تفسير إنجيل مرقس أصحاح 12 – كنيسة مارمرقس مصر الجديدة
الأَصْحَاحُ الثَّانِي عَشَرَ
مقاومة المسيح في أورشليم | دعوته للتواضع والعطاء
(1) الكَرَّامُون الأردياء (ع 1-12):
1 وَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ بِأَمْثَال: «إِنْسَانٌ غَرَسَ كَرْمًا وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ، وَحَفَرَ حَوْضَ مَعْصَرَةٍ، وَبَنَى بُرْجًا، وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ. 2 ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى الْكَرَّامِينَ فِي الْوَقْتِ عَبْدًا لِيَأْخُذَ مِنَ الْكَرَّامِينَ مِنْ ثَمَرِ الْكَرْمِ، 3 فَأَخَذُوهُ وَجَلَدُوهُ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغًا. 4 ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا عَبْدًا آخَرَ، فَرَجَمُوهُ وَشَجُّوهُ وَأَرْسَلُوهُ مُهَانًا. 5 ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضًا آخَرَ، فَقَتَلُوهُ. ثُمَّ آخَرِينَ كَثِيرِينَ، فَجَلَدُوا مِنْهُمْ بَعْضًا وَقَتَلُوا بَعْضًا. 6 فَإِذْ كَانَ لَهُ أَيْضًا ابْنٌ وَاحِدٌ حَبِيبٌ إِلَيْهِ، أَرْسَلَهُ أَيْضًا إِلَيْهِمْ أَخِيرًا، قَائِلًا: إِنَّهُمْ يَهَابُونَ ابْنِي! 7 وَلكِنَّ أُولئِكَ الْكَرَّامِينَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هذَا هُوَ الْوَارِثُ! هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ فَيَكُونَ لَنَا الْمِيرَاثُ! 8 فَأَخَذُوهُ وَقَتَلُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ. 9 فَمَاذَا يَفْعَلُ صَاحِبُ الْكَرْمِ؟ يَأْتِي وَيُهْلِكُ الْكَرَّامِينَ، وَيُعْطِي الْكَرْمَ إِلَى آخَرِينَ. 10 أَمَا قَرَأْتُمْ هذَا الْمَكْتُوبَ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ، هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ؟ 11 مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هذَا، وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا!» 12 فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ، وَلكِنَّهُمْ خَافُوا مِنَ الْجَمْعِ، لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ قَالَ الْمَثَلَ عَلَيْهِمْ. فَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا.
ع1: استغل السيد تجمع الشعب حوله في الهيكل، وتكلم معهم بهذا المثل، قاصدا إيضاح ما قاساه الله مع الكنيسة اليهودية في العهد القديم.
“إنسان غرس كرما”: الله المؤسس والداعى شعبه باهتمام شديد وعناية فائقة.
“سياج… حوض معصرة”: أي حرس هذه الكرمة بيده القوية، وحوض المعصرة معناه أنه جهزها لاستقبال الخير والثمر من نتاج الكرمة (أي المسيح المخلّص من نسل هذا الشعب، والمتألم في المعصرة).
“وبنى برجا”: برجا أو بيتا للحراسة، وهو الهيكل، وسلّم الشعب والهيكل للكهنة والرؤساء، الذين افترض فيهم حماية شعبه، وأعطاهم السلطان (سافر).
ع2-5: توضح هذه الأعداد محاولات الله المتعددة لافتقاد شعبه عن طريق الأنبياء المتتاليين، وماذا صنع الشعب الشرير بهم، فهناك من احتقروا تعليمه، ومن ضربوه وشجوا رأسه، أي كسروا رأسه وكادوا أن يقتلوه، وأخر قتلوه بالفعل (مثل إشعياءٍ)… وهكذا كان نصيب كل أجيال الأنبياء من جلد وإهانة، ونسى الشعب وكهنته أنهم بهذا يهينون صاحب الكرمة نفسه.
ع6: كتعبير عن يأس صاحب الكرم من محاولات إصلاح الكرامين، أرسل ابنه الوحيد، الحامل لكل سلطان الآب، لعلهم يهابونه ويخافونه ويرجعوا عن شرهم.
ع7-8: ينتقل بنا هنا السيد المسيح في المثل إلى زمنه الحاضر، وما سوف يحدث له، بتدبير الكهنة والكتبة الأشرار، في التآمر عليه لقتله وصلبه خارج الكرم، أي خارج أورشليم.
ع9: بعد موت الابن، واستمرار الأمة اليهودية في الرفض لآخر نداء من الآب -الفداء- يرفض الله من رفضوه ويهلك الكرامين، أي الكهنة المعاندين، ويعطى (ينقل) الكرم (الكنيسة) إلى آخرين (الأمم وكهنوت العهد الجديد).
ع10-11: “أما قرأتم”: صار الاتهام واضحا وموجها من المسيح إلى رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ، في أن ما قاله في المثل ينطبق عليهم… ويزيد أن ما قاله داود في (مز 118: 22-23)، وهم يعرفونه جيدا، إنما ينطبق عليهم وعليه، فهم رفضوه، وهو حجر الزاوية.
“رأس الزاوية”: أي حجر الزاوية، وهو الحجر الأساسى الذي تلتقى عنده زوايا الجدار فيسندها، ويماثل العمود الخرسانى في زماننا هذا.
ع12: “فطلبوا أن يمسكوه”: فَهِمَ المستمعون من شيوخ وكهنة أن المثل كان عليهم، ولهذا استبد بهم الغيظ، حتى أن قرارهم كان قتله. ولكن الجموع المحتشدة والمُحبة لكلام السيد، كانت المانع الوحيد لقبضهم عليه، فانصرفوا بغيظهم.
† أعطنى با إلهي قلبا يدرك نداءك المستمر لى، فيستجيب لك ولا يهمل وصاياك… انزع منه قساوة الكرامين الأردياء، لأكون مطيعا لك ولكنيستك، عاملا بكل ما أسمعه وأتعلمه.
(2) السؤال عن الجزية (ع 13-17):
13 ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ قَوْمًا مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالْهِيرُودُسِيِّينَ لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكِلْمَةٍ. 14 فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ، لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ، بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ. أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟ نُعْطِي أَمْ لاَ نُعْطِي؟» 15 فَعَلِمَ رِيَاءَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ اِيتُونِي بِدِينَارٍ لأَنْظُرَهُ». 16 فَأَتَوْا بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» فَقَالُوا لَهُ: «لِقَيْصَرَ». 17 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ». فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ.
ع13-14: اجتمع شمل الأعداء للوشاية والإيقاع بالرب يسوع. فالفرّيسيّون هم اليهود المتعلمين المدققين، ويمثلون الأمة اليهودية. أما الهيرودسيين، فهم أتباع هيرودس ممثل الرومان المحتلين في الحكم. وسألوه بعد مدحه، ليفقد حذره منهم، عن شريعة دفع الضرائب لقيصر – المحتل – ومن خبثهم، أنهوا سؤالهم بهذه العبارة: “نعطى أم لا نعطى؟” لتحديد إجابته بنعم أو لا. فإن قال نعم، اتهموه بمحاباة قيصر وولائه للرومان. وإن قال لا، اتهموه بمعاداة قيصر والتحريض ضده.
ع15-16: كشف السيد المسيح خداعهم وغرضهم، وفاجأهم بالسؤال: “لماذا تجربوننى؟” وأكمل حديثه بطلب دينار – عملة معدنية رومانية – وعند إحضاره، سأل المسيح سؤالا ثانيا عن صاحب الصورة والكتابة على وجهى العملة، فأجابوا: قيصر.
ع17: أجاب المسيح بحكمته إجابة لم يتوقعها أحد منهم، بل خيبت آمالهم في القبض أو الشكاية عليه…
† أما المعنى الروحي للإجابة فهو: أن نعطى الروح احتياجاتها، وكذلك الجسد أيضا، أي ألا نقصّر في اتجاهاتنا وأمانتنا نحو واجباتنا في العالم، ولكن، ليس على حساب الله والحياة معه.
(3) السؤال عن القيامة (ع 18-27):
18 وَجَاءَ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ الصَّدُّوقِيِّينَ، الَّذِينَ يَقُولُونَ لَيْسَ قِيَامَةٌ، وَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ: 19 «يَا مُعَلِّمُ، كَتَبَ لَنَا مُوسَى: إِنْ مَاتَ لأَحَدٍ أَخٌ، وَتَرَكَ امْرَأَةً وَلَمْ يُخَلِّفْ أَوْلاَدًا، أَنْ يَأْخُذَ أَخُوهُ امْرَأَتَهُ، وَيُقِيمَ نَسْلًا لأَخِيهِ. 20 فَكَانَ سَبْعَةُ إِخْوَةٍ. أَخَذَ الأَوَّلُ امْرَأَةً وَمَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ نَسْلًا. 21 فَأَخَذَهَا الثَّانِي وَمَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ هُوَ أَيْضًا نَسْلًا. وَهكَذَا الثَّالِثُ. 22 فَأَخَذَهَا السَّبْعَةُ، وَلَمْ يَتْرُكُوا نَسْلًا. وَآخِرَ الْكُلِّ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ أَيْضًا. 23 فَفِي الْقِيَامَةِ، مَتَى قَامُوا، لِمَنْ مِنْهُمْ تَكُونُ زَوْجَةً؟ لأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِلسَّبْعَةِ». 24 فَأَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُمْ: «أَلَيْسَ لِهذَا تَضِلُّونَ، إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ اللهِ؟ 25 لأَنَّهُمْ مَتَى قَامُوا مِنَ الأَمْوَاتِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يُزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ. 26 وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الأَمْوَاتِ إِنَّهُمْ يَقُومُونَ: أَفَمَا قَرَأْتُمْ فِي كِتَابِ مُوسَى، فِي أَمْرِ الْعُلَّيْقَةِ، كَيْفَ كَلَّمَهُ اللهُ قَائِلًا: أَنَا إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ؟ 27 لَيْسَ هُوَ إِلهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلهُ أَحْيَاءٍ. فَأَنْتُمْ إِذًا تَضِلُّونَ كَثِيرًا!»
ع18: “الصدوقيين”: هم جماعة يهودية ينتسبون إلى صادوق رئيس الكهنة أيام سليمان، وجاءوا إلى المسيح ليجربوه أيضا، وكانوا لا يؤمنون بقيامة الأموات. وقد حرص القديس مرقس أن يشير إلى عقيدتهم، حتى نفهم سبب سؤالهم التالي، والذي لا يخلو من سخرية من القيامة، ويكشف فهمهم المادي المحدود للحياة الأبدية.
ع19: “كتب.. موسى”: أي في شريعة الناموس (تث 25: 5-6)، أنه إذا مات المتزوج قبل أن ينجب، فعلى أخيه أن يتزوج بأرملة المتوفى، ويسجل أول ابن باسم المتوفى، حتى لا يزول اسمه من سبطه ولا يضيع ميراثه.
ع20-23: عرض الصّدّوقيّون سؤالهم الجدلى بغرض فحص المسيح، وإغاظة الفرّيسيّين، والتهكم على فكرة القيامة، في أنه لمن من الأزواج السبعة تكون زوجةً؟! راجع شرح (مت 22: 23-33).
ع24-25: جاءت إجابة المسيح لهم موبخة، إذ واجههم بانحراف إيمانهم، وأرجع السبب في ذلك لانصرافهم عن شريعة الله بالجدل العقلى، والاستهانة بقوة وقدرة الله على قيامة الأموات، ووضح لهم في (ع25) أنه لا زواج جسدي في القيامة، بل تكون الأجساد روحانية نورانية كأجساد الملائكة، فلا حاجة هناك للتكاثر أو التناسل.
ع26-27: يعود السيد المسيح للتأكيد على عقيدة قيامة الأموات، ويقدم دليلا من الكتاب المقدس، فيذكر للصدوقيين الحديث الذي دار بين الله وبين موسى في سيناء، عند العليقة (خر 3: 6، 16)، وكيف قدم الله نفسه لموسى، إذ قال إنه إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وليس من المعقول أن ينسب الله نفسه لأموات، بل لأحياء. وختم المسيح حديثه كما بدأه معهم بأنهم انحرفوا عن الإيمان برفضهم لحقيقة القيامة من بين الأموات.
† إلهي الحبيب… إن القيامة والأبدية حقيقة نؤمن بها، ولكنها كثيرًا ما تغيب عن قلوبنا، فننشغل بالعالم الفانى، وننسى ما هو باقٍ لنا… أعطنا يا رب أن نهتم “بالباقيات عوض الفانيات، والأبديات عوض الزمنيات” كما تعلّمنا الكنيسة أن نصلي في أوشية الراقدين.
(4) الوصية العُظْمَى (ع 28-34):
28 فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَسَمِعَهُمْ يَتَحَاوَرُونَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ حَسَنًا، سَأَلَهُ: «أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ الْكُلِّ؟» 29 فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. 30 وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى. 31 وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ». 32 فَقَالَ لَهُ الْكَاتِبُ: «جَيِّدًا يَا مُعَلِّمُ. بِالْحَقِّ قُلْتَ، لأَنَّهُ اللهُ وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ. 33 وَمَحَبَّتُهُ مِنْ كُلِّ الْقَلْبِ، وَمِنْ كُلِّ الْفَهْمِ، وَمِنْ كُلِّ النَّفْسِ، وَمِنْ كُلِّ الْقُدْرَةِ، وَمَحَبَّةُ الْقَرِيبِ كَالنَّفْسِ، هِيَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمُحْرَقَاتِ وَالذَّبَائِحِ». 34 فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ أَنَّهُ أَجَابَ بِعَقْل، قَالَ لَهُ: «لَسْتَ بَعِيدًا عَنْ مَلَكُوتِ اللهِ». وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ بَعْدَ ذلِكَ أَنْ يَسْأَلَهُ!
ع28: بعد أن سأل الفريسيون عن الجزية، والصدوقيون عن القيامة، جاء دور الكتبة، فسأل أحدهم، بعد أن أعجبته إجابة السيد المسيح على الصدوقيين، والتي وبخهم بها فأسكتتهم. وكان سؤال هذا الكاتب: “أية وصية هي أول الكل؟” أي ما هي الوصية التي يمكن اعتبارها الأهم بين الوصايا؟
ع29-31: جاءت إجابة السيد المسيح أن الله هو واحد وهو الأول قبل كل شىء، ولهذا، فإن الوصية الأولى هى أن يحب الإنسان الله من كل قلبه (عواطفه)، ومن كل نفسه (روحه)، ومن كل فكره (عقله)، وبكل قوته وجهده (قدرته). أما الوصية الثانية، والمرتبطة بها وتكملها، فهي محبة الإنسان لأي إنسان آخر، فالبشر كلهم أقارب من أب واحد هو آدم، وحواء الأم الواحدة؛ ولا توجد وصية أعظم من هاتين، لأنهما تتضمنان فيهما وخارجهما كل شيء.
ع32-33: استحسن هذا الكاتب إجابة المسيح، وشهد له بموافقته فيما قاله من وجوب محبة الله من كل الكيان الإنساني، وأن محبة القريب كالنفس هي أفضل الذبائح المقدمة لله على الإطلاق.
ع34: فرح المسيح بإجابة الرجل، وأعلن له أنه ليس بعيدا عن الخلاص.
† وهذا الإعلان هو لنا جميعا، فمحبة الله والإنسان هما أهم وصايا المسيحية، ومن جاهد فيهما يُفرّح قلب الله.
ويذكر القديس مرقس أن المسيح لم يتلق أية أسئلة أخرى من طوائف اليهود المجتمعين حوله، وألمح أيضًا أن السبب كان الإجابة الشاملة والحاسمة على كل ما سئل فيه، فلم يجرؤ أحد على سؤاله ثانية.
(5) المسيح، ابن داود أم رب داود (ع 35-37):
35 ثُمَّ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ: «كَيْفَ يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ دَاوُدَ؟ 36 لأَنَّ دَاوُدَ نَفْسَهُ قَالَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي، حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ. 37 فَدَاوُدُ نَفْسُهُ يَدْعُوهُ رَبًّا. فَمِنْ أَيْنَ هُوَ ابْنُهُ؟» وَكَانَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ يَسْمَعُهُ بِسُرُورٍ.
ع35: “كيف يقول الكتبة”: بدأ السيد المسيح هنا المبادرة بسؤال عما يعلم به الكتبة والفرّيسيّون من أن المسيح المنتظر هو ابن داود ومن نسله. وكان لهذا السؤال أكثر من سبب: إيضاح جهل معلّمى اليهود بكل الحق، وقصور فهمهم، ثم إثبات لاهوته بإعلان أنه هو نفسه رب داود.
ع36-37: لم يسأل السيد المسيح ليتلقى إجابة، بل سأل ليجيب ويعلّم ويوضح الآتي:
إن داود في (مز 110: 1) يتنبأ بالروح القدس ويقول: “قال الرب لربى”، أي قال الآب للابن: “اجلس عن يميني”، أي لك كل سلطانى وقوتى، وأنا أخضع كل مقاوميك ومملكة الشر تحت قدميك، أي تحت سلطانك، فكيف إذن يكون ابنا لداود وربا له في الوقت نفسه… وبالطبع، فالمقصود أن المسيح في تجسده أتى من نسل داود وسبط يهوذا، ولكنه هو الإله المسجود له من داود الذي يدعوه: ربى.
“الجمع.. يسمعه”: يوضح القديس مرقس الفرق بين فرح الشعب البسيط بتعليم المسيح، وبين غيظ الكهنة والرؤساء من حديثه.
(6) التحذير من الكتبة والفرّيسيّين (ع 38-40):
38 وَقَالَ لَهُمْ فِي تَعْلِيمِهِ: «تَحَرَّزُوا مِنَ الْكَتَبَةِ، الَّذِينَ يَرْغَبُونَ الْمَشْيَ بِالطَّيَالِسَةِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، 39 وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ. 40 الَّذِينَ يَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ، وَلِعِلَّةٍ يُطِيلُونَ الصَّلَوَاتِ. هؤُلاَءِ يَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ».
ع38-39: يقدم السيد المسيح تعليمًا جديدًا للشعب يحمل في داخله توبيخا للكتبة، فيحذرهم من السلوك بالكبرياء والمظهرية كالكتبة الذين يلبسون الطيالسة، وهي رداء فضفاض طويل -كالعباية العربية- رغبة في التميّز، ويفضلون الأماكن المزدحمة بالناس كالأسواق، للظهور فيها وتبادل التحيات… كذلك عند دعوتهم لمجلس أو وليمة، فإنهم يحتلون أفضل الأماكن الظاهرة.
ع40: يفضح أيضًا السيد رياء الكتبة والفرّيسيّين، ويكشف خطية انتفاعهم المادي من الخدمة، إذ يطمعون في أموال وميراث الأرامل… وحتى صلواتهم، ليست من أجل الله، بل من أجل مديح الناس لهم.
† هكذا، كان لزاما على السيد المسيح أن يكشف لنا جميعا خطورة خطية الكبرياء وحب الذات والمظهرية، وكيف أن كل هذا يفسد العبادة، ويجعلنا، بدلًا من أن نتمتع بالله، إتما ندخر دينونة لأنفسنا بعدم اتضاعنا وانسحاقنا… فيا إلهي اجعلنى لا أهتم بكرامتى عند من حولى، بل بك وحدك، فأنت الفاحص والناظر إلى أعماقى.
(7) ذات الفلسين (ع 41-44):
41 وَجَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ الْخِزَانَةِ، وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاسًا فِي الْخِزَانَةِ. وَكَانَ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ يُلْقُونَ كَثِيرًا. 42 فَجَاءَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ وَأَلْقَتْ فَلْسَيْنِ، قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ. 43 فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ، 44 لأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا».
ع41: “تجاه الخزانة”: أي صندوق الهيكل، حيث كان الناس يأتون بتقدماتهم. وتعبير “نظر كيف” يعني في الأصل اليوناني “أدام النظر”، وهو تعبير روحي جميل يفيد أن الله دائم النظر إلى تقدمات وعطايا أبنائه التي تعبّر عن محبتهم له. وكلمة “كيف” ذكرها القديس مرقس كمقدمة بأن الله ينظر إلى الكيف والقلب أكثر من الكم والمظهر.
ع42-44: في وسط الأغنياء الذين يقدمون الكثير، جاءت امرأة فقيرة تقدم فلسين قيمتهما رُبْعٌ، أي ربع العملة الرومانية في ذلك الحين، ويساوى 1/40 من الدينار، وهو أقل قيمة وعملة كانت موجودة… وبالرغم من ضآلة المبلغ، إلا أن المسيح أراد أن يعطى التلاميذ تعليما جديدا وغريبا على الفهم والقياس البشرى… فاعتبر السيد أن ما قدمته الأرملة في عينى الله، أكثر من كل المبالغ الكبيرة التي دفعها الأغنياء، وأوضح لهم أن المرأة، وهي فقيرة، أعطت الله كل ما تملك ولم تبخل بشىء، أما الآخرون فقد أعطوا بعض ما عندهم.
† ونحن نتعلم هنا شيئين:
الأول: ألا نحكم على أحد فيما يقدمه، حتى لو كان قليلا، فالله وحده العالم بظروف الإنسان، فربما صام إنسان ساعة واحدة وصحته ضعيفة، أفضل من آخر صام يوما كاملا وكان في صومه متهاونا في مقاومة خطاياه.
الثاني: ألا نؤخر على الله حقوقه مثل العشور بحجة احتياجنا المالى… ألم تقدم هذه المرأة كل معيشتها؟!
تفسير مرقس 11 | إنجيل مرقس – 12 | تفسير إنجيل مرقس | تفسير العهد الجديد | تفسير مرقس 13 |
كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة | ||||
تفاسير مرقس – 12 | تفاسير إنجيل مرقس | تفاسير العهد الجديد |