تفسير إنجيل متى أصحاح 4 للقمص متى المسكين

تجربة المسيح [1:4-11]

خص ق. متى الجزء الأول من إنجيله ( 1:1-12:3) للكشف عن ظهور مسيا الملك وفي (13:3-17) كشف عن عماد المسيح كمن يؤكد على حمل خطايا الكثيرين بمبادرة كهنوتية لم يستلمها من أحد، شأن كهنوت ملكي صادق: «أقسم الرب ولن يندم أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق» (مز 4:110) حيث نزل الأردن من أجلنا وحمل الصليب من أجلنا ومات وقام بنا، و «حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا، صائراً على رتبة ملكي صادق، رئيس كهنة إلى الأبد.» (عب (20:6)

أما دخوله التجربة فواضح أيضا وبالضرورة أنه من أجلنا، لأن الذي يبذل ذاته للالام إنما يتحمل ضريبة كهنوتية وضعها على نفسه لما وضعها الآب عليه، وما التجربة التي عول أن يدخلها بإرادته ليواجه بها الشيطان إلا جزءا أساسيا من ضريبة آلامه الكهنوتية، إذ كيف يتجرب وهو قدوس وبلا شر إلا إذا استعار موقف الخطاة ليحارب عنهم؟ كملك يحمي شعبه وملكوته، وكاهن يقدّس رعيته ويدفع عنها ضريبة آلام في مواجهة عدو يمسك عليه خطايا شعبه عدو قوي لا يردعه إلا الأقوى.

1:4 «ثُمَّ أَصْعِدَ يَسُوعُ إلَى الْبَرِّيَّةِ مِنَ الرُّوحِ لِيُجَرِّبَ مِنْ إِبْلِيسَ».

ويلزم أن ينتبه القارئ إلى تداعي المواقف، فقد سمعنا للتو أن الروح نزل عليه مثل حمامة وها الآن نرى الروح يصعده إلى البرية ليتجرب من إبليس. وسمعنا أيضا الصوت من السماء هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت، وها نحن سنسمع وشيكا كيف التقطها إبليس ليقول له إن كنت أنت” ابن الله فقل لهذه الحجارة أن تصير خبزاً، وكان التجربة د داخلة أساساً في مهام مسحة الروح القدس التي تلقاها من السماء كعمل كهنوتي تفوح منه رائحة الفداء والصوت الذي أعلن بنوته للملك السمائي الأعظم يعضده في بواكير حروبه لحماية ملكوته المزمع أن يكرز به.

وسواء الروح الذي حل عليه أو الصوت الذي أعلن حب الآب له، كان كل منهما تعضيدا سماويا ليدخل بهما المعركة واثقا من نصرة لحساب السماء والرسالة !! وهنا يكشف ق. متى عن إدراكه بوجود هذا العدو المعاند مدبّر الكوارث والمشتكي، بكيان شخص محارب عنيد يحمل الحسد والحقد والعداوة لكل من يحبه الله، لأنه كان معززاً في السابق وأسقطته كبرياؤه، فأضمر العداوة والحرب الله ولكل عبيده. والآن وقد أدرك أن مسيا الذي أتى أتى لينتزع أسراه من يده، فهو لا يملك من القوة أمامه إلا الخداع والغش والمناورات للالتفاف على فريسته: «لأننا لا نجهل أفكاره (2کو 11:2)، «البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس. فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر ، مع أجناد الشر الروحية في السماويات .» (أف 6: 11 و12).

وقبل أن ندخل إلى واقع التجربة يهمنا أن نوضح أن المسيح بوضعه البشري مجرب مثلنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها (عب 15:4) ، وبوضعه الإلهي كابن الله يسود على التجربة كسيادته على الموت. فكما دخل الموت ولم يُمسك فيه فقام دائساً الموت، هكذا دخل التجربة وساد عليها فكسر شوكة الشيطان. فكان يهم المسيح والروح أن يتجرب المسيح من الشيطان ليكسر قوة الخطية ويربط الشيطان.

+ «لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا، بل مجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية.» (عب 15:4)

وهنا يهمنا تفسير هذه الآية لأنها موضوع هذا الأصحاح، فالفارق الوحيد بين تجربتنا وتجربة المسيح أنه يتجرب مثلنا تماماً ولكن دون أن تدنو الخطية منه بمعنى أننا حينما نتجرب من الشيطان فالتجربة تأتي علينا دخيلة، ولكن يقابلها من الداخل ضعف بشري من هوى وشهوات وغرائز وميول تتجاوب مع تجربة الشيطان، فتصبح تجربة الشيطان قابلة أن تصير فينا خطية إذا ملنا إليها. هنا المسيح لا يشاركنا هذا الضعف وهذه الميول التي تنجذب للتجربة لتصبح التجربة مدخلاً للخطية. لهذا بوعي روحي عميق يقول سفر العبرانيين إنه مجرَّب في كل شيء مثلنا بلا خطية ! فالشيطان في تجربته للمسيح لم يفز ولا مرة واحدة بموافقة داخلية من المسيح، وبهذا انكسرت أسلحة الشيطان ولم يعد يقرب المسيح إطلاقا، حتى استطاع أخيرا أن يفوز بتلميذ من الاثني عشر، وعن طريقه دخل إلى رؤساء الكهنة وتعاهد الشيطان معهم وأعطاهم كل أسلحته من غش وكذب وخداع، فاستطاع بهم أن يأخذ على المسيح فرصة كاذبة ملفقة مزورة للقبض عليه والمحاكمة. وقد أسماها المسيح كموقعة محددة الميعاد هذه ساعتكم وسلطان الظلمة (لو53:22). ولكن على الصليب ظفر المسيح بالشيطان وسيأتي الشرح.

2:4 «فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَاراً وَأَرْبَعِينَ لَيْلة، جَاءَ أخيراً».

هنا يذكر الإنجيل أن المسيح صام أربعين يوما، وهذا يذكرنا بصوم موسى على جبل حوريب: «وكان هناك عند الرب أربعين نهاراً وأربعين ليلة لم يأكل خبزاً ولم يشرب ماءً . فكتب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر.» (خر (28:34)

كذلك إيليا النبي «فقام وأكل وشرب وسار بقوة تلك الأكلة أربعين نهاراً وأربعين ليلة إلى جبل الله حوريب.» (1مل 8:19)

وفي هذين المثلين نجد الأول مشرعاً صام ليتلقى شريعة الله، والآخر نبيا صام ليعرف من الله ماذا يعمل وماذا يقول. ويكاد هذا يشبه الوضع الذي سيدخله المسيح كمشرع للعهد الجديد وكنبي ومعلم، هكذا أحس المسيح بالروح أن يصوم في خلوته مع الله ليتبين مشروعه الكبير. ويبدو أن إحساسه بالجوع في الآخر كان فتحاً للباب للعدو لكي يؤدي مهمته الخاسرة، لهذا استطاع الشيطان أن يدنو منه ليقوم بتجربته.

3:4 «فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هَذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزاً».

هنا الشيطان لا ينكر على المسيح أن يكون هو ابن الله، بل يتحداه أن يثبت ذلك. أما أسلوب الشيطان في التجربة فهو أنه يقدّم المشورة الخبيثة التي تحمل لصاحبها فخ الخطية، إما كبرياء أو عصيانا أو نسيان الله أو الشك في محبة الله وقدرته أو وعوده، وعلى أي وجه إذا سقط الإنسان يبدأ الشيطان يشتكي الخاطئ ويزلزل ضميره بالحزن اليائس ووساوس ضياع الأمل من خلاصه، ويضخّم له الخطية بأنها لا تغفر ولا رجاء له في الحياة بعد. ومن أسوأ تجارب الشيطان للإنسان تجربة الاستمرار في الشكاية ضده بعد سقوطه في الخطية فهي سلاحه القاتل:

+ «وأراني يهوشع الكاهن العظيم قائماً قدام ملاك الرب والشيطان قائم عن يمينه ليقاومه. فقال الرب للشيطان لينتهرك الرب يا شيطان لينتهرك الرب الذي اختار أورشليم. أفليس هذا شعلة منتشلة من النار.» (زك 3: 1و2)

واضح هنا أن يهوشع الكاهن كان قد أخطأ وأساء إلى كهنوته فانتشله الرب من ورطته كشعلة منتشلة من وسط النار، ولكن لم يكف الشيطان عن منازعته ومقاومته حتى بعد أن أعاد الله له كرامته وقداسته، لأن وظيفة الشيطان لا تقف أبداً عند التجربة والسقوط بل تستمر بالشكاية ضد من أسقطه باعتبار أن الذي أخطأ قد صار من خواصه الذين لا يُفرّط فيهم حتى لا يعودوا إلى معسكر الرب، بل يظل يطالب بحقه عليهم !!

وقد تعقبه سفر الرؤيا حتى النهاية قد طرح المشتكي على إخوتنا الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهاراً وليلا. » (رؤ 10:12)

لم يتراجع الشيطان عن حقه في تجربة المسيح، لأن الذي فتح شهيته في هذا هو إسقاطه لآدم الأول وهو في حضن الله فطالما الابن نزل إلى العالم أصبح من حق الشيطان كرئيس لهذا العالم أن يصارعه. ويلاحظ أن سقطة آدم الأول كانت عن طريق شهوة البطن والعيون، فالتجربة نجحت على آدم الأول فلماذا لا يجربها مع آدم الأخير (1كو 45:15). ولكن لا يعلم الشيطان أن بسبب سقطة آدم الأول جاء آدم الثاني ليخلص الإنسان من سقطته ويرفع سبب السقوط حتى لا يعود الإنسان – طالما هو في طاعة الله – أن يسقط «كل مَنْ وُلد من الله لا يُخطئ» (1يو 18:5). ولكي يضمن المسيح عدم سقوط الإنسان دان الخطية في الجسد» (رو3:8) ، وألغى سلطان الموت بموته، ومنح الإنسان الحياة الأبدية بقيامته. فإنسان المسيح لا تسود عليه الخطية والموت بعد . وكان أول أعمال المسيح في منهج الخلاص هذا أن يدخل التجربة نائباً عن البشرية كلها كآدم الأول ويكسر سلاح الشيطان ويوقف حركته تمهيداً لعزله عن الخليقة الجديدة.

كانت التجربة المصوبة على المسيح في «إن كنت أنت ابن الله» هي زعزعة الثقة بين الآب والابن بتحريض الابن أن يتصرف لا بأمر الرب بل بأمره هو كنوع من الاستيلاء على الشخصية، علماً بأن الشيطان يعلم أن المسيح الواقف أمامه هو رجل معجزات وما أبسط أن يحوّل الحجارة إلى خبز. ألم يسمع من المعمدان أن الله قادر أن يجعل من هذه الحجارة عينها أولاداً لإبراهيم؟ فبالأقل تصير خبزاً يسد به رمقه تجربة آدم بأكل الثمرة المحرَّمة لم يكن لها لزوم أو معنى فالشجر كله أمامه، ولكن هنا الجوع يضغط على طلب الأكل، أي أكل، والمكان قفر، ولكي يحصل على طعام يحتاج إلى سفر يوم وهو منهك القوى. فالتجربة أخذت أشد صور الحبك ولكنه لم ينثن !

4:4 «فَأَجَابَ وَقَالَ: مَكْتُوبٌ : لَيْسَ بِالخَبْرُ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ هُم الله».

أشهر المسيح هنا في وجه الشيطان كلمة الله وظل على هذا المستوى في الثلاث تجارب (4)، (7)، (10). واستحسن المسيح سفر التثنية ليلتقط منه أسلحته للرد على الشيطان، وكأنه يعطينا درسه الأول في حفظ الأسفار المقدسة للرد على تجارب العدو. فقد استند على الآية (تث 8: 3 و4): «فأذلكوأجاعك وأطعمك المن الذي لم تكن تعرفه ولا عرفه آباؤك لكي يعلمك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان. ثيابك لم تبل عليك ورجلك لم تتورّم هذه الأربعين سنة!» وبهذه الآية أراد موسى أن يعلم الشعب أن الله كأب يعرف كيف يُطعم الإنسان ولو لزم الأمر من السماء، وكيف يرعى أعواز الإنسان وصحته كمسئولية أخذها الرب على نفسه لهذا وجب أن يستمد الإنسان حياته من كلمة الله. ولا يغيب عن بال القارئ كيف أشبع الله شعباً يزيد عن المليونين في برية قفرة ولمدة أربعين سنة طعاماً وماءً وكساء الأمر الذي تعجز عنه الأمم المتحدة لسنة واحدة. وهذا هو الرد الذي قصده المسيح أن المسيح إن كان الله أباه لا يعود يهتم بماذا يأكل أو بماذا يشرب، لأن أباه السماوي يهتم كيف يشبعه بكلمة تخرج من فمه وهي قادرة أن تحييه بل وتخلق العالم من جديد. وهكذا أعلن المسيح عن مدى أمانته لأبوة الله وأكد بهذا أنه حقا ابن الله.

5:4و6 «ثُمَّ أَحَدُهُ إبْلِيسُ إلى المَدِينَةِ المُقدَّسَةِ، وأوقفهُ عَلَى جَنَاحَ الْهَيْكَلِ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَاطِرَحْ نَفْسَكَ إلى أسفل، لأنَّهُ مَكْتُوبٌ : أَنَّهُ يُوصِي مَلَائِكَتَهُ بِكَ، فعلى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لَا تَصْدِمَ بِحَجَر رجلك».

أما كيف أخذه الشيطان إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل، فليس من الضروري أن يكون قد انتقل من مكانه وإنما تجسد المنظر المعقول حتى أنه يكون طبق الأصل من الحقيقة. ويُقال إن من هذا المكان طرح اليهود يعقوب أخا الرب  وقتلوه، فهو المكان المحبب للشيطان، حيث صور للمسيح كيف أن نزوله في الهواء من هذا العلو الشاهق سيكون معجزة تثبت أنه ابن الله وتقنع الناس للإيمان به. ولأن المسيح رد على الشيطان في التجربة السابقة أنه يحيا بكل كلمة تخرج من فم الله، فهنا سيظهر للناس مدى ثقته في حفظ الله والملائكة له كابن الله على أن الشيطان التقط من فم المسيح كلمة مكتوب ” فرد بها على المسيح هنا في التجربة الثانية لأنه مكتوب فإن استخدم المسيح الأسفار فلا مانع أن يستخدم الشيطان الأسفار. وقد أخذها الشيطان من المزامير التي ترعبه لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك» (مز 91: 11 و12). وشتان بين فكر الشيطان لإظهار المسيا وتكميل عمله والإيمان به بالمظاهر الخلابة، وبين فكر المسيح وتدبير الله بأن يكون الصليب والموت هو الطريق المؤدي للقيامة ولاستعلان ابن الله والإيمان به.

7:4 «قالَ لَهُ يَسُوعُ: مَكْتُوبٌ أيضاً : لَا تُجَرِّبِ الرَّبِّ إِلَهَكَ».

هنا اقتبس المسيح من سفر التثنية أيضاً (16:6) حينما قام بنو إسرائيل بثورة ضد موسى وهارون بسبب العطش: «لا تجربوا الرب إلهكم كما جربتموه في مسة» الحيلة الجهنمية هنا التي قدمها الشيطان هي محاولة إجبار الله لتقديم العناية لأولاده، فإن كان المسيح هو حقا ابن الله فالله حتما سيتولى العناية به لو ألقى بنفسه من فوق جناح الهيكل. هذا هو تصور الشيطان الذي أراد أن يفرضه على المسيح بحجة أنه ابن الله. فكان رد المسيح أن هذا يُحسب تجربة موجهة الله هل هو موجود أم لا ؟ هل هو يحقق وعده الذي سبق أن تنبأ به المزمور بإرسال ملائكة لحفظه أم لا. ففي هذا المفهوم أو لا تشكيك في الإيمان بوعود الله، وبالأكثر تجربة الله هل يسمع أو لا يسمع. وليس مصرحاً للإنسان أن يختبر الله أو يجربه.

8:4 و9 «ثُمَّ أَحَدُهُ أَيْضاً إِبْلِيسُ إلى جَبَلٍ عَالِ جدًا ، وَأرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكَ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا، وَقَالَ لَهُ: أَعْطِيكَ هَذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي».

وهذه الحركة أيضاً هي بالمنظر المعقول أي يراها الإنسان كما هي حقيقة ولكن بالمنظر المعقول الذي يكشف المستورات دون حركة الجسد. وهذه هي إحدى مواهب الإنسان التي تكون نشطة عند بعض الناس أو يستخدمها الله لتوضيح الخفيات لذهن الإنسان، حيث واسطة الرؤيا لا تكون العين بل العقل، لأن العين لا ترى شيئاً إذا ارتفع الإنسان إلى مسافة عالية، فالضباب وبخار السماء والسحب المتكاثفة لا تعطي فرصة للعين أن ترى شيئاً.

+ «كانت علي يد الرب وأتى بي إلى هناك في رؤى الله أتى بي إلى أرض إسرائيل ووضعني على جبل عال جداً عليه كبناء مدينة …» (حز 40: 1و2)

هكذا تحسب الرؤيا هنا حقيقة كاشفة بقوة فائقة. فالمسيح في التجربة كان يرى بالفعل ممالك العالم لأنه يحمل قوة فائقة على الرؤية العقلية توضح حقائق الأمور والذي يثبت أنها رؤية بالمنظر المعقول بمعنى أن العقل يكون نشطاً وواعياً قول الآية إنه أراه مجدها، وهنا المجد لا يُرى كشيء ولكن كموضوع يحتاج إلى خيال الفكر ليحيط به وليس مجرد عين تبصر . ثم تقول الآية المقابلة في إنجيل ق. لوقا إن هذا حدث في لحظة من الزمان، التي تكشف عن اختطاف العقل Rapture. ثم بعدها يقول له هذه كلها أعطيك ثمناً لسجدة واحدة أمامي، لأنها في واقعها الدنيوي هي في حوذة الشيطان رئيس هذا العالم لأنه إلى قد دفع وأنا أعطيه لمن أريد (لو6:4). ولكن ليحذر القارئ فالعالم الذي في حوذة الشيطان ليس هو عالم الخير والصلاح والحياة الحرة الجميلة، بل عالم الخطية والإثم والرذيلة وعصيان الله والشهوات الحرام ومجد الفساد:

+ «وأنتم إذ كنتم أمواتا بالذنوب والخطايا التي سلكتم فيها قبلاً حسب دهر هذا العالم حسب رئيس سلطان الهواء الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية .» (أف 2: 1 و2)

+ «فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات.» (أف 12:6)

+ «العالم كله قد وضع في الشرير» (1 يو 19:5). أي في حوذته وقوته.

لذلك لم يكذبه المسيح ولا راجعه فيما في سلطانه. ولكي نخفّض من غلواء الشيطان و ادعاء سلطانه على كل ممالك الدنيا يلزم أن يعرف القارئ أن هذا صحيح، إنما المقصود العالم والأمم والناس والمجد الكاذب، مجد الخطية والغش والخداع الذي يقع فيه الإنسان ويصبح فعلا أسيراً للشيطان يتكلم بفمه ويعمل بمشورته وينتهي إلى الهلاك فالشيطان يتكلم هنا عن الوجه الفاسد من العالم الذي يتغير إلى سيء ثم أسوأ ثم إلى بلاء وخراب وينتهي إلى غير وجود، فهو الجزء الفاني من العالم الذي لا يوجد فيه حق ولا نعمة ولا فرح حقيقي الذي سيزول حتماً. والشيطان يملك على العالم بالعقل ولكن بواسطة الرؤساء الذين يطيعونه في القسوة والظلم والغش والسرقة وإزهاق أرواح الناس. ولقد ملك في أيامنا هذه بواسطة لينين وستالين وهتلر وموسوليني وغيرهم من الذين ملكوا على رقاب الناس ثم سقطوا وانتهوا بعد أن قتلوا الملايين من الناس وخربوا البلاد والذمم.

وفي المقابل يدير الله العالم بالحب والحكمة والنعمة بواسطة أولاده في الصلاح والتقوى ومخافة الله لخير البشرية ونموها وازدياد روح الحرية والحق والسلام. وبقدر طاعة الناس لصوت الحق والسلام والمحبة ينمو العالم في الصلاح ويبقى ويدوم.

من أجل هذا جاء المسيح ليغرس هذه الحقيقة في العالم ليضمن نمو العالم تحت رعاية الله مضحياً بنفسه ببذل حياته حتى الموت موت الصليب، ليخلص الإنسان من سطوة الشيطان ويحرّره من الخطية والخوف وتهديد الموت، وينقله النقلة العظمى لحياة أبدية في حضرة الله كما كان آدم أولاً وأفضل. لذلك كان رفض المسيح للسجود للشيطان بمثابة إنذار له بالهلاك بحسب مصيره المحتوم.

10:4 «حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: اذْهَبْ يَا شَيْطانُ ! لأنَّهُ مَكْتُوبٌ لِلرَّبِّ إلهَكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تعبد».

وبهذا الاختيار سلم المسيح المشيئة للاب السماوي، وقبل البديل عن الذي وضعه له العدو وهو الآلام والصلب والموت، والتي بها أخذ النصرة الأخيرة على الشيطان والخطية والموت. لقد واجه المسيح تكتل قوى الشر معاً على الأرض وفي السماء، في الأرض بواسطة الذين سلموا حياتهم وضمائرهم ووظائفهم لإرادة الشيطان، وفي السماء الشيطان وكل أعوانه وجنوده. وكانت حقا ساعة الظلمة هذه ساعتكم وسلطان الظلمة» (لو 53:22). ولكنه غلب الشيطان وأعوان الشيطان وعالم الظلمة وقام من الموت بسلطانه وسلطان الأب وارتفع إلى أعلى السموات ووضع الشيطان وكل ما له تحت موطئ قدميه:

+ «…. وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين حسب عمل شدة قوته الذي عمله في المسيح، إذ أقامه من الأموات، وأجلسه عن يمينه في السماويات، فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمى ليس في هذا الدهر فقط ملوك ورؤساء وسلاطين بل في المستقبل أيضاً، وأخضع كل شيء تحت قدميه …» (أف 1: 19-22)

من هذا نفهم لماذا قال الشيطان إنه يمكن أن يسلمه سلطانه على العالم كله لو هو سجد للشيطان، لأنه يعلم أن سلطانه كله ماله إلى الفناء، وأن السيادة معقودة للمسيح فوق كل سيادة على أن المسيح كان وقت التجربة متفوقاً على الشيطان إذ لم يكن له خطية واحدة ولا وجد في فمه غش، فكانت وقفته أمام الشيطان وقفة التحدي والاستظهار، إذ لم يكن للشيطان في المسيح شيء ولا مأخذ: «لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء» (يو 30:14). لهذا إزاء تسكع الشيطان بطلبه من المسيح أن يسجد له كان رد المسيح أن «اذهب يا شيطان» بصيغة الآمر الناهي فانصاع وذهب وترك المسيح «إلى حين » (لو 13:4)

11:4 «ثُمَّ تَرَكَهُ إِبْلِيسُ، وَإِذا مَلَائِكَةٌ قَدْ جَاءَتْ فَصَارَتْ تَخْدِمُهُ».

لقد رفض المسيح مشورة الشيطان أن يُلقي بنفسه من فوق جناح الهيكل بحجة أنه مكتوب أن الله أوصى ملائكته أن يحملوه ويخدموا سلامته، فكانت النتيجة بعد أن غلب المسيح كل مشورات الشيطان أن جاءت ملائكة تخدمه.

وهنا قضية لاهوتية، لأن الشيطان محسوب أنه ملاك ساقط وأعوانه كلهم ملائكة ساقطون، فاقتحام الشيطان مجال المسيح هكذا على المستوى المكشوف كان تعدياً على خصوصيات المسيح من جانب الملائكة الساقطين، فبمجرد أن غلب المسيح وأمر الشيطان بسلطان قداسته أن اذهب عني يا شيطان كان ذلك بمثابة إعطاء النور الأخضر للملائكة وهم خدام العرش الآب والابن، أن يظهروا في الحال المعونة ابن الله وهو في حال تجسده وقد أعياه الجوع والصراع مع العدو، كحاله في جثسيماني (لو 43:22)!! لأن الوعد قائم «أوصى ملائكته به»

 

خدمة الجليل الممتدة
( أ ) بداية الخدمة [12:4-17]

16-12:4 «وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ أَنْ يُوحَنَا أَسْلِم، انْصَرَفَ إلى الجليل. وَتَرَكَ النَّاصِرَة وَأَتَى فسكَنَ فِي كَفَرَنَاحُومَ الَّتِي عِندَ البَحْرِ فِي تُخوم زبُولُونَ وَنَقْتَالِيمَ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشعياء النبي القائل: أرْضُ زَبُولُونَ، وَأَرْضُ نقتالِيمَ، طريق البحر، عبر الأردن، جَلِيلُ الأمم. الشعبُ الجَالِسُ في ظلمة أبصر نوراً عظيما، وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وظلاله أشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ».

ولو أن ق. متى لا يذكر شيئا عن الزمن الذي ابتدأ فيه المسيح خدمة الجليل، ولكن بالرجوع إلى إنجيل ق. يوحنا نجد أن بين العماد وبين الزمن الذي فيه سمع يسوع أن يوحنا أسلم مدة سنة كاملة تقريبا، حيث يستمر ق. يوحنا في إنجيله يسجل أعمالاً للمسيح من (19:1) إلى (42:4)، لأنه في الآية (43:4) من إنجيل ق. يوحنا يقول: وبعد اليومين خرج من هناك من السامرة بعد أن ترك اليهودية ومضى إلى الجليل وبعدها مباشرة بدأ إنجيل ق. يوحنا يذكر أعمال الفصح الثاني سنة 28م بعد خدمة المسيح بالجليل (5: 1). علماً بأن أخبار الفصح الأول ذكرها إنجيل ق. يوحنا في 2 13-23). وبذلك يمكن أن نحدد بدء خدمة المسيح الأولى في الجليل سنة 27م، والتي ذكرها إنجيل ق. يوحنا هكذا: «هذه بداءة الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل ( عرس (قانا وأظهر مجده فآمن به تلاميذه وبعد هذا انحدر إلى كفرناحوم هو وأمه وإخوته وتلاميذه وأقاموا هناك أياماً ليست كثيرة. وكان فصح اليهود قريباً (الفصح الأول) فصعد يسوع إلى أورشليم ….» (يو 2: 11-13). وبعد ذلك بسنة كاملة ذهب إلى الجليل مرة أخرى (يو 43:4)

بهذا نفهم أن إنجيل ق. متى لم يذكر سنة كاملة من خدمة المسيح في اليهودية بالنسبة لما جاء في إنجيل ق. يوحنا من الفصح الأول (سنة 27) إلى الفصح الثاني (سنة 28) ، كذلك لم يذكر ق. متى أخبار أعمال يوحنا المعمدان الذي بدأ خدمته من صيف سنة 26م. فكون ق. متى يذكر القبض على يوحنا المعمدان هنا في بداية خدمة المسيح في الجليل، مع عدم ذكره ما بين سنة 27 و 28 م يكون قد مضى على بدء خدمة المعمدان حوالي 18 شهراً لم يذكرها .ق. متى، إذ ابتدأ خدمة الجليل من بعد سماعه أن المعمدان قد أسلم.

ولكن يلزم جداً أن ينتبه القارئ لأن ق. متى يذكر كيف مات المعمدان وقصة هيرودس وهيروديا هناك في الأصحاح الرابع عشر. ولكنه ضم عمل المسيح بعد سماعه بموت المعمدان على أعمال المسيح التي سبق أن ذكرها في الأصحاح الرابع (13).

ولكي يستدرك القارئ ذلك أثناء قراءته سأذكر هنا بداية خدمة المسيح في الجليل كما جاء في (13:4) ثم بداية خدمة الجليل أيضاً كما جاءت في (14: 12-14):

+ «ولما سمع يسوع أن يوحنا أسلم انصرف إلى الجليل وترك الناصرة وأتى فسكن في كفرناحوم من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول: توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات .» (4: 12و17)

+ «فتقدم تلاميذه (تلاميذ يوحنا) ورفعوا الجسد ودفنوه ثم أتوا وأخبروا يسوع. فلما سمع يسوع انصرف من هناك في سفينة إلى موضع خلاء منفرداً فسمع الجموع وتبعوه مشاة من المدن. فلما خرج يسوع من السفينة أبصر جمعاً كثيراً فتحنن عليهم وشفى مرضاهم. ولما صار المساء تقدم إليه تلاميذه قائلين الموضع خلاء والوقت قد مضى. اصرف الجموع لكي يمضوا …» (14: 12-15) وصنع هناك معجزة الخمس خبزات والسمكتين.

هذا التداخل سببه أن القديس متى أجل طريقة موت المعمدان عشرة أصحاحات لذلك كرر جملة «فلما سمع يسوع انصرف إلى نواحي الجليل مرتين، وهكذا تسحب الكلام في كل مرة منهما إلى بداية خدمته في الجليل.

«كفرناحوم»

هي بلدة صغيرة، ولكن الأمر الجديد على القارئ أنها هي نفس البلد التي كان يعمل فيها لاوي” – الذي هو متى نفسه – عشاراً أو جابيا للضرائب كما ورد في (1:9 و 9) فدخل السفينة واجتاز إلى مدينته (كفرناحوم) … وفيما يسوع مجتاز من هناك رأى إنساناً جالساً عند مكان الجباية اسمه متى فقال له: اتبعني. فقام وتبعه واضح من هذا الموقف الواضح الفريد أن ق. متى من البلد التي عاش فيها المسيح، هذا يعني بالضرورة أن المسيح يعرف متى معرفة قريبة وربما حميمة، وأنها دامت مدة طويلة قبل أن يدعوه للتلمذة. ومن هذه البداية يتكشف لنا سر إنجيل ق. متى وسر الأقوال: logia” التي أخبر بها الأسقف بابياس كيف جمعها .ق. متى باللغة العبرية أو الأرامية أي من فم المسيح مباشرة، وكيف صارت مصدراً هاماً للغاية لكل كتبة الأناجيل، وكيف أخذوا منها وألفوا أناجيلهم بتكميل من مصادر أخرى. ولكن كان مصدر ق. متى في أقوال المسيح ” هذه أول وأهم وربما أعظم تراث تقليدي، الذي أكمله .ق. متى بعد ذلك ليعده إنجيلا كاملا للعبرانيين سواء المحليين في اليهودية أو في المدن التي كان يستوطنها يهود بكثرة، كأنطاكية ونواحي آسيا الصغرى، التي يُقال إن ق. متى بشر فيها وإنجيله بيده!! (انظر المقدمة صفحة 20).

ولكن لم يلق المسيح من كفرناحوم بعد خدمته فيها أي راحة أو قبول «وأنتِ يا كفرناحوم المرتفعة إلى السماء ستهبطين إلى الهاوية. لأنه لو صنعت في سدوم القوات المصنوعة فيك لبقيت إلى اليوم. ولكن أقول لكم: إن أرض سدوم تكون لها حالة أكثر احتمالاً يوم الدين مما لك.» (مت 11: 23 و24) ومعروف أيضاً أنه في موقع هذه المدينة وما حولها بدأ المسيح يدعو تلاميذه الأوائل: بطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنا صيادي السمك ليكونوا صيادي الناس، وهؤلاء سيأتي ذكرهم في (مت 4 18-22) وكانت كفرناحوم مركز خدمة المسيح في الجليل وفيها صنع معظم معجزاته معجزة شفاء عبد قائد المائة وشفاء حماة بطرس (8: 5-15) ، كذلك شفاء المفلوج الذي دلوه من السقف (1:9)، وإقامة ابنة رئيس في السنهدرين (18:9)، وشفاء الأعميين (30:9) ، وشفاء الأخرس المجنون (33:9) ، وشفاء صاحب اليد اليابسة ( 9:12) وسمكة بطرس ذات الأستار لدفع الجباية (17 24-27).

وطول إقامة المسيح في كفرناحوم كان يواظب على حضور عبادة السبت في المجمع وإلقاء العظات المشهورة على العابدين، مثل عظة أنا هو خبز الحياة (يو 6: 24-65) علما بأن ق. متى دعا كفرناحوم “بمدينته “(1:9).

وقد استكشفت آثار كفرناحوم وأعيد مجمعها تقريباً واكتشفت الأبنية هناك من القرن الثاني أو الثالث ويعتقد أن بأسفلها بقايا مجمع القرن الأول الذي حضر فيه المسيح الصلوات والذي كان رئيسه هو الذي شفى المسيح ابنته. والمعروف أن مجمع كفرناحوم كان يُعتبر المركز الأساسي لليهود في المنطقة. وفي سنة 1905 قام الفرنسيسكان بحفائر اكتشفوا بها تحت تل حوم آثار مدينة كفرناحوم على بعد 2.5 ميل غرب مصب نهر الأردن النازل من مرتفعات الشمال إلى بحيرة جنيسارت. وكانت كفرناحوم مركز تحركات المسيح لكل منطقة أرض زبولون ونفتاليم المذكورة في إشعياء التي كانت في ظلمة وظلال الموت بالمفهوم الروحي فأشرق عليها نور عظيم، وهي المنطقة التي تحوي كل المدن والقرى التي خدم فيها المسيح حيث شاطئها كان كثيف السكان وعلى طريق التجارة من سوريا إلى البحر الأبيض. ولكن للأسف فخدمة المسيح بالتعليم والآيات لم تنفع شيئاً لقوم سدوا آذانهم وأغلقوا عيونهم ولم يتوبوا ، وقد تم خرابها بالفعل حتى بقي موقعها غير محدد لمدة قرون طويلة.

والقديس متى يستشهد بنبوة إشعياء (9: 1 و 2) كيف جاء وسكن واستوطن النور بلاد الظلمة وظلال الموت مت (13:4) ، ولكن حينما صب سخطه على كفرناحوم ظهرت بقية نبوة إشعياء: «الأراميين من قدام والفلسطينيين من وراء فيأكلون إسرائيل بكل الفم. مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدوده بعد. والشعب لم يرجع إلى ضاربه، ولم يطلب رب الجنود، فيقطع الرب من إسرائيل الرأس والذنب النخل والأسل في يوم واحد .» (إش 9 12-14)

والأقسام الخمسة التي ذكرها إشعياء أرض زبولون، وأرض نفتاليم، طريق البحر، عبر الأردن، جليل الأمم هي الأقسام الأساسية التي يتكون منها الجليل الأعلى. فأرض زبولون كانت غرب البحيرة (بحر الجليل) وكانت مرتبطة بالشمال بأرض نفتاليم. أما المنطقة المتاخمة للبحر طريق البحر» فكانت غرب زبولون ونفتالي وتمتد من الشمال إلى الجنوب على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط. أما أرض شرق الأردن فهي عبر الأردن والحدود الشمالية كانت تسمى «جليل الأمم» لأن معظم سكانها وثنيون. وكل سكان هذه المناطق الخمسة هم الذين قيل عنهم الشعب السالك في الظلمة.

أما قول إشعياء الشعب السالك في الظلمة والجالسون في أرض ظلال الموت كانت الأولى كناية عن البعد الشديد عن الله وحالة اليأس، والثانية كناية عن الخوف والرعبة والخطر المحدق بهم من الغزو والنهب. وهكذا وعلى غير انتظار منهم أشرق عليهم نور عظيم، وهو نور معرفة الله ورجاء الحياة والخلاص بيد يسوع المسيح.

 

17:4 «مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ: تُوبُوا لأنهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ».

«ملكوت السموات» 

نعرف أن ق. متى عبراني، لاوي ابن التوراة، وبتحقيق بعض العلماء رابي محنك ومتعلم. فكان بحسب تقليد القراءة في التوراة يتحاشى اسم الله ولا يذكره، لأن عقوبة ذلك كانت الموت. فاستبدله بـ”السموات” التي تحصر المفهوم العام الله، ومعناه حكم وسيادة سلطان الله إلى الأبد. وكل من يخضع لسلطان الله ويطيع بوعي حكم الله فإنه يصير من شعب الله وطلب ملكوت الله هو طلب أن يشمل كل الناس، هذا مفهوم العهد الجديد. لذلك فنداء المسيح بقرب ملكوت الله كان بشارة بسيادة سلطان وحكم الله على إسرائيل والعالم. وكانت مناداة المسيح بذات الكلمات التي بشر بها يوحنا المعمدان (2:3) التي لم تكن تحمل من القوة والمعاني والتحقيق الباهر ما حملته رسالة المسيح، فالتغيير والتجديد الذي جاء به المسيح الذي أبهر كل من سمع له، والأثر الذي تركه سار بقوة دفع هائلة اكتسحت ظلمة العالم وليس أرض زبولون، وأنارت الحياة والخلود لكل من قبل الرسالة في كل أمم الأرض وليس أرض نفتالي. وقد تحقق قول المسيح إنه اقترب ملكوت الله إلى الحد الذي تساءل فيه الإنسان الذي ذاق وشهد هل اقترب فقط أم نحن الآن ننعم بكل نوره وبهائه فالذي يعيش بالروح يدرك أن ملكوت الله حقا داخله وليس على قرب وحسب. على أن ملكوت الله سواء في الكرازة به أو الإحساس الفعلي به لا يأتي بمراقبة، ولا يأتي فجأة ولا ينفتح علينا أو تنفتح نحن عليه بصورة واعية، بل يمتد نوره وإشعاعه ويسحف ليشمل الكيان كما يسحف نور الشمس دون أن نلحظه حتى يملأ الدنيا. ولكن في كل الأحوال أهم صفاته هي النمو الوئيد الأكيد كنمو البذرة الصغيرة حتى تصير شجرة تنمو دائماً وكل يوم ولكن من العسير أن تلحظ العين مقدار نموها. فانظر كيف استقبله التلاميذ بالأسئلة والاستفسار، وبصعوبة استطاعوا أن يدركوا حقيقته ثم معناه، ثم آمنوا ثم نادوا وكرزوا أولاً بين اليهود فكانوا في منتهى الحذر وبطء القلب في الإيمان بالرغم من الشواهد والبراهين والشهود، ثم إلى الأمم ؛ أولاً فرادى ثم عائلات ثم جماعات ثم مدن ثم إلى أقصى الأرض ثم النهاية !! فالذي يحمل النهاية داخله هو ملكوت الله نفسه حينما يجد له وجوداً وكياناً يتكافاً مع قوته ويغطي مفهومه ويبلغ أقصى تعبيره بين الإنسان وفيه. ولكن سيظل الملكوت كما بدأ غريباً عن العالم، مرفوضاً من القلوب التي أفرغها الشيطان من الإحساس بالحق.

(ب) دعوة الأربعة تلاميذ من صيد السمك إلى صيد الناس [4: 18-22]

20-18:4 «وَإِذْ كَانَ يَسُوعُ مَاشِيَا عِنْدَ بَحْرِ الجَلِيل أَبْصَرَ أَخَوَيْن سِمْعَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَان شَبَكَة فِي البَحْرِ ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صِيَّادَيْنِ. فَقَالَ لَهُمَا: هَلُمَّ وَرَائِي فَاجْعَلُكُمَا صَيَّادَي النَّاس. فلِلْوَقْتِ تَرَكَا الشَّبَاكَ وَتَبَعَاهُ.».

أول ثمرة الكرازة بملكوت الله، وأول استجابة للدخول تحت مظلته.

كان التلاميذ الأربعة الأوائل صيادي سمك منهمكين للغاية في مهنتهم. هؤلاء كانوا أول سمة من سمات الملكوت. فهو لم يختر أناساً متفرغين أو علماء وأرباب دين كما كان يعتقد كل علماء إسرائيل ومعلميها. «فأجابهم الفريسيون العلكم أنتم أيضاً قد ضللتم ألعل أحداً من الرؤساء أو من الفريسيين آمن به. ولكن هذا الشعب الذي لا يفهم الناموس هو ملعون» (يو (7: 47-49) كانوا الأربعة على الشارع والسوق والجهاد اليومي من أجل لقمة العيش، ولكن في صحبتهم للمسيح تولد عندهم رغبة ملحة للانطلاق معه دون أي اعتبار للمستقبل، وبلغت الشرارة أقصى حرارتها لحظة أن دعاهم المسيح فلبوا الدعوة في الحال. من هؤلاء الصيادين خرجت ليست عينة الملكوت وحسب بل الكارزون المعلمون للملكوت وكهنة ورؤساء الكنيسة.

لم يكن فيهم واحد يشبه الآخر، فلم تكن عينة متجانسة في شيء، الشجاع بجوار الرعديد، وصاحب الأمال بجوار المتخاذل. ومن كل العينات تكونت عجينة الكنيسة التي خمرها الروح القدس لتصبح كلها أمثلة نادرة فائقة في العلم والمعرفة والروح والحب والبذل، لتشكل أجمل صورة للملكوت والمثل الأول للكنيسة.

لم ينظروا وراءهم وهانت عليهم كل خبراتهم وملكياتهم وبيوتهم ومهنتهم «ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك» ! (مت 27:19). قلدوه أكثر مما هو علمهم «تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب» (مت 29:11)، وبرعوا في التسامي بإمكانياتهم الهزيلة فصاروا رؤوساً بل ملوكا وكهنة الله العلي !! فقربهم المسيح إليه وإلى قلبه أحب خاصته الذين في العالم أحبهم إلى المنتهى» (يو 1:13). أعطاهم من نوره فاستناروا وأناروا وشهد لهم المسيح أنتم نور العالم (مت 14:5). وتعلموا منه الحكمة فصاروا ملح الأرض (مت 13:5) عاشروا حجر الزاوية فصاروا كلهم بنائين وصانعي أساسات.

‏«هلم ورائي»

هي كلمة سر الملكوت ما أن سمعها أحد إلا وترك كل شيء وتبعه في الحال !! ومن التصق بالرب فهو روح واحد (1 كو 17:6). لقد سلمهم كل شيء، سلمهم معرفة الأب واسمه ليصير فيهم الحب الذي أحبه به الآب، وسلمهم آلامه وموته وقيامته وحياته. وأخيراً نفخ فيهم من روحه فصاروا كارزين بالملكوت.

«صيادي الناس»:

لا البحر تركوه ولا الشباك أهملوها، بل غزلوا لأنفسهم من الإنجيل شباكاً عديدة وخرجوا إلى بحر العالم يطرحون شباكهم لحساب الملكوت. يصارعون أمواج العالم العالية، وبمصابيحهم الموقدة يضيئون المسكونة. قلة مستضعفة تركها المسيح بعد أن أعطاهم سر الملكوت فصاروا له أساسات كريمة وأبواباً من لؤلؤ «وسور المدينة كان له اثنا عشر أساساً وعليها أسماء رسل الخروف الاثني عشر.» (رؤ 14:21)

21:4 و 22 «ثُمَّ اجْتازَ مِنْ هُناك فرأى أخوين آخرين: يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، فِي السَّفِينَة مَعَ زَبْدِي أبيهما يُصْلِحَانِ شَبَاكَهُمَا، فَدَعَاهُمَا. فلِلْوَقْتِ تَرَكا السَّفِينَة وَأَبَاهُمَا وَتَبِعَاهُ».

الواقع هنا أن هذين التلميذين لم يكونا يصطادان بل يصلحان شباكهما، وأخذا الدعوة وكانا على استعداد ليتركا كل شيء ويتبعاه. وهكذا كانت طاعتهما حاضرة وكاملة. ولكن ظلاً من حين إلى حين يساعدان أباهما الذي كان له خدم يعملون معه (مر 20:1).

ولكن نستفيد من إنجيل ق. يوحنا أن كلاً من أندراوس (أخي بطرس) ويوحنا (أخي يعقوب) كانا في السابق تلميذين ليوحنا المعمدان وتركاه وتبعا المسيح وفي الغد أيضاً كان يوحنا واقفاً هو واثنان من تلاميذه، فنظر إلى يسوع ماشياً فقال: هوذا حمل الله، فسمعه التلميذان يتكلم فتبعا يسوع، فالتفت يسوع ونظرهما يتبعان فقال لهما : ماذا تطلبان؟ فقالا : ربي الذي تفسيره يا معلم أين تمكث. فقال لهما: تعاليا وانظرا، فأتيا ونظرا أين كان يمكث، ومكثا عنده ذلك اليوم وكان نحو الساعة العاشرة. كان أندراوس أخو سمعان بطرس واحداً من الاثنين اللذين سمعا يوحنا وتبعاه » (يو 1: 40-35)

ومعروف أن يوحنا كان من أوائل الذين تبعوا المسيح، ونحن نسمع أنه أخذه معه في أول أعماله ومعجزاته في عرس قانا الجليل (يو 2:2) وذهب معه إلى كفرناحوم وبعد هذا انحدر إلى كفرناحوم هو وأمه وإخوته وتلاميذه (يو 12:2). ورافقه أيضاً إلى أورشليم (يو 2: 17 و22).

ومعروف أن المسيح في اختياره لتلاميذه كان يكمل الاختيار على ثلاث مراحل. فالدعوة الأولى المبدئية مثل (يو 35:1) ، ثم ترك العائلة والعمل للالتحاق بالمسيح (مت 4: 18-22، مت 9:9 إلخ) وأخيراً انتخاب الاثني عشر ليكونوا رسلا (مت 10 2-4).

ولكن الذي يهمنا توضيحه هنا هو قدرة المسيح في اجتذاب تلاميذه سواء من فوق سفينة صيد أو مكان جباية. فهو كان حقا وبالحقيقة قوة سرية للملكوت الذي كان ينادي به من هنا جاءت صفة البشارة عامة أو اسم الإنجيل أنه الأخبار المفرحة، فالفرح الذي كان يخبر به المسيح هو نفسه، هو حبه، هو روحه، وكان يجول الشوارع والحواري سائراً على قدميه ولكن منظره السري لم يختلف كثيراً، فهو من حضن الآب كان يتكلم وإلى يمينه كان يدعو ، فمن ذا كان يسمعه ولا يفرح ثم ينجذب؟ ولكن لو كان هذا هو الأمر لكانت الأخبار السارة والدعوة للملكوت محدودة، ولكن في الحقيقة كان كل من ينجذب إليه يفرح ويمتلئ غيرة داخلية وحبًّا يلهب القلب، وبنفس التأثر والتأثير يدعو هو أيضاً: الكلام حلو والدعوة حلوة والسير وراؤه كما يكون أسعد حلم، من يحظى به لا يشاء أن يقوم منه. وإن كان هذا هو المسيح والإنجيل فقط فهو يمكن أن ينحصر وسط جماعة عاشقة للروح وحسب، ولكن والقديس مرقس قد اكتشفها أن المسيح والإنجيل كل منهما له جاذبية، لذلك قال هكذا بلسان المسيح نفسه: «ليس أحد ترك بيتا أو إخوة أو أخوات أو أبا أو أما … لأجلي ولأجل الإنجيل إلا ويأخذ مئة ضعف …» (مر 10: 29-30). فالسماع صنارة طالما علقت في القلب اختطف القلب وبعد رعشة قليلة تستقر السمكة في كف الصياد عجيب هو المسيح وعجيب هو إنجيله، فهما الدعوة التي ملأت ملكوت السموات بأكبر وأعظم سمكات بحر العالم الفسيح كانت كلمة السر اتبعني ومن تبعه وصل في الحال. كيف؟ لأنه هو الباب وهو الطريق كله وهو الحياة الأبدية !! «ومَنْ يُقبل إليَّ لا أخرجه خارجاً .» (يو (37:6)

(ج) المسيح يعلم ويعظ ويشفي [4: 23-25]

 

23:4 «وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ الجَلِيل يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٌ وَكُلَّ ضُعْفَ فِي الشَّعْبِ».

هنا يكشف ق. متى أن المسيح في تعاليمه ووعظه لم يقتصر على كفرناحوم، بل امتدت خدمته لتشمل “كل الجليل”. وهنا كل الجليل ليس أمراً هينا فمساحة الجليل هنا بحسب العالم د.أ. كارسون تقدر بـ 70×40 ميلا، وبحسب يوسيفوس المؤرخ اليهودي تحوي 204 مدينة وقرية كل واحدة منها لا تقل عن 15 ألف نسمة، وهذه الأرقام مقصورة على المدن والقرى المحاطة بأسوار وأبواب، ومجموع تعداد سكان الجليل لا يقل عن 3 مليون نسمة. هذا يعني بحسب احصائيات الخدمة أن المسيح كان عليه أن يخدم قريتين كل يوم. والذي سهل مهمته أن وعظه كان يكرره بصورة متعددة وكانت الخدمة داخل المجامع توفر عليه كثيراً من الترحال.

ولكن الذي ينبغي أن ندركه هو أن يقول المسيح إن ملكوت الله قد قرب، كان هو يصنع هذا القرب بنفسه، بوعظه المفرح المذهل وآيات شفائه ومعجزاته، فكانت حضرة المسيح هي بعينها حضرة الملكوت. واستحالة أن يكون الملكوت أقرب للإنسان من وجود المسيح معلما وشافيا ومبشراً بالفرح السماوي.

«يعلم»

ويعلم غير “يكرز” بالإنجيل أي البشارة بالملكوت. فالتعليم هو تعليم مبادئ وأصول العبادة وطاعة الله والتعامل مع وصاياه فالتعليم هو كشف المناهج الروحية التي ينبغي أن يلتزم بها الإنسان تجاه الله، مع توضيح دقائق السلوك مع الناس.

أما الكرازة فهي المناداة بالصوت العالي عن قرب الملكوت، فهي نوع من البشارة أو الإنذار للاستعداد أو الإعلان عن وقوع أمر عام للخلاص، أو الدعوة لاستقبال تدبير الله . ويلاحظ أن ق. متى يذكر التعليم في المجامع والكرازة في الطرق والبيوت. فقوة المسيح العظمي كانت في تعليمه أكثر من المعجزات، فالمعجزة تنتهي أما التعليم فيبقى إلى الأبد. فالمسيح في حقيقته كان معلما أكثر منه كارزا، بل وكان اللقب المحبوب لديه ولدى جميع الناس وحتى الأعداء أنه “المعلم”: «أنتم تدعونني معلماً وسيداً وحسناً تقولون لأني أنا كذلك» (يو 13:13). وحينما اختص المسيح المجامع في الجليل كله للتعليم كان هذا إشارة قوية أن الكنيسة هي مكان التعليم بلا نزاع وأن العلم الإنجيلي والتعليم بكل صوره اللاهوتية والمعلمين بكافة تخصصاتهم إنما ينتمون إليه أشد الانتماء ولا يمكن أن ننسى آخر وصية سلمها للتلاميذ والكنيسة والعالم: «علموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به.» (مت 20:28) أما جوهر التعليم الذي اختص به المعلم فكانت إرادة الله في اتساعها الأخلاقي لتربية النفس على حب الله ومخافته ومساعدة القريب والعطف والبذل على مساكين الأرض. ثم تعليم كل ما هو عند الأب الذي يرفع عن الإنسان إحساس العبودية:

+ « أنا قد أعطيتهم كلامك .» (يو (14:17)

+ لا أعود أسميكم عبيداً لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي .» (يو15: 15)

«ويكرز  ببشارة الملكوت»:

أي الإنجيل المختص بالأخبار السارة التي توضح نصيبنا المجاني في ملك الله الذي يكمل ويختم على خلاصنا. أما بنية الملكوت وحقيقته المعاشة فهي الكنيسة !! التي تسير مرتحلة عبر الزمن ومسترشدة بروح الله وتحت حكمه حاملة أولادها في جسدها نحو النهاية السعيدة، ومعها مفاتيح ملكوت السموات وتصنع مع أولادها “العالم المفدي” : غاية عمل المسيح ومنتهى حب الآب:

+ «وعلى هذه الصخرة (الإيمان) أبني كنيستي (حجارة حية) .» (مت 18:16)

+ «مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية.» (أف 20:2)

+ «لبنيان جسد المسيح إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله. إلى إنسان كامل إلى قياس قامة ملء المسيح. » (أف 4: 12 و 13)

والكرازة هنا هي فتح ثغرات في جدار العالم وأسواره العالية التي تحجز النور عن العائشين في ظلمة العالم. فإن كان التعليم بالكلمة فالكرازة بالفعل وبالصراخ حتى يتيقظ وينجو الذين يسيرون في طريق الموت والهلاك، هي بشارة بأخبار سارة ومفرحة لتجذب الذين أضلهم العالم بجماله الكاذب وتنتزعهم من براثن الهلاك، من موبقات وعادات وأعمال الخزي والفجور واللهو الصاخب والضحك الكاذب والمسرات القاتلة. لذلك فالكارز يرفع صوته عالياً ليدخل إلى الأذن والقلب الذي يعيش في اللهو، ليس كأنه صوت بوق أو ميكروفون، بل صوت الروح القدس وهو أعلى في صراخ الكارز من القلب بالدموع، بالحب، بالتوسل حتى يستيقظ النائم في موت الخطية ويقوم التعليم يحتاج إلى رزانة الكلمة والفكر وهدوء النفس، أما الكرازة ببشارة الملكوت فتحتاج إلى صوت حديدي يقرع على أوتار حساسة، وإلى تغيير الصوت من الهادئ إلى العالي ليرحم الخاطئ عذاب الكارز فيفيق ويستجيب والمعلم في التعليم يحدث الفكر والقلب والضمير، يبني بالروح ليكون فكراً جديداً وقلباً مستنيراً وضميراً طاهراً، حيث تبنى النفس على صورة خالقها. أما الكارز فكل همه أن يفتح الأذن المسدودة والقلب المغلق ويسترد الروح الغائبة ويحجز الرجلين من الزلق ويوقف السائر على طريق الموت ليفكّر مرة ومرات قبل أن يخطو خطوة الموت. وباختصار فإن عمل الكارز بالبشارة هو عمل رجل إسعاف وطبيب وجندي وبابا نويل يحمل الهدايا: ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام المبشرين بالخيرات.» (رو 15:10)

«ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب»:

هنا التركيز على “كل” بالنسبة للمرض وبالنسبة للضعف، هذه الكلية المطلقة هي التي تكشف عن وسيلة الشفاء ومستواه فالوسيلة هي إعادة الصحة إلى ما كانت عليه بنوع إعادة الخلق للجزء الناقص كالأعمى والأعرج والجزء المريض الذي لفظه الجسم. هو خلق بكل معنى يقصر عنه كل دواء وكل طبيب، فليس مرض ما مهما كان، يقف غير مستجيب للمسة المسيح أو نطق فمه وليس من ضعف ما يمكن استثناؤه من عمل قوة المسيح وسلطان شفائه. وأظهر المسيح وسيلة للشفاء سرية جداً هكذا: «ثق يا بني مغفورة لك خطاياك» (مت 2:9) ، فهو يعالج العلة الأولى لمرض الخليقة وانحرافها عن خط طبيعتها الملتزمة به. وهكذا دخل شفاء المرض والضعف في صميم رسالة المسيح للخلاص بغفران الخطايا. وهكذا بعمليات الشفاء الباهرة أثبت المسيح بدون كلام أنها هو ملكوت الله، الإنسان يعود صحيحاً معافى النفس والجسد والروح مغفور الخطايا لحضن الله ، وشفاء جميع الأمراض وغفران جميع الخطايا إشارة إلى الخلقة الجديدة بالنهاية.

والمسيح ولا إلى مرة واحدة سأل المريض إن كان يهوديا أو أمميا، بل وفي كثير من المواقف شفى اليهودي والسامري معاً من البرص، وذكر إيمان الأممي أنه ولا في إسرائيل كلها مثله! وهكذا أعطى صورة غاية في الصدق والأصالة لملكوت الله. وأثبت حقا أنه مخلص العالم» (يو 42:4، 1يو 14:4) لحساب ملكوت الله !

24:4 «فذاعَ خَبَرُهُ فِي جَمِيع سُوريَّة. فأحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ السَّقِمَاءِ الْمُصَابِينَ بِأَمْرَاضِ وَأَوْجَاعِ مُخْتَلِفَةٍ، وَالْمَجَانِينَ وَالْمَصْرُوعِينَ وَالْمَفْلُوحِينَ، فَشَفَاهُمْ».

ويقصد ق. متى بـ “جميع سورية” المناطق الشمالية من فلسطين التابعة لسوريا، وكانت كلتا الولايتين تحت الحكم الروماني، وهي تشمل في الشمال منطقة أنطاكية ودمشق حيث كان يقطنها اليهود بكثرة بعضهم بإرادته وبعضهم كانوا قد رحلوا إلى هذه المناطق بالقوة، وكانت كلها مرتبطة اجتماعياً وروحياً بالأصل اليهودي من أقارب وأنساب، وكان هناك طريق ممهد جيد يربط هذه المناطق بالمدن الجنوبية من الجليل. وكفرناحوم كانت واقعة على الطريق الرئيسي الممتد حتى أنطاكية ودمشق. كذلك كان هناك طريق رئيسي آخر يربط هذه المناطق بساحل البحر الأبيض حتى صور وبالجليل إلى غزة فمصر، وكلها كانت ممهدة بواسطة الدولة الرومانية لتوصل البلاد بروما، ومنها جاء المثل كل الطرق تؤدي إلى روما”. وهكذا كان يتقاطر اليهود من الشمال ليروا المسيح ويتعلموا ويشفوا من جميع أسقامهم بكل صنوفها. والقصد من تعداد أنواع الأمراض هو أن المسيح لم يعسر عليه أي مرض من الأمراض. فكما قلنا لم يكن طبيباً ليمرض الأجساد وحدها ولكن كان الشفاء يأتي من الجذور بمغفرة الخطايا وانتزاع القوة الشريرة التي كانت سبباً في أمراض كثيرة (33:9، 22:12 15:17). وكان الصرع مرضاً منتشراً في تلك الأيام (15:17) وكان يُعزى للمس بالأرواح، وكان يُشفى في الحال دون عودة إلى المرض. وكأن المسيح كان في حرب حقيقية مع أعداء الإنسان بالأشفية والتعليم سواء بسواء ، لأن الجهل والبعد عن الله كان السبب الرئيسي لهذه الأسقام التي لا تنتهي. وبهذا كان يبشر بالكلمة ويفعل بالأشفية لإعداد الإنسان لملكوت الله: «إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله .» (28:12)

25:4 «فَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الجَلِيل وَالعَشْرِ المُدن وأورُشَلِيمَ وَالْيَهُودِيَّةِ وَمِنْ عَبْرٍ الأردن».

والعشر مدن كان الإقليم المتاخم لليهودية والسامرة من الشرق عبر الأردن وكانت مدنه معروفة وقد خدم فيها المسيح: جدارا وأبيلا وسكيتوبوليس وهيبوس وجيرازا وفيلادلفيا وقناطا وبلا وديون ودمشق. وطبعا أورشليم وباقي اليهودية سمعت به فكل هذه البلاد أتى منها كثيرون فجعلوا الازدحام حول المسيح شديداً. وكم مرة يصرح الإنجيل أن المسيح والتلاميذ لم يكن لهم لا المكان ولا الوقت ليأكلوا الخبز، وكانوا يرحلون وراءه أينما رحل . نفس المنظر الذي نسمعه أنه يحدث فوق في سفر الرؤيا « هؤلاء هم الذين يتبعون الخروف حيثما ذهب هؤلاء اشتروا من بين الناس (بالدم) باكورة الله وللخروف» (رؤ 4:14). والله القدير يجعل للقارئ نصيباً مع السائرين التابعين للخروف.

فالتعليم كان إعجازياً كالأشفية وما سمعه إنسان إلا وارتبط به: «لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان (يو 46:7) لأنه كان كلاماً شافيا للعقل والجسد والنفس كلام أو إنجيل الملكوت وكانت سمته الأولى الفرح وبهجة النفس.

ملخص الأصحاح الرابع

كان هذا العمل العظيم المترامي هو بداية خدمة الجليل التي استغرقت تقريباً كل أيام خدمة المسيح على الأرض، وقد بدأها واستمر فيها في حوالي سنة 27م بعد المعمودية والتجربة (13:3-11:4) مبتدئاً خدمته وهو في سن الثلاثين حينما ترك الناصرة وطنه ومكان عمله لينطلق في خدمته التي أرسل من أجلها متخذاً كفرناحوم مركزاً لرحلاته التبشيرية. وطبعاً كان عمل المعمدان ممهداً للجماهير التي تقاطرت على العماد والاعتراف ومغفرة الخطايا التي تأهلت ذهنياً لسماع المسيح. وترك المسيح جنوب اليهودية التي اكتظت بالفريسيين والكتبة الذين كانوا يقاومون الكلمة ويشككون في الأشفية. وفازت الجليل بمعظم تعاليم المسيح التي أسماها إشعياء – ووافق على قوله ق. متى – بالنور الذي أشرق عظيماً مبدداً ظلمة الموت. ومن هناك بدأ ضياء الملكوت يشع على البلاد الغارقة في الجهل واليأس والمرض. وانتهت هذه الفترة الزمنية (18:4-22) باختيار التلاميذ وتعليمهم صيد الناس لحساب الملكوت أيضاً. وقد رافقوا المسيح في رحلاته إلى كل تلك النواحي وتأهلوا – بعد التلمذة – للرسولية وإذاعة أخبار الملكوت المفرحة (الإنجيل). وانتهت هذه الفترة الزمنية في بداية الخدمة (24:4-25) بتكثيف تعليم المسيح ورحلاته والأشفية من كل الأمراض، وامتدت الخدمة لتشمل الآتين من البلاد البعيدة شمالاً وشرقاً سوريا في الشمال والعشر مدن وبيرية جنوباً بشرق. ولم يتخلف أهل اليهودية في الجنوب بل ارتحلوا يطلبونه في قوافل لا تكف. وكانت خدمة المحبة والعطف على المتعبين والثقيلي الأحمال الأولى من نوعها في العالم شيئا لم يُسْمَع به من قبل.

زر الذهاب إلى الأعلى