تفسير المزمور 1 للقمص متى المسكين
دراسة :
هذا المزمور هو امتداد سواء في اللغة أو الشعر أو التصور للفكر المتكرر في سفر الأمثال، حيث الخير يتبع البار والفساد يتبع الشرير . وهو يصلح ليكون مقدمة مناسبة لسفر المزامير. وهو يشرح حقيقة عامة ، غير أنه لا يقصد أي شخصية ما أو حتى أي مناسبة. لذلك فتحديد تاريخه ومؤلفه سيبقى دائماً بغير تأكيد. ويعتقد الأسقف Perowne أنه لسليمان النبي وضعه ليكون مقدمة لمزمير أبيه داود. ويعتقد العالم Cheyne أنه وضع بقصد دراسة الناموس في أيام عزرا.
ولكن هناك اعتباران يمكن أن يحددا زمن المزمور الأول :
الأول : أنه يلزم أن يكون من زمن قبل إرميا النبي لأنه قد شرحه وامتد به في الأصحاح (17: 5-8).
الثاني : أن العمل الموازي له في الفكر واللغة موجود في منتصف سفر الأمثال من ( 10-24) والذي تاريخه في زمن مبكر في تاريخ مملكة يهوذا أو ربما أيام حكم سلیمان نفسه.
وتدلنا كلمة “المستهزئ” على ذلك إذ لا توجد تقريباً خارج سفر الأمثال ، ثم أن المقارنة بين البار والشرير وأن النجاح من نصيب البار ، والبوار نصيب الشرير واضحاً في منتصف سفر الأمثال.
وغياب عنوان للمزمور واضح أن هذا يخالف كل مزامير الكتاب الأول للمزامير ، ويشير أنه قد أُخذ بالطبع من مصدر آخر، ويعتقد الكثيرون أنه دُون أو اختير كمقدمة لمزامير داود النبي ، أو أنه قد وضع هنا أخيراً بواسطة من جمع المزامير في سفر واحد.
والمزمور مكون من قسمين متساويين :
القسم الأول : النجاح المثمر للبار (1-3).
القسم الثاني : يقارن بنصيب الشرير الذي يخرب سريعاً (1-4) .
ويلاحظ الصلة القريبة بين المزمور الأول والمزمور 26 وبالأكثر مزمور112 الذي يحتفل ببرکات البار ، والذي يبتدئ وينتهي بنفس الكلمة التي يبدأ وينتهي بها المزمور الأول “طوبی” “يهلك”.
شرح و تفسير المزمور على مستوى كل التوراة
النجاح المثمر للبار (1-3) :
1- « طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار ، وفي طريق الخطاة لم يقف ، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس » :
« طوبي » : في السبعينية (مکاریوس) وهي موجودة في مزامير ( 1:41 ، 12:84 ، 12:94 ، 1:112 ، 5:127 ، 1:128) وقد جاءت في إنجيل ق . متى ( 3:5 إلخ ) . فالرجل البار يوصف أولاً سلبياً فيما سار عليه سابقاً فكان كل حياته متمسكا بالقول :”ابتعد عن الشر” كما جاء في مزمور ( 14:34 ) : « حد عن الشر واصنع الخير » .
«الأشرار ungodly» :
وهي المقابل للبار righteous وقد جاءت بالعبرية rasha . وقد جاءت في سفر أيوب بمعنى المنافقين ( أي 17:3) وجاءت في سفر إشعياء ( 57: 20و21) : « أما الأشرار فكالبحر المضطرب …ليس سلام قال إلهي للأشرار».
وهي كلمة تشرح ماذا تصنع الخطية في طبيعة الإنسان ، حيث تصيب العلاقة بين الإنسان والله والآخرين ونفسه .
« الخطاة sinners » :
وهم الذين فقدوا الهدف من الحياة فضلوا الطريق نحو الحق ، وهي تشير إلى التأصل في الإساءة والتجني وتكدير الآخرين ( انظر : أم۱۰:۱) : « يا ابني إن تملقك الخطاة فلا ترض » .
« المستهزئين scornful »:
هم المحتقرون scorners للآخرين والمزدرون بالناس وبأمور الدين ، كما جاءت هكذا بهذا المعن في سفر الأمثال . وجاءت في سفر إشعياء بنفس معنى الهزء :
+ « لذلك اسمعوا كلام الرب يا رجال الهزء … » ( إش 14:28)
+ « لأن العاتي قد باد وفني المستهزئ … » ( إش 20:29)
+ « یوم ملكنا يمرض الرؤساء من سورة الخمر ، يبسط يده على المستهزئين.» ( هو 5:7)
وهم المنحرفون المتهكمون الذين لا يؤمنون بصلاح البشر ، المتهكمون على الناس ، الساخرون بالعالم :
+« المنتفخ المتكبر اسمه مستهزئ عامل بفيضان الكبرياء . » ( أم 24:21).
وهم ذوو الأفكار المتحررة التي لا تؤمن بالأصول والواجب أو التقليد ويستحيل إصلاحهم . و عکس هؤلاء هم العقلاء الملتزمون . والمستهزئون هم دائماً کارهون مبغضون وفي وسط مسرة الناس يختفون في الوسط ، يكرهون التوبيخ ولا يقبلون التعليم :
+ « الابن الحكيم يقبل تأديب أبيه ، والمستهزئ لا يسمع انتهار.» ( أم 1:13)
+ « المستهزئ لا يحب موبخه ، إلى الحكماء لا يذهب . » ( أم 12:15)
ومن العبث المحاجاة معهم :
+« من يوبخ مستهزئاً يكسب لنفسه هواناً. ومن ينذر شريراً يكسب عيباً. لا توبخ مستهزئاً لئلا يبغضك . وبخ حكيماً فيحبك . » ( أم 9: 7 و8)
وهم مخزون لهم دينونة اللله :
+ « كما أنه يستهزئ بالمستهزئين . هكذا يعطي ( الله ) نعمة للمتواضعين . » ( أم 34 :3).
ويلاحظ أن الأشرار والخطاة والمستهزئين محصورون في : يمشي – يقف – يجلس.
۲ – « لكن في ناموس الرب مسرته ، وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً» :
« في ناموس الرب مسرته » :
هذا هو المبدأ الإيجابي ومنبع الحياة للرجل البار . فناموس الله هو قاعدة سلوكه ، ولا يجد فيه أي مشقة تحده أو تحد من حريته ، بل هو موضوع حبه ودوام دراسته كما ينص عليه سفر التثنية :
+ «ولتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك ، وقصها على أولادك ، وتكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم ، واربطها علامة على يدك ولتكن عصائب بين عينيك ، واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك . » (تث 6:6-9).
وتكون مسرته وسعادته ليست في الطرق التي يرسمها لنفسه، ولكن فيما يُعلن الله له من إرادته ، لأن غرض الله من الناموس هو أن يجعل الناس سعداء كما يقول سفر التثنية :
+ « طوباك يا إسرائيل . من مثلك يا شعباً منصوراً بالرب . » ( تث۲۹:۳۳)
« مسرته » :
كانت ديانة إسرائيل ليست مظاهر خارجية ولكن طاعة في القلب . :
+ «شريعة إلهه في قلبه . لا تتقلقل خطواته . » ( مز 31:37)
+ « أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت ، وشريعتك في وسط أحشائي » ( مز 8:40)
+ « بار کي يا نفسي الرب . وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس.» ( مز 1:103)
+ « هللويا . طوبى للرجل المتقي الرب . المسرور جداً بوصاياه.» ( مز 1:112)
+ « دربني في سبيل وصاياك ، لأني به سررت.» ( مز 35:119)
+ « كم أحببت شريعتك ! اليوم كله لهجي.» ( مز 97:119)
«ناموس الرب»:
الكلمة العبرية”توراة” لها دائرة أوسع في المعنى من كلمة ناموس ، وهي تعني :
1- تعلیم ، تهذيب في أمور الإنسان والله.
2 – وصية أو ناموس .
3-مجموعة نواميس وبالأخص ناموس موسی . وهي بالخمسة أسفار ولكن في اتساعها تعني كلمة الله :
+ « اسمعوا كلام الرب یا قضاة سدوم . أصغوا إلى شريعة ( توراة ) إلهنا يا شعب عمورة . » ( اش 10:1)
+ « وتسير شعوب كثيرة ويقولون هلم نصعد إلى جبل الرب إلى بيت إله يعقوب ، فيعلمنا من طرقه ونسلك في سبله ، لأنه من صهيون تخرج الشريعة ( التوراة ) ومن أورشليم كلمة الرب . » ( اش3:2).
وهكذا ينبغي أن تؤخذ على أساس أنها تحوي الاستعلان الإلهي القيادة الحياة.
«يلهج»:
الفعل العبري hgh . وداود النبي يعلمنا أنه كان يتأمل ويلهج في الله نفسه :
+ « إذا ذكرتك على فراشي ، في السهد ألهج بك.» ( مز 6:63 )
سواء في أعماله أو في الطبيعة أو في التاريخ :
+«وألهج بجميع أفعالك ، وبصنائعك أُناجي . » ( مز12:77)
+ « تذكرت أيام القدم . لهجت بكل أعمالك . بصنائع يديك أتأمل . بسطت إليك يدي. نفسي نحوك كأرض يابسة.» ( مز 143 : 5 و6 )
3 – « فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه ، التي تعطي ثمرها في أوانه ، وورقها لا يذبل . وكل ما يصنعه ينجح»:
هكذا فنجاح البار يصفه المزمور رمزياً كشجرة تغتذي بموارد مائية دائمة ، التي بدونها تحترق تحت أشعة الشمس والجفاف . هكذا فنجاح الرجل الطوباني معقود على مدى ما تمده النعمة النابعة من الشركة الدائمة مع الله
+ « أما أنا فمثل زيتونة خضراء في بيت الله . توكلت على رحمة الله إلى الدهر والأبد.» ( مز 8:52)
+ « الصديق كالنخلة يزهو ، کالأرز في لبنان ينمو ، مغروسين في بيت الرب في ديار إلهنا يزهرون . أيضاً يثمرون في الشيبة يكونون دساماً وخضراً.» ( مز 92: 12- 14)
+ « ما أحسن خیامك يا يعقوب مساكنك يا إسرائيل . كأودية ممتدة ، كجنات على نهر ، کشجرات عود غرسها الرب . كأرزات على مياه . يجري ماء من دلائه ويكون زرعه على مياه غزيرة.»(عد 24: 5-7)
أما قوله : “كل ما يصنع ينجح”، فقد كان يوسف في مصر مثلاً على ذلك :
+ “ورأي سيده أن الرب معه وأن كل ما يصنع كان الرب ينجحه بيده.» ( تك 3:39)
نصيب الشرير الذي يخرب سريعاً ( 4-6 ):
4 – « ليس كذلك الأشرار ، لكنهم كالعصافة التي تُذريها الريح»:
في مقارنة واضحة للرجل الطوباي الذي ضرب جذوره في أعماق النعمة وأثمر ظاهراً، أعطى المزمور الأشرار صفة العصافة التي تذريها الريح في أرض الأجران لا قيمة لها ولا فيها . تجرها الريح في كل مسار عند أول نسمة. هذه البعثرة للعصافة هي الصفة الدائمة في العهد القديم لما يلاقيه الشرير من خراب عاجل مفاجئ:
+ « ليكونوا مثل العصافة قدام الريح ، وملاك الرب داحرهم.» ( مز 5:35)
+« أو يكونون كالتبن قدام الريح و كالعصافة التي تسرقها الزوبعة.» ( أي 18:21)
+ «ويصير جمهور أعدائك كالغبار الدقيق ، وجمهور العتاة كالعصافة المارة ، ويكون ذلك في لحظة بغتة.» ( اش 5:29)
+ « لذلك يكونون كسحاب الصبح وكالندى الماضي باكراً. كعصافة تخطف من البيدر و کدخان من الكوة.» ( هو 3:13)
وهكذا تكون صفاتهم، وهكذا يكون نصيبهم . لهذا يلاحظ الرجل اللبيب أن موضع الجرن يكون دائماً مرتفعاً عن بقية الأرض لينتفع من نفخ الريح لكي بالتدرية ينفصل القمح عن التبن ، فالقمح يقع على الأرض راسخاً فيُجمع باحتراس وتترك العصافة ليجرها الريح وتختفي من على وجه الأرض . هو إبداع في التوصيف :
+ « نزعاً أنزع الكل عن وجه الأرض يقول الرب . أنزع الإنسان والحيوان . أنزع طيور السماء وسمك البحر والمعاثر مع الأشرار . وأقطع الإنسان عن وجه الأرض يقول الرب . » ( صف 1: 2و3)
5- « لذلك لا تقوم الأشرار في الدين ، ولا الخطاة في جماعة الأبرار»:
« لذلك »:
وصفات وأخلاق الأشرار ستظهر وتُستعلن في الدينونة . فهم بلا نفع ، بلا جذر ولا ثمر. فالأشرار لا يقفون في الدينونة حيث يفصل يهوه القمح عن التبن:
+ « الذي رفشه في يده وسينقي بيدره ، ويجمع قمحه إلى المخزن . وأما التبن فيحرقه بنار لا تُطفأ.» ( مت 12:3)
« لا يقوم » أو « لا يقف » :
+ « لا يقف المفتخرون قدام عينيك . أبغضت كل فاعلي الإثم.» (مز 5:5)
+ «إن كنت تراقب الآثام یا رب ، یا سید ، فمن يقف؟» ( مز 3:130)
+ « ومن يحتمل يوم مجيئه ومن يثبت عند ظهوره . لأنه مثل نار الممحَّص . ومثل أشنان القصَّار » ( مل 2:3)
«في الدين»:
ليس هو أمام محكمة بشرية وليس مجرد قضاء ، ولكن في قضاء يقيمه يهوه حيث يفصل بين الأبرار والأشرار ليتحقق عدالة قضائه :
+ « اعتزلوا عن خیام هؤلاء القوم البغاة ولا تمسوا شيئاً مما لهم لئلا تهلكوا بجميع خطاياهم. فطلعوا من حوالي مسكن قورح وداثان وأبيرام . وخرج داثان وأبيرام ووقفا في باب خيمتهما مع نسائهما وبنيهما وأطفالهما … فلما فرغ ( موسی ) من التكلم بكل هذا الكلام انشقت الأرض التي تحتهم وفتحت الأرض فاها وابتلعتهم وبيوتهم وكل ما كان لقورح مع كل الأموال . فترلوا هم وكل ما كان لهم أحياء إلى الهاوية . وانطبقت عليهم الأرض فبادوا من بين الجماعة.» ( عد 16: 26و27 و31-33)
+ « وهلاك المذنبين والخطاة يكون سواء ، وتار کو الرب يفنون . » ( إش 28:1)
+ « فإن لرب الجنود يوماً على كل متعظم وعال وعلى كل مرتفع فيوضع.» ( إش 12:2)
+ « وأقترب إليكم للحكم وأكون شاهداً سريعاً على السحرة وعلى الفاسقين وعلى الحالفين زوراً وعلى السالبين أجرة الأجير الأرملة واليتيم .» ( مل 5:3)
+ « لأن الله يحضر كل عمل إلى الدينونة على كل خفي إن كان خيراً أو شراً.» ( جا 14:12)
« في جماعة الأبرار » :
« جماعة إسرائيل » : هي جماعة يهوه التي في واقعها وغايتها هي جماعة الأبرار :
+ « هللويا . أحمد الرب بكل قلبي في مجلس المستقيمين وجماعتهم . » ( مز 1:111).
وهكذا يُنقي الرب جماعته أولاً بأول ، وبالنهاية يفصل من هم الأبرار من الأشرار:
+ « فكما يجمع الزوان ويحرق بالنار. هكذا يكون في انقضاء هذا العالم . يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم ويطرحوهم في أتون النار . هناك يكون البكاء وصرير الأسنان . حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم . من له أذنان للسمع فليسمع.» ( مت 13: 40-43 )
6- « لأن الرب يعلم طريق الأبرار ، أما طريق الأشرار فتهلك»:
« لأن الرب يعلم » :
التعليم في هذا المزمور إنما يقوم على التعليم عن العناية الإلهية . هكذا فكل آية تحمل مثيلتها المضادة لها . فالرب يعرف طريق الأبرار وتحت عنايته يكون لهم طريق الحياة :
+« تعرفني سبل الحياة ، أمامك شبع سرور . في يمينك نعم إلى الأبد.» ( مز 11:16)
+ « في سبيل البر حياة ، وفي طريق مسلكه لا موت.» ( أم 28:12)
+ وهو يكون طريق سلام : « طريق السلام لم يعرفوه وليس في مسالكهم عدل . جعلوا لأنفسهم سبلاً معوجة. كل من يسير فيها لا يعرف سلام.» ( إش 8:59)
+ وطريق أبدية : « وانظر إن كان فيَّ طريق باطل. واهدني طريقاً أبدياً. » ( مز 24:139).
وبالمثل هو يعرف طريق الأشرار ، وبحسب قانون أحكامه فهذا الطريق يؤدي فقط إلى الهلاك ، فهو طريق الموت :
+ « توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت.» ( أم 12:14)
« يعرف » :
المعرفة الإلهية لا يمكن أن تكون مجردة أو بلا فاعلية ، فهي تحوي العناية والقيادة ، كما لا تحمل تخلية قط . فطريق البار يقود إلى الله نفسه أبداً حتى النهاية:
+ « صالح هو الرب حصن في يوم الضيق وهو يعرف المتوكلين عليه.» ( نا 7:1)
+ « ولكن أساس الله الراسخ قد ثبت إذ له هذا الختم . يعلم الرب الذين هم له.» ( 2تي 2: 19)
فهرس | مزمور 1 | تفسير سفر المزامير | تفسير العهد القديم | تفسير مزمور 2 |
القمص متى المسكين | ||||
تفاسير مزمور 1 | تفاسير سفر المزامير | تفاسير العهد القديم |