعين سنة، (لا 25: 8) . ومن ثم كـان الـيـهـود يـفـهـمـون هذه النبوءة التي نطق بهـا دانيال، ويعلمون أن السبعين أسبوعاً التي ذكرها ـ ومقدارها بهذا الحساب 490 سنة – هي المدة التي تنقضي منذ عودة اليهود من السبي في بلاد الأشوريين والبابليين إلى مجيء المسيح، ثم خراب أورشليم، وقد وضح من النبوءة أن من هذه المدة سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعاً، أي 483 سنة تنقضى منذ صدور أمر الملك أرتكسر كيس ملك الفرس الذي تسميه التوراة أرتحتشتا بإعادة بناء أسوار أورشليم إلى مجيء المسيح. ولما كان معروفاً لدى اليهود أن أمر أرتحتشتا صدر في عام 458 قبل الميلاد، فإن الموعد الذي كانوا يقدرونه لظهور المسيح والبدء في أداء رسالته هو عام 26 أو 27 بعد الميلاد. ومن ثم كان الموعد الذي يقدرونه لميلاده يقارب بداية القرن الأول الميلادي، وهو الموعد الذي ولد فيه السيد المسيح بالفعل. فكانت حلة النبية تعرف هذا الموعد بالتقريب، وكان يعرفه معها كل من كان ينتظر الخلاص في أورشليم،، وهم أولئك الذين تحدثت إليهم تلك المرأة التقية، منبثة إياهم بأن هذا الطفل الذي أتي في ذلك اليوم في الهيكل مع أمه الفقيرة المتواضعة، هو الذي قيل عنه في نبوءات الأنبياء وهو يأتي ويخلصكم (إش 35: 4)
2: 39- 40 حياة السيد المسيح في الناصرة
ولما تممت العائلة المقدسة كل شيء وفقاً لشريعة الرب التي أنزلها على موسى النبي، يقول القديس متى في إنجيله إنهم عادوا إلى بيت لحم، حيث جاء إليهم المجوس الذين قالوا عن الطفل الإلهي إنه ملك اليهود وسجدوا له، مبدين الإكرام اللائق به، ومقدمين إليه هداياهم التي ترمز إلى شخصيته ورسالته. بيد أن هيرودس إذ علم منهم بميلاده، وأنه سيكون ملك اليهود، قتل كل أطفال مدينة بيت لحم التي علم أنه ولد فيها، عسى أن يكون هو منهم. بيد أن أمـه العـذراء الطاهرة وخطيبها يوسف كانا قد علما بإعلان من الله بما يهدده فهربا به إلى مصر ومكثوا بها حتى أنبأهم الله بموت هيرودس فرجعوا من مصر بعد غيبة نحو أربع سنوات (مت 2: 1-23) وأقاموا في مدينتهم التي كانوا يقيمون فيها من قبل وهي مدينة الناصرة، وكانت هذه المدينة تقع فوق جبل مرتفع من جبال المنطقة التي كانوا يسمونها الجليل في القسم الشمالي من فلسطين. وهي تبعد عن أورشليم نحو ستة وثمانين ميلاً، كما تبعد عن بحيرة طبرية، وهي المسماه بحر الجليل نحو أربعة عشر ميلاً. وقد كانت كغيرها من مدن الجليل وبقاعه ذات أرض ناضرة زاخرة ببساتين التين والعنب والزيتون. كما كانت كغيرها من مدن هذه المنطقة أهلة بعدد كبير من الأجانب الوثنيين الذين وفدوا إليها بعد أن هاجم الأشوريون أهلها الأصليين من سبطي زبولون ونفتالي، ونقلوهم إلى بلادهم ومن ثم اختلطت البقية الباقية من يهود تلك المنطقة بأولئك الوثنيين من كل الأجناس، وتأثرت بعاداتهم وعباداتهم، بل إن لهجة كلامها أصبحت تختلف عن لهجة سائر اليهود، ولذلك كان يهود المناطق الأخرى في فلسطين يحتقرون يهود الجليل معتبرين إياهم ملعونين من الله. بيد أن منطقة الجليل كانت أكثر مناطق فلسطین ازدهاراً وعمراناً، وكانت عاصمتها ، سيفوريس، ، ثم أصبحت بعد ذلك «طبرية»، وكان بها أكثر من مانتين وأربعين مدينة وقرية، كان من أكبرها وأشهرها كفرناحوم، وكورازين، وبيت صيدا، ومجدل، وصور، وسيدا، ونايين، فضلاً عن الناصرة وكانت تلك المنطقة كلها تطل من الغرب على البحر الأبيض المتوسط، وتطل من الشرق على بحيرة طبرية التي كانوا يسمونها أيضاً بحيرة جليسارت، كما كانوا يسمونها بحر الجليل. وكانت تحيط بها تسع مدن من أجمل المدن في الشرق الأوسط، وتربط بين شواطئها أكثر من أربعة آلاف سفينة. وكانت تكثر في منطقة الجليل الجبال التي يبلغ ارتفاع بعضها نحو أربعة آلاف قدم، ومن أشهرها جبل الكرمل، وجبل جلبوع، وجبل حرمون، وجبل تابور.
وفي مدينة الناصرة عاش السيد المسيح مع أمه العذراء الطاهرة مريم، وخطيبها يوسف البار. وكان الطفل الإلهي ينمو في الجسد ويتقوى بالروح، ممتلئاً من الحكمة الإلهية. وكانت نعمة الله الآب عليه، لأنه واحد معه.
والكلام هنا عن نمو السيد المسيح في القامة ثم في النعمة والحكمة إنما ينصرف إلى ناسوته الذي يتألف من جسد ومن نفس عاقلة مدركة، ولا ينصرف إلى لاهوته الذي لا يقبل نموا. لأنه إذا كان الإله قد اتخذ له ناسوتاً كاملاً وحقيقياً، فكان لابد لهذا الناسوت أو الإنسانية من أن يمر بكل مراحل النمو التي يمر بها كل إنسان ابتداء من الحبل به إلى ميلاده، إلى نموه قليلاً كما ينمو كل طفل آخر نمواً في قامة جسده ، ونموا في فكره الإنساني كما ينمو فكر كل طفل آخر، بالمعارف التي يتلقاها في الأسرة وفي المدرسة وفي الحياة. بيد أن هذا النمو في الناسوت دون اللاهوت لا يعنى انفصالاً بين الناسوت واللاهوت. فالاتحاد قائم بينهما، اتحاداً تاماً وكاملاء وبغير اختلاط أو امتزاج أو تغيير .
2: 41- 52 السيد المسيح يناقش العلماء في هيكل أورشليم
ولم يتضمن إنجيل القديس لوقا، كما لم تتضمن سائر أسفار العهد الجديد من الكتاب المقدس إلا إشارات نادرة إلى حياة السيد المسيح منذ عودته إلى الناصرة مع أمه القديسة مريم وخطيبها إلى أن اعتمد من يوحنا المعمدان، وكان عندئذ في الثلاثين من عمره وسن الثلاثين هي سن اكتمال الرجولة، التي لا يجوز قبلها وفقاً للشريعة اليهودية ممارسة الكهنوت (عد 4: 3و23 و 30 و 39 و 43 و 47)، (1أخ 23: 3) . فلم يشأ السيد المسيح أن يبـدأ الرسالة التي جاء من أجلها إلى العالم إلا في هذه السن، ولا سـيـمـا أن وظائفه التي ذكرتها النبوءات أنه كاهن، فضلاً عن أنه نبي وملك، أما قبل هذه السن فقد عاش في وداعة وصمت، متخذاً صورة الإنسان العادي البسيط الفقير الفاضل الذي يعيش من عمل يديه عيشة متواضعة ولكنها هادئة يسودها الرضا والقناعة والطمأنينة وطاعة الله – ولابد أنه في طفولته انخرط في سلك أطفال القرية كواحد منهم، يذهب إلى الكتاب ـ وهو مدرسة القرية ـ يتعلمون فيه القراءة والكتابة وبعض تعاليم الدين. وفي غير أوقات الدرس كان يساعد خطيب أمه القديس يوسف البار في عمله كنجار إلى أن صارت النجارة هي مهنته، وبها اشتهر بين مواطنيه فقالوا عنه تارة إنه «ابن النجار، (مت 13: 55) ووصفوه تارة أخرى بأنه النجار، (مر 6: 3).
وكانت الحادثة الوحيدة التي ذكرها القديس لوقا عن السيد المسيح بعد عودة العائلة المقدسة إلى الناصرة أن أمه سيدتنا العذراء، وخطيبها يوسف الذي كان الناس يعتقدون أنه أبوه، كانا يذهبان كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح، عملاً بالوصية الواردة في الشريعة التي تقول أعمل فصـحـاً للرب إلهك.. في المكان الذي يختاره الرب ليحل اسمه فيـه.. لا يحل أن تذبح الفصح في أحد أبوابك.. بل في المكان الذي يختاره الرب إلهك ليحل اسمه فيه، (تث 16: 1 و2 و5و6) . والمقصود بالمكان الذي اختاره الرب هو خيمة الاجتماع قبل بناء الهيكل، ثم هو الهيكل حين أقامه سليمان في أورشليم. فلما بلغ السيد المسيح الثانية عشرة من عمره صعد إلى أورشليم مع أمه وخطيبها كما هي العادة في العيد، حتى إذا رجعت أمه وخطيبها بعد انقضاء أيام العيد بقي الصبي الإلهي في أورشليم وهما لا يعلمان . وإذ كانا يظنانه ضمن القافلة ظلا مسافرين مسيرة يوم، ثم راحا يبحثان عنه عند الأقرباء والمعارف فلما لم يجداه رجعا إلى أورشليم يبحثان عنه . وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل جالساً في حلقة العلماء يستمع إليهم ويسألهم، وكان كل الذين يسمعونه مشدوهين من علمه وأجوبته . فلما أبصراه انذهلا، وقالت له أمه ،لماذا فعلت بنا هكذا يا بني ؟ فها هو ذا أبوك وأنا كنا نبحث عنك معذبين؟، فقال لهما ،لماذا تبحثان عنى؟ ألا تعلمان أنني لابد أن أكون فيما هو لأبي؟. وإذ كان يتحدث عن أبيه السماوي، وعن ضرورة أن يمكث في الهيكل الذي هو بيت أبيه الحقيقي، وأن ينشغل بالرسالة التي كلفه بها، لم يفهما الكلام الذي قاله لهما على الرغم من إدراكهما حقيقة شخصية ذلك الصبي الذي قيل لهما مرارًا من قبل إنه ابن الله؛ والذى كانا يحبانه حباً عظيماً يدل عليه ذلك الانزعاج الذى أبدياه حين غاب عنهما إذ كانت تفاصيل هذه الحقيقة السماوية التى تعلق بكونه ابن الله ما زالت فوق مداركهما البشرية. ثم عاد معهما إلى الناصرة؛ وكان طائعاً لهما. وكانت أمه تحقظ كل هذه الأمور فى قلبها متأملة فيها. وكانِ هو ينمو فى القامة والحكمة والنعمة عند الله والناس. فلم يكن وهو فى صباه محبوباً من أمه وخطيبها فقط وإنما كان بسبب حكمته ونعمة الله عليه – محبوباً من جميع الناس ومحباً لجميع الناس فضلا عن أن هذه الحكمة التى كان يتصف يها فى صباه كانت تتضمن إلى جانب قدرته علي اجتذاب القلوب؛ ذكاء خارقاً؛ وعلماً غزيراً وقدرة فائقة على النقاش لا يمكن أن تتوافر للأطفال فى مثل عمره حينذاك. يدل على ذلك ما أبداه العلماء الذين كان يناقشهم فى الهيكل من دهشة وذهول. وقد كان أولئك العلماء الذين يلقون دروسهم فى هيكل أورشليم من أعظم كهنة اليهود وفقهائهم. ويذكر لنا التاريخ أنه كان منهم قى هذه الفترة هليل؛ الذى كان اليهود يعتبرونه التالي فى مكانته لموسى؛ وكان منهم غمالائيل الذى كان بولس الرسول يفتخر بأنه تتلمذ عليه؛ والذى كان رئيساً للمجلس الأعلى لليهود المسمى بالسنهدريم . وكان منهم حنان الذى أصبح رئيساً للكهنة وكانت له سطرة عظمى على اليهود.
فإن كان أمثال هؤلاء قد بهتوا من ذكاء السيد المسيح فى أسئلته لهم وفى أجوبته عن أسئلتهم؛ وهو لا يزال فى الثانية عشرة من عمره فلابد أنه أبدى من العلم والمعرفة ما أدهشهم وأشعرهم بأنهم أمام إنسان خارق للطبيعة، وبأنهم أمام إنسان فوق مستوى الإنسان. ومع ذلك فإن الأسفار المقدسة لا تذكر كلمة واحدة عما تلقاه السيد المسيح من تعليم طوال الثلاثين عاماً السابقة على خدمته العلنية؛ بل أنها على العكس تتضمن بعض عبارات تنطوى على تعيير اليهود له بأنه لم يكن متعلماً إذ كان معروفاً أنه ابن يوسف . وقد كان يوسف نجاراً فقيراً غير قادر على أن يتيح لابنه ذلك القدر من التعليم الذى يؤهله لأن يصير معلماً وأن تخرج من فمه ذلك الروائع التى كان ينطق بها بعد أن بدأ رسالته التعليمية إذ جاء في إنجيل متى انه “حين جاء إلى وطنه كان يعلمهم فى مجامعهم حتى بهتوا وقالوا من أين له هذه الحكمة وهذه القدرات؟ أليس هذا هو ابن النجار” (مت 13: 54و55). وجاء فى إنجيل يوحنا أنه «ولما كان العيد قد انتصف صعد يسوع إلى الهيكل وكان يعلم ؛ فتعجب اليهود قائلين : كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم؟» (يو 7: 14و15). بيد أن ثمة إشارات أخرى فى الأسفار المقدسة تدل على أن السيد المسيح قد نال قسطاً من التعليم كغيره من أبناء الفقراء فى المدارس التى كانت ملحقة بمجامع اليهود.
, كان يوم بالتعليم فى كل منها رجل يسمونه السوفريم؛ إذ تعلم مما سيأتى فى إنجيل القديس لوقا آنه كان يعرف القراءة . فقد جاء فى هذا الإنجيل أنه «ذهب كعادته إلى المجمع فى يوم السبت وقام ليقرأ فناولوه سفر إشعياء النبى» (لو 4: 16 و17 )؛ كما نعلم من إنجيل يوحنا أنه كان يعرف الكتابة فقد جاء فى هذا الإنجيل “وأما يسوع فانحنى إلى أسفل وكان يكتب بأصبعه على الأرض” (يو 8: 6) إلا أن مجرد القراءة والكتابة لا يمكن أن يصنعا مئنه وحدهما ذلك المعلم الذي أنارت تعاليمه كل أنحاء الأرض في كل الأجيال، ومن ثم فإن السيد المسيح قد أماط لنا اللثام بنفسه عن هذا السر، إذ قال «تعليمي ليس لي، بل للذي أرسلني، (يو 7: 16) ، أي أن الله الآب الذي أرسله هو الذي كان يتكلم به وفيه ، وقد صرح السيد المسيح بهذا للناس ليعرفوا حقيقة شخصيته، لأنه لو كان قد تثقف ثقافة عالية في المدارس الكبرى وأحاط بفلسفة اليونان والرومان وغيرها من علومهم التي كانت مزدهرة في عصره ، لنسب الناس تعاليمـه إلى ما حصل عليه من ثقافة، وما أحاط به من فلسفة ومن سائر العلوم، ولحجب ذلك عن أبصارهم وبصائرهم أن تعاليمه لم تكن من الناس بل من الله. وهكذا كان المطعن الذي عيروه به لينالوا من كرامته، هو البرهان على مجده وعزته وسمو طبيعته.
ومن تلك الحادثة التي ذكرها القديس لوقا عن ذهاب السيد المسيح إلى أورشليم وهو في الثانية عشرة من عمره مع أمه وخطيبها يوسف، نعلم أن يوسف ظل ملازما للسيدة العذراء، على الرغم من أنه لم يكن قد تزوجها. إذ نعلم من إنجيل القديس متى أنه حين علم أنها حبلى قبل زواجه منها راوده الشك في أمرها وأراد أن ينفصل عنها ولكنه فيما كان يفكر في ذلك إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلاً : يا يوسف بن داود لا تخف أن تستبقى مريم امرأتك لأن الذي سيولد منها هو من روح القدس، وستلد ابنا وتسميه يسوع، لأنه هو الذي يخلص شـعـبـه من خطاياهم، (مت 1: 20و 21)، ومن ثم لازمها يوسف، وكرس حياته لخدمتها وخدمة ابنها الإلهي، فعاش معهما إلى نهاية حياته في تقديس لهما وإخلاص في رعايتهما، متظاهراً بأنه زوج السيدة العذراء الطاهرة مع أنه ليس كذلك في الحقيقة، ومتظاهراً بأنه أبو السيد المسيح مع أنه ليس كذلك أيضاً، لأنه ما كان أحد من اليهود ليصدق تلك الحقيقة السمائية السامية لو أنه قالها لهم، فانتظر حتى يعلنها لهم السيد المسيح بنفسه، وبذلك وقاهما شر مظنة اليهود وأقوال السوء التي كان من شأنهما أن يتعرضا لها لو انفصل عنهما. وقد كان ينفق عليهما من حرفته المتواضعة، إذ كان يعمل نجاراً بسيطاً في مدينة الناصرة، حتى إنا سمع أهل هذه المدينة فيما بعد تعاليم السيد المسيح ورأوا معجزاته ذهلوا قائلين في دهشة وازدراء ، من أين له هذه الحكمة وهذه القدرات؟ أليس هذا هو ابن النجار، (مت 13: 54و 55). كما جاء في إنجيل يوحنا أن فيلبس وجد نثنائيل، وقال له ، وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء، يسوع بن يوسف الذي من الناصرة، (يو 1: 45). وحتى السيدة العذراء كانت تقول عن يوسف أمام الناس إنه أبو السيد المسيح، كما حدث عندما عاتبته حين تخلف في الهيكل قائلة له ولماذا فعلت بنا هكذا يابني؟ فها هوذا أبوك وأنا كنا نبحث عنك معذبين، (لو 2: 48)، ملقبة يوسف بأنه أبوه . وكان السيد المسيح على مقتضى كماله المطلق منذ طفولته، على الرغم من أنه كان يعلم أن يوسف ليس أباه، يوقره توقير الابن أباه ، كما يوقر أمه توفير الابن أمه، شأن كل ابن بار بأبويه، إذ قيـل إنـه بعـد أن وجـداه في الهيكل وعاد معهما إلى الناصرة، وكان طائعاً لهما، (لو 2: 51).