نصنع لكِ سلاسل من ذهب مع جمان من فضة
«نصنع لكِ سلاسل من ذهب مع جمان من فضة » (1: 11)
في الآية السابقة كان المسيح يُخاطب النفس قائلاً: «لقد شبهتك يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون» (1: 9) ، والآن يقول لها: «نصنع لك سلاسل من ذهب». والمعنى متّصل في الآيتين فالعروس مثل الفرس والفرس يُقاد بلجام، وهذا اللجام هو «سلاسل من ذهب».
الروح القدس هو السلسلة الذهبية التي تربطنا بالمسيح والتي بها يقودنا في الطريق الروحي. الذهب عادةً يُشير في الكتاب المُقدَّس إلى اللاهوت، وهنا «السلاسل من ذهب» تشير إلى الروح القدس، فهو السلسلة الذهبية التي بها يجذبنا المسيح إلى فوق.
أما بقية الآية «مع جمان من فضة»، فالجمان قطع معدنية أو أجراس صغيرة (جلاجل) : تعلق في اللجام لكي تُحدث صوتا بجوار أذن الفرس. هذه «الجمان من فضة» يمكن أن نفهم . أنها تُشير إلى أقوال الآباء القديسين وسيرهم التي تُرافقنا في الطريق الروحي. الفضة أقل من الذهب فإن كان الذهب يشير إلى اللاهوت، فالفضة يمكن أن تشير إلى القديسين.
ونحن اليوم سوف نركز على الجزء الأول من الآية: «نصنع لك سلاسل من ذهب». لقد وعدنا المسيح قائلاً: «وأنا إن ارتفعتُ عن الأرض أجذب إليَّ الجميع» (يو 12: 32). طالما كان المسيح معنا على الأرض لم يكن ممكنا أن يجذبنا إلى فوق. كان لا بد أن يرتفع عن الأرض لكي يجذبنا وراءه إلى فوق : «أجذب إليَّ». لهذا قال: «إنه خيرٌ لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعزّي، ولكن إن ذهبتُ أُرسله إليكم» (يو 16: 7). هذا يعني أنه إن لم أنطلق لا أستطيع أن أجذبكم إلى فوق، ولكن إن انطلقت أنا إلى فوق، فإني أُرسل إليكم سلسلة الروح القدس الذهبية التي بها أجذبكم إلى فوق.
الروح القدس هو الحبل الذهبي الذي يربط المسيح في السماء بنا نحن على الأرض؛ وهو الذي يشدُّ به المسيح قلوبنا إليه، إلى فوق.
والروح القدس هو القائد هناك آيات عديدة تُبيّن أنه هو “روح الانقياد إلى فوق، «الروح القيادي» كما ندعوه في المزمور الخمسين: «وبـروح قيادي (أو رئاسي) اعضدني» (مز 50: 14في السبعينية):
+ «لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله» (رو 8: 14).
وهكذا نرى أن الروح القدس هو الذي يضطلع بقيادتنا في الطريق الروحي.
+ «ورجع يسوع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس، وكان يقتاد بالروح في البرية» (لو 4: 1).
هذا قيل عن المسيح بصفته مثالاً للبشرية الجديدة التي تقتاد بالروح القدس. وقد رتبت الكنيسة أن يبدأ إنجيل قداس الأحد الرابع من بشنس بهذه الآية. وفي هذا حكمة كبيرة، لأن الأحد الرابع من بشنس في السنوات التي تُقرأ فيها فصوله، يكون دائما في بداية صوم الرسل والكنيسة تُشير بهذه القراءة إلى أن ما عمله المسيح في حياته الأرضية كان مثالاً لما تعمله الكنيسة إلى مدى الدهر. فكما أن المسيح بعدما امتلأ بالروح القدس في الأردن خرج إلى البرية حيث كان «يقتاد بالروح»، وبالروح بدأ يصوم وبالروح تغلب على تجارب الشيطان، هكذا الكنيسة بعدما امتلأت بالروح القدس في يوم الخمسين، بدأت تصوم تحت قيادة الروح القدس، كما نقرأ عن ذلك في مواضع عديدة من سفر أعمال الرسل (أع 13: 1-2؛ 14: 23).
المسيح يقول لنا في إنجيل القديس يوحنا:
+ «متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يُرشدكم إلي جميع الحق» (يو 16: 13).
بمعنى أنه يقودنا في الطريق إلى جميع الحق. وهنا نجد أيضا نفس المعنى: الروح القدس هو قائدنا في الطريق فهو يمسك قلبنا بلجام ذهبي «بسلاسل من ذهب» وبهذا اللجام يقودنا في طريق الحق.
وفي عبارة «يُرشدكم إلى جميع الحق» نلاحظ أن حرف «إلى» يُعطي الآية امتدادًا لا ينتهي، وذلك كما في الآية «إلى كل ملء الله» (أف 3: 19). فقوله «يُرشدكم إلى جميع الحق» يعني أنه يُرشدنا بلا نهاية، ويجعلنا نتقدم باستمرار أكثر نحو «جميع الحق».
الحق المطلق هو الله، كما يقول المسيح: «أنا هو الحق» (يو 14: 6)، وأيضًا: «الذي أرسلنى هو حق» ( يو 7: 28، 8: 26). فالروح القدس يقودنا إلى «جميع الحق»، بمعنى أنه كما يقول بولس الرسول «يفحص كل شيء حتى أعماق الله» (1كو 2: 10). وهذا يجعلنا نفهم معنى «إلى جميع الحق» أي إلى جميع أعماق الله. فالروح القدس هو الذي يُرشدنا إلى جميع أعماق الله. وفي نفس الموضع يقول ق. بولس: «ونحن لم نأخذ روح العالم، بل الروح الذي من الله، لنعرف الأشياء الموهوبة لنـا مـن الله» (1کو 2: 12). ماهي هذه الأشياء الموهوبة لنا من الله ؟ هي التي يقودنا إليها الروح القدس؛ لأنه يقودنا «إلى جميع الحق» أي إلى ملء الحياة الإلهية التي نحن مدعوون أن ندخل إليها، أي كما يقول أيضًا «إلى كل ملء الله». هذا هو معنى قول الرب في النشيد: «نصنع لكِ سلاسل من ذهب».
وأخيرًا نذكر قولاً شفويًا لأبينا الروحي في إحدى المناسبات:
[الراهب الذي يحضر صلاة نصف الليل بنشاط وبحرارة روحية، فهو عند خروجه من الكنيسة بعد التسبحة، لو لك نظرة روحية، يمكنك أن ترى حبلاً ذهبيًا يربط قلبه بالسماء. سلسلة من ذهب تربط قلب الراهب بالسماء إذا كان نشيطا في صلاة نصف الليل].
هذه السلسلة الذهبية هي حرارة الروح القدس التي نُضرمها فينا بالصلاة الحارة والاشتياق الدائم للمسيح في السماء. والراهب الذي يرفع قلبه باستمرار إلى الرب يسوع في السماء، يتربى فيه لجام ذهبي يربط قلبه بالسماء. هذا هو اللجام الذي يقول عنه المسيح:
«نصنع لك سلاسل من ذهب مع جمان من فضة».
وأيضًا:
«نصنع لكِ سلاسل من ذهب مع جمان من فضة» (11:1)
«نصنع لك سلاسل من ذهب»
الذهب أثمن المعادن ولذلك فهو يشير عادة في الكتاب المقدس إلى الطبيعة الأسنى أي إلى اللاهوت أو إلى أسمى فضيلة التي هي المحبة. والمعنى متقارب في الحالتين لأن طبيعة الله هي المحبة: «الله محبة».
والسلاسل الذهبية التي تُقيَّد بها العروس هي بعينها التي جعلت بولس الرسول يقول: «أنا الأسير في الرب» (أف 4: 1). إنها سلاسل محبة المسيح: «لأن محبة المسيح تحصرنا» (2كو 5: 14). المسيح سبى قلوبنا بمحبته، صارت محبته تجتذبنا كما بسلاسل من ذهب تربط قلوبنا ليس تقييدًا لحريتنا ولكن تشجيعًا ومؤازرةً لنا للسير في طريق الله.
«نصنع لكِ سلاسل من ذهب»، يقابلها في العهد الجديد قول المسيح: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع» (يو 12: 32). قال هذا عن المحبة أحبنا بها حتى الموت على الصليب والتي بها صار يجتذب قلوبنا إليه. هذه السلاسل الذهبية أي الجذب السري الإلهي الذي به يجذبنا المسيح إليه. فالمسيح عنده قوة جذب جبارة هذه القوة الجاذبة تُشبه سلسلة ذهبية تربط قلوبنا بقلب التي هي المسيح.
كان أبونا متى يقول إنه لو تخيَّلنا أنه يمكن تصوير قلب راهب وهو خارج من التسبحة صورةً بالأشعة الروحية، فماذا سوف نرى؟! سنرى مثل سلسلة ذهبية تربط قلب الراهب بالسماء….
هكذا تجذبنا محبة المسيح إلى فوق وتربطنا بالسماء، بل و«تحصرنا» أيضا حتى لا نستطيع أن نعمل الخطأ.
لقد طلبت العروس في بداية النشيد : «اجذبني وراءك فنجري» (نش 1: 4)، والآن يُجيبها المسيح: «نصنع لك سلاسل من ذهب…»
وفي هوشع النبي يقول الرب بهذا المعنى : «كنتُ أجذبهم بحبال البشر بربط المحبة» (هو 11: 4) . فما المقصود من حبال البشر ؟ من المعروف أن الذي يُشد بالحبال هم البهائم، أما البشر فإنهم ينجذبون بـ «ربط المحبة». هذه هي السلاسل الذهبية التي تجذبنا وتشدنا إلى فوق.
«مع جُمان من فضة»
الجمان هي قطع معدنية صغيرة تُزيَّن بها السلاسل فإذا اعتبرنا قوله فيما سبق: «لقد شبهتكِ يا حبيبتي بفرس في مركبات «فرعون» (1: 9)، وأن السلاسل الذهبية بمثابة لجام الفرس، تكون الجمان بمثابة القطع المعدنية التي يُعلقونها في اللجام لتحدث صوتًا يُشجع الفرس على الجري.
«جُمان من فضة»: قلنا إن الذهب يشير دائما إلى اللاهوت أو إلى كل ما هو إلهي ومن الله. والفضة أقل قيمة، لذلك يمكن أن تشير إلى القديسين وسيرهم التي عندما نسمعها تُشجّعنا على الجري في الطريق الروحي. لذلك يُشجعنا دائما آباؤنا الشيوخ على الالتزام بحضور مائدة الدير يوميًا لسماع قراءة بستان الرهبان، لأنك حينما تسمع يوميًا قصص وأقوال آبائنا القديسين، تنغرس مبادئهم في صميم كيانك، فتكتسب بحانًا خبرة وحصيلة جهاد آلاف من القديسين الذين سبقوك وهذا أفضل لك بكثير من أن تجاهد أنت بمفردك بخبرتك الروحية المفردة.