تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 17 للقديس كيرلس الكبير

الأصحاح السابع عشر

العظات 113 – 116
العثرات والغفران للمخطئين

(لو17: 1-3): ” وقال لتلاميذه: لا يمكن إلا أن تأتي العثرات ولكن ويـل للـذي تـأتي بواسطته!. خير له لو طوق عنقه بحجر رحى وطرح في البحر من أن يُعثـر أحـد هـؤلاء الصغار. احترزوا لأنفسكم. وإن أخطأ إليك أخوك فوبخه وإن تاب فاغفر له”

ما هي العثرات التي يقول عنها المسيح إنها ستحدث بالتأكيد؟ العثـرات نوعـان: بعض العثرات هي ضد مجد الكائن الأعلى وتهاجم ذلك الجوهر المتعالي على الكل، وذلك حسب غرض الذين يتسببون فيها، بينما عثرات أخرى تحدث بين الحين والآخر أنفسنا ا ولا تتعدى أن تكون إيذاء لبعض الإخوة الذين هم شركاؤنا في الإيمـان. لأنه أيا كانت الهرطقات التي ابتدعت وكل مجادلة تقف ضد الحق، فهي في الحقيقـة تقاوم مجد الألوهية الفائقة، باجتذابها أولئك الذين يسقطون فيها بعيدا عـن اسـتقامة العقائد المقدسة وسلامتها. وهذه هي العثرات التي قال المخلص نفسه عنها في موضع ما: ” الويل للعالم من العثرات، فلابد أن تأتي العثرات، ولكن ويل لذلك الإنسان الذي به تأتي العثرة” (مت 18: 7). فالعثرات من هذا النوع، التي يسببها الهراطقـة عـديمي التقوى ليست موجهة ضد فرد واحد، بل هي موجهة بالأكثر ضد العالم كله، أي ضد سكان الأرض كلها. وبولس المغبوط يوبخ مخترعي مثل تلك العثرات بقوله: ” وهكذا إذ تخطئون إلى الاخوة وتجرحون ضميرهم الضعيف تخطئون إلى المسيح ” (1کو 8: 12). ولكي لا تسود مثل هذه العثرات على المؤمنين، تكلم الله في موضع ما إلـى الذين هم سفراء لكلمة الحق المستقيمة، الماهرين في تعليمها قائلاً: “اعبروا بالأبواب، هيئوا طريقا لشعبي، أعدوا السبيل، نقوه من الحجارة ” (إش 62: 10). والمخلـص قـد جعل عقوبة مرة على من يضعون مثل هذه المعاثر في طريق الناس.

وربما لا تكون هذه هي العثرات التي يشار إليها هنا، بل بالحرى هي تلك العثرات التي تحدث كثيرا بسبب الضعف البشري بين الأصدقاء والإخوة؛ وهذا الحديث الـذي يتبع هذه الملاحظات الافتتاحية مباشرة، والذي يتحدث عن غفراننا للإخـوة عنـدما يخطئون إلينا، يقودنا إلى تلك الفكرة بأن هذه هي العثرات المقصودة هنا. إذن فما هي هذه العثرات؟ أنا أعتقد أنها أفعال خسيسة ومزعجة، مثل نوبات غضب سواء كانـت لسبب ما أم كانت بلا مبرر، إهانات، اغتيابات كثيرة، وعثرات كثيرة أخرى قريبـة لهذه ومشابهة لها. والرب يقول إن مثل هذه العثرات لابد أن تأتي، فهل تأتي إذن، لأن الله، الذي يضبط الكل، يجبر الناس على ارتكاب هذه العثرات؟ حاشا لله أن يصدر منه شيء شرير، بل بالأحرى فهو ينبوع كل فضيلة، فلماذا إذن يتحتم أن تأتي؟ واضـح أنها . ـ بسبب عجزنا، كما هو مكتوب: “لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا” (يع 3: 2). وبالرغم من هذا فهو يقول: ويل للإنسان الذي يضع أحجار عثرة في الطريق، فالرب لا يترك عدم المبالاة في هذه الأمور بدون توبيخ، بل هو بالأحرى يكبحـه بواسـطة الخوف من العقوبة، ورغم ذلك فهو يوصينا أن نحتمل الذين يسببونها، بصبر.

(لو4:17 ): ” وإن أخطأ إليك سبع مرات في اليوم ورجع إليك سبع مرات في اليوم قائلا: أنا تائب فاغفر له “.

يقول الرب إن كان الذي يخطئ ضدك، يتوب ويقر بخطئه فاغفر له، وذلك ليس مرة واحدة فقط، بل مرات عديدة جدا، لأننا يجب ألا نظهر أنفسنا ناقصين في المحبة المتبادلة ونهمل الاحتمال. فكلنا ضعفاء ونخطئ مرارا وتكرارا، لذلك يجب بالأحرى أن نتشبه بأولئك الذين يشتغلون بمعالجة أمراضـنا الجسدية، فهؤلاء لا يعتنـون بالمريض مرة واحدة فقط ولا مرتين، بل بعدد المرات التي يمرض فيها. فلنذكر أننا نحن أيضا عرضة للضعفات وأننا ننغلب من شهواتنا، وإن كان الأمر هكذا، فنحن نرجو أن أولئك الذين من واجبهم أن يوبخونا والـذين لهـم الـسلطان أن يعاقبونـا، يظهرون أنفسهم عطوفين علينا وغافرين لنا. لذلك فمن واجبنا ـ إذ لنا شعور عـام فيما بيننا بضعفاتنا المشتركة ـ أن “نحمل أثقال بعضنا البعض، وهكذا نتمم نـاموس المسيح” (غل 6: 2). كما نلاحظ أيضا أنه في الإنجيل بحسب متى، يسأل بطرس قائلاً: “كم مرة يخطئ إلي أخي وأنا أغفر له”؟ ويخبر الرب الرسل عن هذا الأمر قائلاً: ” وإن أخطأ إليك سبع مرات في اليوم “، أي يخطئ كثيرا، فعلى قدر ما يقر بخطئـه اغفر له (انظر مت 18: 21 و22).

 (لو5:17 ): “فقال الرسل: زذ إيماننا “.

إن ما يعطي فرحا أكيدا لأنفس القديسين ليس هو امتلاك الخيـرات الأرضـية الزائلة، فهي قابلة للفساد وتفقد بسهولة؛ بل إن ما يعطيهم الفرح بالحري هـو تلـك الخيرات التي تجعل من ينالونها موقرين ومباركين، أي هي النعم الروحية التي هـي عطية الله. والشيء الذي له قيمة خاصة بين هذه النعم هو الإيمان، وأعني به أن يكون لنا ثقة بالمسيح مخلصنا كلنا، والذي يعتبره بولس الرسول أنه أساس كل بركاتنا؛ لأنه قال: “بدون الإيمان لا يمكن إرضاؤه” (عب 6:11)، “لأنه في كل هذا شـهد للقـدماء” (عـب 11: 2)، لذلك انظروا الرسل القديسين في اقتدائهم بسلوك قديسي العهد القديم، فما الذي يطلبونه من المسيح؟ ” زد ايماننا ” هم لم يطلبوا مجرد الإيمان، لئلا تظنوا أنهـم بلا إيمان، بل بالحرى طلبوا من المسيح زيادة لإيمانهم وأن يتقووا في الإيمـان، لأن الإيمان يتوقف علينا نحن من ناحية، وعلى هبة النعمة الإلهية من ناحية أخـرى، لأن بداءته تعتمد علينا، وهكذا أيضا استمرار الثقة والإيمان في الله بكل قوتنا؛ أما الثبات والقوة اللازمة لهذا (الثبات في الإيمان) فتأتي من النعمة الإلهية. ولهذا فلكـون كـل الأشياء ممكنة لدى الله. يقول الرب: “كل شيء مستطاع للمؤمن” (مر 9: 23). لأن القوة التي تأتي إلينا بالإيمان هي من الله. والطوباوي بولس إذ يعرف هذا، يقول أيضا في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: ” فإنه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة، ولآخـر كلام علم بحسب الروح الواحد، ولآخر ایمان بالروح” (1کو 12: 8 و9). أنتم ترون أنه قد وضع الإيمان أيضا في قائمة النعم الروحانية، وهذا ما طلب التلاميذ أن ينـالـوه مـن المخلص، مساهمين من جهتهم أيضا بأن يطلبوه؛ وهو من جهته قد منحهم إياه بعـد اكتمال التدبير بحلول الروح القدس عليهم. فقبل القيامة كان إيمانهم ضعيفا جدا لدرجة أنهم كانوا معرضين لأن يوصفوا بقلة الإيمان.

فعلى سبيل المثال، كان مخلص الكل يبحر ذات مرة في بحيرة طبرية مع الرسـل الأطهار، ، وسمح لنفسه عن قصد بأن ينام، وعندما هبت ریح شديدة وصدمت الأمواج السفينة بعنف، اضطرب التلاميذ جدا، حتى أنهم أيقظوا الرب من النوم قائلين:” يا معلم نجنا فإننا نهلك” (لو 8: 24)، فقام وانتهر الأمواج وحول هياج العاصفة إلى هدوء، لكنه لأم الرسل الأطهار جدا قائلاً لهم: “أين ايمانكم؟” لأنه ما كان ينبغـي لهـم أن ينزعجوا بأي شكل كان طالما أن السيد المهيمن على الكون والذي ترتعـد وتتزلـزل أمامه كل خلائقه ــ كان حاضرا معهم. وإن كان يجب علينا أن نضيف مـثلاً أخـر مشابها، فسأذكر واحدا وهو الآتي: فقد أمر الرب الرسل القديسين أن يصعدوا إلـى السفينة ويسبقوه إلى الجانب الآخر من البحيرة، وهم بالطبع فعلوا هكذا. وحينما كانوا قد جدفوا نحو ثلاثين غلوة نظروا يسوع ماشيا على البحر فخافوا جدا وظنـوا أنهـم رأوا خيالاً، لكن حينما ناداهم وقال لهم: “أنا هو لا تخافوا”، قال له بطرس: ” إن كنت أنت هو فمرني أن آتي إليك على الماء. فقال له تعال. فنزل بطـرس مـن الـسفينة ومشي على الماء ليأتي إلى يسوع، ولكن لما رأى الريح شديدة خاف، وإذ ابتدأ يغرق صرخ قائلا: ” يا رب نجني”، فأمسك به ونجاه من هذا الخطر، لكنه أيضا وبخه قائلاً: ” يا قليل الإيمان لماذا شككت؟” (انظر مت 14: 22 -31، يو 19:6). ومن المعروف جيدا أنه في أسبوع الآلام عندما جاء الجنود والخدام الأشرار ليقبضوا على يسوع، فإن الجميع تركوه وهربوا، وأن بطرس أيضا أنكره لأنه ارتعد أمام جارية.

ها أنت قد رأيت التلاميذ بينما لم يكن لهم سوى قليل من الإيمـان، والآن تعجـب منهم بعدما حصلوا من المسيح مخلصنا جميعا على زيادة لإيمانهم: لقد أوصـاهم أن ” لا يبرحوا أورشليم بل ينتظروا موعد الأب” (أع 4:1) إلى أن يلبسوا قوة من الأعالي، ولكن حينما حلت عليهم القوة التي من الأعالي في شكل ألسنة نارية أي النعمة التـي بواسطة الروح القدس، حينئذ صار التلاميذ بالحق شجعانا وجـسورين وحـارين بالروح، حتى إنهم احتقروا الموت، بل وحسبوا الأخطار التي كانت تهددهم من غيـر المؤمنين، كلا شيء، بل وأيضا صاروا قادرين على عمل المعجزات.

عظات 113 – 116(بقية)
الإيمان – فعل ما يجب علينا

أما الثبات في الإيمان فهو نعمة عظيمة ومتميزة وهذا ما يظهره الرب بقوله:
(لو6:17): “لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذه الجميـزة انقلعي
وانغرسي في البحر فتطيعكم”.

لأن الذي يثق في المسيح، لا يتكل على قوته الذاتية، بل بالأحرى يؤمن أن المسيح يعمل كل الأشياء بقوته. إذ نحن نعترف أن إتمام كل الأشياء الحسنة في نفوس البشر يأتي منه، ومع ذلك ينبغي على النفوس أن تُعد ذواتها لنوال هذه النعمة العظيمة. لأنه إن كانت قوة الإيمان تنتزع ما هو ثابت ومتأصل في الأرض، فيمكن للمرء أن يقول بطريقة مطلقة إنه لا يوجد شيء مهما كان راسخا لا يستطيع الإيمان أن يزعزعه لو كان اقتلاعه مطلوبا. ولذلك فإن الأرض تزلزلت عندما كان الرسل يصلون، كمـا يخبرنا سفر أعمال الرسل (أع 31:4). وكذلك، فمن ناحية أخرى، فإن الإيمان يوقـف الأشياء المتحركة مثل النهر المتدفق بسرعة (يش 16:3) ويوقف الأنوار التي تتحـرك بلا توقف في السماء (يش 13: 10)، ومع ذلك يجب علينا أن نلاحظ بعنايـة، أن الله لا يثير إعجابا فارغا أو دهشة باطلة. لأن مثل هذه الأمور هي أبعد مـا تكـون عـن الجوهر الإلهي الذي هو حر تماما من الكبرياء والافتخار، وهو حق كله، وهو يعمل كل هذه الأعمال فقط لأجل خير البشر وسلامتهم، وهذا أقوله لكي لا ينتظر أحد مـن الإيمان المقدس والقوة الإلهية تغيرات غير نافعة للعناصر مثلاً، أو ينتظـر إزالـة الجبال والأشجار، فلو أن هذه التغيرات لم تحدث، لا يكون ذلك بسبب أن الكلمة غير صادقة بل بسبب أن الرب لا يريد أن يفسح مجالاً لعدم التقوى. وأيضا لا يحـسب الإيمان ضعيفا لو أنه لم يستطع أن يتمم مثل هذه الأعمال. فليكن للشيء بعض الفائدة الحقيقية وعندئذ فلن يحرم من القوة اللازمة لإتمامه.

(لو17: 7-10): ” ومن منكم له عبد يحرث أو يرعى يقول له إذا دخل من الحقل: تقدم سريعا واتكئ. بل ألا يقول له: أعدد ما اتعشى به وتمنطق واخدمني حتي اكل وأشرب وبعد ذلك تأكل وتشرب أنت. فهل لذلك العبد فضل لأنه فعل ما أمر به؟ لا أظن. كذلك أنـتم أيضا متى فعلتم كل ما أمرتم به فقولوا: أننا عبيد بطالون. لأننا أنما عملنا مـا كـان يـجـب علينا “.

وجه الرب لنا في هذه الأعداد حديثا طويلاً وهاما لكي يرينا الطرق التي تؤدي إلى المجد والكرامة، وليظهر أمجاد الحياة التي بلا لوم، لكي بتقدمنا فيها وبـسيرنا قـدما وبحماس إلى كل ما هو مثير للإعجاب، فإننا ندرك جعالة دعوتنا العليـا “فـي 3: 14). ولكن حيث إن طبيعة ذهن الإنسان تتجه دائما إلى المجد الباطـل وتـصـاب بـسهولة بالميل نحو ذلك الافتخار الباطل، وحيث إن المتميزين أمام الله يقتمون دائمـا بعـض الفضائل النبيلة جدا كحجة لهذه الخطية، وحيث إنها خطية خطيرة جدا وكريهة أمـام الله، فالحية مصدر كل شر تقود الناس أحيانا إلى هذه الحالة الذهنية حتى أنهم ربمـا يتخيلون أن الله يكون مدينا لهم بأعلى الكرامات، عندما تكون حياتهم مجيدة وممتازة. فلكي يجتذبنا الرب بعيدا عن هذه الأفكار، فإنه يضع أمامنا مغزى الدروس التي قرئت علينا حالاً ويعلمنا بواسطتها بمثال، أن قوة سلطان الملك تتطلب في كل مكـان مـن عبيدها الخضوع، كدين عليهم. ويقول الرب إن السيد لا يعترف بأي فضل للعبد حتى لو فعل كل ما يجب عليه أن يفعل بحسب ما هو لائق بوضع العبد.

أتوسل إليكم، لاحظوا هنا أن الرب يشجع التلاميذ بل وكل الخاضعين لقضيب ملك المسيح . مخلصنا جميعا، على الاجتهاد، ولكن ليس كأنهم يقدمون خدمتهم له على أنها فضل منهم، بل كمن يدفعون دين الطاعة الواجب على العبيد، وبهذا يبطل داء المجـد الباطل، الملعون. لأنك إن فعلت ما يجب عليك، فلماذا تتكبر في نفسك ألست تری أنك ستكون في خطر إن لم تستد دينك، وأنك حتى لو أوفيته فلا يحق لك الشكر؟ تلـك الحقيقة قد تعلمها وفهمها جيدا ذلك الخادم العجيب بولس الرسول الذي يقول: “لأنه إن كنت أبشر فليس لي فخر إذ الضرورة موضوعة علي فويل لي إن كنت لا أبشر” (1كو 16:9)، وأيضا يقول: ” إني مديون لليونانيين والبرابرة، للحكماء والجهلاء ” (رو 1: 14). لذلك فإن كنت قد فعلت حسنا وقد حفظت الوصايا الإلهية، وقد أطعت ربك، فلا تطلب كرامة من الله كأنها حق لك، بل بالحرى اقترب منه واطلب الهبات من سخائه بتوسل. تذكر أنه فيما بيننا أيضا، فإن السادة لا يقرون بأي شكر عندما يؤدي أي واحـد مـن عبيدهم الخدمة المعينة لهم، رغم أنهم بجودهم يكسبون أرتياح عبيدهم الأمناء، وهكذا يولدون فيهم نشاطا أكثر بفرح. وبالمثل يطلب الله منا خدمة العبيد، مستخدما حـق سلطانه الملوكي، ولكن لكونه صالحا وجوادا، فإنه يعد أيضا بالمكافآت لأولئك الذين يتعبون. وعظمة إحسانه تفوق أتعاب عبيده جدا كما يؤكد لكم بولس الرسول إذ يكتب قائلاً: “إن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا” (رو 8: 18). نعم فرغم أننا عبيد فالرب يدعونا أبناء ويكالنا بالمجد اللائق بالبنين. ولاحظوا أيضا أن كل واحد إذ قد أعتنى أولاً بجسده، هكذا ينبغي عليه أن يهتم بعد ذلك بخيـر الآخـرين، “لأنه إن كان أحد لا يعرف أن يدبر بيته حسنا فكيف يعتني بكنيسة الله” (1تي 5:3).

(لو17: 12و13): ” وفيما هو داخل إلى قرية استقبلة عشرة رجال برص فوقفوا من بعيد. وصرخوا: يا يسوع يا معلم ارحمنا”.

يظهر لنا المخلص مرة ثانية مجده بعمله معجزات إلهية لكي يربح إلى الإيمـان، إسرائيل الأحمق، رغم عناده و عدم إيمانه. أية حجة سوف يعتذرون بهـا فـي يـوم الدينونة لرفضهم قبول الخلاص بالمسيح، لا سيما إذا كانوا هم أنفسهم قد سمعوا كلامه وكانوا معاينين لعجائبه التي لا ينطق بها؟ ولهذا السبب قال هو نفسه عنهم: “لو لـم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية”، وأيضا لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لـم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطية، وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنـا وأبـي (يو 15: 22 و24). وكما قلت لكم سابقا، فإن تطهير الرجال البرص كان برهانا واضحا على قوته العجائبية، فبمقتضى ناموس موسى كان البرص يطردون خارج المدن والقـرى لكونهم نجسين.

أظن أن هذا يكفي كملاحظات تمهيدية. لذلك فما أن قابل البرص المخلص حتـى طلبوا منه باجتهاد أن يحررهم من بؤسهم داعين إياه سيدا أي معلما. لم يشفق أحد عليهم عندما كانوا يعانون من هذا المرض، سوى هذا الـذي ظهـر على الأرض خصيصا لأجل هذا السبب بعينه، وقد صار إنسانا لكي ما يظهر شفقته على الكل، فتحرك بالشفقة عليهم ورحمهم.

(لو 14:17) ” وقال لهم: اذهبوا وأروا أنفسكم للكهنة. وفيما هم منطلقون طهروا “

ولماذا لم يقل بالحري أريد فاطهروا كما فعل في حالة أبرص آخـر لـو 13:5)، بـل أمرهم أن يمضوا ليروا أنفسهم للكهنة؟ كان هذا لأن الناموس أعطى توجيهات بهـذا الخصوص لأولئك الذين قد تطهروا من البرص، إذ أمرهم أن يروا أنفسهم للكهنة وأن يقدموا ذبيحة لأجل تطهيرهم (لا 14: 2). لذلك هو أمرهم بالذهاب لأنهم شفوا فعـلاً ولكي يمكنهم أن يقدموا شهادة للكهنة (قادة اليهود) الذين هم دائما حاسدون لمجده، إنه بطريقة عجيبة تفوق توقعهم قد تخلصوا من بليتهم بمشيئة المسيح الـذي أعطـاهم الشفاء. وهو لم يشفهم أولاً، بل أرسلهم للكهنة، لأنهم (الكهنة) كانوا يعرفون علامات البرص وعلامات شفائه. هو أرسلهم إلى الكهنة وأرسل معهم الشفاء أيضا. لكن ماذا كانت شريعة البرص، وما هي أحكام تطهيره، وما هو معنى كل أوامـر النـاموس بخصوصه؟ كل هذا قد استوفيناه تماما في بداءة معجزات مخلصنا بحسب ما كتبه لوقا (انظر لو 5: 12)، وكل من هو متعطش للتعلم فليرجع إلى ما سبق أن قلنـاه، أمـا الآن فلننتقل إلى ما يلي ذلك: إن تسعة منهم إذ كانوا يهوذا سقطوا في نسيان جاحد، ولـم يرجعوا ليعطوا المجد لله، وبهذا الأمر يظهر الرب أن إسرائيل كـان قاسـي القلـب وعديم الشكر تماما، أما العاشر الغريب ـ فلأنه سامري فقد كان من جنس أجنبي إذ قد جاء من أشور؛ (لأن عبارة في وسط السامرة والجليل) لیست بلا معنى ـ هـذا الغريب رجع ليمجد الله بصوت عال، لذلك يظهر من النص أن الـسـامريين كـانوا شاکرین، أما اليهود فكانوا غير شاكرين رغم انتفاعهم منه.

عظة 117 متى يأتي ملكوت الله؟

(لو17: 20-30): ” ولما سأله الفريسيون: متى يأتي ملكوت الله؟ أجابهم: لا يأتي ملكوت الله بمراقبة. ولا يقولون: هوذا ههنا أو: هوذا هناك لأن ها ملكوت الله داخلكـم. وقـال للتلاميذ: ستأتي أيام فيها تشتهون أن تروا يوما واحدا من أيام ابـن الإنسان ولا تـرون. ويقولون لكم:هوذا ههنا أو: هوذا هناك. لا تذهبوا ولا تتبعوا. لأنه كما أن البرق الذي يبرق من ناحية تحت السماء يضيء إلى ناحية تحت السماء كذلك يكون أيضا ابن الإنسان فـي يومه. ولكن ينبغي أولا أن يتألم كثيرا ويرفض من هذا الجيل. وكما كان في أيام لوح ؟ وكذلك يكون أيضا في أيام ابن الإنسان. كانوا يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون إلـى الـيـوم الذي فيه دخل نوح الفلك وجاء الطوفان وأهلك الجميع. كذلك أيضا كما كان في أيام لوط كانوا يأكلون ويشربون ويشترون ويبيعون ويغرسون ويبنون. ولكن اليوم الذي فيـه خـرج لوط من سدوم أمطر نارا وكبريتا من السماء فأهلك الجميع. هكذا يكون في اليوم الذي فيه يظهر ابن الإنسان “.

مرة ثانية يقاوم الفريسي الله، وهو لا يشعر أنه يرفس المناخس، لأنه بينما هو يتخذ مظهر من هو شغوف بالتعلم، فإنه يسخر من الأسرار الإلهية المقدسة جدا، تلك التي “تشتهي الملائكة أن تطلع عليها ” حسب كلام الطوباوي بطرس (1بط 1: 12). لهذا السبب فإن العمى (القساوة) حدث جزئيا لإسرائيل والظلمـة أعمت عيونهم (رو 11: 25). أما عن كونهم مظلمين وعمياناً، لدرجة أنهم كثيرا ما جعلوا سر المسيح مناسبة للسخرية، فهذا ما يمكن لأي واحد أن يعرفه مما قد قرئ علينا الآن. فقد اقتربوا منه وسألوه قائلين: ” متى يأتي ملكـوت الله؟” أيها الفريسي الأحمق خفف من كبريائك، وتنع عن السخرية التـي تعرضـك لذنب ثقيل لا خلاص منه. فالكتاب يقول: ” والذي لا يؤمن بابن الله قد ديـن، لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد” (يو 3: 18). لأن موسى الإلهي سبق فـأظهر بالمثال والظل أن الكلمة هو طريق العالم وباب الخلاص، أنه الله، فقد هو ومع ظهر في هيئة بشرية واحتمل موت الجسد لأجل الأرض كلها. وتتفق أقـوال الأنبياء القديسين أيضا مع ما قاله موسى، لأنهم سبقوا فأنبأوا إنه سيأتي فـي الوقت المعين في صورة مماثلة لنا. وهذا أيضا قد حدث؛ لأنه أظهـر الـذين على الأرض، متخذا هيئة عبد؛ ولكنه رغم هذا احتفظ بربوبيتـه الطبيعيـة وسلطانه، ومجده الإلهي، كما تبرهن بروعة الأعمال التي أجراها.

لكن أنت أيها الفريسي لم تؤمن به ولم تقبل التبرير بواسطته لأنك معانـد ومتكبر، ، وبعد هذا أنت تسأل متى يأتي ملكوت الله؟

– لذلك، فكما قلت، (فالفريسي) يسخر من سر هكـذا مـقـدس حقـا وجـدير بالإعجاب. ولأن مخلص الجميع كان يتكلم في أحاديثه العلنية من حين لآخـر عن ملكوت الله، لذلك فهؤلاء البؤساء، يزدرون به ـ أو ربما حتى قد وضعوا في ذهنهم أن يصطادوه بخبثهم، فإن عليه أن يحتمل الموت على الصليب – لذلك فهم يسألون في سخرية، متى يأتي ملكوت الله؟ وكأنهم يقولون إنه قبل أن يأتي هذا الملكوت الذي تتحدث عنه، فإن الصليب والموت سوف يمسكان بك. لذلك، بماذا أجاب المسيح؟

مرة أخرى يظهر طول أناته وحبه الذي لا يبارى للإنسان، لأنه ” إذ شتم لم يكن يشتم عوضا، وإذ تألم لم يكن يهتد” (1بط 2: 23). لذلك فلم يوبخهم بـشدة، ولكن بسبب خبثهم لم يتلطف لكي يجيب على سؤالهم، بل يقول إن ما ينفع كل الناس، هو أن لا يأتي ملكوت الله بمراقبة، لأن ها ملكـوت الله داخلكـم (لـو 17: 20 و21). ويقول لا تسألوا عن الأزمنة التي سيظهر فيها أيـضا ملكـوت السموات ويأتي، بل بالحري اجتهدوا لكي تُحسبوا أهلاً لـه، لأنـه موجـود داخلكم، أي أنه يعتمد على مشيئاتكم الخاصة، وهو في متناول أيـتيكم سـواء قبلتموه أو رفضتموه. لأن كل إنسان قد حصل على التبرير بواسطة الإيمـان بالمسيح، وهو متزين بكل فضيلة، فإنه يحسب أهلاً لملكوت السموات.

لذلك فبعد أن أوضح هذا الأمر للجميع، فإنه الآن يوجه كلامه إلى تلاميذه القديسين، لمن هم رفقاؤه القديسون ويقول: ستأتي أيام تشتهون فيها أن تـروا يوما واحدا من أيام ابن الإنسان ولا ترون. هل الرب بحديثه هكـذا يغـرس الجبن في تلاميذه؟ هل هو يضعفهم مقدما ويوهن عزيمتهم حتى لا يستطيعوا أن يحتملوا تلك الاضطهادات والتجارب التي يجب عليهم أن يحتملوها؟ لـيـس هذا هو قصده بل بالأحرى العكس؛ لأنه يريدهم أن يكونوا مستعدين لكل مـا يمكن أن يحزن الناس ويتهيئوا لاحتماله بصبر، وهكذا إذ ينـالون استحـسانه يمكنهم أن يدخلوا ملكوت الله. لذلك فهو ينذرهم مسبقا بأنه قبل مجيئـه مـن السماء عند انقضاء العالم، فسوف تسبقه تجارب واضطهادات، حتـى إنـهـم يشتهون أن يروا يوما من أيام ابن الإنسان؛ أي يوما مثل تلك الأيام التي كانوا فيها لا يزالون يتجولون مع المسيح ويتحادثون معه. ومع هذا فإن اليهود كانوا حتى في ذلك الحين يخطئون ضده بعنف غير قليل، فقد رجمـوه بالحجـارة واضطهدوه، ليس فقط مرة واحدة بل مرات كثيرة؛ واقتادوه إلى حافة الجبل، لكي يطرحوه على الجرف؛ وأغاظوه بالتعييرات والافتراءات، وكل صور الخبث مارسها اليهود ضده. فكيف قال إذا إن التلاميذ سوف يشتهون أن يروا يومـا من أيامه؟ قال هذا بسبب أن الشرور الأقل تشتهى عند مقارنتها بالشرور الأعظم.

أما عن نزوله من السماء في أزمنة العالم الأخيرة، ليس في الخفاء ولا في الستر، بل بمجد إلهي، وساكنا في نور لا يدنى منه (1تي 16:6)، فهـذا أعلنـه بقوله إن مجيئه سيكون كالبرق. قد ولد حقيقة بالجسد من امـرأة لكـي يـتمم التدبير لأجلنا، ولهذا السبب أخلى نفسه (في 2: 7)، وافتقر، ولم يظهر ذاته فـي مجد الألوهية؛ لأن الوقت نفسه، وضرورة التدبير، قاده إلى هذا الاتضاع. أما بعد قيامته من بين الأموات ـ وبعد أن صعد إلى السماء وجلس الله الآب ـ فسوف ينزل ثانية، بدون إخفاء لمجده، وليس في وضاعة الطبيعة البشرية، بل في عظمة الآب ومجده، وبرفقة الملائكة المحيطين والواقفين أمامه، كإلـه ورب الكل، لذلك فسوف يأتي، كالبرق، وليس في الستر.

وأيضا لا يجب أن نصدق أي إنسان يقول: ” هوذا المسيح هنـا أو هـوذا هناك”. بل كما قال الرب فإنه “ينبغي أولا أن يتألم كثيرا ويرفض مـن هـذا الجيل” (لو 17: 25)، والمسيح بقوله هذا، فإنه يقطع من قلب التلاميذ توقعا آخـر لأنهم افترضوا أنه بعد أن كان قد تجول في اليهودية وبعد ذلك في أورشليم، فإنه في الحال سوف يظهر ملكوت الله. فتقدموا إليه وقالوا: يا رب هل في هذا الوقت ترد الملك إلى إسرائيل؟ (أع 6:1). وأم ابني زبدي أيضا كانت تتوقع أن هذا سوف يحدث، ولذلك تقدمت إليه وقالت: “قل أن يجلس ابناي هذان واحد عن يمينك والآخر عن اليسار في ملكوتك” (مت 20: 21)، فلكي يعرفوا، أنه كان مزمعا أولاً أن يجوز ألامه الخلاصية، وأن يبطـل المـوت بمـوت جـسـده، ويطرح خطية العالم خارجا ويقضي على رئيس هذا العالم، وأن يصعد إلـى الأب، وفي الوقت المعين يظهر “ليدين المسكونة بالعدل” (مز 13:95 س)؛ لذلك يقول، إنه “ينبغي أولا أن يتألم كثيرا “.

ولكي يوضح أنه سوف يظهر على غير توقع، وبدون أن يعرف أحد متـى يكون هذا ومتى تكون نهاية العالم، فإنه يقول إن النهاية ستكون كما كان فـي أيام نوح ولوط. لأنه يقول إنهم كانوا يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون، ويشترون ويبيعون، ويبنون؛ لكن مجيء الطوفان قتل الأولين ، بينمـا كـان الآخرون فريسة وطعاما للكبريت والنار” إذا، فما معنى هذا؟ هو يطلب منـا أن نكون دائما ساهرين ومستعدين لأن نعطي جوابا أمام منبر الله كما يقـول بولس: “لأنه لابد أننا جميعا نظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيرا كلن أم شرا” (2کو 5: 10).

” فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار ويقول للخراف تعـالوا يـا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم”، لكنه سينطق حكمـا مرعبا على الجداء لأنه سيرسلهم “إلى النار التي لا تطفأ ” (انظر مت 25: 33 -41).

لذلك، أيها الفريسي، إن أردت أن تحسب مستحقا لملكوت الله، فصر واحدا من الخراف، قدم للمسيح ثمرة إيمانك به، وامدح السلوك المقدس، الذي بحسب الإنجيل، أما إن ظللت جديا، أي غير مثمر، وخال مـن الإيمـان والأعمـال الصالحة معا، فلماذا تسأل متى يأتي ملكوت الله؟ لأنه لا يهمك، بل بـالأحرى خف من العذاب المقرر لغير المؤمنين، ومن النار التي لا تطفأ المعدة لأولئك الذين يخطئون ضد المسيح؛ الذي به ومعه الله الآب يحق التسبيح والسلطان، مع الروح القدس، إلى دهر الدهور. آمين.

عظة 118 كيفية خلاص النفس؟ (لو17: 31-37):

” في ذلك اليوم من كان على السطح وأمتعته في البيـت فـلا ينزل ليأخذها والذي في الحقل كذلك لا يرجع إلى الوراء. اذكروا امرأة لوط!. مـن طـلـب أن يخلص نفسه يهلكها ومن أهلكها يُحييها. أقول لكم: أنه في تلك الليلة يكون اثنان على فراش واحد فيؤخذ الواحد ويترك الآخر. تكون اثنتان تطحنان معا فتؤخذ الواحـدة وتترك الأخرى. يكون اثنان في الحقل فيؤخذ الواحد ويترك الآخر. فقالوا له: أين يـا رب؟ فقال لهم: حيث تكون الجثة هناك تجتمع النسور

يقول الكتاب المقدس في موضع ما: ” هيئ أعمالك لأجل رحيلك، واجعل نفـسـك مستعدة للحقل “. وأنا أعتقد أن المقصود برحيلنا هو خروجنا مـن هـذا العالم وانتقالنا من هنا. وبالطبع لابد أن تلحق هذه الساعة كل إنسان، لأنه كما يقـول المرئم: “أي إنسان يحيا ولا يرى الموت، ومن يستطيع أن ينجـي نفـسـه مـن يـد الهاوية؟ ” (مز 48:88 س). لأن طبيعة الإنسان قد أدينت في آدم وسقطت في الانحـلال، لأنه تعدى الوصية التي أعطيت له. أما أولئك المهملون والمزدرون فـإنهم يعيشون حياة مخزية ومحبة للذة، وهم لا يعطون ذهنهم فرصة للتفكير في العالم الآتي ولا في الرجاء المعد للقديسين، كما أنهم لا يشعرون بأي انزعاج من العذاب المعد لمن يحبون الشر. أما الذين يعيشون حياة فاضلة فإنهم يفرحون بالأتعاب لأجل الاستقامة، كما لو كانوا يتركون شهوة السعي وراء الأرضيات، ولا يعطون سوى انتباها قليلاً للضجيج الباطل الذي لهذا العالم.

يدعونا المخلص أن نتمسك بشدة بهذا الهدف الممتاز، وبالاجتهـاد المناسـب لـه فيقول: “في ذلك اليوم من كان على السطح وأمتعته في البيت فلا ينـزل ليأخـذها، والذي في الحقل كذلك لا يرجع إلى الوراء”. كان المسيح يتكلم عن اليوم الأخير، أي عن نهاية هذا العالم ويقول: لأنه كما كان في أيام نوح ولوط، كانوا يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون إلى أن جاء الطوفان، ونزلت نار على سدوم وأهلكت الجميع، هكذا يكون اليوم الذي فيه يظهر ابن الإنسان. لذلك فهو يقويهم ليتذكروا اليوم الأخير ونهاية الزمان، فيوصيهم ألا يكترثوا بكل الأمور الأرضية والوقتية، وأن يتطلعوا فقط الاي إلى غاية واحدة، التي هي اهتمام كل واحد بخلاص نفسه. لذلك يقول: من كان علـى السطح وأمتعته في البيت فلا ينزل ليأخذها. ومن الواضح أنه بهذه الكلمـات يقـصد الإنسان الذي يعيش رغد وسعة ومجد دنيوي، لأن أولئك الذين يقفون على السطوح يكونون دائما ظاهرين أمام أعين أولئك المحيطين بالمنزل. وهو يقول: فإن كان هناك أحد فدعه في ذلك الوقت لا يحسب حسابا لأمتعته المخزونة في بيته، لأن مثل هـذه الأشياء تكون حينئذ بلا قيمة ولا نفع منها لحياته، كما هو مكتوب: “الكنوز لا تنفـع الشرير، أما البر فينجي من الموت” (أم 10: 2 س).

ويقول: وإن كان أحد في الحقل، دعه كذلك لا يرجع إلى الوراء. أي إن وجد أحد منشغلاً تماما في فلاحته ومستغرقا في الأشغال، وهو يرغب في الثمر الروحـي وأن يجني عاقبة تعب الفضيلة، فليتمسك بثبات بهذا الاجتهاد، ودعه لا يرجع إلى الوراء، لأنه كما قال المسيح نفسه أيضا في موضع ما: “ليس أحد يضع يده على المحـراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله” (لو 9: 62)، لأنه من واجبنـا أن نحافظ علـى جهاداتنا الروحية بلا تذبذب، وأن نثابر فيها بإرادة لا تكل، لئلا نقاسي نفس المـصير الذي حل بالمرأة في سدوم، وإذ يضرب بها المثل فهو يقول: “اذكروا امـرأة لـوط” لأنها بعد أن أنقذت من سدوم ولكنها لأنها رجعت بقلبها بعد ذلك، فإنها صارت عمود ملح، أي صارت حمقاء ومثل حجر. 

لذلك يقول: في ذلك اليوم وتلك الساعة، كل من هم معتادون على العيش في بذخ، يلزمهم أن يمتنعوا تماما عن مثل هذه الكبرياء وأن يجتهدوا بكل استعداد لكي يخلصوا أنفسهم، وبالمثل على من هم كادحون ويقدرون الجهاد النافع، يلزمهم أن يتمسكوا بشجاعة بالهدف الموضوع أمامهم، لأن “من طلب أن يخلص نفسه يهلكهـا، ومـن أهلكها يحفظها حية”.

أما عن الطريقة التي يهلك بها الإنسان نفسه لكي ما يخلصها، وكيـف أن مـن يتصور أنه يخلصها يهلكها، فهذا يبينه بولس بوضوح عندما يقول عـن القديسين: ” الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات” (غل 5: 24). لأن الذين قـد صاروا تابعين حقيقيين للمسيح مخلصنا جميعا، يصلبون جـسـدهم ويميتونـه وذلـك بانشغالهم دائما في أتعاب وجهادات لأجل التقوى، وبإماتتهم شهوة الجسد الطبيعية لأنه مكتوب: “أميتوا أعضاءكم التي على الأرض، الزنا النجاسة الهوى الـشهوة الرديـة الطمع” (كو 5:3). أما الذين يحبون سلوك الحياة الشهواني، ربما يتخيلون أنهم يربحون نفوسهم بالعيش في اللذة و والتخنث، بينما هم يخسرونها بالتأكيد، لأنه يقول: “لأن مـن يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فسادا” (غل 8:6). لكن كل من يخسر حياته فهو بالتأكيد سيخلصها، وهذا ما فعله الشهداء إذ احتملوا الصراعات حتى الـدم وبـذل الحيـاة، ووضعوا فوق رؤوسهم، محبتهم الحقيقية للمسيح إكليلا لهم. أما أولئك الذين أنكـروا الإيمان بسبب ضعف العزيمة وضعف القلب، وهربوا من موت الجسد في الحاضـر، فقد صاروا قتلة لأنفسهم لأنهم سيهبطون إلى الجحيم كي يكابـدوا عقوبـات جـبـنهم الشرير. لأن الديان سينزل من السماء، وهؤلاء الذين أحبوه بكل قلـوبهم ومارسـوا باجتهاد حياة تقوى خالصة سوف يدعوهم قائلاً: “تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملـك المعد لكم منذ تأسيس العالم” (مت 25: 34). وأما الذين سلكوا حياة إهمال وانحـلال، أو من لم يحافظوا على مجد الإيمان به، فسوف يحكم عليهم بعقوبة صارمة وشديدة جدا ويقول لهم: “اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية” (مت 25: 41).

وهذا ما يعلمنا إياه بقوله: ” في تلك الليلة يكون اثنان على فراش واحـد فيؤخـذ الواحد ويترك الآخر، تكون اثنتان تطحنان معا فتؤخذ الواحدة وتترك الأخرى”. وعن الاثنين اللذين على فراش واحد، يبدو أنه يلمح إلى أولئك الذين يعيشون فـي راحـة ويسر وهم مساوون لبعضهم البعض من جهة امتلاكهم للغني الدنيوي، لأن الفـراش يرمز إلى الراحة. ولكنه يقول واحد يؤخذ ويترك الآخر. كيف أو بأي طريقة؟ ذلـك أنه ليس كل من يمتلكون ثروة ويحيون في راحة في هذا العالم، هم أشـرار وقـسـاة القلب. فلو أن إنسانا كان غنيا لكنه رحوم ولطيف وليس خاليا من الشفقة الممدوحـة على الفقراء؛ وإن كان مستعدا أن يشرك الآخرين في ثروته، وهو لطيـف المعـشر، وسخي ورزين العقل، ومستقيم الإيمان، وله غيرة حارة للتقوى، وإن كان أيضا ـ بحسب تعبير المخلص ـ يعمل أصدقاء لنفسه باستخدام مال الظلم، فمثل هذا الإنسان يؤخذ، بينما يترك الآخر، الذي لم يكن اهتمامه هكذا. ويقول:”تكون اثنتان تطحنان معا، فتؤخذ الواحدة وتترك الأخرى”. ويبدو أنـه يقصد أيضا بهاتين المرأتين، من يعيشون في فقر وعناء. ويقول حتى في حالة هؤلاء يوجد اختلاف شاسع لأن البعض احتملوا عبء الفقر بشجاعة وهم يسلكون سيرة حياة رزينة وفاضلة، بينما آخرون لهم سمات مختلفة، إذ يحتالون لممارسة كل عمل شرير ويخترعون كل ما هو وضيع. لذلك ففي حالتهم هذه، سيكون هنـاك فحص دقيـق لأخلاقهم، ومن هو صالح، سيؤخذ، ومن هو ليس كذلك، سيترك.

ولكن عندما استخدم المسيح مخلصنا جميعا تعبير “سيؤخذ”، سأله التلاميذ بطريقـة مفيدة وضرورية: أين يا رب؟ فقال لهم: حيث تكون الجثة هناك تجتمع النسور(ع 37). وماذا يعني هذا؟ فإنه باستخدامه لحقيقة عامة وواضحة جدا يشير إلـى سـر عـظـيـم وعميق. وما هو هذا؟ إنه سوف ينزل من السماء ليدين العالم بالعدل (أع 31:17). لكن كما يقول هو نفسه: “يرسل ملائكته فيجمعون الأبرار والقديسين من بين الأشـرار ويقربونهم إليه” (انظر مـت 24: 31) أما أولئك الآخرون فسيتركونهم كمستحقين للعـذاب ومحكوم عليهم بالعقوبة التي بالنار.

وهذا يصرح به أيضا بولس الحكيم جدا حيث يكتب: ” فإننا نقول لكم إننـا نـحـن الأحياء الباقين لا نسبق الراقدين…” (1تس 4: 15)، “في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير، فإنه سيبوق والأموات في المسيح سيقومون عديمي فساد، ثم نحـن الأحيـاء الباقين سنخطف جميعا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون كـل حين مع الرب” (1کو 15: 52، 1تس 4: 16و 17).

لذلك يقول إنه عندما تنكشف جثة مائتة فإن الطيور الجارحة تجتمع حولها، كذلك عندما يظهر ابن الإنسان. فبالتأكيد فإن النسور حتى تلك التي تطير في علـو شـاهق وترتفع أعلى من الأشياء الأرضية والدنيوية، تسارع إليه.

وهو يدعو الدينونة ” ليل”، بسبب أن مجيئه الثاني غير معروف وقته وغير متوقع. لأننا نتذكر أيضا واحدا من الأنبياء القديسين يصرخ إلى من يحبون الخطية ويقـول: ” ويل للذين يشتهون يوم الرب! لماذا لكم يوم الرب؟ هو ظلام لا نور وظلمة كثيفة لا نور فيها ” (عا 18:5 س).

وأيضا المسيح نفسه قال في موضع ما لتلاميذه الأطهار: “ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني مادام نهار، يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل” (يو 4:9). وأيضا كتب واحد من الرسل القديسين يقول: “يوم الرب كلص في الليل هكذا يجيء” (1تس 5: 2) أي، دون أن يكون معروفا مقدما. لذلك، لكي ما يأخذنا المسيح، لنتخل عن كـل هموم أرضية ونكرس أنفسنا لكل أنواع العمل الصالح، لأنه سـوف يقبلنـا ويجعلنـا خاصته، ويكللنا بكرامات من الأعالي؛ الذي به ومعه يليق الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور. أمين.

تفسير إنجيل لوقا – 16 إنجيل لوقا – 17 تفسير إنجيل لوقا تفسير العهد الجديد تفسير إنجيل لوقا – 18
القديس كيرلس الكبير
تفاسير إنجيل لوقا – 17 تفاسير إنجيل لوقا تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى