تأملات في سفر نشيد الأناشيد للبابا شنوده الثالث – الأصحاح الرابع
كَمْ رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب! (نش 4: 1)
عبارة الطيب تتكرر كثيرًا في سفر النشيد: فهي في أوله، و في أخره، و خلال إصحاحاته الثمانية:
ففي أوله “رائحة أدهانك الطيبة”، “اسمك طيب مسكوب” (1: 3).
وفي أخره “أهرب يا حبيبي وكن كالظبي.. على جبال الأطياب” (8: 14).
وفي داخله “كم رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب” (4: 10). وأيضًا “حبيبي نزل إلى جنته إلى خمائل الطيب، ليرعى في الجنات” (6: 2) “قطفت مري مع طيبي” (5: 1).
يضاف إلى هذا، ذكر كثير من مركبات الطيب:
وأخصها (المر) وهو عطر سائل، طعمه مرَ، ورائحته زكية جدًا.. مثال ذلك “اذهب إلى جبل المرَ، وإلى تل اللبان” (4: 7) “يداي تقطران مرًا” (5: 5). ومجموعة كبيرة من مركبات الطيب في (نش 4: 14): “ناردين وكركم، قصب الذريرة وقرفة، مع كل عود اللبان. مر وعود، مع كل أنفس الأطياب” (4: 14).
في العهد القديم:
هذا الطيب يذكرنا بالدهن الذي للمسحة المقدسة في العهد القديم.
هذه المسحة التي كان يتم بها مسح الملوك والكهنة والأنبياء في العهد القديم، فيحل عليهم الروح القدس وبمواهبه.
كما كان يمسح بها بيت الله ومذابحه وكل أوانيه، فتصير مقدسة للرب.. حقا إننا ننظر إلى هذا الدهن المقدس وفاعليته، ونقول لكنيسة العهد القديم “رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب”.
عن هذا الدهن قال الرب لموسى النبي “و أنت تأخذ لك أفخر الأطياب: مرًا قاطرًا.. و قرفة عطرة..
وقصب الذريرة.. وسليخة.. و زيت الزيتون. و تصنعه دهنًا مقدسًا للمسحة. عطر عطارة، صنعة العطار.
دهنًا مقدسًا للمسحة يكون. و تمسح به خيمة الاجتماع، و تابوت الشهادة، و المائدة وكل آنيتها، والمنارة وكل آنيتها، و مذبح البخور، و مذبح المحرقة وكل آنيته، والمرحضة وقاعدتها”. “و تقدسها فتكون قدس أقداس. كل ما مسها يكون مقدسًا”. “و تمسح هرون وبنيه، و تقدسهم ليكهنوا لي. وتكلم بنى إسرائيل قائلاَ: يكون هذا لي دهنًا مقدسًا للمسحة في أجيالكم” (خر 30: 22 – 31) “مقدس هو، و يكون مقدسًا عندكم” (خر30: 32).
حقًا، ما أعجب أدهانك أيتها الكنيسة، التي هي قدس أقداس، و كل ما مسها سيكون مقدسًا! إنها “أطيب من كل الأطياب”.
وفعل موسى حسب كل ما أمره الرب، هكذا فعل” (خر 40: 16). “أخذ موسى دهن المسحة، و مسح المسكن وكل ما فيه وقدَسه. و نضح منه على المذبح سبع مرات، ومسح المذبح وجميع آنيته..”، “وصب من دهن المسحة على رأس هارون ومسحه لتقديسه..” (لا 8: 10 – 12).
إنه دهن، طيب عطر، مقدس، كان الروح القدس يعمل من خلاله، للتقديس..
ونسمع بعد ذلك أن صموئيل النبي “أخذ قنينة الدهن، و صب على رأس شاول ومسحه” (1 صم10: 1).
فكانت النتيجة”أن الله أعطاه قلبًا آخر ” “و حل عليه روح الله فتنبأ”حتى قال الشعب “أشاول أيضًا بين الأنبياء” (1 صم10: 9 – 11). و صار شاول بهذه المسحة ملكًا..
كذلك مسح صموئيل الفتى داود بهذا الدهن المقدس “فحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدًا” (1صم16: 13)
حقًا، إن رائحة أطيابك أفخر من كل الأطياب”.
والدهن المقدس في العهد القديم كاب يمسح به الأنبياء أيضًا، كما مسح إيليا أليشع نبيًا عوضًا عنه (1 مل 19: 16).
في العهد الجديد:
* أول طيب نذكره هو اسم الله، وبه ننال المعمودية.
يقول سفر النشيد -حسب الترجمة البيروتية- “اسمك دهن مهراق” (نش 1: 3). ولكن أفضل من هذه الترجمة، الترجمة التي نستخدمها في طقسنا القبطي “طيب مسكوب هو أسمك (القدوس)”.
اسم الله هو طيب عطر، نستخدمه في كل صلواتنا. وبهذا الاسم نتعمد. كما قال الرب لتلاميذه القديسين “و عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (مت 28: 19). كما قال القديس بطرس الرسول لليهود في يوم البندكستي “توبوا، وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا..” (أع 2: 38).
وهكذا في المعمودية، أخذنا طيب التبرير والميلاد الثاني (تى 3: 5) وغفران الخطايا (أع 2: 38).
إن اسم الرب الذي دُعي علينا، نأخذ البنوة له في المعمودية. وبه نبدأ كل عمل، وكل صلاة. وباسمه نبدأ كل يوم من أيام حياتنا. ونذكر قول المرتل في المزمور (مز 63: 4، 5).
“باسمك ارفع يديَّ، فتشبع نفسي كما من شحم ودسم”.
حقًا إن “اسم الرب برج حصين، يركض إليه الصديق ويتمنع” (أم 18: 10). و ما أجمل ما نقوله للرب في التسبحة “اسمك حلو ومبارك: في أفواه قديسيك”.
“الطيب المقدس الذي نأخذه بعد ذلك، هو دهن الميرون المقدس.
ونلاحظ أنه يشتمل على الأطياب التي وردت في مركبات مسحة العهد القديم في (خر 30) وأيضًا ما ورد في أطياب سفر النشيد (نش 4: 14).
وبهذا الدهن المقدس ننال التقديس وسكنى الروح القدس فينا.
نصبح هيكلًا للروح القدس، والروح القدس يسكن فينا (1 كو 3: 16) (1 كو 6: 19). ويعمل فينا روح الله، و ندخل في شركة الروح القدس. ألا يليق بنا، و نحن نرى هذا، أن نقول للكنيسة المقدسة “رائحة أدهانك أفخر من كل الأطياب”.
ذلك لأن الأب الكاهن، فيما يرشم المعمد بهذا الدهن المقدس (زيت الميرون) يقول هذه الصلوات:
مسحة الروح القدس، آمين.. مسحة عربون ملكوت السموات، آمين.. مسحة مقدسة للمسيح إلهنا، وخاتم لا ينحل، آمين.
كمال نعمة الروح القدس، ودرع الإيمان والحق آمين.
وبهذا الدهن المقدس، يقدس كل أطراف المعمد، ومفاصله وفتحات جسمه. ويبدأ الروح يعمل فيه، بقوته، و مواهبه، وإرشاده.
حقًا: رائحة أدهانك -أيتها الكنيسة- أفخر من كل الأطياب.
“الطيب الرابع الذي نأخذه من الكنيسة، هو عمل الكهنوت.
وكان عمل الكهنوت.. في العهد القديم – يبدأ بسكب الطيب المقدس على رأس رئيس الكهنة، كما يقول المزمور”.. كالطيب الكائن على الرأس، الذي ينزل على اللحية، لحية هرون النازلة على جيب قميصه” (مز 132 [133]).
لاشك أن الكهنوت هو طيب في الكنيسة، ننال به كل نعم الأسرار المقدسة، وننال به الرعاية والعناية.
ننال به مغفرة الخطايا، حسب قول الرب لتلاميذه “من غفرتم خطاياه، غُفرت له” (يو 20: 23) “ما حللتموه على الأرض يكون محلولًا في السماء” (مت 18: 18). وننال بالكهنوت نعمة العماد (مت 28: 19)، “و الميلاد الثاني، وتجديد الروح القدس” (تى 3: 5). والمسحة التي لنا من القدوس (1 يو 2: 20)، والتناول من جسد الرب ودمه (1 كو 11).
وبالكهنوت ننال التعليم الصحيح (تى 2: 1)، حيث من فم الكاهن تطلب الشريعة (ملا 2: 7) وهو يفصل كلمة الحق باستقامة (2 تى 2: 15).
أيتها الكنيسة المقدسة، هذه هي “رائحة أدهانك الطيبة” (نش 1: 3).
بل من الكهنوت أيضًا، نأخذ البركة في ختام كل اجتماع، بل البركة في كل وقت. كما علّم الرب موسى “هكذا تباركون.. قائلين لهم: يباركك الرب ويحرسك. يضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلامًا” (عد 6: 23 -26).
وطيب الكهنوت لا يشمل فقط الأسرار والتعليم والبركة، وإنما يشمل أيضًا العمل الروحي كله.
ومنه خدمة المصالحة، كما قال القديس بولس الرسول “.. وأعطانا خدمة المصالحة.. إذن نسعى كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله” (2 كو 5: 18، 20). وفي هذه الخدمة كل ما يتعلق بالرابطة الروحية بين الله والناس. كل ما يتعلق “بتكميل القديسين، وعمل الخدمة، وبنيان جسد المسيح” (أف 4: 11، 12).
حقًا يا كنيستنا المقدسة، “رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب”.
“طيب آخر تقدمه لنا الكنيسة المقدسة، وهو رائحة المسيح الزكية في حياتنا:
وهكذا تكون الكنيسة مصدرًا للطيب، لرائحة الحياة الطيبة، كما يقول الرسول “شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته.. ويُظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان”، “لأننا رائحة المسيح الزكية لله” (2 كو 2: 14، 15). “رائحة حياة لحياة” (2 كو 2: 16).
رائحة الحياة الطيبة، هي طيب تقدمه الكنيسة إلى العالم.
وهي -في قداستها وطهرها- “معطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر” (نش 3: 6) . يرى الناس أعمالها الحسنة، فيمجدون الآب الذي في السموات (مت 5: 16).
إن أستير الملكة، كانت مثالًا، حينما بدأت حياتها كملكة، بأن وضعوها في العطور والأطياب مدة ستة أشهر (إس 2: 12).
ورقم ستة في الكتاب المقدس يرمز إلى كمال العمل. كما خلق الله العالم في ستة أيام، وقام بعمل الفداء في اليوم السادس وفي الساعة السادسة..
وكانت الملكة أيضًا – كما في حياة أستير: توضع أيضًا في زيت المر ستة أشهر. والمر عطر، له رائحته الطيبة وطعمه المر، يرمز إلى طيب الكنيسة في آلامها.
وعن طيب الحياة، قيل عن الكنيسة في قدسية حياتها:
“المر والميعة والسليخة من ثيابك” (مز 45).
يعطينا هذا مثلًا عن ثوب البر الذي ينبغي أن نلبسه أمام الله، والثياب البيضاء التي نظهر بها هنا، وكان يظهر بها كما في ظهوراتهم في قصة القيامة (يو 20: 12). وكما يخدم الآباء الكهنة في الهيكل بثياب بيض..
ثياب القديسين “غير المدنسة من الجسد” (يه 23) كانت طيبًا أمام الله، وكانت بركة أمام الناس. ونذكر في هذا المجال أنه قيل عن القديس بولس الرسول “كان يؤتى عن جسده بمناديل ومآزر إلى المرضى، فتزول عنهم الأمراض، وتخرج الأرواح الشريرة” (أع 19: 12).
إنها معطرة روحيًا أمام الله.
وقد أشاد الله بالعطر ورائحته في كتابه المقدس:
فقد أمر الرب موسى النبي من جهة البخور الذي يجب إعداده لتقديمه للرب إنه يكون “بخورًا عطرًا صنعة العطار” (خر 30: 25). كما يرمز الطيب إلى الحياة الطيبة.
إن الكنيسة بالطيب الذي تظهر به في حياتها الطيبة، تبدو كما قيل في سفر الرؤيا “كعروس مزينة لعريسها” (رؤ 21: 2).
ولعل هذا يذكرنا بقول أبينا إسحق أبى الآباء في مباركة ابنه يعقوب: “رائحة ابني كرائحة حقل باركه الرب” (تك 27: 27).
حقًا إن الرب يحب الرائحة العطرة ويريدها:
والطيب أيضًا يظهر في التقدمات والذبائح التي تقدمها الكنيسة للرب.
وقد قيل عن أبينا نوح بعد رسوّ الفلك: إنه “أصعد محرقات على المذبح. فتنسم الرب رائحة الرضا. وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضًا بسبب الإنسان..” (تك 8: 20، 21).
آخر طيب في حياتنا هو الطيب الخاص بتكفين الإنسان بعد موته:
إن المرأة التي سكبت على السيد زجاجة طيب من ناردين غالى الثمن، ولامها بعض التلاميذ قائلين “لماذا هذا الإتلاف؟! لأنه يمكن أن يُباع هذا الطيب بكثير ويعطى للفقراء”، فقال لهم الرب “لماذا تزعجون المرأة. فإنها قد عملت بي عملًا حسنًا.. فإنها إذ سكبت هذا الطيب على جسدي، إنما فعلت ذلك لأجل تكفيني” (مت 26: 8-12).
وحدث هذا فعلًا في تكفين السيد المسيح أن أتى نيقوديموس “وهو حامل مزيج مرّ وعود نحو مئة منّا” فأخذ هو ويوسف الرامي جسد السيد، ولفاه بأكفان مع الأطياب كما لليهود عادة أن يكفنوا” (يو 19: 39، 40). كذلك في فجر الأحد جاء إلى القبر النسوة “حاملات الحنوط الذي أعددنه” (لو24: 1).
أجساد القديسين الطاهرة التي عاشوا بها على الأرض كانت طيبًا صاعدًا إلى السماء استقبلتها الملائكة قائلين “من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر” (نش 3: 6).
أجساد كانت طيبًا يعطر الكنيسة، ولما تنيح أصحابها، صعدت أرواحهم إلى السماء كطيب عطر، و بقينا نضمخ رفاتهم بالطيب.
المقصود أن الإنسان كما تكون حياته على الأرض طيبًا، فإن الطيب يفوح من جسده أيضًا عند تكفينه ودفنه.
وهكذا نفعل مع رفات القديسين، إذ يضمخ الرفات بالأطياب والحنوط حتى تصبح رائحة رفات القديس عطرة باستمرار..
أختي العروس جنة مغلقة (نش 4: 12)
أختي العروس:
إنه تواضع من الرب أن يقول عن النفس البشرية “أختي” بينما ترد النفس قائلة “هوذا أنا أمَة الرب” (لو 1: 28) أي عبدته وخادمته.
لقد دعانا الرب أخوته حينما ” أخلى ذاته، وأخذ شكل العبد، وصار في الهيئة كإنسان” (في 2: 7).
“لذلك لا يستحي أن يدعوهم أخوة”، “إذ قد تشارك معهم في اللحم والدم” (عب 2: 11, 14), عندما تجسد وتأنس.
والنفس البشرية هي أيضا عروس للرب، وكذلك الكنيسة.
كما شرح الرسول في الإصحاح الخامس من الرسالة إلي أفسس. وهناك اتحاد روحي، وليس اتحادا جسديا كما في الزواج.
وفي هذا يقول الرسول “وأما من التصق بالرب، فهو روح واحد” (1كو 6: 17). أما كيف يصير هكذا مع الله. فهذا ما قال عنه الكتاب “هذا السر عظيم” (أف 5: 32). وفي روحانية هذا الارتباط يقول الكتاب “أختي العروس”.
جنة مغلقة:
يقول “أختي العروس جنة مغلقة, ينبوع مختوم” (نش 4: 12). فهي جنة, من حيث فيها كل ثمار الروح (غل 5: 22, 23). وفيها “كل شجرة تعطي ثمرا جيدا” (مت 3: 10). وتقدم “ثلاثين وستين ومائة” (مت 13: 23). في عمل الرب.
ولكنها جنة مغلقة. لم تفتح بابها لكل طارق، وليست سائبة بلا سور..
ولذلك قال لها المرنم في المزمور “سبحي الرب يا أورشليم.. لأنه قوي مغاليق أبوابك، وبارك بنيك فيك” (مز 147: 13, 14).
إنها جنة مغلقة لم يدخلها حيوان رديء. لم يدنسها بأقدامه, ولم يطأ زهورها الجميلة, ولم يعبث بأثمارها الحلوة. إنها جنة. فردوس من الفضائل. ولكنها مغلقة, محصنة. والله في داخلها, ولم تفتح أبوابها لعدو خارجي.
وهي أيضا عين مقفلة, وينبوع مختوم.
هي عين ماء، ينبوع من المياه. فيها الماء الحي الذي قال الرب عنه “من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا، فلن يعطش إلى الأبد. بل الماء الذي أعطيه، يصير فيه ينبوع حياة ينبع إلي حياة أبدية” (يو4: 14).
إنها عين ماء , من النوع الذي قال عنه الرب: من أمن بي -كما قال الكتاب- تجري في بطنه أنهار ماء حي”. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه” (يو 7: 38, 39).
الكنيسة إذن ينبوع ماء حي, وهكذا النفس البشرية.
كما قال المزمور “سواقي الله مملوءة ماء” (مز65: 9). والماء رمز للحياة. إذن هي مرتوية, وتستطيع أن تروي. ولكنها ينبوع مختوم وعين مقفلة. ليست مفتوحة للتلوث ولا للحشرات. لكنها ينبوع نقي مختوم. هي عين ماء حلو، ولكنها عين مقفلة.
غير أنها ليست مقفولة علي أحد, بل تنفتح حين تعطي الحياة.
ومفتاحها في يد الرب “الذي يفتح ولا أحد يغلق, ويغلق ولا أحد يفتح” (رؤ 3: 7). كما يقول “افتح يا رب شفتي, لينطق فمي بتسبحتك” (مز 51: 15). ولكنها حينما يحسن الصمت تراها ينبوعا مختوما. تفتح فمها بحكمة, وتفتح حواسها بحكمة. وفي غير لك عي عين مقفلة..
تحترس من خطايا اللسان, فتغلق هذا الفم. بل تقول للرب في توسل.. “ضع يا رب حارسا لفمي, بابا حصينا لشفتي!” (مز 141: 3). وأمام حكمة الله التي فوق الفحص, تقول هذه النفس “وضعت يدي علي فمي وسكت, لأنك أنت فعلت”..
أختي العروس ينبوع مختوم, لكنه ينفتح للفائدة الروحية.
ينفتح فيروي الغير بالمعرفة, وبكلمة منفعة وكلمة تعزية وكلمة نصح. وينفتح أمام الله بالصلاة والتسبيح. أقول هذا عن اللسان وعن القلب أيضا الذي ينفتح بالحب والعطف والإشفاق لكل الناس. وينفتح بالدعاء للناس وبالصلاة لله .. أما أمام الأخطاء، فالنفس مغلقة مختومة ومقفلة.
يا أخي الحبيب, عندما تنظر إلي نفسك, فتجد أن كل كلمة تسمعها, تدخل إلي قلبك وفِكرَك بلا ضابط. فتشغلك, وتنفعل بها أحاسيسك وشاعرك, وقد تطيش فيها أفكارك حتى أثناء الصلاة.. وهكذا كل نظرة تنظرها، وكل لمسة تلمسها.. أعرف إذن أنك لست جنة مغلقة. بل أنت مدينة غير محصنة. مفتوحة لكل عدو خارجي بلا رقيب! جنتك يمكن أن تدخلها الثعالب المفسدة للكروم! (نش2: 15). وحينئذ لا تكون أنت المقصود بكلمة الرب: أختي العروس جنة مغلقة, عين مقفلة, ينبوع مختوم”.
أيضًا هذه العبارة يمكن أن تقال عن بتولية النفس, التي وهبت ذاتها للرب, وصارت عذراء مخطوبة له.
أما إن كانت النفس تغلق أبوابها, فلا تفتح حتى للرب نفسه, تكون خائنة لحبه, وناكرة لجميله, بل إنه لا يتركها لأخطائها, وإنما يقول لها:
“افتحي لي يا أختي, يا حبيبتي, يا حمامتي, يا كاملتي” (نش 5: 2).
والواقع إنه في هذه الصفات الأربع التي توصف بها العروس من الرب. تكمن كل أحداث قصة خلاص البشرية كلها: سواء ما عمله الله لأجل خلاصنا, أما ما ينبغي أن نعمله نحن.
شفتاك يا عروس تقطران شهدًا (نش 4: 11)
قال الرب للكنيسة، وللنفس البشرية القديسة:
شفتاكِ يا عروس تقطران شهدًا (نش 4: 11)
كثير من الناس، تكمن متاعبهم في ألسنتهم، لذلك يفضلون الصمت:
يجعلون أمامهم قول الحكيم “كثرة الكلام لا تخلو من معصية” (أم 10: 19)، و قول يعقوب الرسول “اللسان نار، عالم الإثم.. هو شر لا يضبط، مملوء سمًا مميتًا.. يدنس الجسم كله” (يع 3).
ويحب هؤلاء قول القديس أرسانيوس “كثيرًا ما تكلمت فندمت، و أما عن سكوتي فما ندمت قط”. لذلك يرون الصمت أفضل..
حقًا إن الصمت أفضل من الكلام الرديء، وحقًا إن اللسان غير المنضبط هو سم مميت. و لكن هناك كلام طيب..
ليس كل صمت فضيلة، فأحيانًا نُدان على صمتنا.
وليس كل كلام خطيئة. فهناك نفس تتكلم، فيقول لها الرب: “شفتاك يا عروس تقطران شهدًا”. قال الرب أيضًا:
“بكلامك تتبرر، وبكلامك تُدان” (مت 12: 37). إذن يمكن أن تتبرر بالكلام.
ولذلك قال الكتاب “شفتا الصديق ينبوع حياة” “شفتا الصديق تهديان كثيرين” (أم 10: 2). هناك إذن شفاه مقدسة، تخرج منها كلمة حياة، وكلمة منفعة..
كان المسيح يتكلم، والناس يبهتون من كلامه (مت 7: 38)، ويقولون “ما سمعنا أحدًا تكلم مثل هذا”.. كان كلامه روحًا وحياة (يو 6: 63 ).
وقد قدم لنا مثالًا للكلام، إذ كانت شفتاه تقطران شهدًا. لذلك لا نعجب إن رأينا مريم أخت مرثا، تحرص أن تجلس عند قدميه، لكي تسمع وتتأمل (لو 10: 39). كانت كل كلمة تخرج من فمه، تدخل إلى قلبها، وتحرك مشاعرها وتبنيها، وتشبعها..
وقد قال داود عن كلام الرب، إنه “أحلى من العسل وقطر الشهاد” (مز 19: 10).
القديس يوحنا ذهبي الفم، منحته الكنيسة هذا اللقب، إذ كانت كلماته كالدر والجوهر، كانت شفتاه تقطران شهدًا.
القديس أثناسيوس قيل عنه “إن سمعت كلمة لأثناسيوس، و لم تجد ورقًا تكتبها عليه، فاكتبها على قميصك”.. وما أجمل اللقب الذي أعطى للقديس غريغوريوس، إنه ناطق الإلهيات”.
فما هي إذن صفات الكلام، الذي تقطر به الشفاه شهدًا؟
ألوان من شهد الكلام:
قال سليمان الحكيم: “الكلام الطيب شهد عسل، حلو للنفس” (أم 16: 24).
فما هو هذا الكلام الطيب الذي يقصده؟
إنه الكلمة الرقيقة العطوفة، التي تفيض حبًا وعطفًا وحنانًا، ككلمات السيد المسيح للمرأة التي ضبطت في ذات الفعل..
وقفت المرأة أمامه ذليلة محطمة، يجرها أناس قساة، أشبعوها إهانة وتحقيرًا وتشهيرًا، و هي تنتظر مصيرها من شفتيه.. فإذا بالمسيح الكلى الطهر، يصرف الرجال الذين أدانوها وأذلوها، ثم يقول لها “وأنا أيضًا لا أدينك، اذهبي ولا تخطيء أيضًا” (يو 8: 11).
لم يخجلها، لم يوبخها، لم يجرحها، لم يحكم عليها، إنما بكل عطف نشلها من الوحل ومن العار، وصرفها بسلام، وهي متعجبة من هاتين الشفتين اللتين تقطران شهدًا..
بأسلوب رقيق، شبيه بهذا، تحدث السيد مع المرأة السامرية.
حدثها -وهي خاطئة- عن الماء الحي، وعن السجود بالروح والحق، وبلطف زائد اقتادها إلى الاعتراف، دون أن يريق ماء وجهها. فتركت جرتها، ونادت المدينة: تعالوا أنظروا، إنسانًا قال لي كل ما فعلت.. (يو 4: 39) دون أن يجرحنى بكلمة.
وبنفس الرقة تحدث عن المدينة التي أغلقت أبوابها في وجهه.
قال التلميذان اللذان معه “أتشاء يا رب أن تنزل نارًا من السماء فتحرق هذه المدينة؟ ” فأجابهما: “لستما تعلمان من أي روح أنتما؟! لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص ” (لو 9: 55، 56).
أنا قد جئت لأرفع القلوب المنكسرة، أقوم الركب المخلعة، وأشدد الأيدي المسترخية، جئت لأنادى لليائس بالرجاء، وللخاطئ بالتوبة.
لا دينونة في فمي. إنما في فمي كلمة حب، وكلمة خلاص.
هناك أشخاص كلامهم كرجم الحجارة، قسوة وعنف، وفيه اتهام ونقد وتجريح، ولكنه لا يبنى إنما تبنى الكلمة الحلوة. الشفتان اللتان تقطران شهدًا، تكسبان حب الناس، وبالحب تبنيهم.
وهذا الشهد في نوع الكلام، ولهجة الكلام وروحه وأسلوبه.
ومن أنواع هذه الكلمات التي تقطر شهدًا، كلمة المنفعة:
عظة الرب على الجبل، في تقديمها أسمى تعاليم سمعتها البشرية. وكلمات آباء البرية التي كان الناس يأتون في طلبها من أقاصي الأرض ليسمعوا كلمة منفعة. من أجلها قصد البابا ثاوفيلس القديس أرسانيوس والقديس بفنوتيوس. وبها كُتب بستان الرهبان. ومن أمثلتها أيضًا أقوال الآباء التي جمعها العلماء في مجموعات الباترولوجيا، ومنها أيضًا أقوال المرشدين الروحيين النافعة لهداية النفس.
ومن الكلمات التي تقطر شهدًا، كلمات البركة:
مثل البركة التي بارك بها الرب نوحًا (تك 9) وإبراهيم (تك 12)، و البركات التي وردت في سفر التثنية (ص 28)، و مثل بركة إسحق ليعقوب (تك 27)، وبركة يعقوب لأفرايم ومنسى (تك 48)، ومثل البركة التي تمنحها الكنيسة لأبنائها في كل قداس، في نهاية كل اجتماع.
لذلك أمرنا الكتاب قائلًا: “باركوا ولا تلعنوا” (رو 12: 14)، باركوا كل أحد، حتى أعدائكم “باركوا لاعنيكم” (مت 5: 44).. كل شخص يقابلك، قل له كلمة بركة، كلمة دعاء، تفرح قلبه، و تشعره بمحبتك، فتهتف الملائكة قائلة لنفسك: “شفتاك يا عروس تقطران شهدًا”..
والشفاه التي تقطر شهدًا تنطق بكلام مريح فيه طمأنينة وتعزية.
مثل كلمة الطبيب التي تريح المريض، و تدخل الرجاء إلى قلبه.. وكلمة أب الاعتراف الذي يقدم حلًا لمشكلة، ويريح قلب خاطئ يائس، ويعطيه حلًا من خطاياه.. ومن أمثلتها ما طلبه قائد المئة من السيد المسيح “قل كلمة فقط.. فيبرأ غلامي” (مت 8: 8) ومثل كلمات التعزية المريحة تسمعها فتقول “شفتاك يا عروس تقطران شهدًا”.
شفتا أصحاب المواهب، هي أيضًا تقطران شهدًا..
أولئك الذين أعطاهم الرب قوات وعجائب، وائتمنهم على عطاياه.. يأتي الشخص إلى واحد من هؤلاء القديسين، ويسأله قائلًا: قل إنني سأنجح، قل إن الله سيعطيني ابنًا.. قل إن مشكلتي ستحل.. فإن قال تمتلئ النفس فرحًا بالرجاء، متيقنة أنها ستأخذ.. إنها كلمات تسعد سامعها، من شفاه تقطر شهدًا..
حنة-و هي صائمة – تصلى في الهيكل بحرارة وانسكاب ودموع، تطلب نسلًا.. فظنها عالي الكاهن سكري، وكلمها كلامًا قاسيًا، فلما شرحت له حالها، دعا لها أن يعطيها الله سؤل قلبها..
فمضت من عنده فرحة.. لقد أسعدتها الكلمة الطيبة، كلمة الدعاء من الكاهن العظيم، الذي عادت شفتاه تقطران شهدًا..
الكلمة التي تقطر شهدًا، كلمة باقية خالدة. لا تنسى..
تمتد جذورها في أعماق القلب، وفي أعماق النفس من الداخل، يسترجعها الإنسان بين الحين والآخر، لا ينساها. إنها تعمر قلبه، وترسخ في ذاكرته، إنها كلمة حية، غير عادية باقية..
من الكلمات التي تقطر شهدًا أيضًا: كلمات التشجيع والمديح.
صغار النفوس، والضعفاء، والمبتدئون، والأطفال يحتاجون إلى كلمة تشجيع، تقوى معنوياتهم، وتطمئن نفوسهم، وتدفعهم إلى قدام.. إن سمعوها من إنسان ، يقولون “شفتاك يا عروس تقطران شهدًا.. ” بل صدقوني حتى الكبار أيضًا، تسرهم كلمة التشجيع وكلمة المديح، مادامت صادقة بعيدة عن الملق.. إنها تفعل في النفوس مفعول السحر، وتملأ القلب حبًا ورضى.. لذلك يقول الكتاب “شجعوا صغار النفوس. اسندوا الضعفاء..” (1 تس5: 20)
استخدموا هذا الأسلوب باستمرار، وانظروا نتيجته..
ومن الكلمات التي تقطر شهدًا، كلمات الدفاع:
تصور إنسانًا كل الناس ضده، يتكلمون عليه، ويتهمونه.. ثم يجدك واقفًا تدافع عنه.. ماذا يكون شعوره نحوك؟ تصور طفلًا يجدك واقفًا تدافع عنه.. ماذا يكون شعوره نحوك؟ تصور طفلًا توبخه أسرته، ثم تحتضنه أنت، وتقول فيه كلمة طيبة، إنه لا ينساها لك، ويقول لك:
شفتاك تقطران شهدًا..
السيد المسيح دافع عن المرأة الخاطئة التي بللت قدميه بدموعها، بينما اتهمها الفريسي. ودافع عن المرأة التي سكبت على قدميه طيبًا غالى الثمن، ولامها التلاميذ، ودافع عن العشارين، وعن السامريين، وعن الأطفال، وعن الأمم.. وفي دفاعه كانت شفتاه تقطران شهدًا..
ومن الكلمات التي تقطر شهدًا: عبارات الشكر وعبارات الاعتذار.
إن الشكر دليل على التقدير، والعرفان بالجميل، وعدم نسيان الخير. وقد قال الآباء “ليست موهبة بلا زيادة، إلا التي بلا شكر”. ونحن نبدأ صلواتنا بصلاة الشكر. فإن كان هذا مع الله الذي لا يحتاج إلى شكرنا، فكم بالأولى مع الناس.
فيما تشكر، شفتاك تقطران شهدًا، وأيضًا فيما تعتذر.. لأن اعتذارك يدل على حرصك على شعور من أسأت إليه، ورغبتك في أن تطيب قلبه. ونحن بعد صلاة الشكر، نتلو المزمور الخمسين، وكله اعتذار.. ليتك تجرب الاعتذار إلى كل من أسأت إليه، وحينئذ شفتاك تقطران شهدًا، أمامه وأمام الله.
ومن الكلمات التي تقطر شهدًا، عبارات التقدير والاحترام.
تكلم مع الكل باحترام، تنل محبة الكل. يرون كلامك كالشهد. تكلم باحترام مع الكبار ومع الصغار أيضًا. وقل كلمات تقدير لكل من هو أكبر منك سنًا ومقامًا، وأكثر منك علمًا، كما توقر آباءك الروحيين والجسدانيين، وكل من يقدم خدمة لك ولغيرك. بل إن عبارة احترام تقولها لمن هو أقل منك، تستعبد بها قلبه لك.
إن الشفاه العفة الألفاظ، التي تحترم الناس، تفيض شهدًا.
هذا الاحترام والتوقير نردده لله في صلوات التسبيح والتمجيد، تسمعها الملائكة فتقول:
شفتاك يا عروس تقطران شهدًا.
ماذا أقول أيضًا عن الكلمات التي تقطر شهدًا. إن منها:
كلمات الحب التي تدل على عاطفة صادقة، وكلمات الترحيب التي تدل على فرحك بلقاء غيرك، وكلمات النزاهة والشجاعة، وكلمات الصدق في أحرج الأوقات، وكلمات الحكمة المملوءة عمقًا، وكلمات الاتضاع المملوءة حياء..
كلها تصدر من شفاه تقطر شهدًا..
تفسير سفر نشيد الأنشاد 3 | نشيد الأنشاد 4 | تفسير سفر نشيد الأنشاد | تفسير العهد القديم | تفسير سفر نشيد الأنشاد 5 |
البابا شنوده الثالث | ||||
تفاسير نشيد الأنشاد 4 | تفاسير سفر نشيد الأنشاد | تفاسير العهد القديم |