تفسير إنجيل مرقس الأصحاح 1 – ج2 للأب متى المسكين

 

4- بدء الكرازة بملكوت الله والدخول في خدمة الجليل [ 15,14:1 و6:3]

(مت 4: 12-17)
(لو 4: 14 و 15).

 لقد حدد القديس مرقس بداية خدمة المسيح بالقبض على المعمدان مباشرة حيث انسحب إلى الجليل لبدء الخدمة. وفي سرد أخبار خدمة الملكوت والمناداة بها قدم ق. مرقس حقائق مختصرة يمكن أن تحيط بالإنجيل كله. فجاءت رواية شاملة محصورة بدءاً بالآية (14:1) ـ وتنتهي في (6:3)، وفيهـا يفتتح ق. مرقس الخدمة العامة للمسيح بدءاً من القبض على المعمدان ومناداة المسيح بالكرازة بقرب ملكوت الله، دون أن يحدد ق. مرقس أيـن كـان هـذا ومتى، ولا حتى الظروف المحيطة التي بدأ المسيح الخدمة فيها. وواضح جداً من هذا أنه اعتبر هذه الأمور ثانوية بالنسبة لدخوله في واقع الخدمة نفسها. فالتاريخ الزمني الذي يسير عليه المسيح ليس هو زمن العالم وتاريخه، ولكـن زمـن العمل الروحي في الكنيسة وبدء حركة طقوسها ولاهوتها. فالقديس مرقس يتبع تاريخ التقليد الكنسي وحركته وقد رصدها سفر الأعمال بدقة:

+ «الكلمة التي أرسلها إلى بني إسرائيل يبشر بالسلام بيسوع المسيح: هذا هو رب الكل. أنتم تعلمون الأمر الذي صار في كل اليهودية مبتدئاً من الجليل بعد المعمودية التي كرز بها يوحنا، يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه.» (أع 36:10- 38)

هذا هو التطابق البديع مع القديس مرقس في روايته التي سنستمتع بدقائقها معاً.

14:1 «وبعدما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله».

واحدة من محطات قصة الإنجيل عندها يتحول الحديث كلية ونهائياً من العلاقة بيوحنا المعمدان إلى الحديث عن كرازة المسيح. والمحطات عند القديس مرقس الرسول إما قصيرة صغيرة يخرج منها بسرعة ليكمل المسيرة بقوله: «وفي الحال» التي تعني الانتقال السريع مـن وضع لوضع، أو الانتقال من قول لقول. أو تأتي المحطة كبيرة نوعاً مثل (14:1) أو مثل قوله: «ثم قام من هناك ومضى »(24:7)، أو قوله: «وكانوا في الطريق صاعدين …» (32:10)، أو قوله: «وكان الفصح وأيام الفطير …» (1:14)

 والموضوع الذي سيدخل فيه هنا هو بدء خدمة المسيح في الجليل، وقد وجد حدا واضحاً لها وهو القبض على المعمدان، والذي وضعه إنجيل ق. متى هكذا: «ولما سمع يسوع أن يوحنا أُسلم انصرف إلى الجليل» (مت12:4). والقديس مرقس لم يطرق موضوع سجن يوحنا المعمدان واستشهاده هنا ليدخل مباشرة في خدمة المسيح التي بدأت بنهاية خدمة المعمدان، ولكنه لم يغفل قصة سجن وموت المعمدان إذ ذكرها كاملة في (6: 17-29) الذي أورد فيه ق. مرقس مقدار احترام هيرودس القـاتـل وتـوقيره الشديد للمعمدان: «لأن هيرودس كان يهاب يوحنا عالماً أنه رجل بار وقديس وكان يحفظه. وإذ سمعه فعل كثيراً وسمعه بسرور» (مر 20:6). ولكن للأسف فقد قام بقتل المعمدان بسبب امرأة زانية.

وقد عبر ق. مرقس على إقامة المسيح في الناصرة وذكر فقط تركه لها واتجاهه إلى كفرناحوم، لأن اهتمام ق. مرقس كان منحصراً في تسجيل بدء الخدمة بقوله: «يكرز ببشارة (أي بإنجيل) ملكوت الله» التي اختصرها من نص دعوة المسيح: «قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مر15:1). ومن الملاحظ هنا كما في أماكن كثيرة من إنجيل ق. مرقس أنه اعتاد أن يبدأ الكلام بجملة مختصرة يجمع فيها المبدأ العام أو خلاصة العمل أولاً، ثم يفرده بعد ذلك على الآيات والأصحاحات الأخرى. أما هنا في مرحلة ما بعد القبض على يوحنا فكانت معظم أقواله بالأمثال، كذلك حديثه عن ابن الإنسان، وكانت تدور كلها حول ملكوت الله فعلاً.

«بعدما أُسلم يوحنا»:

يهمنا هذا الاصطلاح ـ إذ هو مبني للمجهول ـ لذلك يحسب أنه تعبير لاهوتي بمعني  أن الله هوالذي يتمم مشيئته في الموت وليست مجرد حادثة. ومنها يتضح أن ق. مرقس ملتزم بتقليد كنسي لاهـوتي مستقر .

«يكرز ببشارة (إنجيل) ملكوت الله»:

وهي نفس المقولة التي بدأ التلاميذ يعلمون بما (مت7:10، لو9:10). وتعني يعلّم  بالأخبار المفرحة المختصة بملكوت الله. وفي بعض المخطوطات وردت: «يكرز بإنجيل الله» 10).و” إنجيل الله” اصطلاح تقليدي أول من قال به هو بولس الرسول، ونحن نعلم أن ق. مرقس كان رفيقه في الأسفار والكرازة أيضاً: «جاهرنا (كرازة) في إلهنا أن نكلمكم بإنجيل الله» (1تس2:2)، «لأني بشرتكم مجاناً بإنجيل الله.» (2کو7:11).

ويلاحظ أن هناك علاقة هامة وعملية بين انشقاق السماء للمسيح في المعمودية ورؤية الروح نازلاً عليه وصوت الآب له مخاطباً إياه بالابن صاحب المسرة الأبوية، وبين الكرازة أي البشارة بالصوت العالي بملكوت الله، أو علىحسب نطق ق. متى ملكوت السموات، فالسموات وملكوت الله قد انفتحت مغاليقه واستُعلنت أسراره للابن المتجسد لتصبح جاهزة للتعليم والتخبير بأمجادها وأفراحها.

15:1 «ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل».

«قد كمل الزمان»:

والزمان هنا أو الوقت «وقتي قريب» (مت18:26)، «زمان افتقادك» (لو44:19)، هو تعبير اسخاتولوجي أي مستقبلي يفيد الوقت الذي سبق الله وحدده في مشورته، ويكون قد حدده بعلامات ونبوات تحدث قبلها أو فيها. وفي الحقيقة إن تحديد زمان مجيء الملكوت كان في جميع النبوات مرهوناً بمجيء الابن ‘‘مسيا” صاحب الملكوت، وكانت تحيطه في جميع النبوات أوصاف وعلامات وأحاديث كلها مفرحة خاصة للنفوس المطحونة بضيقة هذا الزمان .

«الملكوت»:

جاءت في إنجيل ق. مرقس 20 مرة. وهي بالعبرية: “ملكوت malkuth. والكلمة تفيد : ‘‘ الحكم الملكي الله” فهو حكم أو سيادة على أو في مجموع من أخصائه. ويأتي دائماً «ملكوت الله» في ‘‘ مستقبل حاضر” أو محقق في صميم الزمن ومحقق فيه مشيئة الله. ويعبر عنه في الحاضر بالاقتراب والقبول والأخذ، وفي المستقبل بالدخول. فالأطفال ومين هـم على قامتهم في الوداعـة والحب وبساطة القلب يقبلونه من الآن (مر 15:10). أما الدخول في المستقبل (47:9) فهو للذين فضلوا الخسارة والعذاب الآن في أمانة الله أكثر من راحة وأمجـاد الـدنيا. وعلى العموم فقد اتفق العلماء على أن تقديم ملكوت الله في تعاليم المسيح عامة يهدف لتحقيق المستقبل منذ الآن. على أن المسيح ذكر القبول والدخول في آية واحدة أوضحت العلاقة بينهما في قوله: «من لا يقبل ملكوت الله مثل ولد (الآن) فلن يدخله (أخيراً)» (مر 15:10). على أساس أن الفترة بين القرب والدخول هي فترة مهملة في التعريف. على أنه يستشف من كلام المسيح أن الملكوت يعبر به عن شخصه، فهو في التجسد أصبح على قرب at hand بل وممسوك باليد « ولمسته أيدينا» (1يو 1:1)، ولكننا لن نحصل عليه إلا بالإيمان والاعتراف والمعمودية وتعاطي الجسد والدم حيث يصبح الملكوت فينا، ولكن أن يستعلن الملكوت الذي فينا فلا يتم خلال الزمن.

أما ملكوت الله “الآن” الذي فينا وعلى الأرض وفي صميم الزمان فهو بالفعل قائم ومنظور وفعال بكسر سلطان الشيطان وإخراجه عنوة، وتبديد سلطانه بتوبة الناس وبالإيمان بالمسيح والحياة الأبدية وبمغفرة الخطايا والتوبة الدائمة بمناداة الإنجيل، وعلامة الملكوت الفرح والتهليل الذي يعيشه أبناء الله المخلصون وشكر الله وتسبيحه وتمجيده .

«اقترب»:

واضح أن كلمة «اقترب» «وعلى الأبواب» أو كما يعبرون عنها بالإنجيليزية at hand كلها تفيد مجرد الرؤية عن قرب، كما يتفق علماء كثيرون مثل: سويت وراولنسون وبارتلت ودود ولاجرانج، ولكن يوجد علماء آخرون مثل: ولهوزن، جوانس وايز وكلوسترمان وكادو وسمث (ب.ت.د) واسترلي ومارتن وهم من أعاظم وأدق المعلمين يتفقون في ترجمتها est arrivé بمعنى “قد حضر “، وهذا في نظرنا أقرب للواقع والحقيقة لأن كل الاصطلاحات الأخرى تفيد ذلك مثل ملكوت الله في وسطكم أو داخلكم (لو 21:17). ويصر العالم ك. هـ. دود والعالم لوهميير وبرايسكر على المعنى الأخير أي أن ملكوت الله قد حضر.

«فتوبوا»: 

قالها المسيح: «توبوا وآمنوا بالإنجيل» على أساس مناداته بقرب ملكوت الله، أي مجرد إعلان المسيح بقرب ملكوت الله، هذا يستدعى مباشرة الإيمان به وببشارته. ومن هذه الآية نلمح في ربطه بين التوبة وقرب الملكوت وظهوره مـا يـوحـي تماماً أن بقرب المسيح قرب الملكوت، وأن التوبة تتعلق أساساً به هو إذا أدركنا أن التوبة تعني تغيير التفكير وبالتالي السلوك . أي أنه بوضوح يطالب الشعب أن يغير ما كان له من إيمان وسلوك ليقبل الملكوت، أي المسيح ويؤمن به، أي بكرازته. أو بمعنى آخر (لأني قد جئت إليكم فعليكم أن تغيّروا كل ما لكم فكراً وسلوكاً وتؤمنوا بي وبتعليمي).

ويخطئ بعض العلماء في قولهم أن المسيح كان يكرر تعليم المعمدان، وفات عليهم أن تعليم المعمدان بالتوبة وقرب الملكوت كان على أساس يهودي، ومغفرة الخطايا كانت على أساس يهودي نبوي، كتمهيد لتعليم المسيح القائم بعد تعليم المعمدان والمكمل له. وهذا أمر حتمي، ! لأن المعمدان كانت وظيفته الأساسية التمهيد للمسيح وإعداد الطريق قدامه. لذلك جاءت دعوة المسيح وكرازته مركبـة فـوق تعاليم المعمدان كتـاج لهـا هـكـذا: توبوا (توبة المعمدان بالاعتراف والغسل بالماء) وآمنـوا بالإنجيل، وهذه هي كرازة المسيح. وهكذا تنحصر كرازة المعمدان في التوبة تمهيداً لكرازة المسيح بالإيمان بالأخبار السارة.

ومنذ أن طرح المسيح هذه الدعوة المباركة بعد أن أسلم المعمدان، انفتح العهد الجديد بالمسيح، وظل المسيح هو كما هو ‘‘قريباً’’ دائماً أبدأ «الرب قريب» (في 5:4)، بل وقريب جداً كما قالها ق. بولس إذا قبل الناس الإيمان به: «الكلمة قريبة منك، في فمك وفي قلبك. أي كلمة الإيمان (بالمسيح) التي نكرز بها، لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع، وآمنت بقلبك أن الله أقامه . الأموات، خلصت (9,8:10 )

توبة المعمدان وتوبة المسيح:

واضح أن التوبة في فم المعمدان كانت قائمة على الاعتراف بالخطية والعماد من الماء، فالخطية كانت متصلة بالجسد والماء مؤثر بالغسيل، لذلك كانت توبة المعمدان توصيل فقط أو تؤهل للإيمان بالمسيح.

أما التوبة في فم المسيح فهي لضمان التغيير الذي نص عليه المعمدان، وهي وحدها لا تفيد شيئاً إذ يتحتم بعد التوبة الإيمان بالإنجيل أي بكرازة المسيح. وشرحها كأن المسيح ينادي الذين اعتمدوا ليوحنا بالماء ويقول لهم تعالوا آمنوا بالإنجيل: لأن المسيح نفسه لم يكن يعمد (بالماء) ولكن جاء ليعطي الروح القـدس للـذيـن تـابوا: «توبوا وآمنوا بالإنجيـل» وهذه هي حقيقة قول النبوة : «یهیی طريقك قدامك» فتهيئة الطريق أمام المسيح كانت وعظ الشعب وتعريفهم بخطاياهم وقبول توبتهم وتعميدهم بالماء كختم توبة فقط، وهذا بحد ذاتـه كـان يؤهل للإيمان بالمسيح والبشارة المفرحة أي بالخلاص الذي بالصليب والموت والقيامة.

«وآمنوا بالإنجيل»:

حيث الإنجيل هنا هو “الأخبار المفرحة’’ بالخلاص، وهذا ما يوحي إليه مباشرة قول المسيح قد اقترب ملكوت الله، حيث توبوا تفيد الحزن على ما فات: «لأن الحزن الذي بحسب مشيئة الله ينشئ توبة لخلاص بلا ندامة، وأما حزن العالم فينشئ موتاً» (2 کو 10:7)، حتى يستحقوا الفرح الـدائـم الآتي والذي أتى. وهذا هو نموذج وعظ المسيح وكرازته في الجليل.

والإيمان هنا هو ‘‘الارتباط” بالإنجيل أي بالأخبار المفرحة، وهي رسالة المسيح التي جاء من أجلها. لذلك إن كانت التوبة أساسية في منهج المعمدان، فمنهج المسيح أساسه هو الإيمان. وإن كان الاعتراف بالخطايا يؤدي إلى المعمودية، فالمعمودية تؤدي إلى الإيمان بالمسيح.

فاصل

5 – دعوة التلاميذ الأوائل16:1-20]

(مت 4: 18-22)،
(لو 5: 1 ـ 11)

هذه الرواية تحـوي قصتين: الأولى: (16-18) والثانية (19و20)، ويلزم أن نضم إلى هاتين القصتين قصة اختيار لاوي (14:2) لتكون ثلاث قصص تكمل رواية اختيار التلاميذ. وهذه الثلاث ولو أنها بحد ذاتها تحكي عن أعظم أعمال المسيح والكنيسة وهي “اتّباع الرب”، إلا أنها بآن واحد تمهد للخدمة في كفرناحوم (1: 21_39).

وكأنما ق. مرقس كان يحمل في فكره دعوة إيليا لأليشع النبي، وهكذا يجدد التاريخ المقدس نفسه:

+ «فذهب (إيليا) من هناك ووجد أليشع بن شافاط يحرث واثنا عشر فدان بقر قدامه (12 زوج) وهو مع الثاني عشر، فمرّ إيليا به وطرح رداءه عليه. فترك البقر وركض وراء إيليا وقال: دعني أقبل أبي وأمي، وأســـير وراءك، فقــال لـه: اذهـب راجعـاً (إلى بقــرك: منتـــاش نـــافع) لأني ماذا فعلت لك (أي كأني ما دعوتك). فرجع من ورائه (مصمماً أن : يبيع ويترك كل شيء) وأخـذ فدان بقر (زوج) وذبحهما وسلق اللحم بأدوات البقر (المحراث) وأعطى الشعب (فرق وأعطى المساكين) فأكلوا، ثم قام ومضى وراء إيليا وكان يخدمه.» (1مل 19: 19-21)

ونقطة التلاقي هي أن التلاميذ تركوا كل شيء وتبعوا المسيح. وق. مرقس مصور ماهر له لقطات مذهلة، فلم يفت عليه منظر المسيح وهو سائر على شاطئ البحيرة وزبدي مع أولاده والخدام يصلحون الشباك، وهذه المناظر هي التي طبعت الرواية في ذهن التقليد الحي الذي ينقل من جيل إلى جيل. وهكذا يدخلنا ق. مرقس داخل دائرة الصيادين ونعايشهم كصيادين قبل أن نعيش على تعاليمهم كرسل. أما «هلما ورائي فأجعلكما صيادي الناس» فهي درة الإنجيل التي لن تمحى من فكر الكنيسة إلى الأبد. ويدخل ابن الإنسان هذه الدائرة بصفته معلم صيادي الناس!

16:1 «وفيما هو يمشي عند بحر الجليل أبصر سمعان وأندراوس أخاه يلقيان شبكة في البحر، فإنهما كانا صيادين» .

«بحر الجليل»:

هو بحيرة مقفلة من جميع الجهات في جبال الجليل، وقد ذكر ق. لوقا اسماً حديثاً لهـا وهـو بحيرة جنيسارت، وقد سماها ق. يوحنا بحيرة طبرية، وهي تبلغ 12 ميلاً طولاً و وستة أميال عرضاً في أوسع مناطقها، وتحسب طريقاً بحرياً يصل الجليل بمنطقة بيريه، وتربط . جميع المدن على شواطئها، وهي جيدة في صيد الأسماك وقراها كثيرة أهمها بيت صيدا وكفرناحوم ومجدل وطبرية.

«أبصر»:

المسيح أبصر كما يبصر كل إنسان، ولكنه أبصر ماضي الإنسان، حاضره ومستقبله، أبصر مدى أهلية هذين التلميذين لدخول الملكوت، بل ليكونا عاملين فيه وعاملين من أجله. إن رؤية المسيح تخترق حجب الواقع والماضي والمستقبل، بل وأعماق ما في الإنسان. انظر أنت أيها القارئ العزيز لبطرس الرسول وكفاءته، وبالنهاية كيف شهد للمسيح وصلب وأنت تعرف ماذا أبصر المسيح في بطرس. لقد رأى المسيح في بطرس أنه لا يصلح لصيد السمك بل يصلح لصيد الناس. إنه بصر يجمع ا الحواس كلها ومعها تمييز إلهي ليرى كل شيء لا كما هو تماماً بل كما ينبغي أن يكون. إنها دعوة المسيح لمن كان له أذنان للسمع وعينان للنظر لينظر، لأنها آذان وعيون سيعمل بها المسيح.

لولم يبصر المسيح بطرس ويدعوه ليتبعه لبقي بطرس صياداً للسمك حتى إلى نهاية حياته ومات وصار نسيا منسياً. المسيح لا يزال يدعو ويدعو لنتبعه، ويا سعد من يتبعه .

ويحكي ق . مرقس ببساطة أنه بينما كان المسيح ماشياً على شاطئ البحيرة رأى سمعان. وقد ذكر ق. مرقس اسم سمعان 7 مرات ولم يستخدم أبدأ الاسم مع اللقب “سمعان بطرس”، ولكنه ذكر اسم بطرس 19 مرة. وق. مرقس أكثر من ذكر هذا الاسم بين الإنجيليين. أما نطق ‘‘ سمعان ’’ باللغة العبرية فهو ‘‘ شمعون’’. وهذه الأسماء عند المسيح توضح مدى العلاقة الوطيدة مع تلاميذه. أما اسم أندراوس ، أخي سمعان بطرس فهو اسم يوناني علماني، وكان أندراوس وبطرس يعيشان في كفرناحوم، وأندراوس صار واحداً من الاثني عشر.

«يلقيان شبكة في البحر»:

«يلقيان شبكة» في اليونانية كلمة واحدة. من هذه الآية تدرك أن ق. مرقس كان مغرماً بهذه المشاهد وهي فعلاً بديعة، وقد نقلها إما عن رؤية أو عن شهود عيان. كذلك من هذه المقدمة ندرك أيضاً أن المسيح كان مهتماً بالتعليم أكثر من عمل المعجزات، وهكذا ابتدأ عمله باختيار تلاميذه ليعلمهم. ويلاحظ أن المسيح بدأ يتلمذهم قبل أن يعدهم ليكونوا رسلاً. وهنا تظهر قيمة التلمذة قبل أخذ المسئوليات في الكنيسة. 

«فإنهما كانا صيادين»:

يذكرها ق. مرقس مربوطة ببحر الجليل الآن، ليظهر نية المسيح أن يجعلهما صيادين للناس.

17:1 «فقال لهما يسوع: هلم ورائي فأجعلكما تصيران صيادي النّاس».

«هلم ورائي»:

المسيح هنا يعطى أمراً صريحاً بالتبعية لاكسيد يأمر عبدا؛ بل كمعلم يدعو تلميذاً بسلطان المعرفة الأفضل.

«صيادي الناس»: 

مهنة سماوية شغلها الروح القدس.

هنا المسيح يكشف عن منهجه الروحي الذي نوى أن يصنعه مع تلاميذه، إذ سيعطيهم حرفة سماوية هي اقتناص الأرواح لا اقتناص الأسماك. صيد السمك يحتاج إلى مهارة وذكاء وحيلة لكي يعرف الصياد طبيعة السمك، ثم مـن نـوع سلوك السمك يرتب له الطعم. وعلى نفس المنوال سيعلم المسيح تلاميذه كـيـف يكتشفون طبيعـة النـاس ويرتبون لهـم الـطعـم الحقيقي، لاقتناص النـاس مـن بحـر الخطيـة وفـك أسـرهـم مـن عبودية الشيطان، وذلك بكشف سر الصليب وفعله الجبار في النفوس، لذلك سُمي الصليب بصنارة أو هلب اخلاص. وما ألذ منظر المعلم بين التلاميذ وهو يعلمهم أصول مهنة الصيد الجديدة وأجرها العظيم في ملكوت الله! فقط اتبعني! ولكن ويل للذي يتبع وعينه إلى الوراء « لم نأخذ شيئاً»

18:1 «فيلوقت تركا شباكهما وتبعاه».

شباكهما وليس مجرد الشباك، رأس مالهما، صنعتهما، تاريخ حياتهما، كل آمالهما في الحياة. تماماً كأرملة بيت صيدا:

+ «هاتي لي كسرة خبز في يدك. فقالت حي هو الرب إلهك إنه ليست عندي كعكة، ولكن ملء کف الدقيق في الكوار وقليل من الزيت في الكوز، وهأنذا أقـش عـودين لآتي وأعمله لي ولابني لنأكله ثم نموت. فقال لها إيليا: لا تخافي ادخلي واعملي كقولك، ولكن اعملي لي منها كعكة صغيرة أولاً واخرجي بها إلي، ثم اعملي لك ولابنك أخيراً. لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل إن كوار الدقيق لا يفرغ وكوز الزيت لا ينقص …» (1مل 17: 11-14)

وهكذا حينما يعطي الإنسان أول ما له لله، يعطى ما لله عند الله!! (ملكوت الله). لأن مقياس الله ليس كمقياس الناس، إنه مدهش بل مذهل. إن مالك في يدك، إن احتفظت به لنفسك ذهب من يدك وذهبت يدك معه، وإن سلمته ليد الله انضم إلى ما الله وصار مال الله مالك وعاشت نفسك إلى الأبد.

«فللوقت»: 

ترجمتها الصحيحة بحسب اللغة اليونانية “في الحال” Immediately.

لم يفكر بطرس ولا أندراوس أخوه ولم يتشاورا، وجدا أن الدعوة صفقة تساوي الصنعة والعمر كله. نظرا للشباك والمركـب والبحـر فـوجـدا أنهـا نفاية، بل خسارة، أمام خفقـة القلب الذي انفتح أ أمامه الإحساس الغامر بحياة جديدة يضيئها نور الله وبهجة تفوق الوصف. إن السماء التي انفتحت لعين المسيح استطاع أن ينقلها كما هي لكل من يسمعه ويطيعه ويتبعه :

+ «الحق أقول لكم: إنكم أنتم الذين تبعتموني، في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده، تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسيا …» (مت 28:19)

هي لحظة صغيرة جداً من الزمان حينما يسمع الإنسان صوت الدعوة، فإن ناقشها أو بدأ يزنها تضعف وتتلاشى، وإن هو استجاب سريعاً وفي الحال تضخم الصوت واندفقت الحياة كلها برمتها في قلبه، وانفتحت السماء، وأحس الإنسان أنه بلغ شاطئ الأمان قبل أن يضع رجليه في طريق اللهويظـل نـور هذه اللحظـة قائمـاً لا يمكن أن يخبـو أو ينطفئ، وكلمـا سـار الإنسان في الطريق وذاق المصاعب والمقاومات والاضطهادات، كلما شعر أنه بالكاد قد قرب من هذه الرؤية التي رآها في تلك اللحظة، وفي النهاية جداً يقول: «قد أكمل» !

يقول العلماء الذين لم يختبروا ولا سمعوا: إن استجابة ق. بطرس وأخيه بهذه الصورة وفي الحال غير معقولة ويتحتم أن يكون قد سبقها معرفة بالمسيح وحديث وتشويق.

ولكن الدعوة لا تتبع المنطق، من يترك ماله وحاله وأهله وبيته ليسير وراء المسيح في الأزقة متعباً جائعاً، أي منطق هذا!! لهذا يلزم أن يفهم القارئ أن الدعوة تأتي ومعها كل اقتناعاتها ولا يستطيع أحد لا أب ولا أم ولا صديق ولا رئيس مهمـا تـذللوا للمدعو أن يثنـوه عـن دعوته. وإن هـم أثنـوه تحت إغراءات وتهديدات يأخذون دينونة لأنفسهم:

«من أحب أباً أو أما أكثر مني ، فلا يستحقني.» (مت 37:10)
+ «من ينكرني قدام الناس أنكره أنا أيضاً قدام أبي الذي في السموات .» (مت 33:10)

19:1و20 «ثم اجتاز من هناك قليلا فرأى يعقوب بن زبدي ويوحنا أخاه وهما في السفينة يصلحان الشباك. فدعاهما للوقت فتركا أباهما زبدي في السفينة مع الأخرى وذهبا وراءه».

القصة مكررة ولكن الدعوة هنا تأتي ليتركا أباهما في المركب وحده يصلح الشباك ويصطاد ويجاهد لإطعام الأسرة وحده. إنها تبدو نوعاً من القسوة، لذلك فدعوة يعقوب ويوحنا أخيه نموذج لتحدي العلاقات الأسرية، مؤلمة شكلاً ولكنها تتضمن سمواً فائقاً في تقدير الله ودعوته. هذا التحول صار في المسيحية شهادة فاخرة لموضع الله الأسرة والحياة اليومية. إن هذه الحركة بحد ذاتها تنطق بغلبة العالم، لأن أقـوى ما في العالم هي المشاعر الأسرية والعلائق الإنسانية التي تربط الإنسان بأبيه وأمه وإخوته وأخواته. فالذي استطاع أن يخلخل هذه المشاعر ويغلبها ويتسامي فوقها بروحه حبا في المسيح والله يكون قد عبر العالم عبوراً رائعاً مشهوداً له من الله والملائكة. التلاميذ فازوا بشهادة المسيح في صلاته أمام الله الآب: «لأنهم ليسوا من العالم» (يو 14:17)، لذلك حق للمسيح أن يطلب من الآب أن «يكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم» (يو 26:17). وتلفت نظر القارئ أن يعيد قراءة هذه الآية مرة أخرى، فالمسيح يطلب من الآب أن يسكب على تلاميذه نفس الحب الأبوي الذي يحب به الابن. ما هذا؟ وماذا بقي عند الآب وعند المسيح؟؟

 

6- إخراج الشيطان داخل المجمع 21:1-28]

(مت 7: 28و29)،

(لو 4: 31-37)

قصة معجزية لشاهد عيان، لذلك فنحن نعول كثيراً على المشاعر التي أثارها تعليم المسيح في الشعب: «فبهتوا من تعليمه لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة» (22). هذا تقرير ، يحسب بحسب الإنجيل كوثيقة شرف واعتراف بمدى فاعلية العنصر الإلهي في الشعب. أما تعليق السامعين الأخير الذي خرجوا به فهو تقرير عن تعليم العهد الجديد بأكمله:شعبي

«فتحيّروا كلهم، حتى سأل بعضهم بعضاً قائلين: ما هذا؟ ما هو هذا التعليم الجديد؟ لأنه بسلطان يأمر حتى الأرواح النجسة فتطيعه! فخرج خبره للوقت في كل الكورة المحيطة بالجليل. (مر1: 27و28)

وهكذا يحكي ق. مرقس ما نظره وما سمعه شاهد العيان ببساطة دون تعليق، والكلام نفسه يقرظ نفسه. وحتى في سرده لقصة إخراج الشيطان نجدها تخلو من أي عوامل الارتباك أو الحيرة، بل بكلمة يخرج الشيطان صارخاً. فالسلطان هنا يكشف مستوى المسيح الفائق، كما لم يحدث أي عثرة أو خوف للشعب. فالقديس مرقس قادر أن يذلل صعاب السرد والرواية لتصير تعليماً كنسياً سليماً مقطوعاً به. فالقصة بقـدر ارتفاع مستوى خطورتها ولكن تنتهي بالإشارة إلى صانع المعجزة وحـده. وهكـذا كـل تعاليمه فائقة عن مستوى الطبيعة تنطق بالمصدر الذي يخرجها، وكأن السماء تتكلم، والأرض بكل ما فيها تخضع وتطيع، أما الشر والشرير فيخضع ويختفي ويبقى المسيح. وفي كل هذا يقف ق. مرقس كراوي تقليد ومعلّم لاهوت في هدوء دون أن يتدخل أو يعلق، وهو يرسي في خزانة الكنيسة تقليدها الإلهي من فم المسيح!

21:1و22 «ثم دخلوا كفرناحوم، وللوقت دخل المجمع في السبت وصار يعلم. فبهتـوا مـن تعليمه لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة».

وجه بديع من حياة المسيح، وهي تأتي بحسب إنجيل ق. لوقا (16:4) هكذا: «ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ» كان المسيح يحتفظ بأوجه العبادة التي لإسرائيل حسب العادة، علماً بأن التعليم والوعظ كانا بعيدين عن الأصول، ولكن الرب حفظها لتصلح أن يبدأ منها التجديد وخدمة العهد الجديد واستعلان المسيا، مهما كانت البداية قليلة ولكن كاملة ونموذجية. أربعة صيادين سمك بدأ بهم المسيح وضع أساس العهد الجديد.

وكانت خدمة المجامع منتشرة في كل مدينة وقرية لتقديم التعليم العام، وليسمع الشعب التوراة مع شرح كتابي على يد الكتبة. وكانت خدمة السبت عبارة عن صلاة يتبعها قراءة من الناموس ثم الأنبياء، وكانت تقرأ باللغة العبرية الفصحى. وعندما ضعفت هذه اللغة صارت القراءة والتعليم تتم بالترجمة للغة الأرامية العامية وبعدها الشرح والعظة. وكان رئيس المجمع (السيناجوج) يعزم على أحد الوجهاء أو الأشخاص البارزين ليعظ.

«وصار يعلم»:

يحتل التعليم في إنجيل ق. مرقس جزءاً هاماً من الإنجيل (13:2، 1:4و2، 6: 2و6و34)، وقد استخدم هذا الفعل (يعلم) 17 مرة. وكان تعليم المسيح ‘‘ بسلطان’’، وتعني هنا الاعتماد المباشر على شخصه في التوضيح والشرح دون الرجوع إلى مصادر خارجية، بالإضافة إلى أن كلام المسيح كان له قوة خاصة آمرة، لا يستعطف الناس بل يوبخ بنعمة، لهذا لم تحتمله الشياطين. فلمّا قام المسيح ليعظ بدأ يقدم تعليمه الروحي الإلهي الواضح المؤثر جداً واللائق للنفس ولحاجة الشعب؛ ولكن بسلطان النعمة وقوة الروح القدس الذي فيه، فاندهش الجميع لأن النبرة كانت نبرة الأنبياء.

وهنا يلزمني أن أنبه ذهن القارئ أن تعاليم المسيح كلها ملهمة وملهمة، فإذا كانت الأذن مفتوحة للروح القدس يستطيع الإنسان أن يستقبل كلام المسيح بوعي روحي، فتدخل الكلمات القلب وتهزه هرا، ويشعر الإنسان في الحال أن الكلام مصوب له لأن كلام الروح يخاطب كل روح. وكلمة الله من فم المسيح يستحيل أن ترتد فارغة بل لابد أن تصيب هدفها الذي هو خلاص الإنسان مهما كان الموضوع ومهما كانت المناسبة.

23:1و24 «وكان في مجمعهم رجـل بـه روح نجس، فصرخ قائلاً: آه ما لنا ولك يا يسوع الناصري أتيت لتهلكنا. أنا أعرفك من أنت قدوس الله».

هذه أول حالة إخراج شياطين وردت في إنجيل ق. مرقس. ويستخدم ق. مرقس كلمة “الأرواح النجسة” 11 مرة، وكلها حالات استحواذ الأرواح الشريرة على ضعاف الشخصيات، بمعنى انتهاز الأرواح الشريرة لضعف الإنسان وبعـده عـن الله لاحتلال شخصيته وإملاء إرادتها وسلطانها على فريستها بأوجه عديدة ومحزنة. حتى إن الإنسان يفقد شخصيته وإرادته ويبدأ الـروح يتكلم بلسان المستحوذ عليه ويغير من صوت الإنسان الطبيعي ويعطيه صوتاً آخر قد يكون لذكر أو أنثى، وأحياناً كثيرة يبوح الشيطان باسمه. وبالتحقيق مع أحد الأرواح الشريرة علمنا أن هذا الاسم هو اسم إنسان كان قد استحوذ عليه الروح الشرير وقتله. وقد يكون الروح الشرير أجنبياً فيتكلم بلغة بلده الأجنبية إنما عن غير صحة ووضوح. ولكن الشيطان يخضع لسلطان المسيح ويرتعب من اسمه وصليبه، وهنا في هذه الآية يقول: «صرخ» وهذه عادة الأرواح الشريرة فوضوية وصاخبة، ولكن بالأمر تصمت وينخفض صـوتها. وإذا كان الاستحواذ تم بواسطة عـدة شياطين أو أرواح شريرة فهـم يتكلمون واحـداً واحـداً ويخرجون أيضاً واحداً واحداً. والإنسان بعد شفائه وخروج هذه الأرواح الشريرة لا يعي ما كان يتكلم به ولا يذكر شيئاً مما كان يعمله، مما يدل على أن الروح يحتل المخ والمنطق وكل الجسم، ويستعبد الإنسان بالأمر والإنسان لا يملك إلا أن يطيعه مهزوماً. وقد عبر المسيح عن الإنسان المستحوذ عليه أنه يكون « بيتاً» خاصاً للروح الشرير (مر 27:3).

والأرواح الشريرة ضعيفة وجبانة ترتعب من سلطان المسيح إذا استطاع الإنسان أن يسلطه عليها، فبمجرد أن سمع الروح النجس صوت المسيح وهو يعظ لم يطق أن يسمع الوعظ فقاطع المسيح وشوشر على الجماعة، لذلك أخرسه المسيح.

25:1و 26 «فانتهره يسوع قائلاً: اخرس واخرج منه! فصرعه الروح النّجس وصاح بصوت عظيم وخرج منه».

الأرواح الشريرة لا تحتمل اسم المسيح من أفـواه أناس قديسين، ولا تطيق سماع صوت الإنجيل أو علامة الصليب من إنسان قديس. وأحياناً تطلب الخروج وتنتظر كلمة الأمر: «اخرج منه» لأنها بعد أن تدخل هيكل الإنسان يصعب عليها تركه، لذلك تلتمس قوة من المعزم، لأن الأمر الصادر من إنسان فيه روح الله يلزم الروح الشرير بقوة ضاغطة على الخروج. والصوت العظيم الذي يصرخ به الروح عند الخروج هو انهزام وشوشرة. وقول الآية إنه «صرعه» يوضح أن هذه حالة الانفكاك من رباط الروح الشرير التي لا يحتملها جسم الإنسان، لأن استحواذ الروح على الإنسان يفقد الإنسان حرية حركته، وخروج الروح يمزق النفس ويتركها مهدودة. إنها سكنى حقيقية مؤذية قد تترك في الإنسان عاهات عند خروج الروح، إذا لم يكن المعزم قويا وله سلطان. والأرواح الشريرة تعيش جماعات جماعات ولها قيادة ورئاسات، والروح لا يعرف إلا رئيسه فلا يعرف رئيس رئيسه.

شكراً لله بيسوع المسيح الذي أعطى الإنسان السلطان لإخراج هذه الأرواح :

+ «يخرجون الشياطين باسمي!» (مر 17:16)

27:1 «فتحيروا كلهم، حتى سأل بعضهم بعضاً قائلين: ما هذا؟ ما هو هذا التعليم الجديد؟ لأنه بسلطان يأمر حتى الأرواح النجسة فتطيعة!».

«فتحيروا كلهم»:

المعنى بحسب الكلمة اليونانية وبحسب الترجمة الإنجليزية: “اندهشوا amazed” والتي تعني: “شدةالاندهاش”. والاندهاش الشديد هنا راجع إلى أن المسيح أخرج الشيطان بالأمر بكلمة واحدة، في حين أن إخراج الشياطين عند اليهود كان يحتاج إلى أعمال وأقوال كثيرة، ولكن هنا اعتمد إخراج الشيطان على تأثير المسيح بشخصه فقط. والإخراج كان واضحاً ومباشراً دون أي محاولة ماكرة أو ألاعيب كما تعود المشعوذون.  

«التعليم الجديد لأنه بسلطان …»:

الجديد هنا بمعنى نوعية التعليم. فتعليم المسيح مؤيد بسلطان، وهذا بحد ذاته لم يروه أو يسمعوه سابقاً، لأن إخراج الشيطان لم يكن بمحاولات ولكن بأمر مباشر، والأمر واضح أنه بسلطان من هو أقوى من الشيطان، كما أوضح المسيح ذلك قائلاً:

+ «حينما يحفظ القوي داره متسلحاً تكون أمواله في أمان، ولكن متى جاء من هو أقوى منه فإنه يغلبه وينزع سلاحه الكامل الذي اتكل عليه ويوزع غنائمه.» (لو 11: 21و22)

نشكر الله بيسوع المسيح الذي جعلنا في حمى الأقوى وهزم من سبق واستعبدنا.

28:1 «فخرج خبره للوقت في كل الكورة المحيطة بالجليل».

كان خروج خبر يملأ كـل الجليل وما يحيطه بخصوص المسيح قائماً على أمرين واضحين: الأول مستوى تعليمه الجديد، والثاني تفوقه على الشياطين على مستوى يفوق الطبيعة وباقتدار سماوي، وهنا تلميح من ق. مرقس لبدء استعلان المسيا بين جميع الناس.

فاصل

7 – شفاء حماة سمعان 29:1-31]

(مت 8: 15,14)،

(لو4: 38و39)

هي أيضاً قصة معجزية تقف أيضاً لتشهد لشاهد عيان، وتفاصيلها ذات قيمة روائية كبيرة. فالبيت بيت سمعان وأندراوس أخيه، وتصادف وجود يعقوب ويوحنا أخيه، وبمجرد أن أبلغوه عن مرضها تقدم في الحال. وهنا لم يتكلم المسيح بشيء ولكنه مد يده وأقامها، والنتيجة بسيطة وقوية وفي كلمتين: « فتركتها الحمى وقامت وخدمتهم» وبهذا يظهر ق. مرقس كيف بكلمات خاطفة يوفي أركان الرواية، في حين في رواية القديس متى والقديس لوقا رفعوا من قيمة المعجزة وحذفوا التفاصيل وكأنها لا لزوم لها، مع أن التفاصيل التي أعطاها القديس مرقس هي التي أعطت القصة حيويتها التي انطبعت على التقليد ودخلت كأدوات حفظ. وهذه هي قدرة ق. مرقس الفذة في رواية القصة وجعلها كأنها أنشودة أو بيت شعر قابل للحفظ والرواية. ويقول أحد العلماء النقاد وهو لوهميير إن في جميع قصص ق. مرقس لا يوجد مثل هذه القصة التي تحفظ ذكر القصة من على بعد وتجعلها هكذا قريبة وكأنها قصة أمس.

29:1و30 «ولما خرجوا من المجمع جاءوا للوقت إلى بيت سمعان وأندراوس مع يعقوب ويوحنا، وكانت حماة سمعان مضطجعة مخمومة، فللوقت أخبروه عنها».

من القصص النادرة في إنجيل ق. مرقس التي تصف حادثة خاصة جداً بأحد التلاميذ وهو ق . بطرس، فهي تختص بحماته ومرضها وهي ملقاة على الأرض بحمى شديدة. والوصف دقيق ولشاهد عيان والحادثة بعيدة زمنيا، فقد مضى عليها نحو 15 سنة عند تدوين ق. مرقس لإنجيله، والوصف يأتي بدقة كما يصف الإنسان شيئاً قد حصل أمس. هذا يوحي أن ق. بطرس هو صاحب هذه الرواية التي نقلها للقديس مرقس شفاهاً، ولكـن يسـتفـاد مـن هـذه الملابسات أن هذه الحادثة كانت ذات تأثير شديد جداً على نفسية ق. بطرس، حتى إنه يتذكرها بهذه الدقة ويذكرها بعد سنين كثيرة.

 

 

 والملاحظ أن هذه الحادثة أتت بعد رواية دخولهم المجمع وممارسة شفاء الذي كان عليه روح نجس. فالتلاميد الأربعة كانوا حاضرين: بطرس وأندراوس ويوحنا ويعقوب. ويبدو أنهم كانوا متأثرين جداً بقـوة الشفاء التي أجراها المسيح على من كان عليه الروح النجس. فبمجرد أن دخلوا بيت سمعان بطرس وسمعوا بمرض حماته تقدموا للمسيح بطلب شفائها.

 

ويبدو من قول القديس مرقس أنهم توجهوا إلى بيت سمعان بعد خروجهم من المجمع مباشرة، أنهم حضروا لتناول الطعام بعد الصلاة. والدليل على ذلك أن هذه الحماة بعد أن شفيت قامت وأعدت لهم الطعام. فالرواية شديدة الحبك، ومنها نستدل أن بيت ق. بطرس كان محطا للمسيح والتلاميذ لتناول الطعام كلما سنحت الفرصة عند الاقتراب منه.

31:1 «فتقدم وأقامها ماسكاً بيدها، فتركتها الحمى حالاً وصارت تخدمهم».

الشفاء القديس لوقا يزيد أن الحمى كانت شديدة، ويظهر ذلك في إنجيل ق. مرقس إذ أنها لم تستطع أن تقوم لاستقبال المسيح، فلما حاولت ولم تستطع، مسك بيدها فقامت في الحال وقامت بصحة وراحت الحمى. وهنا من القول بأن الحشى كانت شديدة وأن حماة بطرس قامت في الحال يأتي معنى ا الإعجازي، إذ بمجرد أن أمسك صاحب الحياة بيد المريضة دخلت إليها الحياة وهربت الحمى الشديدة التي كانت تحمل معها التهديد بالموت. وكان هذا في الحقيقة علة كل الأشفية التي صنعها : يسوع ولا يزال، أنه بمجرد أن يمسك أو يأمر المسيح – صاحب الحياة ـ أي مريض مهما كان مرضه مميتاً تدخله الحياة بصحتها. فالمسيح لا يشفي فقط بل يعطي روح الحياة بصحتها. وهذه القوة المحيية وضحت جداً عند المسيح في إقامة لعازر من الموت، فحتى الميت حينما تلقى كلمة من صاحب الحياة قهر الموت وقام صحيحاً. وقد ربط المسيح المرض بالخطية حينما قال للمريض مغفورة لك خطاياك، فمهما كان المرض وبأي نوع كان، فهو مربوط أصلاً بالخطية كمسبب مبدئي وأساسي، والمسيح جاء ليعطي الحياة الأبدية عن طريق مغفرة الخطايا، فبالأقل جداً الحياة الأرضية يتحتم أن تستعاد قوتها بغفران الخطية. وحتى الطفل إذا مرض بأي مرض فهذا أصلاً وبالأساس بسبب خطية الإنسان ونتائجها الموروثة والمسببة للموت. فالخطية هي اللعنة التي ورثناها من آدم، وهذه لعنة الموت بحد ذاتها التي لما رفعها المسيح نلنا في الحال الحياة الأبدية، رغماً عن الخطية ورغماً عن المرض ورغماً عن الموت بأي صورة كانت، لأنه تعامل مع هذه اللعنة بكل مورثاتها بأن أخذها في جسده واستهلك قوتها وأبادها. فأصبحت الخطية فاقدة حكم اللعنة والمرض فاقداً حكم اللعنة والموت الجسدي فاقداً حكم اللعنة. فبالبرغم من هذه كلها يأخذها الإنسان في جسده وبالرغم منها يحيا الحياة الأبدية. فشفاء المسيح للحمى الشديدة التي كانت في جسد حماة بطرس وإقامتها بصحة هو في الحقيقة المسيحية صورة عملية تطبيقية لنوال القيامة من الأموات للحياة الأبدية. فيمكن أن نرى كيف أقام المسيح هذه المرأة من الحمى حالاً – بصورة مختصرة ـ بأن أخذ حمتها في جسده واستهلكها وأبادها فقامت المرأة حالاً صحيحة معافة: «هو أخذ أسقامنا وحمل أمراضنا» (مت 17:8 نفس قصة شفاء حماة سمعان). وبصورة أكثر توضيحاً: المسيح أخذ الخطية التي سببت الحمى في جسده على الصليب مع كل الخطايا وأبادها بموت الجسد القدوس ثم أقام هذه المريضة الميتة معه في قيامته للحياة.

8- الشفاء عند غروب الشمس (بدء اليوم الجديد بعد السبت) [32:1-34]

(مت 8: 16و17)،
(لو 4: 40, 41)

 هنا تذكار يوم تاريخي من أيام المسيح. فقد ملأ يومه بالأعمال والأشفية في داخل بيت ق. بطرس، ولكن لم يستطع أن يصنع معجزات شفاء خارج البيت لأن اليوم كان سبتاً. وهذه هي العلة في قول ق. مرقس: «ولما صار المساء»، أي عند لحظة انتهاء السبت إذ يحل فيه السير وحمل المرضى. لذلك بحضور المساء تجمع جمع غفير على باب بيت ق. بطرس يطلبون الشفاء. وتعليق ق. مرقس جاء ببساطة هكذا: «فشفى كثيرين كانوا مرضى بأمراض مختلفة» ومن الذين استحوذ عليهم الشيطان، وكـان يخرس الشيطان حتى لا يتكلم ويشوش على عمل المسيح. أما ق. لوقا فيرفـع مـن صـورة المعجزات ويسجل أن المسيح كان يضع يده على كل واحد. كذلك في إنجيل ق. لوقا ترك الشياطين تصيح وتعترف: «أنت هو ابن الله» (لو 4: 40و41) قبل أن ينتهرهم، مع أن ق. مرقس اهتم كثيراً بأمر المسيح للشياطين حـتى لا تتكلم لأنهـم كـــانوا يعرفونـه. وطبعـاً هـذا المبـدأ عند ق. مرقس قائم على أساس سرية استعلان المسيا.

32:1و33 «ولما صار المساء، إذ غربت الشمس، قدموا إليه جميع السقماء والمجانين. وكانت المدينة كلها مجتمعة على الباب» .

يؤكد العلماء أيضاً أن هذه الرواية منقولة عن شهود عيان، غير أنها لا تحسب عجائبية، والجديد فيها ربطها بالوقت من النهار عند غروب الشمس، وبالمكان عند الباب أي بيت سمعان بطرس. فهي ختام يوم تذكاري هو يوم شفاء حماة بطرس، لذلك يرجح أنها من إملاء ق، بطرس. والملاحظ جداً في هذه الرواية الميعاد عند غروب الشمس، لماذا ذكر ق. مرقس هذا الميعاد؟ واضح أنه في نهاية يوم السبت حيث يمكن للناس أن يسيروا من أماكن بعيدة دون كسر الناموس. وهذا يوضح لنا عرضاً مقدار حفظ الشعب لنظام الناموس بالرغم من حاجتهم الملحة للشفاء. وأيضاً ذكر «على الباب» يكشف أن المسيح ومعه الأربعة تلاميذ كانوا داخل البيت وربما كان في نيتهم المبيت، لذلك تكاثر الشعب المريض عند الباب بإلحاح أن يخرج ويشفيهم. كذلك نستشف من هذه القصة أن أخبار المسيح كانت تُذاع بسرعة التليفون عندنا، فكيف عرف الشعب المكان الذي فيه المسيح إلا بتناقل الأخبار بمنتهى السرعة . إذن، صحت المقولة السابقة أن خبر المسيح في عملية الشفاء الذي تم للذي به الروح النجس ذاعت في كل نواحي الجليل؛ هي صادقة وها هو البرهان. إذن، فالرواية التي يرويها ق. مرقس في إنجيله متماسكة ومعتمدة بعضها على بعض بصورة تكاد تكون إعجازية لإنسان يكتب إنجيلاً.

34:1 «فشفی کثیرین گانوا مرضى بأمراض مختلفة، وأخرج شياطين كثيرة، ولم يدع الشياطين يتكلمون لأنهم عرفوه».

يكشف القديس مرقس هنا القوة الماسيانية التي للمسيح عن طريق الشفاء للأمراض المختلفة مع إخراج الشياطين. غير أن المسيح نفسه لكي لا يفصح عن القوة الماسيانية التي يمارس بها عمله في الشفاء، كان يخرس الشياطين التي تعودت الإعلان عن حقيقته. فلأنهم تمادوا في الصراخ باسمه ولقبه كان يشترط عليهم في الخروج أن لا ينطقوا باسمه. كما انتهر تلاميذه أن لا يقولوا لأحد عنه أنه المسيا ابن الله. لأنه لا . أن يلزم الناس بالإيمان به بل كان يترك حاسة الإيمان تعمل حرة دون إيعاز أو يريد ضغط.

هـكـذا كـان الـعـالم الـذي جاءه المسيح: مرضى كثيرون، وكثيرون استحوذت عليهم الأرواح الشريرة، عالم يئن تحت ثقل الخطية وآثارها المدمرة. وهكذا جاء ابن الله طبيباً مداوياً ومعلماً يعلم الحق، ليشفي الأجساد والأرواح.

اكتظت طرقات كفرناحوم وأزقتها بالمشلولين محمولين على الأيدي، بالعرج، بالعمي، بالصـم، بالموجوعين بكـل أنـواع الأمـراض. منظـر حـزين وكئيب، مرضـى محمـولين ومرضى يزحفـون ومرضى يصرخون، بشرية مضروبة بضربة بلا شفاء. بعضـهـم بات على أسوار المدينة وبعضهم ما أن غربت الشمس حتى تسابقوا يتزاحمون ويتساقطون ولا من معين ولا من يرحم. وأخيراً وصلوا إلى الباب، الباب الوحيـد المفتـوح للبشرية في السماء والأرض. خـرج يسـوع ومـا أن هـ بحضرته حتى شـفى البعض، وصرخت الشياطين وخرجت، لم تطق رؤياه، والبعض لمسهم، والبعض بمجـرد أن نظـروه عوفيـت أجسادهم وأرواحهم. وبعكس ما جاءوا بالحزن والألم والأنين والصراخ، ذهبوا بالفرح يجرون ويتسابقون ويهللون. صورة واقعيـة أشـد مـا تكـون الواقعية للبشرية في بعدها عنه : ثم في قربها منه. وهذا هو المسيا شهدت له أعماله قبل أن تشهد له أقواله. وهذا هو ق. مرقس كيف في صورة واحدة جعل الواقع الحي ينطق بالمسيا، وكأنما كل مجموعة آيات تقف لتردد: «إنجيل يسوع المسيح ابن الله» !

ليست كفرناحوم والجليل وما حواليها هي التي انفردت بالمرضى والمعذبين من الشياطين، بل العالم كله. العالم يدفع كل يوم ضريبة البعد عن المسيح ولا يريد أن يتقدم إليه لينال الصحة والحياة: المسيح يرى ذلك فارداً ذراعيه: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم» (مت 28:11). ولكن كما قالها الله في القديم: «بسطت يدي إلى شعب معاند ومقاوم» (رو 21:10)، وهم «أعطوا القفا لا الوجه» (إر 24:7)، ذهبوا «كل واحد إلى طريقه» (إش 6:53)، و «تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آباراً آباراً مشققة لا تضبط ماء» (إر 13:2)، «تركوني أنا الحبيب مثل ميت» «نسيت من القلب مثل الميت» (مز 12:31)، و «لولا أن رب الجنود أبقى لنا نسلاً لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة!!» (رو 29:9).

فاصل

9- الخروج إلى الخلاء ليصلي [35:1-39]

(لو 4: 42-44)

 قصص المسيح في إنجيل ق. مرقس تختلف عن جميع القصص الأخرى، فهي ليست على مستوى الذات بمعنى منه وهو أنها دائماً مفتوحة على الآخرين، إذ أن المسيح لم يعمل ولم يتحرك ولم يتكلم لذاته، فكل ما يحكى عنه هو للآخرين، فمن العجب حقا أن يذهب المسيح إلى الخلاء ليصلي فيلاحقه تلاميذه بالقول: «الجميع يطلبونك» فلا نسمع “اتركوني في خلوتي لأصلي؛ بل ‘‘لنذهب إلى القرى المجاورة لأكرز هناك. نعم حياته وراحته وخلوته وصلواته كانت ليست له!! نفسه يعطي العلة لذلك: «لأني لهذا خرجت» (مر 38:1). وفي آية واحدة جمع ق. مرقس خدمة أيام كثيرة بجملتها: « فكان يكرز في مجامعهم في كل الجليل ويخرج الشياطين.» (مر 39:1)

35:1 «وفي الصبح باكراً جدا قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء، وكان يصلي هناك».

القصة لشاهد عيان من داخل البيت، لأن وصف الصباح الباكر جداً يعني: وبقايا الليل لا تزال، أو يقال: باكراً والظلام باق. هذا التحديد يحكي على أن الذي يروي كان قد استيقظ في آخر الليـل فبحث عن المسيح ولم يجده في البيت، فعرف أنه ذهب خارجاً، ويبدو أن هذه كانت عادته، يذهب إلى مكان خلاء ليصلي. وقد حددت الكنيسة صلاة باكر بحسب هذا التحديد والظلام باق!!

«قام وخرج ومضى»:

يلزم أن الذي نقل هذه الرواية عن المسيح كان يرصد تحركات المسيح وأحس به لما قام في صمت وهدوء وخرج من الباب ومضى في طريق الخلاء ـ غالباً خارج المدينة ـ والناس نيام.

والمسيح كان يحب الصلاة في الأماكن الخالية والجبال. ويبدو أن عدد المرات التي استطاع الإنجيل أن يرصدها في إنجيل ق. لوقا هي ثماني مرات وفي إنجيل ق. مرقس أربع مرات.

وهذه الآية متصلة بالآية السابقة اتصالاً سريا، فخدمة مرضى المدينة كلها إلى ساعات متأخرة من الليـل يتحتم أن يقابلها في الصباح الباكر خلـوة وصـلاة وعـرض الحيـاة على الآب السماوي.

فالصلاة هي الينبوع السري الذي يمنح للخدمة والعمل والوعظ قوتها وفاعليتها. فسر اندهاش الناس من السلطان والقوة التي كان يعلم ويعمل بها المسيح، كان منبعه الصلاة السرية التي كان يتحدث فيها مع الآب حيث القوة والسلطان ورفع الفكر والإرادة لتتعادل مع الذي للآب. لأن في الصلاة ترتفع قوى العقل والروح لتبلغ كمالها فيما هو للآب: «ينبغي أن أكون فيما لأبي» (لو 49:2). أما الخلاء بالنسبة للصلاة فهـو للحديث سرا مع الآب ولا رقيب ليسخن قـوى النفس في الهـدوء بلا انزعاج، ولتشبع الروح من منابع الصفاء الإلهي. وبقدر التعمق في هدوء الخلوة بقدر ارتفاع سعة الصلاة وعلوها وامتدادها .

وهنا تأتي نصيحة المسيح الذهبية: «وأما أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعك واغلق بابك» (مت 6:6)، فالذي ليس له باب يغلق ليست له صلاة تُسمع، وفي الخفاء يرى الله ما لا يراه الناس.

إن صورة المسيح الواقف على قمة التل خارج المدينة يصلي الصورة الحية التي لا تزال قائمة تفيض على العالم قوة وسلاماً، ويستمد منها كل من وقف يصلي قوة وسلاماً وحياة.

36:1و37 «فتبعه سمعان والذين معه. ولما وجدوه قالوا له: إن الجميع يطلبونك» .

سعى سمعان بطرس وأخـوه أندراوس ويعقوب ويوحنـا سعياً حثيثاً خلف المسيح يطلبونه بعد أن وجدوا الجموع قد تزاحمت مرة أخرى حول البيت، مرضى ومعذبون بالأرواح الشريرة. ولكن لم يستطع الأربعة أن يدركوا أن لولا الصلاة ما كانت خدمة وما كانت قوة على الخدمة.

ألحوا على المسيح بالعودة إلى البيت ليصنع رحمة وشفاء لتلك الجموع المتراصة؛ ولكن رأى المسيح أن لا يركز عمله في مدينة واحدة، فهو جاء من أجل الجميع.

38:1و39 «فقال لهم: لتذهب إلى القرى المجاورة لأكرر هناك أيضاً، لأني لهذا خرجت. فكان يكرز في مجامعهم في كل الجليل ويخرج الشياطين».

لقد استوفت خدمة الشفاء ومعجزاتها حدها، وبدأت الكرازة بالأخبار السارة تضغط على نفسه لأنها أساس خروجه من عند الآب، الذي فيه قمة سعادته لاستعلان الآب والحياة الأبدية. لأن المقارنة حادة: هل يشفى الإنسان أم يفتح روحه للحياة الأبدية؟ فهل ننسى أن المسيح فضل أن يدخل الإنسان أعور أو أقطع ملكوت الله من أن يكون صحيحاً معافئ ويلقى في جهنم؟ أم ننسى بولس الذي ألح ثلاث مرات على الله أن يشـفـى مـن لطمـة الشيطان فكان رد المسيح أن: «تكفيـك نعمتي: لأن قوتي في الضعف تكمل» (2كو 9:12). علماً بأن المسيح استخدم المعجزة والأشفية لغرض الإيمان وقبول نعمة الخلاص والحياة الأبدية، وليس كمجرد عمل رحمة بحد ذاتها، أو لاستظهار قوته على الشياطين. فإذا استخدم السلطان علناً فذلك لكي يعلن مجيئه كمسيا، وإذا كان قد تحنن وشفاهم فذلك لكشف عمل محبة الله عبر الابن الوحيد.

فاصل

(10) شفاء الأبرص40:1-45]

(مت 8: 1 ـ 4)،
(لو 5: 12-16)

لا نعثر هنا على أسماء أشخاص أو مواضع، فهي كلها شهادات في التقليد رسخت منذ البدء لا كقصص متكاملة بل حوادث متفرقة يجمعها ق. مرقس دون أن يعطيها شكل القصة. وقول المسيح للأبرص بعد أن شفي: «أر نفسك للكاهن» يحسب لفتة عظيمة للغاية بالنسبة لليهود المتنصرين حديثاً، إذ يعطي للناموس مكاناً: «وقدم عن تطهيرك ما أمر به موسى شهادة لهم» (44:1). ولأول وهلة يظن القارئ أن المسيح يرتد إلى بقايا العهد القديم وفرائض الناموس؛ ولكن الحقيقة أعمق من ذلك. فالأبرص المعروف أنه صار أبرص لسنين طويلة يستحيل عليه بعد أن شفي بواسطة المسيح أن يمشي بين الناس أو يتعامل مع أحد إلا بعد أن يمنحه الكاهن شهادة موثقة أنه صار طاهراً، لأنه معروف وسط الحي وجميع الناس، ويستحيل على الكاهن أن يعطيه هذه الشهادة دون أن يقدم الذبائح المفروضة على الأبرص حينما يشفى. فالمسيح بنصيحته هذه للأبرص الذي شفي إنما يسعى لضمان صحة نفسه وسط الجماعة وقبول المجتمع له. غير أن الأبرص صار طاهراً بمجرد قول المسيح له: «أريد فأطهر». هنا الكلمة ذات قوة تطهير، أما “لمسة | المسيح فهي لتسريب قوة شفاء للجسد وتطهيره بالروح. وقد أخطأ العلماء عندما احتسبوا هذه القصة أنها ليست معجزة لأن المسيح استعان بالناموس، هذا غباء لأن المعجزة قد تمت بالكامل ولم ينقصها شيء بالنسبة للناموس؛ ولكن الأبرص نفسه هو الذي يحتاج إلى شهادة من الكاهن، وشهادة الكاهن ستثبت معجزة المسيح لأنه سيعترف له أنه قد شفي!

40:1_44 «فأتى إليه أبرص يطلب إليه جاثياً وقائلا له: إن أردت تقدر أن تطهرني! فتحنن يسوع ومد يده ولمسه وقال له: أريد، فاطهر. فللوقت وهو يتكلم ذهب عنه البرص وطهر. فانتهره وأرسله للوقت، وقال له: انظر، لا تقل لأحد شيئاً، بل اذهب أر نفسك للكاهن وقدم عن تطهيرك ما أمر به موسى، شهادة لهم».

معروف أن هذا المرض شديد العدوى وهو ينتقل وينتشر بالملامسة. وفي وصايا العهد القديم كان على الأبرص أن يسير وحده، وإذا رأى أحداً مقبلاً نحوه يصيح: «نجس نجس» حتى لا يقترب منه أحد (لا 13: 45 و 46). له رائحة كريهة ومنظر كرية وآلام مبرحة ويكتب على المريض به أن يعيش منعزلاً، وفي الوقت الحاضر توجد معازل خاصة بالمرضى بهذا المرض. وكان يلذ الله أن يظهر قوته في الإبراء منه، فأليشع النبي شفى نعمان السرياني من البرص بمجرد نزوله في الماء في الأردن عدة مرات. أما المسيح فقد أجرى أشفية كثيرة لهؤلاء المرضى. وظاهرة جديدة بديعة ظهرت في سلوك المسيح ومشاعره تجاه هذا الأبرص، إذ تقـول القصة إن المسيح تحنّن عليه، ولكن ليس لمجرد الحنان كعاطفة؛ بل حنان البذل والحب الفائق إذ مدّ إليه يده ولمسه، وهناك خطورة العدوى، ولكن المسيح رحب بالعدوى لأنه أخذ مرضه بالسر الإلهي واستهلكه وأباده في جسده المقدس فشفى المريض في الحال: «لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي القائل: هو أخذ أسقامنا وحمل أمراضنا.» (مت 17:8)

هو سر مهول ومخوف جدا: على أي أساس يتحنن المسيح وما الثمن الذي يدفعه حينما يلمس أبرص ليشفى؟ قد يبدو بسذاجة أن الشفاء حدث من تلقاء نفسه، ولكننا عرفنا مؤكداً ومن فم المسيح السر الذي كشفه عفوياً: أن «قوة تخرج منه» ليتم شفاء المرأة نازفة الدم (مر 30:5)، والأبرص بالضرورة. إنه خارج عن إمكانية تصورنا وفهمنا وإدراكنا كيف ‘‘أخذ’’ سقم البرص في جسده وماذا تمّ حتى لاشاه من جسد المريض؟ إنه لمن السذاجة أن نعتبر أن الأشفية تمت بمجرد كلام وبمجرد لمس اليد! إن الجسد المقدس الذي للمسيح تحمل عبئاً مريعاً لكي يتم غفران خطايا العالم: آلاماً مروعة قبل وعلى الصليب، فليس بسهولة وليس بلا ثمن ولا ألم ولا عناء يتم الشفاء؛ ولكن قوة إحراق الخطية في جسده المقدس لا نستطيع أن ندركها ولا هي تتم على مستوى آلام البشر أو تترك أثرها كما في أجسام الناس. لأن نار اللاهوت قوة مطهرة فائقة العمل والوصف والسرعة تحرق كل ما هو سلبي، ولكنها لا تحرق قط بل وتشدد كل ما هو مقدس. اسمع ما قاله النبي لما استشف السر: «أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمّلها» . «مسحوق لأجل آثامنا» … «الرب وضع عليه إثم جميعنا» «أثامهم هو يحملها» «حمل خطية كثيرين.» (إش 53: 4و5و6و11و12)

صحیح أننا على الصليب وما قبله رأيناه وشاهدناه ولمسناه وشعرنا به وتأكدنا منه، ولكن من يعرف ومن يدري أنه ولد مصلوباً وعاش مصلوباً وهو مصلوب منذ إنشاء العالم. المسيح كان كل مرة يشفي فيها مريضاً كان يمارس صليبه، كان يتجرع كأس ألامه، وكأنه يذوق موته مسبقاً.

يا قارئي العزيز ليس مجاناً غفرت خطايانا ولا مجاناً نتنعم الآن بنعمة المسيح !!!
[أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له فلنسبحه ونباركه ونزيده علواً].

(التسبحة السنوية ـ مرد ثيئوتوكية الجمعة)

لذلك إن لم نفرح بغفران خطايانا ونتهلل بحياتنا الجديدة ونستمتع بنعمته ونفرح بالروح كـل يـوم، يكون المسيح كأنه تألم بعيداً عنا وذبح بدوننا مع أننا تألمنا وطلبنا ومتنا معه!!

الجديد والعجيب في هذه القصة أن يقترب أبرص من المسيح، كاسراً قانون عزل الناموس، ويبادر بإحراج المسيح كاشفاً رحمة المسيح ومستوى إرادته من نحوه!! وكأنها جاءت كمحاولة لاستعلان ألوهية المسيح. لأن الأبرص لم يسأل المسيح ولا هو توسّل من بعيد أو ترجي بالإشارة؛ بل هو تحدى الناموس وتحدى مرضه وتحدى حب المسيح معاً. وترجمة هذه المبادرة من جهة الأبرص هكذا: “هل عندك إرادة لتشفي مريضـاً أبـرص؟ وإن أردت هـل لـديـك قـدرة أن تشفيني؟”. والجديد في الأمر أن المسيح قبل التحدي. فمن جهة الإرادة قال له أريد! ومن جهة القدرة لمسه، فطهر !! هذا عجب المسيح والإنجيل والقديس مرقس الذي يحبك هذه القصة بهذا القدر ليكشف ماسيانية المسيح، ويحقق ما تعهد به في أول الإنجيل: «إنجيل يسوع المسيح ابن الله» فهذه القصة تقول إن يسوع هو حقا المسيح. ولكن المسيح يتمادى في إنكار ذاتـه ويختفي وراء الناموس ويقدم الهيكل والكاهن ويؤخر نفسه، فيقـول للأبرص:

أولاً: انظر لا تقل لأحد شيئاً.
ثانياً: اذهب أر نفسك للكاهن.
ثالثاً: قدم قربانك حسب الناموس.
رابعاً: اعترف للكاهن شهادة لحق الناموس وموسى أنك طهرت وها أنت عملت بحسب كلام موسی

وتم قول المسيح الذي قاله يشرح نفسه والإنجيل:

+ «ما جئت لأنقض (الناموس) بل لأكمل.» (مت 17:5)

 

45:1«وأما هو فخرج وابتدأ ينادي كثيراً ويذيع الخبر حتى لم يعد (المسيح) يقدر أن يدخل مدينة ظاهراً بل كان خارجاً في مواضع خالية وكانوا يأتون إليه من كل ناحية».

فبالرغم من توصية المسيح للأبرص وتحذيره له أن لا يقول لأحد شيئاً خاصة عن من شفاه، إلا أنه لم يطع أمر المسيح بل تمادى في الصياح من كثرة انفعاله، وأسند ما حدث له وكيف حدث إلى المسيح باعتباره (الشفاء) معجزة حياته. وواضح أن المسيح كـان يطالب التلاميذ أن لا يقولوا عنه، وأما الشياطين فكان ينتهرهم ويأمرهم بالصمت، وهذا الأبرص أيضاً أن يكتم سر شفائه، كل هذا حتى يستطيع المسيح أن يخدم في هدوء ولا يضطر للخروج خارج المدن حيث يزداد تعبه وتعب الناس. ولكن المسيح على كل حال كان يمارس حنانه وحبه للخطاة والمرضى ويكرز في كل وقت وكل مكان دون ملل. وبعد شفاء الأبرص اضطر أن يخرج بعيداً خارج المدن وكان الشعب يتقاطر نحوه من كل مكان.

تفسير مرقس 1 ج1 إنجيل مرقس – 1 تفسير إنجيل مرقس تفسير العهد الجديد تفسير مرقس 2
القمص متى المسكين
تفاسير مرقس – 1 تفاسير إنجيل مرقس تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى