تفسير انجيل لوقا أصحاح 3 للقديس كيرلس الكبير
الأصحاح الثالث
عظة (1) أعدوا طريق الرب (لو 2:3-6)
“كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية. فجاء إلى جميـع الكـورة المحيطة بالأردن يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا. كما هو مكتوب في سـفر إشعياء النبي: صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب اصنعوا سبله مستقيمة. كل واد يمتلي وكل جبل وأكمة ينخفض وتصير المعوجات مستقيمة والشعاب طرق سهلة. ويبصر كـل بـشـر خلاص الله”
إن إشعياء المبارك لم يكن يجهل هدف كرازة يوحنا، بل منذ القديم قبـل مـجـيء الزمان بكثير شهد عن هذا الهدف إذ دعا المسيح رباً وإلها. أما يوحنا فقـد وصـفه إشعياء بأنه خادم المسيح، وقال عنه إنه سراج يتقدم أمام النـور الحقيقـى، أي نجـم الصباح الذي يبشر بإشراق الشمس، معلنا مقدما ، مجيء اليوم الذي سيشرق بأشـعته علينا. وقال عنه إنه صوت وليس كلمة، يأتي سابقا ليسوع كما يسبق الصوت الكلمة.
(لو 4:3) “أعدوا طريق الرب، اصنعوا سبلة مستقيمة”
يوحنا قد أختير ليكون رسولاً ولكنه أيضا آخر الأنبياء. ولأن الرب لم يكن قد أتى بعد، لذلك فهو يقول: “أعدوا طريق الرب”. وما معنى أعدوا طريق الرب؟ المقصود هو استعدوا لقبول أي شيء يريد المسيح أن يفعله، حرروا قلوبكم من ظل الناموس، وكفوا عن الرموز، ولا تفكروا فيما بعد تفكيرا منحرفا. “صنعوا سبل الله مستقيمة ” لأن كل طريق يقود إلى الصلاح هو مستقيم وممهد وسهل، ولكـن الطريـق الآخـر المعوج فإنه يقود الذين يسيرون فيه إلى الشر والضلال. الذين كتب عـنهم ” الـذين طرقهم معوجة وهم ملتوون في سبلهم” (أم 2: 15). لذلك فاستقامة العقل هي مثل طريق مستقيم ليس فيه اعوجاج. وهكذا كانت صفة المرنم الذي كان يرتل قائلاً: “لا يلصق بي قلب معوج ” (مز 101: 4). ويشوع بن نون عندما يحث الشعب يقول لهم: ” اجعلـوا قلوبكم مستقيمة مع إله إسرائيل” (يش 24: 23 سبعينية). بينما يوحنا يصرخ ” اجعلوا سبلكم مستقيمة”. وهذا معناه أن النفس ينبغي أن تكون مستقيمة فتظهر إدراكها الطبيعي كما خلق، وهي قد خلقت جميلة ومستقيمة، ولكن حينما تنحرف جانبـا وتنقلـب حالتهـا الطبيعية فإن هذا يسمى رذيلة وانحراف للنفس. لذلك فالأمر ليس صعبا، لأنه إن كنا نستمر كما خلقنا فإننا سنكون فاضلين، ولكن حينما يصيح بنا أحدهم معترضا قائلاً: كيف نعد طريق الرب؟ أو كيف نجعل سبله مستقيمة؟ فإنه توجد عوائق كثيـرة فـي طريق أولئك الذين يسعون أن يعيشوا حياة مستقيمة ـ فهناك الشيطان الذي يبغض كل ما هو جميل. وكذلك حشد الأرواح الشريرة، وأيضا هناك ناموس الخطية نفسه الذي يعمل في أعضائنا الجسدية، والذي يقاوم ميول العقل نحو الصلاح، وشهوات أخـرى كثيرة تسيطر على عقل الإنسان ـ إذن فماذا نفعل ـ وهناك مثل هـذه الـصعوبات العظيمة تضغط علينا؟ إن كلمة النبوة ترد على هذه الاعتراضات قائلـة: “كـل واد يمتلئ، وكل جبل وأكمة ينخفض وتصير المعوجات مستقيمة والشعاب طرقا سهلة، ويبصر كل بشر خلاص الله”.
(لو 4: 6) ” ويبصر كل بشر خلاص الله “.
وكل جسد يبصر خلاص الله أي الخلاص الذي من الآب، لأنه أرسل ابنه ليكـون مخلصنا لنا. وعبارة “كل جسد” يقصد بها الإنسان عموما أي كل الجنس البشرى، لأنه هكذا سيبصر كل جسد خلاص الله، ليس إسرائيل فقط بـل كـل بـشر، لأن لطـف المخلص رب الكل ليس له حدود. وهو لم يخلص أمة واحدة فقط، بل بالحري احتضن العالم كله في شبكته، وقد أنار على كل الذين في الظلمة. وهذا ما رتلت بـه قيثـارة المرئم: “كل الأمم الذين صنعتهم يأتون ويسجدون أمامك يا رب” (مز 86: 9). وفي نفس الوقت فإن بقية إسرائيل تخلص، وذلك كما سبق أن أعلن موسى العظيم منـذ القـدم قائلاً: “تهللوا أيها الأمم مع شعبه ” (تث 32: 43).
عظة (7) كرازة يوحنا المعمدان
(لو 3: 7) ” وكان يقول للجموع الذين خرجوا ليعتمدوا منه: يا أولاد الأفاعي من أراكــــم أن تهربوا من الغضب الآتي؟ “.
نحن نؤكد أن المعمدان المبارك – لأنه كان ممتلئاً من الروح القـدس . لذلك لم يكن يجهل الأعمال الجسورة التي كان الشعب اليهودي سيجرؤ علـى القيام بها ضد المسيح. لأنه سبق فعرف أنهم سوف لا يؤمنـون بـه وأنـهـم سيستخدمون ألسنتهم المملوءة سما، ليسكبوا شكاواهم واتهاماتهم ضده، متهمینه مرة بأنه مولود من زنى، ومرة أخرى أنه يجرى المعجزات بقـوة بعلزبـول رئيس الشياطين (لو 11: 15)، ومرة أخرى أيضا أن به شيطان وأنه ليس أفـضـل من سامري. لذلك فإذ كان يعرف هذا فإنه يدعو حتى أولئك الذين يتوبـون أشرارا. وهو يوبخهم لأنهم رغم أن عندهم الناموس الذي يتكلم إلـيهم بـسر المسيح، ورغم نبوات الأنبياء عنه، إلا أنهم رغم ذلك صاروا ثقيلي السمع، وغير مستعدين للإيمان بالمسيح مخلص الجميع. لأنه يقول ” مـن أراكـم أن تهربوا من الغضب الآتي؟” أليس الكتاب الموحي به هو الذي يخبـر بـسعادة أولئك الذين يؤمنون بالمسيح، ولكنه يحذر مسبقا أولئك الذين لا يؤمنون والذين هم أصحاب الجهالة، أنهم سوف يدانون بعقاب شديد لا مفر منه؟
(لو 3: 8) ” فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة “.
وأيضا فإن ثمر التوبة هو بالدرجة القصوى، الإيمان بالمسيح، ثم يأتي بعده منهج الحياة الإنجيلية. وعلى وجه العموم كل أعمال البر المضادة للخطيـة، التي ينبغي على التائب أن يصنعها كثمار لائقة بالتوبة.
ثم أضاف قائلا: “لا تبتدئوا تقولون في أنفسكم لنا إبراهيم أبا لأني أقـول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم”.
ها أنتم ترون كيف يحط من كبريائهم الرديء بمهارة عظيمـة، ويبـين أن ولادتهم من إبراهيم حسب الجسد هي بلا فائدة ولا منفعة. لأن أية منفعة هناك من نبل المولد إن كان الناس لا يمارسون نفس الأعمال الحسنة التي لوالديهم ولا يتمسكون بفضيلة أجدادهم؟ لأن المخلص يقول لهم “لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم” (يو 8: 39). إن علاقة القرابة التي يطلبها الله هي في الصفات والأخلاق، ولذلك فإنه أمر باطل أن يفتخر أحد بقداسة وصـلاح والديه، بينما هو نفسه مختلف عنهم وقاصر عن فضيلتهما.
ويتساءل اليهود قائلين إن كان الأمر هكذا، فبأيـة طريقـة يتكـاثر نـسل إبراهيم، وكيف يكون الوعد الذي أعطاه له الله صحيحا عندما قـال لـه إنـه سوف يكثر نسله كنجوم السماء؟ الجواب أيها اليهودي هو بدعوة الأمم، لأنـه قيل لإبراهيم نفسه إنه “بإسحق يدعى لك نسل” (تك 21: 12)، وأيضا “قد جعلتك أبا لأمم كثيرة” (تك 17: 4)، ولكن عبارة “بإسحق” تعني، بحسب الوعد. لذلك فهو قد جعل أبا لأمم كثيرة بالإيمان، أي في المسيح. وعن هؤلاء أيضا تكلـم الله بصوت حزقيال قائلاً: ” وأنزع قلب الحجر من لحمهم وأعطيهم قلب لحم، لكي يعرفوا أني أنا الرب” (حز 11: 19) والمعمدان المبارك يدعو الأمـم بوضـوح “الحجارة”، لأنه لم يكونوا بعد يعرفون الذي هو بالطبيعة الله، بل كانوا فـي ضلال، وفي حماقتهم العظيمة قد عبدوا المخلوق بدل الخالق. ولكنهم مع : قد دعوا من الله وصاروا أبناء إبراهيم. وبإيمانهم بالمسيح اعترفوا بالذي هـو ذلك إله بالطبيعة.
ولكن لكي يفيد سامعيه بدرجة أكبر فإن المعمدان المبارك يقول لهم شيئا أكثر: “والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجرة” (لو 3: 9)، ولكنه في هـذه العبارة يشير بكلمة “الفاس” إلى غضب الله الشديد الذي أنزله الله الآب علـى اليهود بسبب شرهم ضد المسيح وعنفهم وتهورهم، لأن الغضب أتـي علـيـهم مثل فأس. وهذا ما شرحه لنا زكريا النبي بقوله: “ويكون النوح في أورشليم كالنوح على بستان الرمان المقطوع في الوادي” (زك 12: 11 س). وإرميا يخاطبها هكذا “دعا الرب اسمك زيتونه خضراء جميلة الصورة. وعند امتلائهـا أوقـد ناراً عليها فانكسرت أغصانها وكان النواح عليهـا عظيمـاً. ورب الجنـود غارسك قد تكلم عليك شرا” (إر 11: 16 ، 17).
ويمكن أن نضيف إلى هذا أيضا المثل الوارد في الإنجيل عن شجرة التين غير المثمرة ولم تعد من نوع جيد، فإن الله قطعها. ومع ذلك فهو لا يقول إن الفأس قد وضع في أصل الشجرة، بل على أصل الشجرة أي بالقرب من الأصل. لأن الأغصان قد قطعت أما الشجرة فلم تخلع من جذورها، ذلك لأن بقية إسرائيل قد خلصت ولم تهلك بالمرة.
عظتا (8، 9) (لو 3: 10-14)
” وسأله الجموع قائلين: فماذا نفعل؟ فأجاب وقال لهم: من له ثوبان فليعط من ليس له، ومن له طعام فليفعل هكذا. وجاء عشارون أيضا ليعتمدوا فقالوا له: يامعلم، ماذا نفعل؟ فقال لهم: لا تستوفوا أكثر مما فرض لكم. وسأله جنديون أيضا قائلين: وماذا نفعل نحن؟ فقال لهم: لا تظلموا أحدا، ولا تشوا بأحد، واكتفوا بعلائفكم .
إن لوقا المغبوط قد قدم ثلاث أنواع من الناس يسألون يوحنا المعمدان وهم الجموع، والعشارون وثالثاً الجنود، وكما أن الطبيب الماهر يقدم لكل نوع من المرض العلاج المناسب والملائم له، هكذا أيضا المعمدان قد أعطى لكل طريقة في الحياة مشورة نافعة ولائقة طالبا من الجموع في طريق توبتهم أن يمارسوا الرحمة المتبادلة. والعشارون يمنعهم من الطمع ومن أخذ ما هو أكثر من المفروض، وبحكمة عظيمة يخبر الجنود الا يظلموا أحداً وأن يكتفوا بأجورهم.
عظة ( 10 ) المعمدان والمسيح (لو3: 15ـ 17)
” وإذ كان الشعب ينتظر، والجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعلـه المسيح، أجاب يوحنا الجميع قائلاً: أنا أعمدكم بماء، ولكن يأتي من هو أقوى مني، الـذي لست أهلا أن أحل سيور حذائه. هو سيعمدكم بالروح القدس ونار. الذي رفشه في يده، وسينقي بيدرة، ويجمع القمح إلى مخزنه، وأما التين فيحرقه بنار لا تُطفا”
من المسلم به أن “الأب البار يربي أولاده حسنا جدا”. لأن أولئـك الـذين يكتسون بمجد البـر الذي بواسطة المسيح ويعرفون وصاياه المقدسة، سـوف يدربون أولاده في الإيمان بتقوى وبطريقة ممتازة، إذ يعطونهم ليس الخبـز المادي الأرضي بل الخبز الذي من فوق، أي من السماء. وهذا الخبز يـذكره المرنم العجيب حيث يقول ” خبز پسند قلب الإنسان، وخمر تفرح قلب الإنسان” (مز 104: 15). لذلك تعالوا بنا الآن لنسند قلوبنا، وليكن إيماننا بالمسيح يقينيّـا وذلك بفهمنا لمعنى هذه الكتابات الإنجيلية التي قرئت علينا الآن فهما صحيحا فيقول الإنجيل: “إذ كان الشعب ينتظر والجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنـا العله المسيح” أجابهم بالكلمات التي قرأناها حالاً.
لقد لاحظوا بإعجاب جمال طريقة حياة يوحنا الـذي لا يقـارن، ولمعـان سلوكه، وتقواه الفائقة التي لا تجاري، لأنه كان عظيما جدا ومثيرا للإعجاب حتى أن الجمهور اليهودي بدأوا يفكرون عنه هل هو المسيح نفسه الذي وصفه الناموس لهم في ظلال وسبق الأنبياء القديسين فأخبروا عنـه. ولأن البعض تجرأوا أن يفكروا هكذا لذلك نرى المعمدان يقطع ظنونهم في الحـال مـقـدما كعبد، الكرامة التي تليق بالسيد وناسبا المجد لذلك الذي يفوق الكل أي المسيح، لأنه كان يعرف أن المسيح أمين لأولئك الذين يخدمونه، وما يعترف به يوحنا إنما هو الحق تماما لأن المسافة التي تفصل بين الله والإنسان تفوق القيـاس. لذلك فهو يقول “أنتم أنفسكم تشهدون لي أني قلت لست أنا المسيح، بل إنـي مرسل قدامه” (يو 3: 28). ولكن أين سنجد القديس المعمدان يتكلم هكـذا؟ هـذا نجده في إنجيل يوحنا الذي كتب عنه هكذا “وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل الكتبة والفريسيون في أورشليم ليسألوه إن كان هو المسيح؟ فاعترف ولم ينكر وأقر أني لست أنا المسيح. ولكنني مرسل أمامه” (يو 1: 19). لذلك فإنه عظـيم بالحقيقة ومثير للإعجاب هو يوحنا السابق للمسيح الذي ظهر كنور الفجر قبل ظهور نور المخلص الساطع، وهو المقدمة لنور النهار الروحي، وهو جميـل كنجم الصبح ويدعى مصباح الله الآب (انظر إش 62: 1).
وبعد أن أعلن عن نفسه أنه ليس هو المسيح، فإنه الآن يقدم بـراهين . ينبغي أن نتناولها بالضرورة ـ ومن هذه البراهين يمكن أن نعرف المسافة الشاسعة جدا التي تفصل بين الله والإنسان، بين العبد والرب، بين الذي يخـدم وذاك الذي تقدم له الخدمة، بين الذي يتقدم كخادم والذي يضئ ساطعا بالكرامة الإلهية. والآن ما هو البرهان؟
أولاً: يقول المعمدان: “أنا أعمدكم بماء، ولكن يأتي بعدي من هو أقوى مني الذي لست مستحقا أن أنحني وأحل سيور حذائه”.
وكما قلت فإن الاختلاف لا يمكن مقارنته، والعلو لا يمكن قياسه، وذلك لأن المعمدان المبارك، وهو عظيم جدا في الفضيلة يعلن أنه غير مستحق حتى أن يلمس حذاءه. إن إعلان المعمدان هذا هو حق وصدق، لأنه إن كانت القوات العقلية في السماء: الرئاسات والعروش، والربوبيات، والسيرافيم المقدسين أنفسهم الذين يقفون حول العرش الإلهي وهم رتبة الخدام، كل هؤلاء يباركونه بتسابيح بلا انقطاع كرب الكل، فهل يستحق ساكن الأرض حتى أن يقترب من الله؟ فرغم أنه يحب الإنسان وهو حليم لطيف لكن ينبغي أن نعترف بضعف طبيعتنا.
وبعد هذا يقدم المعمدان برهانا ثانيا قائلاً أنا أعمدكم بماء، أما هو فسيعمدكم بالروح القدس ونار.
وهذا أيضا له أهمية عظيمة لكي يبرهن ويوضح أن يسوع هو الله والرب. لأن هذه هي الخاصية الوحيدة والمميزة للجوهر الذي يفوق الكل(أي جوهر الله). وهي أن يكون في استطاعته أن يمنح للناس سكني الروح القدس، ويجعل أولئك الذين يقتربون منه شركاء للطبيعة الإلهية. وهذه الخاصية موجودة في المسيح لا كشيء اكتسبه أو انتقل إليه من آخر، بل كخاصيته التي يملكها وهي التي تخص جوهره وهي أن يعمد بالروح القدس. إذا فالكلمة، الذي صار إنسانا يتضح أنه الله، ومن جوهر الآب، ولكن ربما يعترض على هذا (التعليم) أولئك الذين يقسمون المسيح الواحد إلى ابنين، وأنا أعني بهم أولئك الذين يقول عنهم الكتاب: إنهم “نفسانيون، ومعتزلون، ولا روح لهم” (یه 1: 19)، فيعترضون بالقول إن الذي يعمد بالروح هو كلمة الله وليس هو الذي من نسل داود. فأي جواب نقدم على هذا؟ نعم! ونحن أيضا نؤكد، بدون أن نخاف أي تناقض، أن الكلمة لكونه إله يعطي من ملئه الروح القدس لأولئك الذين يستحقونه، ولكنه لا يزال يفعل هذا حتى حينما صار إنسانا، لكونه الابن الوحيد مع الجسد المتحد به بطريقة تعلو على الفحص وتفوق الفهم. ولذلك فإن المعمدان المبارك بعد أن قال أولاً ” لست مستحقاً أن أنحني وأحل سيور حذائه”، أضاف بعدها مباشرة “هو سيعمدكم بالروح القدس ونار”. وهو هنا يستعمل لفظ الحذاء ليعني به القدمين، لأن ليس أحد له عقل يقظ يمكن أن يقول إن الكلمة حينما كان بدون جسد ولم يكن قد صار مثلنا بعد يمكن أن يكون له قدمان وحذاء. ولكن صار له هذا فقط حينما صار إنسانا، لكنه استمر إلها كما هو. وحينما صار في الجسد عمل الأعمال اللائقة باللاهوت وذلك بأن أعطى الروح لأولئك الذين يؤمنون به لأنه هو نفسه بشخصه الواحد هو إله وإنسان في نفس الوقت.
إنسانا بكل وضوح لكنه يعترض (غالباً يقصد بالمعترض نسطور) قائلاً: إن الكلمة عمل أعمال اللاهوت بواسطة ذلك الذي هو من نسل داود. فإن كنت تجادل هكذا فنحن سنرد عليك بكلمات يوحنا نفسه لأنه قال لليهود: ” يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي وأنا لم أكن أعرفه، لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي، الذي ترى الروح نازلاً ومستقرا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس، وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله” (يو 1: 30 ، 33، 34). انظروا إذا كيف يدعوه إذ يقول: “رجل قدامي” وأنه كان قبله لأنه بكل وضوح يسبقه بطبيعته الإلهية والتي بمقتضاها أيضا قال هو نفسه بكل وضوح لليهود ” الحق أقول لكم قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن” (لو 8: 58). ثم يقول يوحنا أيضا إن الروح أتى عليه من السماء، فهل هم يدعون أن الروح أتى على كلمة الله حينما كان مجردا وبدون جسد؟ وهل يعتبرون الذي يعطي الروح (أي كلمة الله)، أنه يحصل على روحه الخاص؟ أم بالحري فإن المعنى أنه قد حصل على الروح في طبيعته البشرية، وأنه في طبيعته الإلهية يعمد بالروح القدس؟ لأنه هو نفسه فريد ووحيد وحده، وهو بالحقيقة ابن الله الآب كما شهد عنه المعمدان المبارك متعلما من الله وقائلاً: “وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله”.
وهل تريدون برهانا ثالثا، بالإضافة إلى ما سبق؟ انظروا أنه يقول: “رفشه في يده، ويجمع القمح إلى المخزن وأما التبن، فيحرقه بنار لا تطفأ”. لأنه يقارن أولئك الذين على الأرض بسنابل القمح أو بالحرى ببيدر الدراسة والقمح الذي فيه. لأن كل واحد منا ينمو مثل سنبلة القمح. والرب حينما كان يكلم الرسل القديسين عمل مقارنة مماثلة عن حالتنا، إذ قال: ” الحصلا كثير ولكن الفعلة قليلون فاطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فطة إلى حصاده” (لو 10: 2)، لذلك فنحن الذين على الأرض تدعى سنابل قمح ونسمى بالحصاد. وهذا الحصاد هو ملك الله فوق الكل لأنه هو رب الكل. ولكن انظروا! فإن المعمدان المبارك يقول إن البيدر يخص المسيح إذ هو ملك له، ولذلك فهو الذي ينقيه إذ يزيل ويفصل التبن من القمح لأن القمح يشير إلى الأبرار الذين لهم إيمان ثابت وراسخ. أما التبن فيشير إلى ضعاف الفكر والذين يغوى قلبهم بسهولة. وهم خائفون وجبناء ويحملون بأي ريح، ويقول إن القمح حينئذ يجمع في المخزن أي يحسب مستحقا للأمان في يد الله ومستحقا للرحمة والحماية والحب، أما التبن فيحرق في النار كمادة لا نفع لها.
لذلك فبكل طريقة يمكن أن نلاحظ ونعرف أن الله، حتى حينما صار إنسانا فإنه مع ذلك استمر كما هو ابنا واحدا لأنه يمارس الأعمال التي تخص اللاهوت، اذ هو يملك جلال ومجد اللاهوت بغير انفصال. فإن كنا نؤمن هكذا فسيكللنا بنعمته، الذي به وله مع الله الآب المجد والسلطان مع الروح القدس إلى الدهر الدهور آمین.
عظة ( 11 ) ظهور الرب وقت المعمودية (لو 3: 21- 23)
” ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضا. وإذ كـان يـصلي انفتحت السماء، ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة. وكـان صـوت مـن السماء قائلا: أنت ابني الحبيب، بك سُررت. ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة .
هيا بنا أيضا، لكي نركز أذهاننا عن قصد على الكتب الإنجيلية، وذلك لكي ننظر جمال الحق. تعالوا بنا لنوجه عيون عقولنا الفاحصة المدققة نحو سر المسيح، ولننظر بدهشة مهارة التدبير الإلهي العجيب: فإننا بهذا سنرى مجده. وعندما نعمل هذا فإنه يهبنا حياة لنفوسنا كما أكد لنا هو نفسه حينما كان يتحدث إلى الآب السماوي بقوله ” هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته” (لو 17: 3). إذا فكيف أرسل؟ وما هي طريقة مجيئه إلينا؟ لأنه إذ هو بالطبيعة الله الذي يملأ الكل، فكيف كما يقول المبارك يوحنا الإنجيلي، ” إنه كان في العالم” (يو 1: 10)، وهو نفسه الرب؟ وكيف أرسل من الآب، في حين أنه كإله هو خالق كل الأشياء وحافظها؟ لأن المخلوقات قد تأسست بواسطته. إن الحكيم يوحنا الإنجيلي يعلمنا قائلاً: ” والكلمة صار جسدا”. ولكن ربما يقول أحد “ماذا إذا؟ هل كف عن أن يكون هو الكلمة؟” وهل تغير الجسد؟ هل سقط من جلاله؟ وهل جرى له تحول إلى شيء لم يكن عليه سابقا؟ إننا نقول ليس الأمر هكذا، حاشا من ذلك، لأنه بالطبيعة غير قابل للتغير، لذلك فبقوله ” الكلمة صار جسدا ” (يو 1: 14)، فإن الإنجيل يعني أنه صار إنسانا مثلنا، لأننا نحن أنفسنا أيضا كثيرا ما نُدعى جسدا، لأنه مكتوب: “ويبصر كل جسد خلاص الله” (إش 40: 5 س)، ويعني به إن كل إنسان سيبصر خلاص الله، لذلك فبينما هو يحتفظ بما كان عليه بدون تغيير، إلا أنه إذ صار في حالتنا فإنه أخذ شبهنا، ولذلك يقال إنه قد صار جسدا.
انظروه إذا كإنسان، وهو يحتمل معنا الأمور التي تختص بحالة الإنسان، انظروه وهو يكمل كل بر، لأجل خطة الخلاص، وهذا أنت تتعلمه مما يقوله الإنجيل: ” وحدث أنه لما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضا وصلى” فهل كان هو أيضا في احتياج إلى المعمودية المقدسة. وأية منفعة تحصل له منها؟ إن كلمة الله الوحيد هو قدوس من القدوس. وهكذا يدعونه السيرافيم في تسابيحهم، وهكذا يدعوه الناموس في كل مكان، ومحفل الأنبياء القديسين يتفقون في هذا مع كتابات موسى. ما الذي نحصل عليه نحن من المعمودية المقدسة؟ واضح أنه غفران خطايانا، ولكن يسوع لم يكن فيه شيء من الخطية ” لأنه لم يفعل خطية ولم يوجد في فمه غش (1بط 2: 22)، كما يقول الكتاب “وهو قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات” (عب 7: 26) بحسب كلمات بولس الرسول.
ولكن ربما يقول أحد من غير المتدربين في الإيمان: “هل هو إذا كلمة الله الذي اعتمد؟ هل كان هو محتاجا أن يصير مشتركا في الروح القدس؟” أبدا بالمرة، لذلك فهذا هو ما نؤكده أن الجسد الذي كان من نسل داود، والذي صار واحدا معه، هو الذي اعتمد ونال الروح.
إذا فأنتم الذين تقولون بغير هذا قد قسمتم غير المنقسم، إلى ابنين، وتقولون، لأنه اعتمد في سن الثلاثين سنة فقد صار مقدسا بواسطة المعمودية. فهل هو إذا لم يكن مقدسا إلى أن وصل إلى سن الثلاثين؟ من الذي يوافقكم على هذا، إذ أنتم تفسدون الإيمان المستقيم الذي بلا لوم؟
لأنه يوجد ” رب واحد يسوع المسيح” (1كو 8: 6)، كما هو مكتوب. ولكننا نؤكد هذا أنه لم يكن منفصلاً عنه، وكان هو نفسه حينما اعتمد وصار مشتركا في الروح القدس، لأننا نعرف أنه الله، وبلا عيب، وقدوس من قدوس، لأننا نعترف أننا ” من ملئه جميعا أخذنا” (يو 1: 16). لأن الروح القدس ينبثق حقا من الله الآب، ولكنه خاص بالابن أيضا. وكثيرا ما يدعى روح المسيح، رغم أنه منبثق من الآب. وهذا ما يشهد به بولس قائلاً: ” الذين في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله، أما أنتم فلستم في الجسد، بل في الروح إن كان روح الله ساكنا فيكم، ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس للمسيح” (رو 5: 8-9). وأيضا يقول ” بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخا أيها الأب أبانا ” (غل 4: 6). لذلك فالروح القدس ينبثق حقا من الله الآب كما قلت، ولكن كلمته الوحيد، لكون بالطبيعة هو الابن وهو يلمع بأمجاد الآب، فإنه يعطيه (الروح القدس) للخليقة. ويمنحه لأولئك الذين يستحقون. لذلك فقد كان حقا ما قاله: “كل ما للأب هو لي” (يو 16: 15).
ولكن فلنرد على أولئك الذين يقلبون الإيمان الصحيح، بهذا السؤال كيف يستطيع ذاك الذي نال الروح، إن كان هو حسب قولكم إنسانا منفصلاً بنفسه، كيف يستطيع أن يعمد بالروح القدس ويعطي الروح القدس للذين يعتمدون؟” لأن القدرة مع غيرها من الصفات الأخرى هي خاصية مميزة الله القدير وحده، ولكن ذلك الذي أعطى الروح كان إنسانا، لأن يوحنا الحكيم يقول: ” يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي. هو سيعمدكم بالروح القدس ونار” (يو 1: 3 ؛ لو 3: 16). فكما أنه غير لائق بالله الكلمة، بصفته الله الكلمة أن يقترب من المعمودية المقدسة ويصير مشتركا في الروح، هكذا بنفس الطريقة فإنه لا يصدق إطلاقا، بل بالحرى أنه من المستحيل أن نؤمن بأن القدرة على تعميد الناس بالروح القدس هي من عمل مجرد إنسان لا يزيد عنا في أي شيء.
كيف إذا يكون السر حقيقيا؟ إنه لأجل مساعدتنا اتخذ نوعا من التكيـف، فالكلمـة الإلهي صار إنسانا، كما يقول بولس الحكيم جدا: “الذي إذ كان فـي صـورة الله لـم يحسب خلسة أن يكون معادلا الله، لكنه أخذ صورة عبد صائرا في شبه الناس، ووضع نفسه إلى الفقر”. فابحثوا إذا، من هو ذلك الذي كان أولا في صورة الله الآب، وهو في الحقيقة مساو له، ولكنه أخذ صورة عبد، وحينئذ صار إنسانا، وإلى جانب ذلك جعـل منفصلاً نفسه فقيرا. هل هو الذي من نسل داود كما يجادلون، الذي يعتبرونه بنفـسه کابن آخر، مختلفا عن كلمة الله الآب؟ إن كان كذلك فدعهم يبينون متى كان مـساويا للآب؟ دعهم يبينون كيف اتخذ صورة عبد؟ أو ماذا سنقول عن ماهية صورة العبـد تلك؟ وكيف أخلى نفسه؟ فهل يوجد ما هو أفقر من الطبيعة البشرية؟ لذلك فالذي هـو صورة الله الآب وشبهه والتعبير الواضح عن شخصه، والذي يشع ببهاء في مـساواة معه، والذي هو بالطبيعة حر، ونير ملكوته موضوع على كل الخليقة، هذا هو نفسه الذي اتخذ صورة عبد، أي صار إنسانا، وجعل نفسه فقيرا إذ رضى أن يحتمل هـذه الأمور البشرية ما عدا الخطية.
إنهم يعارضون قائلين: ولكن كيف اعتمد ونال الروح أيضا؟ فنجيبهم: إنه لم يكن محتاجاً للمعمودية المقدسة إذ هو كلي النقاوة وبلا عيب، وقدوس من قدوس، كما أنه لم يكن محتاجا للروح القدس، لأن الروح المنبثق من الآب هو معه ومساو له في الجوهر، ولذلك يجب أن نستمع الآن إلى شرح التدبير أي خطة الله. إن الله في محبته للإنسان زودنا بطريق للخلاص والحياة، لأننا بالإيمان بالآب والابن والروح القدس وباعترافنا بهذا الإقرار أمام شهود كثيرين، فأننا نغسل كل وسخ الخطية ونغتني بالحصول على الروح القدس ونصير شركاء الطبيعة الإلهية، وننال نعمة التبني. لقد كان ضروريا إذا أن كلمة الآب حينما وضع نفسه إلى الإخلاء وتنازل ليتخذ شكلنا، كان ضروريا أن يصير من أجلنا نموذجا وطريقا لكل عمل صالح، فالذي هو الأول في كل شيء ينبغي أيضا أن يضع نفسه مثالاً في هذا. لذلك فلكي نعرف قوة المعمودية المقدسة نفسها والنعمة العظيمة التي نحصل عليها بالإقبال إليها، فإنه يبدأ هذا العمل (المعمودية) بنفسه، وحينما اعتمد صلى لكي تتعلموا أنتم يا أحبائي أن الصلاة بلا انقطاع هي أمر مناسب جدا لأولئك الذين حسبوا أهلاً للمعمودية المقدسة. ويقول الإنجيلي إن السماء قد انفتحت كما لو كانت مغلقة طويلاً، وقد قال المسيح من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان” (يو 1: 51)، لأن الجمهور الذي فوق والجمهور الذي تحت قد صارا الآن واحدا، وصار رئيس رعاة واحدا للكل، والسماء قد انفتحت والإنسان على الأرض جعل قريبا من الملائكة القديسين، والروح أيضا نزل، إذ كبداية ثانية لجنسنا جاء الروح على المسيح أولاً وقد ناله ليس لأجل نفسه، بل لأجلنا، لأننا بواسطته (المسيح) وفيه نغتني بكل الأشياء. لذلك فإنه مناسب جدا لتدبير النعمة أن يحتمل معنا الأمور الخاصة بحالة الإنسان. وفي أي وضع آخر سنراه في إخلاء، ذلك الذي بطبيعته الإلهية هو الملء نفسه؟ وكيف صار فقيرا مثلنا إن لم يتطابق مع فقرنا؟ وكيف أخلي نفسه إن كان يرفض أن يحمل مقاييس صغر الإنسان؟
لذلك فإذ قد اتخذنا المسيح كمثال لنا، فلنقترب من نعمة المعمودية المقدسة، ليكمـا نحصل على دالة الصلاة بلا انقطاع، ونرفع أيادي مقدسة إلى الله الآب، لكي ما يفتح السماء علينا نحن أيضا، ويرسل علينا الروح القدس، ولكي يقبلنا كأبناء. لأنه تحـدث عن المسيح في وقت المعمودية المقدسة، كما لو كان قد قبل الإنسان بواسطته وفيـه إلى البنوة قائلاً: ” هذا ابني الحبيب الذي به سررت”. فالذي هو الابن بالطبيعة والحق، وهو الوحيد الجنس، فإنه حينما صار مثلنا أعلن خاصة أنه ابن الله، لا كأنه ينال هذا لنفسه، لأنه كما قلت إنه كان ولا يزال دائما هو الابن ذاته، ولكنه يعطي المجـد لنـا نحن، لأنه قد جعل باكورتنا، والبكر، وآدم الثاني. ولهذا السبب كتب أن: “كل الأشياء صارت جديدة فيه” (2كو 5: 15)، لأننا إذ قد خلعنا القدم الذي كان في آدم، فقد حصلنا على الجدة التي في المسيح، الذي به ومعه، الله الآب المجد والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.