تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 15 للقديس كيرلس الكبير
الأصحاح الخامس عشر
عظة 106 الخروف الضال والدرهم المفقود (لوقا 15: 1-10)
” وكان جميع العشارين والخطاة يـدنون منـه ليــسمعوه. فتذمر الفريسيون والكتبة قائلين: هذا يقبل خطاة ويأكل معهم. فكلمهم بهذا المثل قائلا: أي إنسان منكم له مئة خروف وأضاع واحدا منها ألا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجـل الضال حتى يجده؟. وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحاً. ويأتي إلى بيته ويدعو الأصـدقاء والجيران قائلا لهم: افرحوا معي لأني وجدت خروفي الضال. أقول لكم إنه هكـذا يـكـون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة. أو أية امرأة لها عشرة دراهم إن أضاعت درهما واحدا ألا توقد سراجا وتكنس البيت وتفتيش باجتهاد حتى تجده؟. وإذا وجدته تدعو الصديقات والجارات قائلة: افرحن معي لأني وجدت الدرهم الذي أضعته. هكذا أقول لكم يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب “.
لاشك أنكم انتبهتم هنا أيضا إلى ما قرأ. وقد تعجبتم معي من كلمـات المخلص، فهل فهمتموها بطريقة شاملة وروحية، وهل ثبتم عين العقل الفاحصة على تفسيرها العميق؟ وهل التقطتم معنى ما قيل؟ أم أن الكلمة بعدما رنت فـي أسـماعكم جـرت سريعا، ولم يستقر منها شيء هناك ليكون لفائدتكم. ولكنني أتخيل أنه بما أنكم مؤمنون وتحبون التعلم، فإن المخلص ينير أفهامكم، لأنه هو الذي يكشف خفايا الظلام، ويضع نور الفهم في قلوب أولئك الذين يحبونه.
إن هذين المثلين اللذين ذكرا مرتبطين معا يوضحان لنا صورة عن الحنان الإلهي ولهما معنى متشابه. وهما متفقان معا. ولكن اليهود عديمي الحس يوبخونـه علانيـة لرفضهم أن يفهموا سر التجسد العظيم والعميق. فإنه كان مخفيا تماما بالنسبة لهـم أن الله الآب أرسل ابنه من السماء لا ليتين العالم كما يقول هو نفسه، بل ليخلص بـه العالم (انظر يو 3: 17). فبأي طريقة إذن كان مناسبا للعالم أن يخلص، ذلك العالم الـذي أُمسك في شباك الخطية، وصار مذنبا بتهمة الشر، وصار خاضـعـا لـسـيـد قـاس أي الشيطان؟ هل كانت الطريقة المناسبة هي أن يعاقب لسقوطه في التعدي والخطية؟ ألا يكون بالأحرى بمساعدته، إذ أن الله طويل الأناة ومستعد أن يغطي بالنسيان على تلك الأشياء التي تعدى فيها الإنسان، وأن يجدد إلى قداسة الحياة أولئك الذين لم يعرفـوا كيف يعيشون باستقامة؟
أخبرني إذن أيها الفريسي لماذا تتذمر لأن المسيح لـم يـستنكف أن يأكـل مـع العشارين والخطاة، بل هيا لهم عن قصد هذه الوسيلة للخلاص؟ فلكي يخلص النـاس فقد أخلى نفسه وصار مثلنا . الشكل وارتدى لباس فقرنا البشري. وهـل تـلـوم إذن تدبير الابن الوحيد في الجسد؟ وهل تجد خطأ في إنزال نفسه من السماء وهو الـذي يفوق الكل؟ إنك لا تدع التجسد نفسه بدون انتقاد. ومع ذلك فـان الأنبيـاء القديسين يتعجبون من جمال التدبير المحكم الذي في هذا السر. فداود النبي يعلن في المزامير: “رنموا بفهم، لأن الله قد أقام ملكا على كل الأمم” (مز 46: 7 س) . وحبقوق النبي يقول: “يا رب قد سمعت خبرك فجزعت ونظرت إلى أعمالك فاندهشت” (حب 3: 2 س) فكيف إذن لا تخجل من توجيه اللوم إلى تلك الأشياء التي كان ينبغي أن تُعجب بها. هل تريد أن يكون رب الكل صارما عنيدا أم بالأحرى يكون صالحا وشفوقا بالبشر؟ فالأسـرة البشرية قد ضلت طريقها، وقد ابتعدت عن يد رئيس الرعاة، لذلك فإن الـذي يطعـم القطعان السماوية، صار مثلنا لكي يجعلنا نحن أيضا نسكن في مساكنه، لكي يوحـدنا مع أولئك الذين لم يضلوا أبدا ويطرد منا الوحش المفترس، ويدفع عنا أذى الشياطين النجسين الذين هم كعصابة لصوص شريرة قد أضلوا كل الذين تحت السماء.
لذلك، فقد فتش عن الضال، ولكي يبين أن تصيد الأخطاء من اليهود بخـصوص هذا الأمر باطل، قال لهم: ” أي إنسان منكم له مئة خروف وأضاع واحدا منهـا، ألا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال حتى يجده، وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحا”. ويقول إنه يفرح به أكثر من الذين لم يضلوا. افهموا من هذا ـ يا أحبائي ـ الحدود المتسعة لمملكة المخلص، وجموع رعايـاه الغفيـرة التـي تفـوق الحصر، وخطة تدبيره الحكيمة من نحونا. فإنه يقول إن عدد الخراف مائة، وبـذلك فالخراف هي يجعل عدد رعاياه يصل إلى عدد كامل ومتكامل معا. فان العدد مئة هو عدد كامـل ويتكون من عشرة عشرات. وقد تعلمنا أيضا من الأسفار الإلهية الموحى بها أن ألوف ألوف يخدمون أمام الله، وربوات وربوات وقوف حـول عرشـه الـسامي. لـذلك، مائة، وقد ضل واحد منها، وأعني به العائلة البشرية التي على الأرض، والتي جاء رئيس رعاة الجميع يبحث عنها، تاركاً التسعة والتسعين في البرية، فهـل لأنه ليس عنده اهتمام بالكثيرين قد أظهر الرحمة للواحد فقط؟ كلا، فان ذلك ليس لعدم اهتمامه بالكثيرين، فان هذا مستحيل، ولكن بسبب أنهم في أمان وهم محروسون بيده المقتدرة؛ لذلك من الصواب أن تظهر الرحمة من نحو ذلك الذي ضل لكي لا ينقص شيء من العدد الغفير الكامل، بل إذ يرد الذي ضل فإن المئة تسترد جمالها.
لذلك، فالبحث عن الذي ضل ليس احتقارا لأولئك الذين لم يضلوا، بل هـو فـعـل نعمة ورحمة وحب للجنس البشرى، وهو عمل لائق بالطبيعة العالية الفائقة لكي تمنحه لخلائقها الساقطة.
بل هيا بنا لنفحص الأمر بمساعدة مثل آخر أيضا، لكي ما تظهر في كل الأوقات شفقة المسيح مخلصنا جميعا، تلك الشفقة التي لا تجارى. فلنفترض أنه في بيت واحد يوجد أكثر من ساكن، ويحدث أن أحدهم يسقط مريضا. فلمـن يـستدعى الأطبـاء المعالجون؟ أليس لذلك الذي سقط مريضا؟ ولكن استدعاء الأطباء للمريض لا يعتبـر إهمالاً لبقية سكان البيت، والأطباء يفيدون المريض ـ بمهارتهم بحسب ما يحتاجه من وقت وعناية. ولذلك فبنفس الطريقة كان جديرا بالله، بل وجديرا جدا، الـذي يـضبط الكل أن يمد يده المخلصة لذلك الذي ضل بعيدا. وقـد اقتـنـص الـوحش المفتـرس الفرصة، وقاد العائلة البشرية على الأرض إلى الضلال بعيدا عن الراعي، وأسـرع بها إلى كل أنواع البؤس. أما رئيس الرعاة فقد خلص العائلة البشرية، لأنه بحث عن ذلك الذي ضل الطريق، وأستس لنا حظيرة حصينة لا تهاجم من الوحوش المفترسـة واللصوص، وأعني بها الكنيسة، التي يمكن أن نقول في وصـفها بكلمـات النبـ ” انظروا فإن لنا مدينة قوية وحصينة، ويجعل لنا الخلاص أسوارا ومترسة” (إش 26: 1 س). أما معنی المثل الآخر التالي فهو مشابه للأول تماماً، والذي فيه يقول إن ” امـرأة كان لها عشرة دراهم أضاعت درهما واحدا، وأنها أوقدت سراجا ووجدتـه، وأنهـا فرحت به كثيرا، وجعلته سببا لفرح خاص”. كذلك فمن المثل الأول الذي فيه يـشير الخروف الضئال إلى العائلة البشرية، نتعلم، أننا نحن خاصة الله فوق الكل، فانه هـو الذي أوجد الأشياء غير الموجودة. لأنه صنعنا، وليس نحن ” كما هو مكتـوب “وهو الهنا، ونحن شعب مرة رعاه وغنم يده” (مز 3:100). وفي المثل الثاني الـذي فيـه يشار إلى المفقود بدرهم، وأيضا هذا المفقود هو واحد من عشرة، أي من عدد كامل، ومن جملة مبلغ كامل في الحساب ـ لأن الرقم عشرة هو عدد كامل أيضا، وهو نهاية مجموعة الأعداد من واحد إلى عشرة ـ فهذا يوضح، أننا على صورة الله ومثاله، أي من الله الذي هو فوق الكل. لأن الدرهم، كما أفترض هي العملـة المختـوم عليهـا الصورة الملكية فمن يستطيع أن يشك، أننا نحن الذين سقطنا، وفقـدنا، قـد وجـدنا المسيح، وقد تغيرنا بالقداسة والبر إلى صورته، بعد أن كتب الرسول بولس هكـذا: ونحن جميعا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح” (كـو 3: 18). وهو يرسل إلى الغلاطيين أيضا قائلا لهم: “يا أولادي الذين أتمخض بكم إلى أن يتصور المسيح فيكم” (غل 4: 9). إذن فقد حدث البحث والتفتيش عن ذلك الذي فقد، ومن أجل ذلك أوقـت المـرأة سراجا، وكما قلت إننا قد وجدنا من الضلال بواسطة حكمة الله الآب، التي هي الابن، وذلك حينما أشرق علينا النور الإلهي والعقلي، وأشرقت الشمس، ” وطلـع كـوكـب الصبح وانفجر النهار” حسب الكتب (2بط 1: 19) فإن الله قد قال أيضا بواسـطـة أحـد الأنبياء الذين تنبأوا عن المسيح: “برى يقترب سريعا، وتظهـر رحمتـي، ويتقـد خلاصي كمصباح” (إش 62: 1 س). وهو يقول عن نفسه مرة: “أنا هو نور العالم، مـن يتبعني فلا يمشى في الظلمة، بل يكون له نور الحياة” (يو 12: 46). إذن فإن الذي فقد قد خلص بواسطة النور، وكان هناك فرح بين القوات العلوية. لأنهم يفرحـون بـخـاطئ يتوب، كما علمنا الذي يعرف جميع الأشياء. لذلك فإن كانوا يفرحون معا ـ متناغمين مع القصد الإلهي – بواحد فقط قد خلص، ويمجدون رحمـة المخلـص بتـسابيح لا تنقطع، فبأي فرح عظيم يمتلئون حينما يخلص جميع الذين تحت السماء، ويدعون للإيمان بالمسيح ويعترفون بالحق، ويخلعون أدناس الخطية، وتتحـرز رقـابـهم مـن رباطات الموت، ويحررون من اللوم أعني لوم الضلال والسقوط! فإننا نحصل علـى جميع هذه الأشياء في المسيح الذي به وله من الله أبيه التسبيح والسيادة مـع الـروح القدس إلى دهر الدهور آمین.
عظة 107 مثل الابن الضال (لوقا 15: 11-32)
” وقال: إنسان كان له ابنان. فقال أصغرهما لأبيه: يا أبي أعطني القسم الذي يصيبني من المال. فقسم لهما معيشته. وبعد أيام ليست بكثيرة جمع الابن الأصغر كـل شيء وسافر إلى كورة بعيدة وهناك بذر ماله بعيش مسرف. فلما أنفق كل شيء حدث جـوع شديد في تلك الكورة فابتدا يحتاج. فمضى والتصق بواحد من أهل تلك الكورة فأرسله إلـى حقوله ليرعى خنازير. وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله قلـم يغطه أحد. فرجع إلى نفسه وقال: كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعاً! أقـوم وأذهب إلى أبي وأقول له: يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك. ولست مستحقا بعد أن أذعـى لك ابنا. اجعلني كأحد أجراك. فقام وجاء إلى أبيه. وإذ كان لم يزل بعيدا راه أبـوه فتحـن وركض ووقع على عنقه وقبله. فقال له الابن: يا أبي أخطأت إلى السماء وقـدامك ولست مستحقا بعد أن أدعى لك ابنا. فقال الأب لعبيده: أخرجوا الحلة الأولى والبسوه واجعلوا خائمًا في يده وحذاء في رجليه. وقدموا العجل المسمن واذبحوه فتأكل وتفرح. لأن ابني هذا كـان ميتا فعاش وكان ضالاً فوجد. فابتدأوا يفرحون. وكان ابنه الأكبر في الحقل. فلما جاء وقـرب من البيت سمع صوت آلات طرب ورقصا. فدعا واحدا من الغلمان وسأله: ما عسى أن يكـون هذا؟ . فقال له: أخوك جاء فذبح أبوك له العجل المسمن لأنه قبلة سالما. فغضب ولم يـرد أن يدخل. فخرج أبوه يطلب إليه. فقال لأبيه: ها أنا أخدمك سنين هذا عددها وقط لـم أتجـاوز وصيتك وجديا لم تعطني قط لأفرح مع أصدقائي. ولكن لما جاء ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني ذبحت له العجل المسمن. فقال له: يا بني أنت معي في كل حين وكل ما لي فهـو لك. ولكن كان ينبغي أن نفرح ونسر لأن أخاك هذا كان ميتا فعاش وكان ضالاً فوجد .
إني أسمع أحد الأنبياء القديسين وهو يحاول أن يربح البعيدين عن الله إلى التوبة. فيقول: “ارجع يا إسرائيل إلى الرب إلهك لأنك قد تعثرت باثمك خذوا معكم كلامـا وأرجعوا إلى الرب” (هو 14: 1 ، 2). لذلك فأي نوع من الكلام يأمرهم بإرشاد الروح، أن يأخذوه معهم؟ ألا يكون لائقا بالذين يرغبون أن يتوبوا، أن يرضوا الله، الـذي هـو شفوق ويحب الرحمة؟ لأنه قد قال بواسطة أحد الأنبياء القديسين: “ارجعوا أيها البنون العصاة لأشفى عصيانكم” (إر 3: 22). وأيضا يقول بصوت حزقيال: “ارجعوا، توبـوا وارجعوا عن كل معاصيكم يا بيت إسرائيل، اطرحوا عنكم كل معاصيكم التي عصيتم بها، لكي لا تصير لكم مهلكة .. لأني لا أسر بموت الخاطئ. بل أن يرجع ويحيا ” (حز 18: 30، 31). ونفس هذا الحق يعلمه لنا المسيح هنا في هذا المثـل الجميـل، الـذي سأحاول أن أبحثه بأقصى طاقة ممكنة عندي، وسـاجمع نقاطـه الهامـة باختصار وسأشرح وأدافع عن الأفكار التي يحويها.
يرى البعض أن الابنين في المثل يشيران إلى الملائكة القديسين، من ناحية وإلينـا نحن سكان الأرض من الناحية الأخرى. وأن الابن الأكبر، الذي عاش بتعقل، يمثـل مجموع الملائكة القديسين، بينما الابن الأصغر المنحرف يمثل الجنس البشري. وهناك آخرون بيننا يعطون المثل تفسيرا مختلفا، قائلين: إن الابن الأكبر السالك حسنا يـشير إلى إسرائيل حسب الجسد، بينما الابن الأصغر الذي اختار أن يعيش فـي الـشهوات والملذات والذي ابتعد بعيدا عن أبيه، إنما يشير إلى جمهور الأمـم الـوثنيين. هـذه الشروحات أنا لا أوافق عليها وأرجو ممن يحب التعلم، أن يبحث ما هو حقيقي ومـا ليس عليه اعتراضات.
لأن ما أقوله هو كما يأتي “أعط فرصا للحكيم، وقدم معرفة للأبرار” (أم 9:9)، كما يوصي الكتاب، لأنهم من الشروحات التي تعطى لهم سوف يفحصون عـن المعنـى المناسب، فإن كنا، نشير بالابن المستقيم إلى الملائكة، فإننا لا نجده يتكلم الكلمات التي تليق بالملائكة، ولا نجده يشارك الملائكة فرحهم بالخطاة التائبين الذين يرجعون مـن حياة دنسة إلى حياة وإلى سلوك جدير بالإعجاب. لأن مخلص الجميع يقـول: “إنـه يكون فرح في السماء قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب ” (لو 7:15)، بينمـا الابـن الموصوف لنا في هذا المثل، باعتباره مقبولاً من أبيه، ويسلك حياة بلا لوم، يظهر أنه غاضب، بل ويصل في مشاعره غير الحبية إلى درجة أنه ينسب اللوم إلى أبيه بسبب محبته الطبيعية لابنه الذي خلص. فالمثل يقول: “إنه لم يرد أن يدخل البيـت”. لأنـه اغتاظ بسبب قبول الابن التائب ومن ذبح العجل المسمن ولأن أباه صنع لـه وليمـة. ولكن هذا كما قلت، يختلف عن مشاعر الملائكة القديسين. لأنهم يفرحون ويسبحون الله حينما يرون سكان الأرض يخلصون. لأنه حينما أخضع الابن نفسه ليولد بالجسد من امرأة في بيت لحم، حمل الملائكة عندئذ الأخبار السارة إلى الرعاة قائلين: “لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، لأنه ولد لكم اليوم في مدينـة داود مخلص هو المسيح الرب” ويتوجون الذي ولد بالتمجيد والتسابيح قائلين: ” المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة” (لو 2: 10 و 11 و 14).
ولكن إن كان أي أحد يقول: إن إسرائيل حسب الجسد هو المقصود بالابن الأكبـر في المثل الذي كان متمسكا بوصية أبيه فإننا أيضا لا نستطيع أن نوافق علـى هـذا الرأي، ذلك لأنه من غير المناسب على الإطلاق أن نقول عن إسرائيل إنه عاش حياة بلا لوم. ففي كل الأسفار الموحى بها نجد شعب إسرائيل متهمين بـأنهم متمـردون وعصاة؛ لأنهم قد أخبروا بصوت إرميا: ” ماذا وجد في آباؤكم من جور حتى ابتعدوا وساروا وراء الباطل وصاروا باطلا؟” (إر 2: 5). وتكلم الله أيضا بعبـارات مشابهة بصوت إشعياء: ” هذا الشعب قد اقترب بفمه، وأكرمني بشفتيه، وأما قلبه فأبعده عني، وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس” (إش 29: 13). فكيف يستطيع أحد أن يطبق علـى أولئك الذين يوجه إليهم اللوم هذه الكلمات المستعملة في المثل عـن الابـن الأكبـر المتمسك بوصية أبيه؟ لأنه قال: ” ها أنا أخدمك سنين هذا عددها، وقط لـم أتجـاوز وصيتك”، لأنهم لم يكونوا ليلاموا على طريقة حياتهم لو لم يتعدوا الوصايا الإلهيـة، وبذلك أدوا بأنفسهم إلى حياة مستهترة مدنسة.
وأيضا يقول البعض إن العجل المسمن الذي ذبحه الأب حينما رجع ابنه إنما يشير إلى مخلصنا. ولكن كيف يمكن للابن الأكبر الذي يوصف أنه حكيم وفطين ومتمــك بواجبه والذي يشير به البعض إلى الملائكة القديسين ـ كيف يمكن لـذلك الابـن أن يعتبر ذبح العجل سببا للغضب والغيظ؟ كما أننا لا نستطيع أن نجد برهانـا علـى أن القوات السماوية قد حزنت حينما احتمل المسيح الموت بالجسد أي حينما ذبح المسيح لأجلنا. إنهم بالحرى فرحوا، كما قلت عندما رأوا العالم يخلص بدمه المقدس، وأيضا ما هو السبب الذي جعل الابن الأكبر يقول: ” جديا لم تعطني قط”. فأي بركة كانـت تنقص الملائكة القديسين، إذ أن رب الكل قد أنعم عليهم ـ بيد سـخية بفـيـض مـن المواهب الروحية؟ وهل كانوا يحتاجون إلى أية ذبيحة فيما يخص حالتهم؟ لأنه لم يكن هناك احتياج أن يتألم عمانوئيل أيضا نيابة عنهم. ولكن إن تخيل أحد كمـا سـبق أن قلت، إن المقصود بالابن الأكبر هو إسرائيل حسب الجسد، فكيف يستطيع أن يقـول بالحق: ” جديا لم تعطني قط؟”، لأنه، سواء دعوناه عجلاً أم جديا فالمسيح هو الـذي يجب أن يفهم أنه هو الذبيحة المقدمة لأجل الخطية. ولكنه قدم نبيحة ليس لأجل الأمم فقط، بل أيضا لكي يفدي إسرائيل، الذي بسبب تعدياته الكثيرة للناموس، قد جلب على نفسه لوما عظيما، وبولس الحكيم يشهد لهذا الأمر قائلاً: “لذلك يسوع أيـضـا لكـي يقدس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب ” (عب 13: 12).
فما هو موضوع المثل إذن؟ دعونا نفحص المناسبة التي قادت إليه، فإننـا بـذلك سنتعلم الحقيقة. لذلك فإن لوقا المبارك نفسه قد تكلم قليلاً عن المسيح مخلصنا قبل هذا المثل فقال: “وكان جميع العشارين والخطاة يدنون منه ليسمعوه. فتذمر الفريسيون والكتبة قائلين: هذا الإنسان يقبل الخطاة ويأكل معهـم” (لو 15: 1 ،2). لذلك، فـلأن الفريسيين والكتبة اعترضوا على رحمته ومحبته للإنسان، وبشر وبعدم تقوى لامـوه على قبول وتعليم الناس الذين كانت حياتهم مدنسة، فكان من الضروري أن يـضع المسيح أمامهم هذا المثل، ليريهم هذا الأمر ذاته بوضوح: إن إله الكل يريد من الإنـسـان الثابت والراسخ، والذي يعرف أن يعيش حياة مقدسة وقد وصل إلى ما يستحق أعلى مديح لأجل تعقله في السلوك، يريد من هذا الإنسان أن يكون مخلصا في إتباع مشيئته، لكـن حينما يدعى أي واحد إلى التوبة حتى إن كان من الذين يعيشون حياة ملومة جدا، فإنـه ينبغي بالحري أن يفرح ولا يكون عنده غيظ مضاد للمحبة من جهة التائبين.
لأننا نحن أحيانا نختبر شيئا من هذا النوع لأنه يوجد البعض الذين يعيشون حيـاة كاملة مكرمة ثابتة، ويمارسون كل نوع من أعمال الفضيلة، ويمتنعون عن كل شيء مخالف لشريعة الله، ويتوجون بمديح كامل في نظر الله والناس. بينما البعض الآخـر ربما يكونون ضعفاء عاثرين، ومنحطين إلى كل نوع من الـشـر ومذنبين بأفعـال رديئة، محبين للدنس والطمع وملوثين بكل إثم. ومع . ذلك يحدث كثيرا أن يرجع أحـد هؤلاء إلى الله في سن متقدم ويطلب غفران خطاياه السابقة: إنه يصلي طالبا الرحمة، وإذ يترك عنه إستعداده للسقوط في الخطية، وتشتعل فيه الرغبة للحياة الفاضلة، أو ربما حينما يوشك على الاقتراب من نهاية حياته، فإنه يطلـب المعموديـة الإلهيـة[1] ويغتسل من خطاياه تاركا شروره، فإن الله يكون رحيما به. وقد يحدث أحيانـا أن يتنمر بعض الأشخاص من هذا، بل ويقولون: ” هذا الإنسان الذي كان مذنبا بكذا وكذا من الأعمال الشريرة، وقد تكلم بكذا وكذا من الكلمات، هذا الإنسان لم يف دين سلوكه الرديء أمام قاضي العدل، بل إنه حسب أهلاً لنعمة سامية وعجيبة وقد حـسـب بـين أبناء الله، وكرم بمجد القديسين”. مثل هذه الشكوى ينطق بها الناس أحيانا نتيجة ضيق العقل الفارغ. وشكواهم لا تتفق مع غرض أب الجميع. لأن الآب يفرح فرحا عظيما حينما يرى الذين كانوا ضالين يحصلون على الخلاص، وهو يرفعهم ثانية إلـى مـا كانوا عليه في البداية، معطيا لهم ثياب الحرية مزينا إياهم بالحلة الأولى، ويضع خاتما في يدهم، أي السلوك باستقامة، الذي يرضي الله ويليق بالأحرار.
لذلك فإن واجبنا أن تخضع أنفسنا لما يريده الله، لأنه يشفي الذين هم مرضى، وهو يرفع الساقطين، ويمد يده بالمعونة للذين يعثرون، ويرد إليه الذين ابتعدوا عنه، وهـو يشكل من جديد في شكل حياة ممدوحة وبلا لوم أولئك الذين كانوا يتمرغون في وحل الخطية، إنه يفتش عن أولئك الذين ضلوا، وهو يقيم من الموت الذين كانوا يعانون من الموت الروحي.
دعونا نفرح أيضا، هيا نفرح، مع الملائكة القديسين ونسبح الله لأنه صالح ومحب للبشر، ولأنه رحيم ولا يذكر الشر، لأنه إن كنا نفكر هكذا فالمسيح سوف يقبلنا، الذي به ومعه الله الآب كل تسبيح وسيادة مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.
- كانت عادة تأجيل المعمودية إلى ما قبل الوفاة مباشرة، حرصنا على عدم الوقوع في الخطية بعد المعمودية، هـي عـادة منتشرة عند البعض في القرون الأولى، وقد واجهت الكنيسة هذه العادة الخاطئة وأوضحت أن الخطية التـي يقـع فيهـا الإنسان بعد معموديته يمكن أن تغفر بالتوبة والاعتراف.
تفسير إنجيل لوقا – 14 | إنجيل لوقا – 15 | تفسير إنجيل لوقا | تفسير العهد الجديد | تفسير إنجيل لوقا – 16 |
القديس كيرلس الكبير | ||||
تفاسير إنجيل لوقا – 15 | تفاسير إنجيل لوقا | تفاسير العهد الجديد |