تفسير سفر ملاخي 1 للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الأول
التقدمة المقبولة

 

في هذا الأصحاح يبرز ملاخي النبي معرفتهم الصادقة نحو الله أنه أب سماوي وسيد، لكنهم لم يقوموا بتكريمه عمليًا كأب، ولا خافوه كسيدٍ وربٍ. فيليق أن ترتبط معرفتنا وإيماننا بالحياة العملية في محبة الله ومخافته.

يكشف الله عن حبه ليعقوب، ويصب محبته في نسله السالكين بذات فكره. إنه حب مجاني يُعطى للجادين في خلاص نفوسهم.

 

1. الحاجة إلى عمل الله:

وَحْيُ كَلِمَةِ الرَّبِّ لإِسْرَائِيلَ عَنْ يَدِ مَلاَخِي: [1]

يترجم البعض كلمة “وحي” هنا أنها “ثقل“، فقد كانت كلمة الرب بالنسبة لإسرائيل في شره لا تمثل بهجة وفرحًا وعذوبة، لأنها تكشف عن جراحاتهم بغير مداهنة. لذلك حسبوها ثقلًا عليهم، تحزنهم حتى كانوا غير قادرين على سماعها. إنها عبء بالنسبة لمن لا يطلب خلاص نفسه، أما الجادون في خلاص أنفسهم فيجدونها نيرًا هينًا وحلوًا (مت 11: 30).

أَحْبَبْتُكُمْ، قَالَ الرَّبُّ. وَقُلْتُمْ: بِمَا أَحْبَبْتَنَا؟

أَلَيْسَ عِيسُو أَخًا لِيَعْقُوب،َ يَقُولُ الرَّبُّ،

وَأَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ [2].

إذ يكشف هذا السفر عن دعوة كل الأمم والشعوب بقبول الإيمان، يبدأ بتأكيد حب الله لشعبه مجانًا وبدون استحقاق من جانبهم. لكنهم استخفوا بمحبته، واحتقروا اسمه ونجسوا التقدمات والذبائح. لهذا لم يعد يُسر الله بهم ماداموا يسلكون هكذا، ويفتح الباب لكل الأمم من مشرق الشمس إلى مغربها ليتمجد اسمه في كل الأرض.

بدأ يفتح جراحات شعبه لتنظيفها ومعالجتها، مؤكدًا لهم أنه يفعل هذا لا عن كراهية أو بغضة، بل عن حبٍ وحنوٍ، لهذا تبدأ رسالة الله لهم بالقول: “أحببتكم“. هذا ما أكده الله على الدوام عن لسان أنبيائه: “محبة أبدية أحببتك، ومن أجل ذلك أدمت لك الرحمة” (إر 31: 3). “لما كان إسرائيل غلامًا أحببته” (هو 11: 1)، “لأن الرب يُسٌر بكِ” (إش 4: 62).

هكذا يبدأ حديثه بإعلان حبه، ليؤكد أنه وإن وبخ إنما لأنه أب: “إني كل من أحبه أوبخه وأؤدبه” (رؤ 3: 19)، كما يوبخهم، لأنهم لم يردوا له الحب بالحب.

يحتاج الإنسان إلى من يحبه ومن يتقبل حبه، لهذا كثيرًا ما يؤكد الله لأولاده: “أحببتكم“. لكن إذ تمُر بالإنسان ظروف تبدو في عينيه قاسية ومُرة، يتساءل في داخله: “أين هي محبة الله لي؟”

لقد تشككوا في محبته لهم، واستهانوا بها، “وقلتم: بِمَ أحببتنا؟” بقولهم هذا يستخفون بحب الله وعنايته بهم.

أليس عيسو أخًا ليعقوب، يقول الرب، وأحببت يعقوب” [2]. كثيرًا ما يظن اليهود أن الله ملتزم بالحب نحوهم بكونهم أبناء إبراهيم، وأنه يرد لهم الحب كمن هو مدين لأبيهم. لهذا يقول لهم: لو أنني أحبكم ردًا لحب إبراهيم ليّ لكان الأولى أن يتمتع عيسو بحبي أكثر من يعقوب، لأنه البكر، ومع هذا فإن يعقوب اغتصب بالإيمان العملي حب الله، بينما سقط عيسو بقسوة قلبه تحت الغضب. لا تقوم محبة الله على المحاباة، ولا على القرابات الجسدية المجردة، فقد كان عيسو ويعقوب أخوين توأمين في رحمٍ واحدٍ، فتمتع يعقوب بالدخول في عهد مع الله، وحُرم عيسو نفسه من العطية.

هذه العطية التي نالها يعقوب مجانية، ليس له فضل فيها، إنما هي حسب مسرة الله، ولكن ليست إلزامًا أو قهرًا، إنما خلال تجاوب الإنسان مع النعمة الإلهية المجانية.

*    يسبق الله فيعرف الناس الخطاة وهم في رحم أمهاتهم (تك 25: 23)[8].

*    “زاغ الأشرار من الرحم، ضلوا من البطن، متكلمين كذبًا” (مز 58: 3)… ما هذا؟ لنبحث في أكثر اهتمام، فإنه ربما يقول هذا لأن الله سبق فعرف البشر الذين هم خطاة وهم في رحم أمهاتهم. لذلك عندما كانت رفقة لا تزال حاملًا، وقد حملت توأمين، قيل: “أحببت يعقوب، وأبغضت عيسو” (مل 1: 2، رو 9: 13). فقد قيل: “الأكبر يخدم الأصغر”. كان حكم الله مخفيًا في ذلك الوقت، ولكن من الرحم، من الأصل ذاته يزوغ الخطاة. من أين يزوغون؟ من الحق. من أين يزوغون؟ من المدينة الطوباوية، من الحياة المطٌوبة[9].

 القديس أغسطينوس

*    احتقر قايين أخاه، كما احتقر الله. كيف احتقره؟ بإجابته الوقحة على الله: “أحارس أنا لأخي؟” (تك 4: 9). احتقر عيسو أخاه، وهو أيضًا احتقر الله. لذلك قال الله: “أحببت يعقوب، وأبغضت عيسو” (رو 9: 13، مل 1: 2-3)[10].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*    إننا نفكر بالصواب بقولنا إن “الله يُحب العدل، ويبغض الاختلاس بالظلم”. وهذا لا يعني بأن له ميل تجاه الواحد أو تجاه الآخر، ويقبل ما هو مضاد، لدرجة أنه يفضل هذا ولا يفضل ذاك. فهذه هي سمة المخلوقات، بل يعني أنه كقاضٍ يحب الأبرار ويعينهم، ويعزف عن الأشرار[11].

القديس أثناسيوس الرسولي

أعلن الله حبه لإسرائيل قائلًا: “لما كان إسرائيل غلامًا أحببته، ومن مصر دعوت ابني” (هو 11: 1)، فقد دعاه غلامًا وابنه. في غير محاباة، إذ أصر شعب إسرائيل على شرورهم يدعوهم نبيه القديس يوحنا المعمدان: “يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟!” (مت 3: 7). هكذا ليس لدى الله محاباة!

*    إنها ثمرة غباوتهم وتفكيرهم الطفولي أن يعانوا من هذه العقوبة. لقد دعوتهم من مصر، وحررتهم من العبودية القاسية، لكنهم أظهروا جحودًا ليّ، واختاروا عبادة الأوثان. أنا الذي علَّمتهم المشي، وشفيتهم من سلوكهم البشع، وأظهرت لهم حنوًا أبويًا، واستخدمت معهم كل أنواع العلاج، رفضوا أن يعرفوني، مع أنني حفظتهم من دمارٍ مضاعفٍ بيد الغازين. أنهم كمن نشبوا بأظافرهم فيّ، وأنا أحبهم كما لو كان ذلك قيدًا[12].

ثيؤدورت أسقف قورش

*    دُعي إسرائيل رمزيًا ابنًا منذ كان في مصر (مت 2: 15)، لكنه فقد بنوته بتعبده للبعل وتقديم بخور للأوثان، فأعطاهم يوحنا اسمًا لائقًا بهم “أولاد الأفاعي” (مت 3: 7). إذ فقدوا لقب البنوة الذي انسكب عليهم خلال النعمة في أيام موسى، نالوا من يوحنا اسمًا متطابقًا مع أفعالهم[13].

القديس مار أفرام السرياني

وَأَبْغَضْتُ عِيسُو،َ

وَجَعَلْتُ جِبَالَهُ خَرَابًا، وَمِيرَاثَهُ لِذِئَابِ الْبَرِّيَّةِ؟  [3]

تحدى أدوم (عيسو) إله إسرائيل ولم يبالِ بإرادته الإلهية، فسقط في خرابٍ أبديٍ في الوقت المناسب. بينما نال إسرائيل الذي كان تحت التأديب بركة إعلان مجد الله في تخومه. هذا العمل قائم على الدوام روحيًا، فإن تحدى اليهودي أو الأممي إله القوات يصير كأنه أدوم الروحي، ويطيل الله عليه أناته، وإذ يمتلئ كأسه بالشر يسقط في الهلاك الأبدي. بينما كثير من الأمم الذين كانوا أدوم الروحي المعاند، إذ يرجعون إلى الرب يصيرون إسرائيل الجديد الممتلئ بأمجاد إلهيةٍ.

كان عيسو عنيفًا مع أخيه ووالده ووالدته، فتزوج من بنات حثِ زوجتين، “فكانتا مرارة نفس لإسحق ورفقة” (تك 26: 35). شرب من الكأس الذي ملأه لوالديه وأخيه، فحلٌ الخراب بقلبه، وارتد هذا الخراب حتى على جبال سعير التي كانت “ميراثه“. إذ قام جيش الكلدانيين بتخريبها، حتى أصبحت مسكنًا لذئاب البرية، إذ صارت مقفرة جدًا.

شرب بنو عيسو أو بنو أدوم الشامتون في خراب أورشليم (مز 137: 7) من ذات كأس الترنح الذي ملأوه لغيرهم.

لقد كان الله طويل الأناة جدًا على أدوم، فتركها جيلًا بعد جيل، حتى ظن البعض كأن تهديدات الله لهم لم تكن إلاَّ كلامًا بلا فعلٍ، وأخيرًا سقطت في خرابٍ دائمٍ، فلم تقم بعد مملكة لأدوم.

*    حملت رفقة الاثنين، يعقوب وعيسو. الزرع واحد، لكن اللذين حُمل بهما مختلفان. الرحم واحد، واللذان حملت بهما مختلفان. أليست المرأة الحرة حملت عيسو؟ لقد تصارعا في رحم والدتهما، هناك تشاجرا، وقيل لرفقة: “في رحمك شعبان” رجلان، شعبان، لكنهما تصارعا في الرحم. كم من أشرار يوجدون في الكنيسة! رحم واحد يُحبل بهم حتى ينفصلوا في النهاية، والأشرار يصرخون ضد الصالحين وكلاهما يصارعان في أحشاء أمهما الواحدة[14].

*    من هو غبي شرير فيقول إن الله غير قادر على تغيير الإرادة الشريرة للناس، كيفما يشاء، وحينما يشاء، وأينما يشاء، فيجعلها صالحة؟ لكنه إذ يعمل، إنما يعمل خلال الرحمة؛ وعندما لا يعمل إنما خلال العدل. إذ “هو يرحم من يشاء، ويقسي من يشاء” (رو 9: 18). الآن عندما قال الرسول هذا، يمتدح النعمة، هذه التي تحدث عنها عندما ربطها بتوأمي رحم رفقة. “لأنه وهما لم يُولدا بعد، ولا فعلا خيرًا أو شرًا، لكي يثبت قصد الله حسب الاختيار، ليس من الأعمال بل من الذي يدعو، قيل لها أن الكبير يُستعبد للصغير” (رو 9: 11-12). بالتبعية يُشير إلى شهادة نبوية أخري، حيث كتب: “أحببت يعقوب وأبغضت عيسو” (مل 1: 2-3). وإذ تحقق كيف أن ما قاله قد يُسبب اضطرابًا لأولئك الذين لم يستطع فهمهم أن يدخلوا إلى هذا العمق للنعمة، أضاف: “فماذا نقول: ألعل عند الله ظلمًا؟ حاشا!” (رو 9: 14). ومع هذا يبدو أنه في ظلم، دون أي استحقاق عن أعمالٍ صالحةٍ أو شريرة، يحب الله أحدًا ويبغض الآخر. الآن لو كان الرسول أراد منا أن نفهم وجود أعمال صالحة مستقبله للآخر -هذه التي حتمًا قد سبق فعرفها الله- لما قال: “ليس من الأعمال” (رو 9: 11) بل قال: “عن أعمال في المستقبل”. هكذا أراد أن يحل المعضلة؛ أو بالحري أراد ألاَّ يترك معضلة لكي تحل. إذ أضاف للحال: “حاشا!” (ليظهر أنه لا يوجد ظلم في الله). “لأنه يقول لموسى: إني أرحم من أرحم، وأتراءف على من أتراءف” (رو 9: 15). الآن من هو سوى الغبي ذاك الذي يظن في الله ظلمًا سواء عندما يوقع جزاء على من يستحق، أو يظهر رحمة على غير المستحق؟ أخيرًا يختم الرسول بالقول: “فإذًا ليس لمن يشاء، ولا لمن يسعى، بل لله الذي يرحم” (رو 9: 16)[15].

القديس أغسطينوس

*    منذ بداية العالم، من بين الابنين اللذين ولدا لآدم، هابيل الأصغر مختار، بينما قايين الأكبر – بكونه رمزًا لليهود غير المؤمنين – قد دُين. بعد ذلك في وقت إبراهيم، تحقق ذات الرمز في سارة وهاجر. كانت سارة عاقرًا إلى وقت طويل كرمز للكنيسة، بينما هاجر كرمزٍ للمجمع اليهودي حملت ابنًا للحال. هنا الابن الأصغر – اسحق – قبل في الميراث، وأما إسماعيل الأكبر فحُرم منه. تبدو هذه الحقيقة إنها تحققت في الاثنين: يعقوب الأصغر أحبه الله، بينما عيسو رُفض كما هو مكتوب: “أحببت يعقوب، وأبغضت عيسو” (مل 1: 2-3). هذا الرمز أيضًا معروف أنه يتحقق في أختين اتخذهما يعقوب زوجتين: راحيل الصغرى، أحبها يعقوب أكثر من ليئة، الكبرى. في الواقع من الأولى ولد يوسف الذي بيع في مصر كرمزٍ لربنا ومخلصنا. هكذا كانت ليئة ضعيفة البصر، بينما كانت راحيل جميلة الملامح، هذا أيضًا له معنى: تُفهم ليئة بكونها مجمع اليهود، وراحيل تُشير إلى الكنيسة. الإنسان الذي تُصاب عيناه الجسديتان بالتهاب لا يقدر أن يتطلع إلى بهاء الشمس. هكذا كان المجمع، الذي كان له عيون قلبه مملوءة حسدًا وحقدًا ضد ربنا ومخلصنا كما بفيضانٍ مملوء سمًا، لا تقدر أن تتطلع إلى سمو المسيح، الذي هو شمس العدل (مل 4: 2)[16].

الأب قيصريوس أسقف أرل

لأَنَّ أدوم قَالَ: قَدْ هُدِمْنَا فَنَعُودُ وَنَبْنِي الْخِرَبَ.

هَكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: هُمْ يَبْنُونَ وَأَنَا أَهْدِمُ.

وَيَدْعُونَهُمْ تُخُومَ الشَّرِّ،

وَالشَّعْبَ الَّذِي غَضِبَ عَلَيْهِ الرَّبُّ إِلَى الأَبَدِ. [4]

ظن أدوم أنه قادر بذاته أن يقوم من هذا الخراب الذي حٌل به دون إصلاح القلب وطرد الذئاب الداخلية. لقد سقط أدوم في آمالٍ باطلةٍ، فظنوا أنهم يستطيعون القيام ببناء الخرب، كما حدث مع أورشليم.

بقولهم: “نعود فنبني الخرب” يرون أن الأمر في أيديهم ويعتمد على إمكانياتهم العسكرية وتخطيطهم، سواء أراد الله ذلك أو لم يرد. لذلك “هكذا قال رب الجنود: هم يبنون، وأنا أهدم“. إذ لا يستطيعون الوقوف في تحدٍ أمام الله.

بتحديهم يصيرون مثلًا وعبرة للنفوس المتشامخة على الله. “ويدعونهم تخوم الشر، والشعب الذي غضب عليه الرب إلى الأبد” [4]. يدرك الكل كلمات أيوب: “من تصلب عليه فَسلِمَ” (أي 9: 4).

إذ رفض اليهود السيد المسيح، وقاوموا إنجيله وكنيسته صاروا أدوميين، وتمت فيهم هذه العبارة، لأنهم لما حاولوا إعادة بناء الهيكل في أورشليم أيام الإمبراطور أدريان هدم الله ما بنوه، بحدوث زلزلة وخروج ألسنة نارية، فاضطروا إلى التوقف عن البناء[17].

*    إن نطق الله ألف كلمة متهمًا إيانا، لن نستطيع أن نقاوم كلمةً واحدةً. ماذا يقول النبي: “لن يتبرر في عينيك إنسان” (مز 143: 2)[18].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*    “أعترف لك بخطيتي يا إلهي، وأنت رفعت إثم قلبي” (راجع مز 32: 5) لست أُجادل معك في الحكم، يا أيها الحق، فإني لا أُريد أن أخدع نفسي، لئلا يقف إثمي ضدي[19].

القديس أغسطينوس

فَتَرَى أَعْيُنُكُمْ وَتَقُولُونَ:

لِيَتَعَظَّمِ الرَّبُّ مِنْ عِنْدِ تُخُمِ إِسْرَائِيلَ. [5]

إذ صار قلب أدوم قفرًا، ليس فيه أثر للحب، بل حمل خبث الذئاب، تحولت جباله إلى خرابٍ، وصار ميراثه ملكًا لذئاب البرية. الآن إذ يطلب إسرائيل وهو تحت التأديب التدخل الإلهي، يتمجد الله في تخومه كما يتمجد في أعماقه الداخلية. هذه هي مسرة الله أن يصير العالم كله إسرائيل الجديد الروحي الحامل لمجد الله في الداخل والخارج.

جاء كلمة الله لكي ينقلنا خلال المعمودية من البنوة لعدو الخير إلى البنوة لله، ويحولنا من أدوم الحاملة للقلب الذئبي القفر إلى إسرائيل الجديد الحامل للمجد الإلهي.

2. التكريم العملي لله:

الاِبْنُ يُكْرِمُ أَبَاهُ، وَالْعَبْدُ يُكْرِمُ سَيِّدَهُ.

فَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَبًا فَأَيْنَ كَرَأمَتِي؟

وَإِنْ كُنْتُ سَيِّدًا فَأَيْنَ هَيْبَتِي؟

قَالَ لَكُمْ رَبُّ الْجُنُودِ: أَيُّهَا الْكَهَنَةُ الْمُحْتَقِرُونَ اسْمِي.

وَتَقُولُونَ: بِمَ احْتَقَرْنَا اسْمَكَ؟  [6]

بناموس الطبيعة يُكرم الابن أباه، وبقوانين العالم يُهاب العبد سيده ويطيع أوامره، ويحرص على خدمة مصالحه. الابن الذي لا يُكرم أباه يسقط تحت لعنة الناموس الطبيعي، والعبد الذي لا يسمع لسيده يسقط تحت عقوبة قوانين المجتمع. هذا هو موقف الابن والعبد، فما هو موقف الكاهن الذي يحكمه القانون الإلهي؟ أيهما أولى بالطاعة القانون الإلهي أم نواميس الطبيعة والمجتمع؟

إن كان الكاهن يود أن يُدعى أبًا (قض 18: 19)، وإن كان البعض يتطلعون إليه كقائدٍ يلزم طاعته، فيلزم على الكاهن أن يتعامل مع الله كابنٍ وعبدٍ له. إذ كيف يمكن للكاهن أن يدعو الشعب لتكريم الله كأبٍ، والخضوع له كسيدٍ، وهو لا يحمل ذات الروح. يقول القديس بولس: “ثم قد كان لنا آباء أجسادنا مؤدبين وكنا نهابهم، أفلا نخضع بالأولى جدًا لأبي الأرواح فنحيا؟” (عب 12: 9).

*    يطلب الله من كل المخلوقات: “إن كنت أبًا فأين كرامتي؟ وإن كنت سيدًا فأين مهابتي؟” (مل 1: 6). إن لم يكن للحياة الإنسانية سيد يُشرف عليها تتحول إلى فوضى تستدعى الرثاء. وهذا ما آلت إليه القوات السمائية التي تمردت، وصلَّبت أعناقها على الله ضابط الكل، رافضة الخضوع له، ليس لأنها من طبيعة غير مخلوقة، بل لأن سبب معصيتها كان التمرد على الخالق[20].

*    يُقال: “الابن يكرم أباه، والعبد سيده” (مل 1: 6). واحد من هذين الاثنين، العبودية تُقدم بواسطة المخلوق، والآخر الذي يمكن أن يُقال إنه صداقة حميمة فتتحقق بواسطة الروح القدس[21].

القديس باسيليوس الكبير

*    ينبغي أن تتفق صلاتنا مع إرادة من نصلي إليه “الصالحة”، وذلك بتمجيده في افتتاحية الصلاة. لهذا أمرنا ألاَّ نبدأ إلاَّ بالقول “أبانا الذي في السماوات”.

حقًا تنتشر بين صفحات الكتاب المقدس كلمات كثيرة خاصة بتمجيد الله، لكننا لم نجد قط وصية لشعب اليهود أن يقولوا “أبانا”، أي لا يصلون إليه بكونهم أبناء بل كعبيدٍ، أي بكونهم ما زالوا يحيون حسب الجسد.

أقول إنهم لم يتخذوا الله أبًا لهم، وكان يمكنهم ذلك لو لم يعصوا الشريعة التي أُمروا بحفظها، لذلك جاءت النصوص التالية:

“ربَّيت بنين ونشَّأْتُهم. أما هم فعصوا عليَّ” (إش 1: 2).

“أنا قلت إنكم آلهة وبنو العليّ كلكم” (مز 82: 6).

“فإن كنت أنا أبًا فأين كرامتي… إلخ.” (مل 1: 6)

هذه النصوص تظهر عدم قبولهم كأبناء لله، كما أنها نبوة لما سيكون عليه المسيحيون الذين يتخذون الله أبًا لهم، وذلك كقول الإنجيلي: “فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله” (يو 1: 12). وقول الرسول بولس: “مادام الوارث قاصرًا لا يفرق شيئًا عن العبد” (غل 4: 1)، مُشيرًا إلى روح التبني الذي أخذناه، والذي به نصرخ يا أبا الآب” (رو 8: 15)[22].

القديس أغسطينوس

*    مجد الآباء هو قداسة أبنائهم، وكرامة السادة هو مخافة عبيدهم، أما عكس هذا ففيه إهانة وارتباك. إذ يقول: “بسببكم يُجدف على اسمي بين الأمم”[23].

الدسقولية

*    “ربيت بنين ونشأتهم؛ أما هم فعصوا عليّ” (إش 1: 2)… إنه لا يُشير إلى شركتهم مع كل البشرية بتعبيرات عن سمو ميلادهم، بل بالحري عن عونٍ فائق إذ صاروا أبناءه. يبادر الله في كل موضوع بتقديم الهبات، ففي خلقة الإنسان بدأ بتكريمه حتى قبل أن يوجده، قائلًا: “نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا” (تك 1: 26)… هنا يمكن للشخص أن يرى أن الله يُكرم تبني الإنسان[24].

*    أولئك الذين صاروا أبناء ويتمتعون بالطعام الروحي، يحق لهم أن يمجدوا أباهم. يقول الكتاب: “الابن يكرم أباه والعبد يرهب سيده“. لقد صرتُ ابنًا له وتتمتع بالطعام الروحي، تتناول جسده ودمه اللذين يهبانك ميلادًا جديدًا. إذن، رد مثل هذا الإحسان بتمجيد واهبه لك. وعندما تقرأ هذه العبارات ثَبٌت ارتباطك بهذه الكلمات. عندما يقول: “أرفعك يا إلهي، ملكي” (مز 145: 1). قدم شهادة عن علاقتك الحميمة حتى يقول الله عنك كما عن إبراهيم وإسحق ويعقوب: “أنا إله إبراهيم، إله اسحق، إله يعقوب” (خر 3: 6). أقصد، إن كنت تقول: “يا إلهي، يا ملكي”، وليس فقط تقول هذا، بل وتقدم شهادة عن مثل هذا الحب، فهو بدوره يقول عنك نفس الشيء: “خادمي، مرافقي” الأمر الذي قاله عن موسى أيضًا[25].

*    من له المخافة ليس بفضولي، بل يسقط ويسجد. من له المخافة لا يقدم تساؤلات من أجل حب الاستطلاع، بل بالعكس يُقدم تسبيحًا ومجدًا[26].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*    في الأسبوع الماضي تحدثت بإطالة بما فيه الكفاية من أجل إصلاح أولئك الذين لا يقدمون تشكرات للخالق على العطايا الإلهية التي يتمتعون بها، هؤلاء الذين وهم ينتفعون بالحنو السماوي فإنهم كأناس جاحدين غير مستحقين لا يعرفون واهب الحنو. إنهم جاحدون، أقول، هؤلاء الذين لا يهابون الله كعبيد نحو سيدهم، ولا يكرمونه كأبناء نحو أبيهم. يقول الله بالنبي: “إن كنت سيدًا فأين مهابتي، وإن كنت أنا أبًا فأين كرامتي؟” (مل 1: 6) بمعني إن كنت عبدًا قدم للسيد الخدمة بمهابة، وإن كنت ابنًا أظهر لأبيك الحب الوقور. ولكن إذ لا تقدم تشكرات، فإنك لا تحب الله ولا تهابه. فأنت عبد متغطرس أو ابن متكبر. المسيحي الصالح يلزمه أن يسبح أباه وسيده على الدوام، ويمارس كل الأعمال الصالحة لأجل مجده. ذلك كما يقول الرسول: “فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئًا، فافعلوا كل شيء لمجد الله” (1 كو 10: 33)[27].

مكسيموس أسقف تورين

*    بخصوص الله، الذي هو واحد وحده، إذ يحمل شخصية لها جانبان بكونه الأب والسيد. فنحن ملتزمون أن نحبه إذ نحن أبناؤه، وأن نخافه بكوننا عبيده[28].

 لاكتانتيوس

*    هذا الخوف أو الحب الذي من أجله يوبخنا الله، كل واحد حسب ما يتناسب معه، قائلًا: “الابن يكرم أباهُ، والعبد يكرم سيدهُ، فإن كنت أنا أبًا فأين كرامتي؟ وإن كنت سيّدًا فأين هيبتي؟” (مل 1: 6). فالعبد يلزمه أن يخاف: “وأمَّا ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيدهِ ولا يستعدُّ ولا يفعل بحسب إرادتهِ فيُضرَب كثيرًا” (لو 12: 47)[29].

*    يوجد خوف مزدوج:

  1. أحدهما للمبتدئين، أي الذين لازالوا تحت العبودية المرعبة، التي نقرأ عنها: “العبد يكرم سيدهُ” (مل 1: 6). وفي الإنجيل يقول: “لا أعود أسمّيكم عبيدًا، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيدهُ” (يو 15: 15). “والعبد لا يبقى في البيت إلى الأبد، أمَّا الابن فيبقى إلى الأبد” (يو 8: 35). لذلك يعلمنا الله أن ننتقل من الخوف من القصاص إلى ملء حرية المحبة وثقة الأحباء أبناء الله. أخيرًا فإن الرسول المبارك بقوة حب الله عبر مرحلة عبودية الخوف، لكي يحتقر الأشياء الأرضية، ويعلن أنه قد اغتنى بأمور الله الصالحة، إذ يقول: “لأن الله لم يُعطنا روح الفَشَل، بل روح القوَّة والمحبَّةِ والنصحِ” (2 تي 1: 7). هؤلاء أيضًا الذين التهبوا بحب كامل نحو أبيهم السماوي، والذين بالتبني الإلهي صاروا أبناءً لا عبيدًا، يخاطبهم الرسول: “إذ لم تأْخذوا روح العبوديَّة أيضًا للخوف بل أخذتم روح التبنّي الذي به نصرخ يا أَبا الآب” (رو 8: 15).
  2. أما عن الخوف الآخر فيتكلم النبي عن الروح ذيّ السبع جوانب، الذي بحسب سرّ التجسد يحل بكمالٍ على الإله المتجسد: “ويحلُّ عليهِ روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب”(إش 11: 2). بل ويضيف على وجه الخصوص: “ولذَّتهُ تكون في مخافة الرب” (إش 11: 3). نلاحظ أنه لم يكمل قائلًا، “يحلَّ عليك روح الخوف”، بل “لذَّتهُ تكون في مخافة الرب”.لأن هذا هو عظمة غنى هذا الخوف أنه إذ يستقر على أحد بقوته لا يستحوذ على جزء من عقله بل كل عقله. وليس ذلك بغير إدراك، لأنه مرتبط ارتباطا وثيقًا بالحب الذي “لا يسقط أبدًا”[30].

الأب شيريمون

اتهام خطير موجه للشعب كما للكهنة، وإجابة خطيرة: “بِمَ احتقرنا اسمك؟” تستحضرنا أمام صورة محزنة ومرعبة.

إن أخطر ما في الأمر هو العمى الروحي الذي أصاب الكل، فلم يشعروا أنهم يحتقرون اسم الله، بل ربما كانوا يتفاخرون أنهم يقدمون تقدمات وذبائح ويمارسون العبادة بدقةٍ حسب الشريعة.

كان الشعب اليهودي يعتز بأن لديهم سبط لاوي، حيث الكهنة الذين اختارهم الرب له، يقدمون ذبائح تقدمات موضع سرور الله. الآن يكشف لهم الله نفسه أن الكهنة الذين يشفعون عنهم لنوال البركات، فقدوا البركة والقداسة ومسرة الله، فمن يقدر أن يرفع وجه الشعب أمام الله؟

يتكلم الله على لسان النبي ليُحاسب الكهنة، فإن كانوا قد أُقيموا قضاة في بيت الرب إنما ليمارسوا هم أولًا الوصية ويعيشوها، وإلاَّ يسقطوا تحت الدينونة.

*    كن مطيعًا لأسقفك، طِعهُ كأبيك الروحي. الأبناء يحبون، والعبيد يخافون. يقول: “إن كنت أنا أبًا فأين كرامتي؟ وإن كنت سيدًا فأين هيبتي؟” (مل 1: 6): في حالتكم قد يحمل شخص واحد أتعابًا كثيرة لكرامتكم، فيكون في نفس الوقت راهبًا وأسقفًا وعمًا. أما الأساقفة فيلزمهم أن يعرفوا أنهم كهنة لا سادة. ليردوا للكهنوت كرامته اللائقة به[31].

القديس جيروم

*    هذا هو واجبك أيها الأسقف، ألا تتجاهل خطايا الشعب، ولا ترفض الذين هم تائبين، لئلا تحطم قطيع الرب في عدم مهارة، أو تهين اسمه الجديد الذي وُضع على شعب، وأنت نفسك تُوبخ كما حدث مع الرعاة القدامى الذين قال عنهم الله لإرميا: “رعاة كثيرون أفسدوا كرمي، داسوا نصيبي” (إر 12: 10). وفي عبارة أخرى: “على الرعاة اشتعل غضبي وعلى الحملان سخطي” (راجع زك 10: 3). وفي موضع آخر: “أيها الكهنة المحتقرون اسمي” (مل 1: 6)[32].

*    واضح أن الأساقفة والكهنة الذين يدعون هكذا باطلًا لا يهربون من دينونة الله[33].

الدسقولية

3. تقدمة نجسة:

تُقَرِّبُونَ خُبْزًا نَجِسًا عَلَى مَذْبَحِي.

وَتَقُولُونَ: بِمَ نَجَّسْنَاكَ؟

بِقَوْلِكُمْ إِنَّ مَائِدَةَ الرَّبِّ مُحْتَقَرَةٌ. [7]

الاتهام الذي يوجهه ضد الكهنة هو احتقار اسم الله وتنجيس مقدساته، وما هو أخطر من هذا أنهم إذ يسمعون الاتهام يجيبون: “بِمَ احتقرنا اسمك؟ بِمَ نجسناك؟” مثل هذه الأسئلة تكشف إما عن جهل الكهنة للحق، وهذا أمر خطير بكونهم قادة عميان يقودون الشعب، أو عن معرفة لما يفعلونه، فيجيبون بشيءٍ من الجسارة غير اللائقة، وهذا أشر! فارتكابهم للشر سواء كان بمعرفةٍ أو بغير معرفةٍ، هو أمر خطير للغاية بحكم مركزهم القيادي.

مائدة الرب محتقرة“: ربما يقصد بها مائدة خبز الوجوه أو مذبح المحرقات، وقد دُعيت هكذا، إذ كان الكهنة والشعب يأكلون منها، وكأن الله الذي يقبل الذبائح يود أن يشترك الكهنة والشعب معه كما على مائدة المصالحة.

فباشتراكهم في الذبائح المقدمة للأوثان يحتقرون مائدة الرب إذ يودون الشركة مع الله والأوثان، أو مع الله والشيطان. بهذا يحسبون كمن نجسوا مائدة الرب [12].

كما احتقروا مائدة الرب بتقديم ذبائح معيبة، فيعطون الأولية لأنفسهم ويحسبون الله غير مستحقٍ لتقديم أفضل ما عندهم.

لقد قدموا ذبائح على مائدة الرب أو المذبح، وظنوا إنهم يرضونه، وهم لا يدركون إنهم يحتقرونه وينجسون مذبحه، لذلك يتساءلون: “بِمَ نجسناك؟” قدموا ذبائح، أما قلوبهم فكانت بعيدة عن الرب، ومقاومة له، لا تقبل وصيته، ولا تود التمتع بالعشرة معه.

وَإِنْ قَرَّبْتُمُ الأَعْمَى ذَبِيحَةً، أَفَلَيْسَ ذَلِكَ شَرًّا؟

وَإِنْ قَرَّبْتُمُ الأَعْرَجَ وَالسَّقِيمَ، أَفَلَيْسَ ذَلِكَ شَرًّا؟

قَرِّبْهُ لِوَالِيكَ أَفَيَرْضَى عَلَيْكَ أَوْ يَرْفَعُ وَجْهَكَ؟ قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. [8]

قدموا الذبائح التي لا تصلح لغرضٍ آخر، حاسبين أن أية ذبيحة محرقة إنما تُحرق بالنار، فيستخسرون تقديم الحيوانات التي تصلح للبيع أو التجارة أو لأي غرض آخر، وكأنهم يقدمون لله فضلاتهم. جاء في سفر التثنية عن الذبائح: “ولكن إذا كان فيه عيب: عرجٌ أو عمي، عيب ما رديء، فلا تذبحه للرب إلهك. في أبوابك تأكله. النجس والطاهر، سواء كالظبي والأيل” (تث 15: 21-22).

تُشير ذبيحة الأعمى إلى ممارسة العبادة بغير استفادة روحية، فنكون كمن يمارس واجبًا في جهلٍ، وبغير تطلع إلى الله للتعرف على أسراره السماوية المفرحة.

تُشير ذبيحة الأعرج إلى الإنسان الذي لا يتمتع بالسيد المسيح بكونه الطريق الإلهي، به ينطلق نحو الحضن الأبوي، فتستقر نفسه وتستريح وتتعزى بالآب السماوي.

تُشير ذبيحة السقيم إلى من يمارس العبادة في عدم اكتراث، دون أن تتركز عيناه على الرب الطبيب السماوي، فتقف نفسه المريضة دون أن تطلب الشفاء الحقيقي.

يلاحظ في الذبائح الثلاثة السابقة: سواء التي للأعمى أو الأعرج أو السقيم يُمارس الإنسان عبادته بالجسد دون القلب، وبالحرف دون الروح، فيحمل قلبًا بلا استنارة، وبلا حركة روحية، وفي رخاوة!

يعاتبهم بأن ما يمارسونه في علاقتهم معه لا يتجاسرون أن يفعلوه مع ملكٍ أو والٍ يطلبون رضاه، إذ لا يستطيعون أن يقدموا هدية أو جزية بأعرجً أو مستقيمٍ.

*    هكذا كانت تقدمة قايين القاتل مرفوضة. قال له الله: “إن أحسنت (العمل) أفلا رفع؟!” (تك 4: 7) هكذا أيضًا كانت كل تقدمات إسرائيل المرفوضة، حيث نالوا اللعنة التي قالها النبي: “ملعون الذي يوجد في قطيعه ذكر، وينذر ويذبح للسيد عائبًا” (مل 1: 14). إنه ينتهرهم ويوبخهم، قائلًا: “قربه لواليك أفيرضى عليك أو يظهر لك حنوًا، يقول الرب” (راجع مل 1: 8). فكيف تقدم أي حديث موجه لله أثناء خدمة الصلاة يُظهر أي نوع من الاستخفاف ويكون مقبولًا لدى لله، حديثًا مملوءً بكل أنواع التشتيت، أي حديثًا مريضًا يعوقه مقاطعات كثيرة (بتشتيت الفكر)؟ مثل هذا النوع لا يكون مقبولًا حتى إن قُدم لأتفه كائن بشري إن وجه إليه هكذا. تقدمة الصلاة المملوءة اضطرابًا وخدمة القلب المستخف هما مثل ذبيحة لكبشٍ معيبٍ تمامًا[34].

ساهدونا

إن كان الله لا يُسر بذبيحة وتقدمة (مز 40: 6)، بل يطلب ذبائح التسبيح والحمد والشكر (مز 51: 16؛ 116: 17؛ إر 33: 11)، فإنه يتقبلها من شفاهٍ طاهرة مقدسة، أما من يقدمها من شفاهٍ نجسة، تشتم ولا تبارك، تكذب ولا تنطق بالحق، تدين ولا تترفق، فتحسب ذبائح نجسه. وكأن الإنسان يقدم ذبيحة الأعمى أو الأعرج أو السقيم.

وَالآنَ تَرَضُّوا وَجْهَ الله، فَيَتَرَأَّفَ عَلَيْنَا. 

هَذِهِ كَانَتْ مِنْ يَدِكُمْ.

هَلْ يَرْفَعُ وَجْهَكُمْ؟ قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. [9]

يرى البعض أن وباءً حلّ بالبلاد، حيث هجمت غارات من الجراد على الحقول، فأكلت ما هو أخضر (مل 3: 11)، وصرخ الكهنة فلم يستجب الرب بسبب شرهم. لهذا يُقدم لهم نصيحة أن يرجعوا إلى الله بالتوبة فيسمع لصلواتهم، عن أنفسهم كما عن الشعب. وكما يقول المرتل: “إن راعيت إثمًا في قلبي لا يستمع ليّ الرب” (مز 66: 18).

*    ارجع إلى نفسك، كن لنفسك قاضيًا في الداخل. تطلع إلى حجالك الخفي، في أعماق القلب، هناك حيث أنت والله الذي يرى تكونا وحدكما، ولا تُسر بالإثم، فيّسر بك الله… “لكن قد سمع الله ليّ” (مز 66: 19)، لأنني لا أنظر إثمًا في قلبي، “اصغِ إلى صلاتي” (مز 66: 19). “مبارك إلهي الذي لم يُبعد صلاتي ولا رحمته عني” (مز 66: 20)[35].

 القديس أغسطينوس

 “هذه كانت من يدكم” [9]، بمعنى أن الله يود أن يسمع لصلوات كهنته عن شعبه، لكن بسبب إثمهم لا يسمع لهم حتى يرجعوا إليه.

4. التقدمة الطاهرة:

مَنْ فِيكُمْ يُغْلِقُ الْبَابَ، بَلْ لاَ تُوقِدُونَ عَلَى مَذْبَحِي مَجَّانًا؟

لَيْسَتْ لِي مَسَّرَةٌ بِكُمْ قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ

وَلاَ أَقْبَلُ تَقْدِمَةً مِنْ يَدِكُمْ. [10]

في صراحة كاملة يعلن الرب، إله الجنود: “ليست ليّ مسرة بكم”، مظهرًا أنه بالحب الذي أحبهم به يحب كل البشرية. وفي وضوح النهار يشرق بشمسه على كل الأمم التي تقدم بخورًا زكيًا لمجد اسمه القدوس.

ظن الكهنة أنهم يفتحون أبواب الهيكل ويوقدون المذبح، لكنهم إذ سلكوا كأجراء يطلبون النفع المادي لهم، جاءهم الصوت الإلهي: “ليست ليّ مسرة بكم“. ذاك الذي يحبهم مؤكدًا لهم: “أحببتكم” [2]. يقول لهم إنه ليس له مسرة بهم. أمر مؤسف للغاية! لم تعد لله مسرة في خدمة هؤلاء الكهنة الذين لا يمارسون العبادة إلاَّ من أجل الأجرة، فإن أغلقوا الباب أو أوقدوا نارًا أو مارسوا عملًا يطلبون أجرة! وكما جاء في إشعياء النبي: “والكلاب شرهة لا تعرف الشبع، وهم رعاة لا يعرفون الفهم، التفتوا جميعًا إلى طرقهم، كل واحدٍ إلى الربح القبيح” (إش 56: 11).

لقد سمح الله للذين يخدمون المذبح من المذبح يأكلون، والذين يخدمون الإنجيل من الإنجيل يأكلون (1 كو 9: 7-14)، لكنهم لا يعملون بغية الأجرة والربح القبيح.

يدعونا الله إلى مراجعة أعماقنا لنتلامس مع الدافع الخفي لعبادتنا له وخدمتنا وكرازتنا.

*    ملاخي، آخر كل الأنبياء يتحدث بكل صراحة عن رفض إسرائيل ودعوة الأمم[36].

 القديس جيروم

*    عاد اليهود من بابل، وأصلحوا المدينة، وأعادوا بناء الهيكل، وقدموا ذبائح. ولكن قبل كل شيء تنبأ ملاخي النبي عن حلول الخراب الحاضر ورجاسة الذبائح اليهودية[37].

*    ألاَّ ترون كيف أنه يوقف الطرق اليهودية ويبطلها وينشر طريق حياة الكنيسة ويعلن عن عبادتها؟[38]

القديس يوحنا الذهبي الفم

*    أنت أيها اليهودي لم تأتِ إلى ذبيحة طاهرة، أبرهن لك أنها غير طاهرة[39].

*    لماذا تحاولون أيها اليهود أن تشوهوا هذه الكلمات النبوية إلى معنى آخر حسبما يمليه قلبكم، فإنكم تقاومون ابن الله ضد خلاصكم… فإن بيت يعقوب أو إسرائيل هو ذات الشعب الذي دُعي وهو الذي طُرد – لم يُدعَ بخصوص البعض ويُطرد بخصوص آخرين، إنما البيت كله مدعو أن يسير في نور الرب… أما علة طرد البيت فلأن شعبه لم يسلك في نور الرب[40].

القديس أغسطينوس

*    إن كان إنسان ما سكيثيًّا أو فارسيًا، إن كانت له معرفة الله ومعرفة مسيحه، ويحفظ أحكام البٌر الأبدية، فهو مختون بالختان الصالح والنافع، ويكون صديقًا لله، ويفرح الله بعطاياه وتقدماته[41]…

 القديس يوستين الشهيد

لأَنَّهُ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا اسْمِي عَظِيمٌ بَيْنَ الأُمَمِ،

وَفِي كُلِّ مَكَانٍ يُقَرَّبُ لاِسْمِي بَخُورٌ وَتَقْدِمَةٌ طَاهِرَةٌ،

لأَنَّ اسْمِي عَظِيمٌ بَيْنَ الأُمَمِ قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. [11]

في العهد القديم كانت التسبحة: “الله معروف في يهوذا، اسمه عظيم في إسرائيل” (مز 76: 1) الآن صارت كل الأمم تمجده، من مشرق الشمس إلى مغربها.

*    الآن أعود إلى ملاخي؛ تنبأ هذا الإنسان عن الكنيسة التي امتدت بقوة المسيح واتسعت جدًا، فتحدث مع اليهود على لسان الله: “ليست ليّ مسرة بكم، قال رب الجنود، ولا أقبل تقدمة من يدكم، لأنه من مشرق الشمس إلى مغربها أسمي عظيم بين الأمم، وفي كل مكان يُقرب لاسمي بخور وتقدمة طاهرة، لأن اسمي عظيم بين الأمم قال رب الجنود” (مل 1: 10-11). الآن إن كنا نرى أنه في وقتنا هذا في كل مكانٍ من مشرق الشمس إلى مغربها تُقدم هذه الذبيحة التي على طقس ملكي صادق، وإن كان اليهود لا يقدرون على أي الأوضاع أن ينكروا أن ذبائحهم مرفوضة… فكيف يمكنهم أن يترقبوا مجيء مسيح آخر؟ إنهم يقرأون النبوة، ويرون تحقيقها أمام أعينهم. لماذا لا يستطيعون التحقق من أن من يُتمم هذا هو المسيح، حيث لا يقدر آخر سواه أن يفعل ذلك؟[42]

القديس أغسطينوس

*    إنه يتحدث عن هؤلاء الأمم، أي عنا نحن، الذين نقدم في كل موضع ذبائح له، أي خبز الإفخارستيا، وأيضًا كأس الإفخارستيا، مؤكدًا كل منهما أننا نمجد اسمه وأنتم تدنسونه[43].

*    أنبأ الله عن كل الذبائح التي نقدمها باسمه، والتي أمرنا يسوع المسيح أن نقدمها، أي إفخارستيا الخبز والكأس، والتي يقدمها المسيحيون في كل مكانٍ في العالم، تحمل شهادة أنها موضع سروره. لكنه يرفض تمامًا ما تقدمونه وما يقدمه كهنتكم[44].

القديس يوستين الشهيد

*    سأل ابنه وحيد الجنس، خالق كل الأشياء، مشيره، أن ينزل من السماء، ويحول الإيمان المقدس بالله إلى الأمم، أي إلى أولئك الذين كانوا يجهلون الله، وأن يعلمهم البٌر الذي طرحه عنهم الشعب الغادر. وقد سبق من مدة طويلة أن هددهم أنه يفعل هذا، كما يُظهر ملاخي[45].

لاكتانتيوس

*    تُشير هذه الكلمات بطريقة واضحة أن الشعب السابق [اليهود] يوقفون التقدمات لله، ولكن في كل موضع تُقدم له ذبيحة طاهرة، ويتمجد اسمه بين الأمم[46].

القديس إيرينيؤس

*    عوض الذبيحة الدموية يعين ذبيحة سرية عقلية غير دموية هذه التي لجسده ودمه، هذه التي تتحقق لتمثل موت الرب… عوض الخدمة الإلهية المحددة بمكانٍ واحدِ، يأمر ويعين أن يُمجٌد من المشارق إلى المغارب في كل موضع لسلطانه (مز 13: 3، مل 1: 11). بهذا لم يبطل الناموس بل أبطل القيود[47].

الدسقولية

*    لدى عودة إبراهيم من كسر أعدائه، استقبله ملكي صادق، كاهن الله العليّ بخبزٍ وخمرٍ. وكانت تلك المائدة قد سبقت وصَّورت المائدة السرية هذه. كما أن ذاك الكاهن كان رمزًا وصورة للمسيح الكاهن الأعظم الحقيقي، لأن النبي يقول: “أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق” (مز 109 “110”: 4). وخبزات التقدمة التي كانت صورة لهذا الخبز، هذه هي إذا الذبيحة الطاهرة أي غير الدموية التي تكلم عنها الرب بلسان النبيّ: إنها تُقِّرب له من مشارق الشمس إلى مغاربها” (مل 1: 11)[48].

 الأب يوحنا الدمشقي

*    الآن بخصوص الموضع، ليُعرف أن كل موضع مناسب للصلاة إن كان الإنسان يُصلي حسنًا! لأنه يقول الرب: “في كل مكان يُقَّرب لاسمي بخور” (مل 1: 11)، “أُريد أن يُصلي الرجال في كل مكان” (1 تي 2: 8). ولكن ليكن لكل واحدٍ – إن كنت أصيغها هكذا – إن أمكن موضع مقدس مختار في بيته لإتمام صلواته في هدوء بلا تشتت[49].

العلامة أوريجينوس

*    بالتأكيد، يُعطي الرب سلطانًا للصلاة في كل موضع، بالكلمات: “يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة، لا في هذا الجبل ولا في أورشليم، تسجدون للآب” (يو 4: 21). وكلمات الرسول شرعية (2 تي 2: 8). فان كلمة “كل” لا تشمل أماكن مخصصة لاستخدامٍ بشريٍ أو لأعمال دنسة معيبة، إنما تنزع الحدود في أورشليم إلى أماكن أخرى في العالم مخصصة كما يليق (للعبادة)، تتناغم مع النبوة عن الذبيحة (مل 1: 11).

إنها تكرس لله من أجل الاحتفال بالسرّ المجيد[50].

القديس باسيليوس الكبير

*    لما كان الختان والغرلة ينتميان إلى الله الواحد، فكلاهما قد بطلا في المسيح من أجل الأولوية التي أُعطيت للإيمان. هذا هو الإيمان الذي كُتب عنه أن الأمم سيؤمنون باسمه (اش 42: 4، مت 12: 21)[51].

العلامة ترتليان

*    إذ جاء الابن الوحيد صار اسمه عجيبًا في كل مكان… يقول كاتب آخر: العالم كله يمتلئ من معرفة الرب (إش 11: 9)[52].

*    متى حدث هذا تعتقدون أيها اليهود؟ متى قُدم بخور لله في كل موضع؟ متى قُدمت تقدمة طاهرة؟ إنكم لا تستطيعون الإشارة إلى وقت آخر سوى ما بعد مجيء المسيح. افترضوا أن ملاخي لم يتحدث عن عصرنا، افترضوا أنه لم يتحدث عن ذبيحتنا بل عن الذبيحة اليهودية، لكانت نبوته مضادة للناموس. فقد منع موسى اليهود من تقديم ذبيحتهم في موضعٍ آخر سوى ذاك الذي اختاره الرب الإله، فقد حدد ذبائحهم بمكانٍ واحدٍ معين. فإن كان ملاخي قال بأن الذبائح تقدم في كل موضع، وأن تكون ذبيحة طاهرة، فهو يناقض ويضاد ما قاله موسى[53].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*    إنه يتحدث عن هؤلاء الأمم، أي عنا نحن، الذين في كل مكان نقدم له ذبائح، أي خبز الإفخارستيا، وأيضًا كأس الإفخارستيا، مؤكدًا أننا نمجد اسمه هذا الذي أنتم (اليهود) تدنسونه[54].

القديس يوستين الشهيد

*     سبق فأخبر النبي ملاخي أحد الاثني عشر: “ليست ليّ مسرة بكم قال الرب القدير، ولا أقبل تقدمه من يدكم، لأنه من مشرق الشمس إلى مغربها اسميّ عظيم بين الأمم، وفي كل مكان يُقرب لاسمي بخور وتقدمه طاهرة، لأن اسمي عظيم بين الأمم “(مل 1: 10-11). تُشير هذه الكلمات بطريقة واضحة أن الشعب القديم (اليهود) سيتوقفون عن تقديم التقدمات لله. وإنما في كل موضع ستقدم إليه ذبيحة طاهرة، وأن اسمه سيتمجد بين الأمم. ولكن أي اسم لآخر يتمجد بين الأمم مثل ذاك الذي لربنا، الذي به يتمجد الآب والإنسان أيضًا؟ ولأن هذا هو اسم ابنه الذي صار جسدًا بواسطته لذا يدعوه “اسمه”[55].

القديس ايريناؤس

*    إنه الآن هو ذاك الوقت الذي فيه الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب لا في أورشليم ولا على جبل جرزيم بل بالروح والحق (يو 4: 20- 23). لذلك فإن الله يسكن في القلب. فإن كنتم تبحثون عن موضع الله، فإن القلب النقي هو موضعه، إذ يقول بالنبي: “أسكن فيهم، ويكونون شعبي، وأنا أكون لهم إلههم، يقول الرب” (2 كو 6: 16؛ لا 26: 12)[56].

العلامة أوريجينوس

*    الآن قد تبرهن بالأسفار المقدسة أن اليهود فقدوا الميراث، لأنهم رفضوا المسيح، ونحن الذين من الأمم أخذنا موضعهم. يقول إرميا: “قد تركت بيتي، ورفضت ميراثي، ودفعت حبيبة نفسي ليد أعدائها، صار ليّ ميراثي كأسدٍ في الوعر، نطق عليّ بصوته، من أجل ذلك أبغضته” (إر 12: 7-8). وأيضًا ملاخي: “ليست ليّ مسرة بكم، قال الرب، ولا أقبل تقدمه من يدكم، لأنه من مشرق الشمس إلى مغربها اسمي عظيم بين الأمم” (مل 1: 10-11). أيضًا يقول إشعياء: “أجيء لجمع كل الأمم والألسنة، فيأتون ويرون مجدي” (إش 66: 18).

ويقول هو نفسه في موضع آخر في شخص الآب للابن: “أنا الرب قد دعوتك بالبرّ فأمسك بيدك، وأحفظك، وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم، لتفتح عيون العمي، لتخرُج من الحبس المأسورين من بيت السجن، الجالسين في الظلمة” (إش 42: 6-7)[57].

لاكتانتيوس

*    في يوم الرب، اجتمعوا معًا لتكسروا الخبز وتشكروا، لكن أولًا اعترفوا بخطاياكم لكي تكون ذبيحتكم طاهرة.

على أي الأحوال، من كان على خلافٍ مع أخيه، فلا يشترك في اجتماعكم قبل أن يتصالح، فلا تكون ذبيحتكم دنسة.

لأنه هذا ما قاله الرب، “في كل مكانٍ، وفي كل زمانٍ، تقرب لاسمي تقدمة طاهرة، لأني ملك عظيم، يقول الرب، واسمي مهيب بين الأمم” (مل 1: 11)[58].

الديداكية

5. تقدمة معيبة:

أَمَّا أَنْتُمْ فَمُنَجِّسُوهُ بِقَوْلِكُمْ: إِنَّ مَائِدَةَ الرَّبِّ تَنَجَّسَتْ،

وَثَمَرَتَهَا مُحْتَقَرٌ طَعَأمُهَا. [12]

إنه يُجدد الاتهام الخطير الذي سبق فوجهه إليهم في الآية 7. إذ انتهكوا المقدسات الإلهية والعبادة، فلا نعجب إن كان الله يطردهم من أمامه. لقد قالوا لا بأفواههم، بل بتصرفاتهم، إن مائدة الرب تنجست، فإنهم لم يقودوا الشعب إلى تكريم المذبح وتقديم أفخر ما لديهم لله، فصاروا كارزين بالاستخفاف بهيكل الرب ومذبحه.

وَقُلْتُمْ: مَا هَذِهِ الْمَشَقَّةُ؟

وَتَأَفَّفْتُمْ عَلَيْهِ قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ،

وَجِئْتُمْ بِالْمُغْتَصَبِ وَالأَعْرَجِ وَالسَّقِيمِ فَأَتَيْتُمْ بِالتَّقْدِمَةِ.

فَهَلْ أَقْبَلُهَا مِنْ يَدِكُمْ؟ قَالَ الرَّبُّ. [13]

الاتهام الثاني الموجه إلى الكهنة أنهم ظنوا أن مهمتهم ثقيلة وشاقة جدًا، فكانوا يتممونها بروح التذمر. لهذا يُعاتب الرب شعبه في ميخا: “بماذا أضجرتك؟” (مي 6: 3)، وفي إشعياء يقول: “لم استخدمك بتقدمةٍ، ولا أتعبتك بلبانٍ، لم تشترِ ليّ بفضةٍ قصبًا، وبشحم ذبائحك لم تروني” (إش 43: 23-24).

الله لا يطلب التقدمة بل يطلب مقدم التقدمة نفسه. “يا ابني اعطني قلبك، ولتلاحظ عيناك طرقي” (أم 26: 23).

العبادة غير الطاهرة تتحول من الشعور باللذة والعذوبة في الشركة مع الله إلى مشقةٍ وتعبٍ ومللٍ، حيث يتأفف الإنسان، وينتفخ بعبادته عوض التمتع بالتواضع. بهذا يشعر الإنسان بالتعب والملل حتى في صلواته الجماعية أو الشخصية أو أصوامه أو عطائه بصورة أو أخرى.

وَمَلْعُونٌ الْمَاكِرُ الَّذِي يُوجَدُ فِي قَطِيعِهِ ذَكَرٌ

وَيَنْذُرُ وَيَذْبَحُ لِلسَّيِّدِ عَائِبًا.

لأَنِّي أَنَا مَلِكٌ عَظِيمٌ قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ

وَاسْمِي مَهِيبٌ بَيْنَ الأُمَمِ. [14]

إنهم يقدمون ذبائح معيبة، لا لعدم وجود ذبائح لائقة، وإنما عن استخفاف واستهانة بالعبادة لله. لديهم أفضل القطعان، وما يصلح لخدمة الله وإكرامه، لكنهم قدموا أسوأ ما لديهم. يحاولون تقديم مبررات بشرية بمكرٍ لتقديم ذبائح معيبة. فيدعون أنهم يكرمون الله بينما هم يسيئون إليه.

بمكرهم سقطوا تحت اللعنة عوض تمتعهم بالبركات السماوية، إذ يقول عنهم: “ملعون الماكر“.

يوبخ كهنته وشعبه أنهم سلكوا بصورة لم يسلكها الوثنيون، فإن اسمه عظيم ومهوب بين الأمم، بينما استخف اليهود وكهنتهم باسمه وهيكله وذبائحه. وكما يقول المرتل: “يا جميع الأمم صفقوا بالأيادي… لأن الرب عليُّ مخوف، ملك كبير على الأرض” (مز 47: 1-2).

*    لا يكفيه أن تكون أمة واحدة خاضعة له، فقد قدم ثمنًا عظيمًا خرج من جنبه لكي يشتري العالم كله[59].

القديس أغسطينوس

من وحي ملاخي 1

قدسني، فأقدم لك ذبيحة مقدسة!

 

*    صوتك يدوي في أعماق قلبي:

أحببتك، واخترتك ابنًا ليّ.

فديتك بدمي لتنعم بشركة أمجادي!

*    اخترتني قبل أن تخلقني،

عرفتني قبل أن أوجد،

أعددت ليّ مجدًا وأنا بعد كنت عدمًا.

ماذا أرُد لك يا من تبادرني بحبك؟

*    انزع عني كل كبرياءٍ ورياءٍ،

فإنني لن أتبرر أمامك.

أخطأت إذ لم أكرمك كأبٍ،

ولا خشيتك كسيدٍ ليّ.

ألهب قلبي بنار حبك،

وسمّر خوفك في داخلي.

*    في غباوة احتقرت اسمك،

وقدمت ذبائح نجسة،

إذ لم أقدم لك بكور وقتي،

ولم أعطِ الأولوية للقاء معك.

انشغلت بالزمنيات كأنها أبديات،

وتجاهلت أبديتي كأنها وهم وخيال.

أسأت إلى طول أناتك،

يا من تنتظر رجوعي إليك.

*    أخطأت، إذ كثيرًا ما انشغلت بالشكليات،

وحسبت العبادة لك واجبًا ثقيلًا.

أشرق على قلبي فيلتصق بك.

وليعمل روحك القدوس فيّ، فأسلك دومًا بالروح.

*    كثيرًا ما تقدمت إليك كأعرجٍ،

أعَّرج بين الطريقين.

احملني إليك وفيك يا أيها الطريق الحق.

انزع كل سقمٍ من نفسي يا أيها الطبيب السماوي.

ارفع وجهي إليك،

فاحسب كل شيء نفاية من أجلك!

*    لتشرق عليّ يا شمس البرّ كما على إخوتي،

فيستنير العالم كله بنورك.

ويقَّرب الجميع لاسمك بخورًا طاهرًا.

ويتمتع الكل بذبيحة جسدك ودمك المبذولين،

ويتمجد اسمك في كل إنسانٍ!

*    لتحول العالم كله إلى مقدسٍ لك،

ويتمتع الكل بالشركة معك،

ويقدم الكل ذبيحة طاهرة مقدسة،

حيث يلتصق الكل بذبيحة صليبك.

وتملك أيها الملك السماوي على كل بشرٍ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى