تفسير إنجيل مرقس الأصحاح 1 – ج1 للأب متى المسكين


مقدمة الإنجيل [1:1-13]

يبدأ القديس مرقس إنجيله بما يشبه المقدمة، فبعد الآية الاولى التي يُعنون بها الكتاب واسمه وصاحبه: “إبحيل يسوع المسيح ابن الله ” يدخل القارئ في بانوراما – أي في منظر أو مشهد متسع – يظهر فيه يوحنا المعمدان على شاطى الاردن ينادي ببوق النبؤة بصرخ تُردد أصداءه البرية فتتجاوبه السماء: أن قد بدأ العهد الجديد.

ومدخل القديس مرقس للقارئ مدخل طقسي بالدرجة الاولى، بديع محبب للكنيسة وعماد تقليدها الأول. إذ يبدأ بعهد المعمودية بالماء كأساس لاهوتي للتوبة، ولكن توبة جديدة تعني الكف عن عبادة الأصنام ونجاساتها، والأصنام ألوان، وذلك ليؤهَّل الإنسان للدخول في عهد النعمة واتباع الرب.

ثم يرتفع المنظر فجأة بظهور المسيح نفسه قادماً ليعتمد من يوحنا في الأردن، إحراج ما بعده إحراج! ولكن يرتفع الحرج وينكشف الإلتباس، فمن يعتمد على يد من؟ حينما يعرف القارئ أن المسيح الحامل البشرية في ذاته، قادم ليعتمد بها كلاً وفرداً بصفته ابن الله وابن الإنسان الذي آل على نفسه أن يجدد لله خلقة إنسانية جديدة تعبده بالروح والحق. وسرعان ما يختفي هذا المنظر بكامله، وتنطفى أضواؤه الوهاجة ومعانيه المترامية، ليسلط الضو على المسيح وحده وهو منطلق بعد أن امتلا بالروح ليواجه عدو البشرية الأول الذي أسقط رأس جنسنا واحدره إلى الأرض، وقد ربح لنفسه اللعنة بسبب التعدي على أوامر الله. وهناك على جبل التجرية تمت أول صفعة للشيطان على مستوى القوي عندما يواجه الأقوى. فكانت الكسرة الأولى، أما الثانية فتأجلت إلى الصليب.

والقديس مرقس يقدم هذه الآيات الثلاث عشرة كمقدمة هامة للدخول في خدمة المسيح في منطقة الجليل، وهو بهذا إنما يتبع تقليد الكنيسة الذي يعتبر أن خدمة المسيح إنما تبدأ من المعمودية، حسب سفر الأعمال الذي يقول: «فينبغي أن الرجال الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذي فيه دخل إلينا الرب يسوع وخرج، منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنَّا» (أع 1: 22,21). والقديس مرقس هذا إنما يحضَّر القارئ لفهم قصة المسيح بكاملها، ولكن لينتبه القارئ إلى تعليم ق. مرقس فهو إنما يطبع ذهن القارئ منذ البدء بالطابع اللاهوتي ليبلغ في النهاية إلى قامة المسيح. إنما يكتفى هنا أن يعطى كيف بدأت الأخبار السارة أي الإنجبل.


1:1 «بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله».

«إنجيل»:

إن المقدمة التي وضعها ق. مرقس لإنجيله بحسب كلمة «إنجيل» – التي استخدمها ق. مرقس وكان أول من استخدمها في العهد الجديد، وقد وردت في إنجيله سبع مرات، وكلها جاءت على لسان المسيح ماعدا (14,1:1) – تفيد عرضاً لحياة المسيح وأعماله، وهذا بعينه تعليمه المكني عنه بالبشارة المفرحة التي دخلت قلب العالم بعد عصور العهد القديم المملة بظلامها القاتم، وبعد صمت الله وعزوفه عن التكلم بفم الأنبياء قرابة 400 سنة من ملاخي النبي حتى المعمدان.

وقول الإنجيل عن يسوع إنه «المسيح ابن الله» يقدم أول اسم ليسوع ورد بالكامل على مستوى الإعلان عن شخصه في إنجيل ق. مرقس، وهو خلاصة تحقيق الإنجيل كله أو حياة المسيح برمتها. ويا لفرحة قلوبنا أن نستقبل بداية إنجيل ق. مرقس بالإعلان عن قمة استعلان يسوع أنه هو “المسيا” الذي بالضرورة يكون هو ابن الله. والإنجيل عند ق. مرقس هو التعبير عن شخص المسيح.

وقد جا هنا في الآية الاولى اللقبان: “الإنجيل” و”يسوع” في محتوى واحد على مستوى «من يُهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل» (مر 35:8)، وأيضا في موضع آخر: «لأجلي ولأجل الإنجيل» (مر 29:10). وهكذا يكرر ق. مرقس التساوي في المضمون الاستعلاني بـين الإنجيل والمسيح. فالإنجيل عند ق. مرقس هو قوة الخلاص الذي في المسيح يسوع. وهذه لمحة بديعة عن أيديولوجية ق. مرقس أو نظريته التعليمية. فالقديس مرقس معلم إنجيلي.

علما بأن ق. مرقس هو أول من ألف كتاباً يحمل سيرة المسيح وأعماله وأسماه “الإنجيل” !! وطرحه للكنيسة لتبشر به عن الخلاص، ليس لكنيسة روما كما يقول بعض العلماء المتحيزين لبطرس الرسول، بل لكنيسة الأمم التي خدمها مع بولس الرسول وأتقن خدمتها باعتراف بولس الرسول نفسه «لأنه نافع لي للخدمة» (2تي 11:4). وكما ختم ق. بولس رسالته بالدم هكذا ختم مرقس الرسول شهادته بالدم على أرض مصر بعد أن أنشأ فيها أول كنيسة وبذرة أول مدرسة لاهوت في العا لم.

وفي البداية يلزم أن نعرف أن ق. متى بدأ إنجيله بسلسلة نسب المسيح كيهودي يجري وراء الأنساب والأسباط وبعدها ميلاد المسيح. ثم نجد ق. لوقا يبدأ بسيرة الأب والأم للمعمدان وميلاده كسابق للمسيح، وذلك كمؤزح وطبيب. أما ق. يوحنا فيبدأ إنجيله في سابق وجود المسيا ككلمة الله بصفته الرائى المهتم بالروح. أما قديسنا مرقس الرسول فنراه هنا يبدأ مباشرة بالخدمة الشعبية للمعمدان كون ق. مرقس معلماً إنجيلياً والمهتم بتقليد الكنيسة. ويؤكد العالم المشهور سبتا Spitta أن هناك صفحات ضائعة من مقدمة إنجيل ق. مرقس تحتوي قصة ميلاد المسيح، ولكن هذا التأكيد غير مأخوذ به.


ظهور المعمدان ورسالته بحسب النبوات كسابق للمسيح والذي يعد الطريق قدامه [1: 2-8]

يفتتح ق. مرقس إنجيله، كما قلنا، بمشهد تاريخي يظهر فيه يوحنا المعمدان معلناً عن مجيء من هو أقوى منه. ولكن ق. مرقس لم يقحمه على مسرح الحوادث فجأة، بل مهد له بما جاء عنه في النبوات خاصة ما جا في (مل 1:3): «ها أنذا ارسل ملاكي فيهيئ الطريق أمامي ويأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تسرون به، هوذا يأتي قال رب الجنود» اما “ملاكي الذي يهئ الطريق” فيصفه إشعياء النبي هكذا:
+«صوث صارخ في البرية أعدوا طريق الرب. قؤموا في القفر سبيلاً لإلهنا. كل وطاءٍ يرتفع وكل جبل وأكمة ينخفض ويصير المعوج مستقيماً والعراقيب سهلاً. فيُعلن مجد الرب ويراه كل بشر جميعاً لأن فم الرب تكلم.» (إش 40: 3- 5).

وهكدا يتضح أن ق. مرقس جمع نبؤة ملاخي النبي من الأصل العبري (1:3) على نبؤة إشعياء النبي لأنهما فعلاً يكملان ما حدث بالفعل على يد المعمدان، ويزداد حبك إنجيل ق. مرقس واقعية ووضوحاً إذا أضفنا ما جاء في نبؤة ملاخي أيضا هكذا:

+«هأنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب، اليوم العظيم والمخوف. فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم لئلا آتي وأضرب الأرض بلعنٍ.)» (مل 4: 5, 6).

ويصف ق. مرقس الملابس التي يلبسها المعمدان وإذ هي لباس نبي الصحراء إيليا، كما جاه في (2مل 8:1) هكذا، لمما سأل أخزيا الملك عن شكل ذلك النبي (إيليا): «فقالوا له إنه رجال أشعر متمنطق بمنطقة من جلد على حقويه. فقال: هو إيليا التشبي» ويبدو أن هذه النبوات لم تكن خافية على ق. مرقس وكل الذين استقبلوا علامات العهد.

أما إرسالية المعمدان فكانت هي التوبة تماماً كما وصفها ملاخي النبي في آخر نبوته: فإما التوبة ومصالحة قلوب الآباء على الأبناء وقلوب الأبناء على الآباء وإلا آتي وأضرب الأرض باللعن! وتسجيل ق. مرقس لمدى عمل المعمدان في خدمة التوبة بالمعمودية لمغفرة الخطايا، كونها شملت كورة اليهودية وأهل أورشليم، يكون قد حصر دعوة التوبة في كل إسرائيل أي جميع الشعب.

ويخصص ق. مرقس التوبة على يدي المعمدان بالمعمودية بالماء لتسبق معمودية الآتي بعده، الذي قال عنه المعمدان إنه ليس أهلاً أن ينحني ويحل سيور حذائه، الذي سيعمد بالروح القادس.

ويلاحظ في ذكر إنجيل ق. مرقس كلمة تهيئة الطريق، أنها جاءت في ملاخي «يهييء الطريق أمامي ، فحولها ق. مرقس بذكاء نادر لتُقرأ: «يهيىء طريقك قدًّامك» منبها بقوة أن الرب في العهد القديم قد استعلن الآن بيسوع المسيح في العهد الجديد.

وهكذا وبظهور الروح القدس حالاًّ على المسيح[1]  في نظر المعمدان يكون قد تم الوعد بيوئيل النبي القائل: «ويكون بعد ذلك أن أسكب روحي على كل بشر … وعلى العبيد أيضاً وعلى الإماء أسكب روحي في تلك الأيام» (يؤ 2: 29,28). لأن المعمودية بالروح القدس هي بعينها انسكاب الروح القدس على الإنسان.

2:1 «كما هو مكتوب في الأنبياء: ها أنا أُرسك أمام وجهك ملاكى، الذي يُهيئ طريقك قدامك».

«كما هو مكتوب في الأنبياء»:
«كما»: 
كلمة «كما» (كاثوس باليونانية) تأتي دائماً في محاولة اقتباس قول عن صحة وتأكيد، والقديس مرقس هو الوحيد الذي يكرر بكثرة هذا الاصطلاح: «كما هو مكتوب» (2:1 و6:7 ,13:9 و21:14). أما تكملة القول: «كما هو مكتوب في الأنبياء» فهو تعديل قديم في أصل الآية: «هو مكتوب فى إشعياء» لأن النص مأخوذ أيضاً في بدايته من (ملاخي 3:1). والقصد من هذه البداية هو الاستشهاد بالأنبياء عن صحة خدمة المعمدان ووعظه كتتميم النبؤة، وبالتالي فهذا يتسحب بالضرورة على صحة بدء خدمة يسوع باعتباره مسيَّا الموعود به.

«ها أنذا أرسل أمام وجهك ملاكي»:

الله هنا هو المتكلم على فم النبي، وكلمة “الملاك” في إنجيل ق. مرقس، وخاصة في هذه الآية، تجئ بمعنى رسول من الله. ولكن نعود ونقابلها في (13:1) بمعنى ملائكة الله. والملاك هنا يقصد به أنه مرسل خاص من الله، وهكذا عبر المسيح في سؤاله للكتبة والفريسيين: «معمودية يوحنا من السماء كانت أم من الناس؟» (مر 30:11)، معنى أن المسيح يؤكد أن المعمدان أخذ رسالته كرسول من الله – لذلك نجد في التقليد التصويري الطقسي أن بعض الفنانين الكنسيين يرسمون يوحنا المعمدان كشخص بأجنحة وكأنه ملاك فعلاً مرسل من السماء.

«أمام وجهك»
كلمة “الوجه تعني: “الظهور الإلهي” أو الحضرة”. وتعني باللغة اللاتينية: “الشخص persona”. ويلزم هنا أن نقرر أن ق. مرقس أتى بهذه الجملة معبراً عن أصل معناها الخفي الخاص بمجئ المسيا، علماً بأن كلمة “بروسبون = وجه” استخدمت في اللاهوت بمعنى: “أقنوم”، وهي الكلمة السريانية المساوية “للشخص”، ولكنها تعني الشخص في معناه العالي أو الرفيع جداً. لذلك نحت منها الكتَّاب المتملقون كلمة “وجيه” بمعنى شخص ذي حضرة سامية، وحتى في اللغة العادية يقال: “حضرة” فلان تكريماً لشخصه.

«يهيى طريقك قدامك»:

أصلها في النص في نبؤة ملاخي هكذا: «يهيئ الطريق أمامي» باعتبار أن المتكلم هو الله يهوه، ولكن ق. مرقس وجهها لمخاطبة “المسيح” مباشرة بقوله: «يهيى طريقك قدامك». وهذا يظهر مدى السهولة والتعود الذي اعتاد الإنجيليون لنسب كل ما ليهوه للمسيح بلا حذر. فالكلام في سفري إشعياء وملاخي موجه ليهوه نفسه، وهنا الكلام موجه لابنه!! متأثرا بواقع مجئ المسيح فعلاً وظهوره، وأن يوحنا المعمدان قائم بالإعداد للطريق فعلاً. حيث بدأ المعمدان يعظ الشعب ويوبخه على خطاياه لكي يعترف بها ويعتمد للتوبة لمغفرة خطاياه.

3:1 «صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب، اصنعوا سبله مستقيمة»

وهذه الآية هي تقريباً بنصها من إشعياء النبي (3:40): «صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب قوموا في القفر سبيلاً لإلهنا» والعبارة الأخيرة جاءت في السبعينية: «اصنعوا سبل إلهنا مستقيمة» ولكن يحاول هنا ق. مرقس أن يضعها في موضعها الماسياني الحادث على يدي المعمدان، فبدلاً من « اصنعوا سبل إلهنا مستقيمة» في السبعينية، قالها ق. مرقس: «اصنعوا سبله مستقيمة» حيث كلمة «إلهنا »هو المسيح هنا. وواضح هنا مناسبة كلمة الإعداد والتقويم بالنسبة لكلمة «القفر» و «البرية» فسواء في نظر النبي قديماً أو ق. مرقس حديثاً، يعتبر وضع العالم بالنسبة لمجيء المسيح قفراً قاحلاً ماحلاً. والمعمدان يصنع طريقاً لا بمعاول الهدم بل بالصراخ والتعليم في شعب أصم قفل أذنيه لكي لا يسمع، وبالغسيل والتطهير من أعمال فاحشة وعقول مرذولة.

ف‘‘ الصراخ ’’ يجيء في عبارة «صوت صارخ » على مستوى طبقة الصوت التي صرح بها المسيح على الصليب: «صرخ بصوت عظیم» (مر 37:15)، فهو نفس المصطلح «fwn وهكذا ابتدأ إنجيل ق. مرقس وانتهى بالصراخ، صراخ المعمدان في البرية وصراخ المسيح على الصليب. وبهذا ابتدأت البشارة وبهذا انتهت، بالصراخ، لتستيقظ البشرية النائمة واللاهية. وكما جاء المعمدان من الله ‘‘ليعد مكاناً للمسيح وسط العالم، هكذا جاء المسيح ليعد لنا” مكاناً في السماء: «أنا أمضي لأعد لكم مكاناً» (يو 2:14). ومن كثرة الصراخ في إنجيل في. مرقس رسموا القديس مرقس وبجواره أسد!

4:1 «كان يوحنّا يعمد في البرية ويكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا».

«يوحنا المعمدان»:

جاء اسمه في إنجيل ق. مرقس 16 مرة، وق. مرقس كان متأثراً بيوحنا المعمدان وخدمته. لم يلتفت إلى قصة ميلاده العجيبة من أليصابات العاقر وزوجها الشيخ. فهي ولو أنها أقل إعجازاً بغير مقارنة بالنسبة لميلاد المسيح، إلا أن الملاك في رواية ق. لوقا ذكرها كمعجزة إذ اعتبرها تصلح لإقناع العذراء بقدرة الله على المستحيل. فيوحنا ظهر في التاريخ المسيحي جزءاً من معجزة تسخير المستحيلات لظهور العهد الجديد، فكما كان يوحنا سابقاً لخدمة الرب جاء أيضاً سابقاً في الميلاد والكرازة لقرب الملكوت . لهذا لم يكن القديس مرقس مبالغاً في جعـل خدمة المعمدان وصراخه في الشعب بقرب ملكوت السموات بداية لإنجيل يسوع المسيح ابن الله! فصراخ المعمدان في برية الأردن ـ وهو الأمر الذي سمعته كــــــــل اليهوديــة وجميـع أورشـليم وكل الكـورة المحيطــة بــــالأردن، كـل فئات شعب إسرائيل ـ هو هو بدء حقيقي للبشارة المفرحة بالعهد الجديد، وقد قبله وانصاع له كل الشعب واعتمد، إلا الكتبة والفريسيون ومعهم الكهنة ورؤساؤهم الذين احتجوا عليه: «فما بالك تعمد »(يو 25:1)، فخاطبهم المعمدان ساخراً منهم لما رأى كثيراً منهم يقبلون إليه عن غير إيمان وعقيدة: « يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي، فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة، ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أباً، لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم» (مت 3: 9-7). وهو نفس ما قاله المسيح لهـم لما أرادوا أن يمنعوا الأطفال أن يسبحوا ويهللوا عنـد دخوله إلى أورشليم (لو 40:19). وكانت عين المعمدان مفتوحة فرأت مقدماً. القادم عنـد رفضهم للمسيح: «والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر (ادعاؤهم أنهم طبقة الأساس في شعب إسرائيل) فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار» (مت 10:3). ويعود المعمدان يقارن النسبة والعلاقة والمستوى الإلهي بين معموديته بالماء ومعمودية المسيح بالروح القدس، فالماء يغسل كمجرد إعداد، أما الروح القدس فهـو نـار يطهر إلى درجة الإحراق ويضيء ليعلن النقاء، يبيد الإثم ويجلي البر:

+ «أنا أعمدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلا أن أحمل حذاءه. هو سيعمدكم بالروح القدس “ونار”. الذي رفشه في يده، وسينقي بيدره، ويجمع قمحه إلى المخزن، وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ.» (مت 3: 11و12)

ومن هذا نرى أنه في الوقت الذي فيه معمودية الماء للتوبة لا ترتقي بصاحبها إلى شيء من البر أو أن الذي اعتمد بالروح القدس ينال بر المسيح ونعمة الله، ويرقى حتى إلى الشركة مع المسيح ومن النعمة، نرى والجلوس معه عن يمين الآب.

وحينما أعطي للمعمدان فرصة ليتكلم عن نفسه في إنجيل ق. يوحنا ـ علماً بأن ق. يوحنـا كـان – تلميذاً للمعمدان سابقاً وسمع وشاهد – قال:
«وأنا لم أكن أعرفه، لكن ليظهر لإسرائيل لذلك جئت أعمد بالماء.» (يو 31:1)

+ ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص. الذي يأتي من فوق (المسيح) هو فوق الجميع، والذي من الأرض هو أرضي، ومن الأرض يتكلم. الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع، وما رآه وسمعه به يشهد … لأن الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله. لأنه ليس بكيل يعطي الله الروح.» (يو 3: 30-32 و34)

وعندما أعطي للمسيح فرصة في إنجيل القديس متى ليتكلم عن المعمدان قال:

+ «ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبة تحركها الريح؟ لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ أإنساناً لابساً ثياباً ناعمة؟ هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هُم في بيوت الملوك. لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبيا؟ نعم أقول لكم، وأفضل من نبي. فإن هذا هو الذي كتب عنه: ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك. الحق أقول لكم: لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظـم منه. ومن أيام يوحنا المعمدان إلى الآن ملكوت السموات يغصب، والغاصبون يختطفونه. لأن جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنـا تنبأوا. وإن أردتم أن تقبلوا، فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي. من له أذنان للسمع فليسمع.» (مت11: 7-15.

وفي إنجيل القديس يوحنا قال:

+ «كان هو السراج الموقد المنير وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة.» (يو 35:5)

يوحنا المعمدان ومعمودية التوبة لمغفرة الخطايا :

 لقد اقتبل المسيح الرب الإله معمودية التوبة لمغفرة الخطايا تحت يد المعمدان، بصفته حامل البشرية وهو القدوس الذي لم يقترف خطية ولم يكن في فمه غش. والمسيح ضمّ في تعليمه عن الملكوت عماد الماء للتوبة مع عماد الروح القدس من السماء، في قوله لنيقوديموس عن ميلاد الإنسان الجديد هكذا: الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله» (يو 5:3). هنا جمع المسيح طقس المعمدان وهـو التعميـد بالماء وأكمله بالعماد . مـن فـوق مـن بالروح!!

ولا يمكن أن يغيب عن بالنا ما حدث على الصليب حينما خرج من جنب المسيح – بحسب رواية ق. يوحنا وشهادته ـ لما طعنه الجندي في جنبه بالحربة، كيف خرج من الجنب المقدس للجسد «دم وماء» (يو 34:19)، حيث الماء هنا كناية عن المعمودية تحقيقاً عجيباً سرياً للخليقة الجديدة التي خرجت من جنبه، بشبه حواء التي خرجت من جنب آدم، حيث عرف يقيناً أنها الكنيسة «أم كل حي » وكما خرجت حواء وآدم واقع في سبات عميق، هكذا خرجت الكنيسة من جنب المسيح وهو كان قد أسلم الروح ودخل في سبات الموت الإرادي. أما الدم فهو كناية عن الفداء وأما الماء فهو المعمودية

وقد صح قول المعمدان: «أنا عمدتكم بالماء وأما هو فسيعمدكم بالروح القدس.» (مر 8:1)

القيمة اللاهوتية للعماد بالماء:

لابد أولاً أن تخضع لسؤال المسيح: «معمودية يوحنا من السماء كانت أم من الناس؟ أجيبوني؟ »(مر 30:11). ويكفي أن يكون المسيح اعتمد من يديه كبرهان إلهي أن معمودية يوحنا كانت من السماء، وأن معموديته كانت ذات فعل وسلطان إلهي لقبول توبة المعترفين بخطاياهم على يديه. 

 القيمة اللاهوتية لمغفرة الخطايا بالعماد بالماء والتوبة:

 هنا تتوقف القيمة اللاهوتية لمغفرة الخطايا على معنى التوبة لاهوتياً أولاً. فالتوبة تعني تغيير الفكر، وإن تمادينا في معناها فهي تعني تغييراً في السلوك. فلو عرفنا أن المعمدان أرسله الله لتنبيه الشعب بمجيء المسيا الذي بواسطته يتم العهد الجديد بين الله والشعب، العهد الذي يقوم على مأساة صلب الابن وسفك دمه كذبيحة كفارة لغفران خطايا الشعب، إذا فهمنا ذلك أدركنا بغير أي مجال للشك أن التوبة على يدي المعمدان وغفران الخطايا كانت تمهيدية تؤهل الشعب للدخول – مجرد الدخول – في مجال عمل الابن الكفاري لنوال مغفرة الخطايا بالدم.

إذن، فالتوبة على يدي المعمدان والتغطيس في الماء كانت هي بمثابة العودة من عبادات الأوثان والشياطين وكل أعمالها وعاداتها التي استشرت في كل شعب إسرائيل. أي أن التوبة هي مجرد الرجوع أو العودة ثانية إلى الله الحي. وتغطيس الماء هو غسيل الجسد وبالتالي غسيل الضمير من نجاسات الأوثان وعباداتها المرذولة. ويكون الغفران بالتالي هو غفران خطايا البعد عن الله وخيانته من كل الأباطيل التي علمتها عبادة الأوثان للشعب. هذا يعني أن عملية العماد على يد المعمدان برمتها من التغطيس في الماء والاعتراف بخطايا نجاسات ماضي عبادات الأوثان وقبول الغفران عـن كـل الماضي المظلـم كـان تأهيلاً للدخول في الإيمان بيسوع المسيح لقبول الفداء والخلاص وغفران الخطايا برمتها التي اقترفها الشعب بكسره ناموس موسى ووصايا الله، حيث يقبل الإنسان المؤمن بالمسيح الروح القدس الذي هو روح التجديد للخليقة الجديدة الروحية المعدة لقبول ملكوت الله.

العماد بالماء لمغفرة الخطايا في طقس الكنيسة:

لأن المسيح قبل هذا الطقس تماماً على يدي المعمدان، وعاد واشترط على الذي يريد أن يولد من جديد أن يولد ثانية كخليقة جديدة من الماء والروح معاً، لكي يؤهل لدخول ملكوت الله، لذلك رسمت الكنيسة هذا الطقس المهيب ليجريه الكاهن (كان الأسقف هو الذي يجريه في العصور الأولى، بل والرسل أنفسهم – ارجع لحوادث يوم الخمسين)، إذ يطلب من المعمّد أن يعترف بخطاياه التي تتركز كلها في أعمـال وأقـوال وسـلوك مـا قبـل الإيمان بالمسيح، وأهمهـا أن يجحـد الشيطان ثـلاث مرات، وحينئذ يغطس في الماء ثلاث مرات وبعدها يقبل طقس العماد بالروح القدس بالكلمة والدعاء ودهن الزيت لحلول الروح القدس.

وإذا رغب القارئ في المزيد من معرفة دقائق سر العماد بالماء قبل نوال العماد بالروح القدس، يمكنه أن يعود إلى كتاب الديداخي وهو تعليم الرسل للمعتمدين الجدد، ليجد فيه نفس النصوص التي كانت تقولها وتمارسها الكنيسة في القرن الأول المسيحي.

ومن روائع طقس العماد التمثيلي الحي أنه في لحظة خروج المعمد من تحت الماء يرتـل خـورس الشمامسة: «استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيئ لك المسيح» (أف5 :14). كذلك كان يقدم للذي قام من جرن المعمودية وقبل مسحة دهن الروح القدس ولبس الثوب الأبيض رمز الولادة الجديدة أو الخلقة الروحية السماوية وتأهيله للملكوت، وأيضاً رمز لبسه المسيح يسوع (غل3: 27)، كان الشمامسة يقدمون له كوباً من اللبن الدافئ ليشربه تحقيقاً لولادته طفلاً جديداً لملكوت الله وابناً الله، وفيها يقول بطرس الرسول: «كأطفال مولودين الآن اشتهوا اللبن العقلي العديم الغش لكي تنموا به (يقصد الإنجيل)، إن كنتم قد ذقتم أن الرب صالح» (1بط2: 2و3). وكانت حفلة العماد من أبهج ساعات الكنيسة وكأنما فيها ينفتح حقاً باب السماء ليدخل العضو الجديد في ملكوت الله.

فعماد الأردن على يد يوحنـا كـمـا تحققه الكنيسـة هـو فـعـل زمـني في الحاضر؛ لكنه ذو هـدف إسخاتولوجي مستقبلي. إذن، فقد دخل يوحنا المعمدان بطقسه السمائي في صميم حياتنا الجديدة عن طريق المعمودية بالتغطيس في الماء. وقد وصف بطرس الرسول هذا الطقس، وهو نفس طقس المعمدان تماماً عندما التجأ إليه الشعب باكين لما رأوا حلول الروح القدس على الرسل، هكذا:

«فلما سمعوا (الشعب) نخسوا في قلوبهم، وقالوا لبطرس ولسائر الرسل ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة فقال لهم بطرس توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس… فقبلوا كلامه بفرح واعتمدوا وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس.» (أع2: 37-42) 

والآن يمكن أن نفهم لماذا بدأ القديس مرقس إنجيله بمعمودية يوحنا بالماء للتوبة ومغفرة الخطايا، إذ دخل طقس هذا العماد في حياة الكنيسة كأول إجراء طقسي للميلاد الجديد، ومعروف أن القديس مرقس نفسه اعتمـد مـن يـد بطرس الرسول يوم الخمسين، لذلك سمعنا بطرس الرسول يقول عن ق. مرقس: «مرقس ابني» (1بط 13:5)، كأنه ولد من الماء والروح على يديه يوم الخمسين.

5:1 «وخرج إليه جميـع كـورة اليهودية وأهـل أورشليم واعتمدوا جميعهم منه في نهر الأردن، معترفين بخطاياهم».

قول ق. مرقس هنا: «جميع كورة اليهودية وأهل أورشليم» ليس هو تحويل أو إفراط في الوصف. ولكن القصد واضح، فهو يقصد جميع الطبقات سواء في العاصمة أورشليم (المدينة) أو الريف (الكورة)، فهنا المقارنة بين المدينة والريف، وأهل المدينة وأهل الريف. وطبعاً جاء الاستثناء واضحاً في جماعة الكتبة والفريسيين الذين قال عنهم المسيح في وجههم: ” لم تؤمنوا به”، ولو أن بعضاً منهم جاء إلى المعمدان فقابلهم بتعنيف شديد وأسماهم أولاد الأفاعي. كذلك نلاحظ أن أهل الجليل وخاصة الجليل الأعلى لم يسمعوا ولم يحضروا، ولو أن المسيح انحدر من الجليل هو وتلاميذه، لأنه من المعروف أن تلاميذ المسيح اعتمدوا جميعاً من يوحنا، بل والمعروف أن أندراوس أخا بطرس ويوحنا (يو 40:1) كانا من تلاميذ المعمدان وانتقلا من تلمذة المعمدان إلى التلمذة للمسيح. وواضح أن هناك استحالة عملية لإمكانية الاعتراف الفردي لكل الشعب مئات الألوف وكذلك الاعتراف المسموع للمعمدان، ولكن كان الوعظ الذي يقدمه المعمدان هو الذي يجعل السامعين يئنون من خطاياهم، فيعترف بعضهم على المعمدان، ولكن معظمهم كانوا يعتمدون أمامه معترفين بكل الخطايا التي كشفها لهم المعمدان في وعظه. لذلك كان عامل النية بالتوبة ذا أهمية مطلقة، وكان هو قصد يوحنا المعمدان الأساسي. الأمر الذي لاحظه المعمدان ـ في رواية إنجيل ق. متى – إذ شعر بغياب نية التوبة عند الكتبة والفريسيين، لذلك وتجهم وواجههم بالحقيقة: «من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي» (مت 7:3)، بمعنى  أن مجيئهم كان خوفاً من الوعيد الذي كان يكيله المعمدان: «لا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبا» (مت 9:3)، وكشف أعمالهم بوعيد مزمع أن يصير على المرائين منهم: «فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار» (مت 10:3). هكذا كان المعمدان يعمل عمل النبي على مستوى إيليا تماماً في قدرة مواجهته للخطاة حتى الملوك دون أن يهاب، الأمر الذي عجل باستشهاده على يد هيرودس الملك إثر توبيخه المستمر له على زواجه من امرأة أخيه المحسوب أنه عمل زنا.

وليس عبثاً تقرير المسيح عنه أنه أفضل من نبي، وأنه لم يقم مولود من النساء أعظم منه، فقد فاق إيليا النبي في عنفه ونسكه وإصراره لمواجهة الخطاة حتى الموت، ولكن بالأكثر لأنه رأى المسيح وشاهد الروح القدس نازلاً عليه وسمع شهادة الله من السماء وشهد له واعترف أنه ابن الله .

وكـل نـبي قـام في إسرائيل كـان أقصـى مـا استطاع أن يعملـه هـو أن يوبخ أفراداً أو ملوكاً، أما المعمدان فقد توَّب الأمة وألبسها ثوب الندم على خطاياها وقربها إلى يوم فدائها، وفوق الكل افتخر المعمدان أنه صديق العريس وكفاه أن يراه ويفرح به وله. وكان مصباحاً منيراً يتقدمه أمام شعب كان جالساً في الظلمة وظلال الموت.

وعلى العموم فإنه يوجد لدى بعض العلماء مثل هـ. هـ. راولي قناعة أن في خدمة المعمدان (المحسوبة أنها من السماء) سرا أخروياً يختص بانفتاح ملكوت الله. وهذا نستطيع أن نقبله بارتياح لأن المعمدان لا يمكن أن ينادي باقتراب ملكوت الله إن لم يكن قد استؤمن على هذا السر الخاص بآخر الأيام، الذي عبر المسيح عنه بنفس هذا المعنى بقوله: «قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله» (مر 15:1). وهكذا يعتبر أن انفتاح ملكوت الله أعلن للمعمدان فبشر به معمداً ومعدا للشعب، وكرز به المسيح محققاً أن هذا بالحقيقة سر استعلان مجيء أواخر الأيام التي تكلم عنها جميع الأنبياء وأنه هو صاحب الملكوت المعد.

ومن شدة تأثر الشعب بيوحنا المعمدان وانتشار تعاليمه واقتدار توبيخه للتوبة، تشيعت له جماعة من تلاميذه وأذاعـوا أنـه هـو مسيا الآتي، وهكذا بدأت أول هرطقـة مسيحية في اليهودية[‏ وهي هرطقة المانديين (راجع المدخل لشرح إنجيل القديس يوحنا صفحة 385).] وانتشرت واستمرت دهوراً بأكملها، الأمر الذي حذر منه المعمدان:

«أنتم أنفسكم تشهدون لي أني قلت: لستُ أنا المسيح بل إني مرسل أمامه. من له العروس فهوالعريس.» (يو 3: 28و29)

6:1 «وكان يوحنا يلبس وبر الإبل ومنطقة من جلد على حقويه ويأكل جراداً وعسلاً بريا».

 في الحقيقة يحتار الإنسان بين إيليا وبين يوحنا المعمدان، لأن القوة الروحية واحدة، والشجاعة الإلهية واحدة، وتوبيخ الخطاة وتعنيفهم واحد، حتى اللبس واحد، فأيهما صورة للآخر؟ هل جاء إيليا كنبي قبل الميعاد ليتنبأ عن شخصية المعمدان نصاً وحرفاً وشخصاً؟ أم أن يوحنا جاء على نمط إيليا تحقيقاً لوعد الله وتذكيراً وتوثيقاً لصحة وصدق العهد القديم؟ ونفس هذا الأمر المحير سجله العهد القديم والعهـد الجديد بآن واحد، فالعهد القديم قال: «ها أنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب …» (مل 5:4). والجميل في هذا التسجيل أنه آخر ما قيل في النبي ملاخي الذي هو بدوره آخر أنبياء العهد. فلو لم ينتبــه القـارئ وهـو يقلب آخر صفحة في العهـ القـديم ليقــرأ العهد الجديد، فإنه يجده في أول صفحة وكأن إيليا الأمس حضر اليوم، لولا أن الزمان يحتج، إذ بينهما حوالي 400 سنة، كان الله يعد فيها افتتاح العهد الجديد بتحركات سمائية وأرضية غير عادية، بسقوط ملوك وقيام ملوك وسقوط ممالك وقيام ممالك وتعديلات جد خطيرة على خريطة العالم ليجعل القارات الثلاث القديمة آسيا وأوربا وأفريقيا وكأنها قرية واحدة ذات دروب ومدقات متداخلة وممتدة تحت رجلي المسافر، لا يحمل هم زاده ولا غربته عن بلاده، حتى جاء المسيح. وفي يوم الخمسين يوم أن احتفلت السماء بتكميل رسالة ابن الإنسان، دعا الله مندوبين عن الثلاث قارات ليجتمعوا معاً في مدينة الملك العظيم ويستلموا جميعاً رسالة مختومة بيد الروح القدس فيهـا دعـوة صريحة لسكان المعمورة باسم الآب ودم المسيح، ليتقابلوا عنده في السماء لتكميل حياة سعيدة بروح جديدة وأعمار مديدة في أزلية امتدت إلى الأبدية بلا حدود. والرسالة توزع مجاناً، وعلى باب الملكوت يقف إيليا يعانق المعمدان وكل منهما صورة طبق الأصل شكلا وموضوعاً، صنعها الله ليطابق القديم على الجديد ويصل الليل بالنهار والحلم باليقظة.

والإنسان ليعجب أشد العجب لقول المسيح عن المعمدان أنه هو هو إيليا جهاراً نهاراً: «فسألوه قائلين: لماذا يقول الكتبة إن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً؟ فأجاب وقال لهم: إن إيليا يأتي أولاً ويـرد كـل شيء … لكن أقول لكم: إن إيليا أيضاً قد أتى، وعملوا به كل ما أرادوا، كما هو مكتوب عنه» (مر 9: 13-11) فهو بعين الإنسان يأتي بحسب النبوة، وبعين الله أتى وإن تغير الاسم والزمان، فالماضي والمستقبل بعين الله حاضر وحركة الزمان ما هي إلا خداع رؤيا خلقها الله للإنسان ليبني بها معرفته بفكره الوئيد .

7:1 «وكان يكرز قائلاً: يأتي بعدي من هو أقوى مني، الذي لست أهلا أن أنحني وأحل سيور حذائه».

يركز القديس مرقس هنا كل كرازة المعمدان في موضوع واحد هام، هو في الحقيقة محور رسالته كلها : أنه سيأتي بعده من هو أقوى منه. ولكي يعطي صورة كاملة لذلك القوى الآتي بعده عمل مقارنة من جهة الكرامة والمجد للشخصية المهيبة للآتي بعده، حاله وفقره الشخصي على مستوى السيد العظيم العالي والعبد المنحني يحل سيور حذاء سيده، وقانعاً بأن هذا شرف كبير له. وفي الحقيقة قد أبدع المعمدان في رؤيته للمسيا الآتي أبدع رؤية. لأنه ليس في ذلك أي مغالاة ولا حتى اتضاع بل هي تحصيل الحاصل، والحقيقة وعين الأمر، فالمسيح أعظـم مـن سيد والمعمدان أقـل مـن عبـد. وهل حينما ينحني إنسـان ويسـجد تحـت قـدمي الــرب الإلـه المبــارك والمخلـص يحسـب اتضـاعاً أو حتى يدخل في مستوى اللياقة أيئًا كانت؟ إذن، فرؤية المعمدان للآتي بعده كانت صحيحة أشـد الصحة ووضع نفسه بالنسبة له أصح الوضع!

ويمكن للقارئ أن يلحظ شعور ق. مرقس نفسه وهو يسرد قول المعمدان، إذ يبدو أنه كان يشارك المعمدان في هذا الفكر وهذا التعبير، لأنه تلهى عن كل ما قيل عن المعمدان في عمله وكرازته، إذ أسقط غضبه في الوعظ الذي وعظ، والفأس التي وضعت على أصل الشجرة، والبحث عن الثمر الجيد والتبن الذي تذريه المذراه في مهب الريح واتقاد النار التي أنيط بها إحراقه، وتغاضى عن الغضب الآتي على الكتبة والفريسيين ومصيرهم الذي لن يزيد عن مصير التبن المذكور، أو عن الشجرة والفأس على أصلها، نعم نسي أو تناسى ذكر ذلك كله ولم ير إلا نفسه المنحنية على حذاء ذلك الكبير والسيد المهاب.

وفي الحقيقة، يا قارئي العزيز، فمهما كان قد قال ق. مرقس وأسهب فيما قاله المعمدان في وصف المسيح فلن يقع في صدورنا ما يثير الرهبة من جهة شخص المسيا أكثر من إنحناء «نبي وأعظم م من نبي»تحت رجلي السيد؛ إذ لا يكون ذلك السيد إلا الله آتياً في جسد! فمن لي بهاتين القدمين لأقبلهما وأبلهما بدموعي، ومن لي بهذه السيور لأحل بها كبريائي وأفك بها عبوديتي وأنال شرف خدمته .

المعمدان في إنجيل ق. مرقس نسي كل ما قاله للعسكر والكتبة والفريسيين والشعب الذي تكالب عليه بلمس يديه أو رجليه ليفتكر شيئاً واحداً: ماذا يفعل لو رآه قادماً إليه؟ لم ترتفع عيناه عن رجليه ولا اهتم إلا بأن يحل سيور حذائه. ولم يكن ق . مرقس يصف حال المعمدان بل حاله هو، وتصور نفسه مرة أخرى أمامه يطلب لنفسه الحل من رباطه والانعتاق من حاله. ألا إن فكر ق. مرقس كان مزدحماً برباط الخطية الذي انحل على الصليب، أو لعازر الذي حلوه ودعوه يذهب، فإن استطاع هو أن يفوز بفك السيور عن رجليه يكون قد فاز بأمانة العبد.

8:1 «أنا عمدتكم بالماء، وأما هو فسيعمدكم بالروح القدس».

لا يزال المعمدان متأثراً بالمقارنة بين نفسيته المنحنية فيه حتى الأرض والسيد الشامخ بالروح حتى السماء، وهويته المنحصرة في الغسل بالماء وهوية السيد بالتطهير بالروح السمائي، وخدمته قد تمت وعبرت «عمدتكم»، أما عمل السيد فآت إذ له كل الزمان والخلود «فسيعمدكم». فالماء على كل حال للغسيل أما الروح فللتقديس.

على أن مغفرة الخطايا لا تأتي هنا كنتيجة للاعتراف بالخطايا بل كنتيجة للمعمودية. فالمعمودية تأتي كختم على الاعتراف .

في إنجيلي القديس متى والقديس لوقا جاء أن: «الآتي بعدي سيعمدكم بالروح القدس ونار ». أما القديس مرقس فاختص عماد المسيح بالروح القدس فقط ل… أما النار فجعلها لحريق التبن. أي جعل العقوبة بعد التقديس لمن لا يحفظ القدس. ويبدو أن ق. مرقس يتفق مع بولس الرسول: «لأن أرضاً قد شربت المطر الآتي عليها مراراً كثيرة وأنتجت عشباً صالحاً … تنال بركة من الله، ولكن إن أخرجت شوكاً وحسكاً فهي مرفوضة وقريبة من اللعنة التي نهايتها للحريق.» (عب 6: 7و8)

ودائماً ينتقل القديس مرقس في رواية المعمدان من العمل الذي وكل إليه في ضعف إلى عمل القـوي الآتي بعده صاحب القوة والروح القدس. فكان في منهجه الإنجيلي ملتزماً بـروح الحوادث وأهدافها. فكان هذه الثماني آيات ملتزماً بالصفة الرسمية للقديس يوحنا المعمدان كونه الصابغ (المعمدان) السابق للمسيح، إنما في اختصار غير منقوص الدعائم الأساسية في كل نقطة ينتقل إليها. ولكن سريعاً ما تذوب معمودية يوحنا ويوحنا نفسه بعد البدء بالمسيح كما قال هو: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص» (يو 30:3). هذه النبؤة نجدها محققة في إنجيل ق. مرقس. في

 

2- عماد المسيح [11-9:1]

(مت3: 13-17)
(لو3: 21و22)
(يو1: 32-34)

 في كل ما قدمه ق. مرقس عن المعمدان في الآيات السالفة كان تركيزه الواضح على الآتي بعده، فأول شيء طرحه هو كونه «أقوى مني» والأمر الثاني أنه «سيعمد بالروح القدس» وبعدها، أي بعدما يجمع قمحه ويضعه في المخزن ويطمئن على محصول تعبه وجهاده، يحرق التبن الذي ذرته الريح وفصلته عن القمح. وهكذا رفع أعيننا نحو الأفق باستعداد رؤية القادم الذي من أجله جاء المعمدان ليهيئ طريقه – طريق الرب ـ قدامه. كما قدم لنا المعمدان من إحساسه بصغره واتضاعه وانحنائه على سیور حذاء الآتي أن هذا الآتي هو مسيا رجاء الأمم ورب الكل!

والمرجو من القارئ أن ينتبه إلى رواية مرقس الرسول، فهو لا يقص أحداثاً تاريخية ولكنه يهيئ قلوبنا لاستقبال المسيح على نمط مـا يكـرز به يوحنـا لشعب إسرائيل. فأرجوك أيها القارئ أن تلتفت إلى تسجيل ق. مرقس عن المعمدان كيف لا يستحق أن ينحني ليحل سيور حذائه، وكيف خرجت إليه كل كورة اليهودية وجميع شعب أورشليم. إنها فرصة لنا نحن أيضاً أن نشارك الإنجيل في ذات الرواية، أن نخرج إليه نحن أيضاً لنقبل منه تأهيلاً لاستقبال القوي الآتي الذي يعمد بالروح القدس، علماً بأننا تعمدنا بالماء والروح وصرنا مؤهلين فعلاً لاستقباله بالحق والفعل وقبول تحديد لعمل الروح في قلوبنا وحياتنا.

9:1 «وفي تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واعتمد من يوحنا في الأردن».

«وفي تلك الأيام»:

يريد القديس مرقس أن يؤكد الحدث الإلهي الذي تم في صميم الزمن وفي صميم أيام يوحنا المعمدان.

«جاء يسوع»:

الترجمة العربية اختزلت النطق اليوناني وهـو روائي جميـل وهـو يأتي هكذا: «وحدث أن أتى»

ونفس الاصطلاح الروائي جاء في الأصحاح الرابع: «وحدث أن سقط بعض على الطريق» (مر 4:4) وهو الأسلوب الروائي الشرقي.

واسم «يسوع» ينطق في أصله العبري: “ياهوشعا’’ ومعناه: “يهوه يخلص”. ولكنه يأتي هنا بنطقه المختصر: ‘‘ یوشوع” وإنما ببساطة متناهية دون معنى أو تعريف أو تخصص كعادة زمانه. ولكن واجبنا نحن في أيامنا هذه ما يصح إطلاقاً نطقه هكذا مختصراً مبهماً دون تعريف أو تخصيص، إذ وضعته الكنيسة رسمياً هكذا: «يسوع المسيح» بمعنى يسوع الذي مسحه الله بالروح القدس والقوة، يسوع المخلص .

«من ناصرة الجليل»:

وهو مكان إقامته، والجليل كان أعلى أجزاء أرض إسرائيل – وكان أرضاً خليطاً مع الأمم ـ وقد سبق أن ذكره الأنبياء أن منه سيخرج نور الأمم:

+ «وأتى فسكن في كفرناحوم (بعد أن ترك الناصرة) التي عند البحر في تخوم زبولون ونفتاليم، لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي القائل: “أرض زبولون، وأرض نفتـاليـم، طريق البحر، عبر الأردن، جليل الأمـم. الشعب الجالس في ظلمة أبصـر نـوراً عظيماً، والجالسون في كـورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور .» (مت 4: 13-16)

 

«واعتمد من يوحنا في الأردن»:

وهنا نواجه أسلوب ق. مرقس شديد الاختصار كثير الوضوح وفي غاية البساطة دون أي تردد، إذ يقابل هذا الأسلوب في إنجيل ق. متى وصـف الحرج الشديد الذي وقع فيه يوحنا المعمدان لما رأى المسيح قادماً إليه وجها لوجه، وتحير وطلب من المسيح أن يعفيه من هذا الحرج، والمسيح يواجه هذا الحرج بطلبه السماح: «اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر» (مت 15:3). بمعنى لا تحرمني من أن أحصل على بر الاتضاع بالانحناء تحت يديك. وهنا يقف القارئ مشاركاً القديس يوحنا الحرج. ولكن ق. مرقس يخرج من الموقف كالسهم، معطياً لكل منهما قبول الوضع ببساطة رائعة: « واعتمد من يوحنا» ولم يفت على ق. مرقس قدر المسيح وهيبته وقداسته. وواضح في ذهن ق. مرقس أن المسيح لم يعتمد لنفسه وإنما هو اعتمد لنا ولحسابنا، فأكمل لنا البر ببره، ورفع عنّا خطية ماضينا عندما دخل الماء وخرج ليؤهلنا في جسده لقبول الشركة في صليبه! والنزول معه إلى القبر لتكميل عقوبة الموت التي تنازل وقبلها من أجلنا معنا، لنستطيع ونحن مبرأون بعد أن نقوم معه في قيامته أن ننال الحياة بحياته وتحسب . معه أبناء الله بالتبني.

إن عماد المسيح في الأردن هو أول حدث لاهوتي أتمه المسيح لأجلنـا ليؤهلنا للتقديس بدمه:«لأجلهم أقدس أنا ذاتي.» (يو 19:17)

ويكفي أن نسرد أمام القارئ ماذا كنا قبل عماد المسيح وقبل الصليب وماذا صرنا، كما قال بولس الرسول:

+ «لذلك أذكروا أنكم أنتم الأمم قبلاً في الجسد، المدعوين غرلة من المدعو ختاناً مصنوعاً باليد في الجسد، أنكم كنتم في ذلك الوقت بدون مسيح، أجنبيين عن رعوية إسرائيل (الله)، وغرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لكم، وبلا إله في العالم. ولكن الآن في المسيح يسوع، أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين، صرثم قريبين بدم المسيح.» (أف 2: 11-13)

أتوسّل لدى القارئ أن يعتبر الإنجيل إنجيله والعهد القديم عهده والجديد حياته، لقد لجزنا العبودية في مصر مع أننا كنا وقتها أسياداً فيها، وتبدينا في سيناء وهنا 40 سنة وعبرنا الأردن مع الشعب ويشوع كان قائدنا ودخلنا الأرض البهية، وإننا أكملنا في أورشليم غربتنا، ومع المسيح اعتمدنا وفي المسيح طلبنا وتألمنا بل متنا ومعه قمنا وارتفعنا. وكمل فينا رجاء العهد والوعد أنتم الذين كنتم غرباء وبلا إله «فلستم إذاً بعد غرباء ونزلاً بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله» (أف 19:2). نحن الذين اشتركنا في الزيتونة صرنا شركاء في فروعها وجذورها وزيتها، فنحن إسرائيل الجديد وإبراهيم أبونا ولو لم يرنا أو تره. وأورشليم السماوية هي أمنا لأنه جعل الاثنين واحداً بالصليب .

10:1 «وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السموات قد انشقت، والروح مثل حمامة نازلا عليه».

«وللوقت»: 

اصطلاح ق. مرقس المحبوب جدأ لديه الذي كرره في إنجيله 41 مرة، في حين أنه تردد في إنجيل ق . متى 18 مرة وفي إنجيل ق. لوقا 7 مرات وفي إنجيل ق. يوحنا 6 مرات فقط. فأصبح سمة إنجيل ق . مرقس المعروفة والتي تتناسب مع سرعته في الرواية والاختصار. ومعناه (وفي الحال)، ولكنه يأتي أحياناً في الكلام بمعنى: ‘‘وبعد ذلك’’.

«رأى السموات قد انشقت»:

رؤية مهيبة ومنظر لا يحتمله إنسان. فالسماء هنا لم تنفتح كرواية الأناجيل الأخرى، بل انشقت علامة الجبرؤوت. الحدث هنا يرويه ق. مرقس دون أن يكون قد رآه، فهو يرويه عن المسيح، لذلك فهو يصف ما وصفه المسيح، لأن الرؤيا أو المنظر كان خاصاً بالمسيح. علماً بأن أي رؤيا إلهية يراها أكثر من إنسان واحد مهما كان عدد الرائين، فكل إنسان يرى بقدر ما يسمح له من الانكشاف، ولا يمكن أن يرى إنسـان مـا يراه الآخر بنفس القدر ونفس الوضـوح ونفس المعنى والفهم. لذلك تأتي الروايات عن الرؤيا الواحدة مختلفة تماماً الواحدة عن الأخرى. لأنه إن كان على مستوى الأرض والعيون الجسدية لا ترى العين الواحدة كالأخرى، فلكل عين قوة ومستوى ومهارة غير الأخرى. فما بالك في الرؤيا الروحية التي تعتمد على عشرات العوامل أهمها قوة الإيمان والحب والرجاء والانتماء والإفراز والتمييز والفهـم الروحي ومـدى الإعلان والاستعلان ومدى الدراية بالإنجيل والخبرات الروحية السابقة، شيء لا ينتهي. ولكن المسيح هو الذي رأى وهو الذي بلغ الرؤيا، فنجدها تجيء هنا بهيبة وقوة. فإن كان المسيح هو الذي رأى السماء قد انشقت فهو حتماً رأى كمن يرى موطنه ومن أين أتي: «ابن الإنسان الذي هو في السماء.» (يو 13:3)

«انشقت»:

في الأصل اليوناني تفيد عملاً ممتداً، أي أن السموات انفتحت شيئاً فشيئاً. وهو اصطلاح أبوكاليبتي، أي خاص بالرؤى غير العادية حيث يحدث انفصال واضح بين ما هو أرضي وما هو سماوي.

هذه الكلمة يتضح لنا بالإحساس المستيكي (أي السري التصـوفي mystical) أنه ليست السماء هي التي انشقت؛ ولكن العين الروحية هي التي انفتحت فجأة لتظهر لها السماء في واقعها الروحي المفتوح الذي يفوق العقل والوصف والكلام، فيقف الإنسان مذهولاً مما يرى ويسمع، ويصعب عليه بل ويستحيل الكلام والتوضيح، لأن الأمور السماوية ليست ذات حدود ولا صور سبق للإنسان أن رآها أو عرفها وليس لها ألفاظ توصف بها. قال عنها ق. بولس: «لا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها »(2 کو 4:12). وهذا الانفتاح الذي رآه المسيح هو في الحقيقة علامة خطيرة أن رسالة الخلاص والسماء دخلت بكل ثقلها في رسالة الابن، وأن دور الإعداد الجسدي وقف عند هذا الحد، وبدأ الروح القـدس يعلن حقيقة الابن الذي كني – عنه بمسحة الابن بالروح القدس. أما قبل انفتاح السماء وقبل حلول الروح القدس وإعلان الآب من السماء فكان الابن المتجسد في حالة إخلاء، أي أن اللاهوت القائم فيه غير مستعلن لحساب اكتمال صورة العبد. 

أما الآن، فنسمع صوت الآب من السماء أن هذا هو ابني الحبيب الذي فيه مسرتي، والروح القدس يحل علناً على الذي هو مملوء منه. فهو لم يحل على فراغ ليملأه بل حل على الملء ليعلنه . وكان رد الفعل المباشر لبدء استعلان ابن الله وبعد مناوشات مع الشيطان ـ ذهابه مسوقاً بالروح القدس إلى مجمع الناصرة ليجد السفر مفتوحاً على نبؤة إشعياء، فقرأها، وكان خطاب العرش:

+ «ورجع يسوع بقـوة الـروح إلى الجليل، وخرج خبر عنه في جميع الكورة المحيطة. وكان يعلم في مجامعهم ممجداً من الجميع. وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى. ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ، فدفع إليه سفر إشعياء النبي. ولمها فتح السفر (بإلهام الروح) وجد الموضع الـذي كـان مكتوباً فيـه: روح الرب علي، لأنه مسحني لأبشـر المساكين، أرسلني لأشـفي المنكسري القلوب، لأُنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبولة. ثم طـوى السفر وسلمه إلى الخادم وجلس. وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه. فابتدأ يقول لهم: إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم.(لو4: 14-21)

وهكذا يا قارئي العزيز ، كان يوم عماد المسيح من يوحنا المعمدان يوم تنصيب ملك السماء ملكاً لملكوت الله على الأرض، بشهادة السماء وصوت الآب وحلول الروح القدس ظاهراً. وتمت رؤيا دانيال النبي المحبوب التي قال فيها بالنص:

+ «كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سُحُب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام تقربوه قدامه فأعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبد لـه كـل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض.» (دا 7: 13-15)

«والروح مثل حمامة نازلاً عليه»:

لم يعط المسيح الروح القدس كهدية، ولكن نزل الروح نزول المثيل على المثيل، فلم يزد شيئاً، ولكن استعلن ما له أصلا!! كان المسيح قبل حلول الروح القدس في حالة إخلاء ولما كمل زمان الجسد وحل الموعد بدأ المسيح يسترد ما له. وكونه مثل حمامة فهي محاولة للتعبير عن الحياة التي فيه، ولعل الحمامة تحكي عن الوداعة التي له. ونزولها عليه كان برفرفة كما كان الروح يرفتُ على وجه المياه إيذاناً بالحياة لتدب في الماء (تك1: 2)، فكانت للمسيح هنا بمعنى الخلق الجديد بالروح، وقد جمعها المسيح معاً في تعاليمه عن الميلاد الجديد هكذا: « إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله» (يو 5:3), حيث يكون الماء بالعماد والروح بالإيمان بالمسيح لنوال شركة الروح والحياة.

11:1 «وكان صوت من السموات: أنت ابني الحبيب الذي به سررت!»

«ابني الحبيب»: 

وترادفها أحياناً: «الوحيد» = الـ”مونوجانيس ” وهو لقب للمسيح ويعبر عن المسيا وعلاقته بالله علاقة فريدة.

ويقول العالم المتحفظ ألفرد بلومر أنه من الواضح أنه لم يكن هناك في منظر الروح النازل أو في الصوت المسموع من الآب أي هلوسة بمعنى تزييف عقلي، ولكن استقبال حقيقي لروح الله وكلمة منه . وكان هذا الصوت المسموع من السماء هو الأول في استعلانات المسيح، والثاني جاء في التجلي (7:9) والثالث قبل الآلام مباشرة (يو 28:12). كان هذا هو الإعلان الأعظم، الذي استعلن به جهاراً من السماء أن الله ظهر في الجسد، إذ الآب يعترف بابنه متجسداً. فالتحشد أضيف إلى اللاهوت دون أن ينقص منه أو احتسب التجسّد لحسابه بـل ولمسـرته!! والروح والـصـوت هنـا كانـا إيذاناً بأن ينطلق الابن يبشـر تـوا بملكوت الله، فقد توج بصوت الآب. يستزيده. فالآب

«الذي به سررت»:

المعنى هنا لا زمني، لا يتبع ماضياً أو حاضراً أو مستقبلاً ؛بل هو واقع ذاتي لاهوتي.

3 – التجربة على الجبل [13,12:1]

(مت 4: 1-11)
(لو 4: 1 – 13)

يقدم ق. مرقس التجربة متصلة بالمعمودية وتالية عليها، لأنه يقدم بالاثنين تقليداً كنسياً جوهرياً بالنسبة للمؤمنين. لأن ، من صميم تقليد المعمودية في الكنيسة أن يجحد المعمد الشيطان وكل أعماله. وهذا معناه أنه سيدخل معه في تحد، فبعد أن كـان خـادمـاً مطيعـاً لأفكاره وتصوراته ومشـوراته سيصبج نداً عنيداً له يقاوم كل أعماله وأفكاره ومشوراته. من هنا ينفتح على الإنسان المسيحي باب سيصبح التجربة على طول المدى، وهذا يعني أن بالمعمودية ندخل حتماً إلى التجارب. ومن هنا دخل المسيح بعد العماد إلى التجربة من أوسع أبوابها وبيد «المجرب» والقصد أن يقدم لنا من حياته خبرة النصرة على العدو باستخدام الإنجيل. فبخبرة المسيح في التجربة على الجبل ضد الشيطان وبالغلبة التي فاز بها أكملها على الصليب ورثنا المسيح سلطان النصرة على التجارب كميراث البنين فيما ، الله من واقع شركتنا بالروح.

إذن، معمودية المسيح جزء حتي في حياتنا وإيماننا ونحن نحوز المعمودية كشركة في معمودية المسيح لنوال سلطان الغلبة على التجربة، كحق من حقوق إيماننا بالمسيح والشركة معه .

12:1و13 «وللوقت أخرجه الروح إلى البرية، وكان هناك في البرية أربعين يوماً يجـرب مـن الشيطان، وكان مع الوحوش. وصارت الملائكة تخدمه».

إن الاختصار الشديد المتعمد في رواية تجربة المسيح لفت نظر جميع العلماء وحيّرهم، ووضعوا لها تفسيرات جاءت كلها لا تتمشى أبدأ مع أسلوب ق. مرقس ومنهجه في تقديم تعاليم المسيح وحوادث حياته. فإذا عدنا إلى نظرية ق. مرقس في معالجته للحوادث الهامة والخطيرة نطمئن جداً أنه لم يكن أبدأ هياباً تجاه الخوض في إعلانها بدقائقها. إذن، فما السر في قصة تجربة المسيح الذي حتّم عليه أن يلمسها لمسات خفيفة ويتركها دون الخوض في دقائقها التي حتماً بلغته على ألسنة الآخرين؟

إذا فحصنا قصة تجربة المسيح نجد أنها مستهدفة حتماً لكي يكتنفها الغموض، فهي أكبر وأخطر من أن يفترض فيها الإنسان الوضـوح والفهم البسيط. فالتجربة كانت أخطر مواجهـة يتقابل فيهـا المسيح، وهو قد استلم على التو الرسالة من الآب التي تدور كلهـا حـول كسر طوق العبودية الذي أحكمه الشيطان حول عنق الإنسان وتحريره من سلطانه نهائياً، وهذا معناه الإنهاء على كل أسلحته وإغراءاته وأكاذيبه وإسقاطه عنوة من رتبته.

 ولكن من هو الشيطان في أبسط تعريف له يمكن أن نحيط به، وإن كان من الصعب الإحاطة بهوية رئيس روحي له سلطان الوقوف بكبرياء لمعاندة الله وإظهار العداء الرسمي له ولكل خلقته، ولكن المسيح أعطانا صورة نسبية بالنسبة لنفسه وهذا العدو المارد في قوله في إنجيل ق . مرقس وفي إنجيل ق. لوقا بوضوح هكذا:

+ «فإن كنت أنا ببعلزبول أخرج الشياطين فأبناؤكم بمن يخرجون، لذلك هم يكونون قضاتكم. ولكن إن كنت بأصبع الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله. حينما يحفظ القوي داره متسلحاً تكون أمواله في أمان، ولكن متى جاء من هو أقوى منه، فإنه يغلبه وينزع سلاحه الكامل الذي اتكل عليه ويوزع غنائمه…متى خرج الروح النجس من الإنسان يجتاز في أماكن ليس فيها ماء يطلب راحة …» (لو 11: 19-24)

إذن، أمامنا الآن نفس الصورة التي نحن بصددها ـ الشيطان ومركزه البرية، الأماكن التي ليس فيها ماء ـ والمسيح يقبل أن ينازل الشيطان ويقبل دعوته المتحدية بعد أن أعلنت بنوته لله وامتلك الروح القدس علناً، وهناك في البرية مارس المسيح سلطانه وقوته. ولكن أن ندرك ونحيط علماً بما تم في هذه المعركة فهذا الأمر هو المستحيل بعينه، لأن نوع الأيديولوجية التي بارز بها الشيطان المسيح، وأسلحته التي ليست على مستوى عقولنا ومداركنا، ونوع ردود المسيح وأسلحته التي استخدمها كانت تفـوق حتماً قدراتنا الفكرية ومداركنا. أما ما سجله كل من القديس متى والقديس لوقا من أسئلة الشيطان وأجوبة المسيح التي التقطها كل منهما وكأنها من فم الشيطان ورد المسيح عليها، فهي لم تكن أكثر من مجرد مثل، كقول المسيح: «يشبه ملكوت السموات …» أو «وكان يكلمهم بأمثال» فجاءت مصغرة معقولة للعقول البسيطة. وقد تغاضى مرقس الرسول عن هذه التشبيهات وضرب الصفح عنها واكتفى بمفهوم التجربة بالنسبة لابن الله على مدى الأربعين يوماً من أولها إلى آخرها وما أرعـب مـا كانت! واكتفى ق . مرقس في الختام بأن يورد صورة معيشته هناك مع الوحوش كتلميح ذكي أنها أيام كانت أكثر فظاعة مساكنة الوحوش، وأما خدمة الملائكة في النهاية فجاءت علامة النصرة إذ حضروا ليعلنوا نصرة خالقهم وسيدهم. 

هكذا دخل الأقوى دار القوي (البرية) وربطه، تهيئة لكي ينهب أمتعته ويفك أسراه ويشفي فرائسه. أما نتيجة هذه المعركة فقد ألمح عنها المسيح بقوله: «رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء» (لو 18:10). وختامها كان على الصليب، فإلى هناك.

تفسير مرقس – مقدمة إنجيل مرقس – 1 تفسير إنجيل مرقس تفسير العهد الجديد تفسير مرقس 1 ج2
القمص متى المسكين
تفاسير مرقس – 1 تفاسير إنجيل مرقس تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى