تفسير سفر الرؤيا اصحاح 3 للأنبا بولس البوشي

الأصحاح الثالث

 من الرؤيا: قال «اكتب إلى ملك كنيسة صرديس هذا ما يقول ” الذي . سبع أرواح الله والسبعة كواكب، إنني أعرف أعمالك، وأن لك اسم الخلاص، أنك حي وأنك ميت، فكن مستيقظا مثبتا للبقية وإلا فأنت ميت. لأني لم أجد أعمالك كاملة عند الاله، اذكر كيف أخذت وضللت، فتب، فإنك إن لم تتب وتحترس أنا آتي مثل اللص، ولا تدري الساعة التي آتي إليك فيها. ولكن لي أسماء قلائل في صرديس الذين لم ينجسوا ثيابهم بامرأة، ويمشون معي بثياب بيض لأنهم مستحقين، الذي يغلب هكذا يلبس ثياب بيض ولا يُمحى اسمهم من سفر الحياة، وأنا أُظهر اسمهم قدام أبي وقدام ملائكته. من له أذنان سامعتان فليسمع ما يقوله الروح للكنائس».

التفسير: یعنى «بالأرواح السبعة» رتب البيعة، و«بالكواكب السبعة» أنه مالك الخليقة وضابطها.

من وقوله «أن لك اسماً بأنك حي وأنت مائت» أي ليس فعلك ملائمًا لاسمك. ثم أيقظه في أمر نفسه ورعيته لئلا يكون مائتا من الجهتين، وأكد ذلك بقوله: «فاذكر كيف قبلت وكيف تسمع، فتحفظ وتب، وإذا لم تستيقظ  فإني آتي كمثل السارق، وأنت لا تعلم في أية ساعة آتي». يعني ساعة الموت كما في الإنجيل.

وعني بالذين «لم يدنسوا لباسهم» الذين حفظوا الحلة الأولى نقية، أعني حلة المعمودية ولم يتدنسوا بالخطية.

وقوله «هؤلاء يمشون معي» أي يتبعوني ويرثون معي في الملكوت، كقوله هائنذا والبنون[إش8: 18].

وقوله «لا أمحو اسمه من سفر الحياة» بين ألوهيته، وأشار إلى قوله في التوراة: «إن النفس التي تخطئ قدامي أنا أمحو اسمها من سفري».

قال: «وأعترف باسمه أمام أبي وملائكته» وهذا نص  قوله في الإنجيل عن المؤمنين به ظاهراً. فيا لهذه الكرامة التي أنعم بها الربّ على أصفيائه، وهو كونهم معه مستنيرين بنوره، (فهذا) هو اللباس الأبيض.

«مكتوبة أسماؤهم في سفر الحياة» أي ثابتة في الحياة الخالدة، ما دخأ لهم باعترافه بهم. وكرر اللباس الأبيض لأن الصديقين لما آمنوا أن جسدهم يقام ويبقى مؤبدا ويدانون فيه، كما قال الرسول، حفظوه نقيًا لتكون قيامته فاضلة، وبهذا الرجاء سعوا، إذ قال أيوب الصديق في بلواه: «إني مؤمن أن جلدي هذا الذي أحتمل به الأوصاب سوف ينبعث في يوم القيامة العتيدة». وكما قال إنه يعترف بمن يعترف به ويعمل وصاياه، قال أيضا  إنه ينكر من أنكره ويبعد عنه ، فاعلي الإثم، قائلاً لست أعرفكم.

من الرؤيا: «وقال اكتب إلى ملاك كنيسة فيلادلفيا، هكذا يقول القدوس البار الذي معه مفاتيح أل داود، الذي إذا فتح لا يقدر أحد أن يغلق، وإذا أغلق لا يقدر أحد أن يفتح. إني عارف بأعمالك وإيمانك، وهوذا قد جعلت أمامك بابا مفتوحا لا يقدر أحد أن يغلقه، وقوتك صغيرة، لأنك حفظت قولي ولم تنكر اسمي. وهوذا قد سلمت إليك محفل الشيطان الذين يقولون أنهم يهود وهم كذبة. فأنا أدعهم يأتون ويسجدون أمامك ويخرون تحت قدميك. ويعلمون كلهم أنني أحببتك. لأنك حفظت كلامي وصبري، ولهذا أنا أيضا أحفظك من التجارب التي تأتي على كافة المسكونة، ويجرب كل من على الأرض. وأنا آتي سريعا، فاحفظ الذي معك لئلا ينزع أحد إكليلك. والذي يغلب أنا أعطيه (أن يكون) عمودا في هيكل إلهي، ولا يلقى خارجا. وأكتب عليه اسم إلهي واسم مدينة إلهي أورشليم الجديدة الآتية من السماء من الله واسمي الجديد. من له أذنان سامعتان فليسمع ما يقوله الروح للكنائس» (رؤ 3: 7-13).

التفسير: «أرسل إلى رئيس كنيسة فيلادلفيا» التي تفسيرها محبة الإخوة، قائلاً: «هكذا يقول القدوس البار» أعني أنه القدوس وبه يتقدس الكافة، والبار الذي بلا عيب، له السلطان أن يبرر ويشجب.

وقوله: «الذي معه مفاتيح أل داود» وبيت يعقوب كالمكتوب ولهذا «إذا فتح لا يستطيع أحد أن يغلق»، أعني قوة سلطان ألوهيته، إذا  برر لا يقدر أحد على الإشجاب، وإذا ألقى في الحكم لا يقدر أحد أن يخلص من يده، ومع هذا فهو عالم بما تقدم وما تأخر. وقوله: «جعلت قدامك بابا مفتوحاً لا يقدر أحد أن يغلقه»، أعني باب التوبة، الذي جعله مفتوحًا قدامنا، لا يقدر أحد على إبطالها. وقوله: «قوتك صغيرة» عني ضعف البشرية. ثم أنه مدحه لحفظ قوله وجهاده على اسمه.

وقال: «لذلك هو ذا قد سلمت إليك محفل الشيطان، القائلين إنهم يهود» (أي) حافظين السُنة «وهم بالضد من ذلك»، لأنهم لم يقبلوا تجسّد المسيح الرب. وقوله: «إنه يدعهم يسجدون له» أظهر أن بهاء النصرانية يزداد في تلك النواحي ويعظم سلطانهم، حتي يصير أعداء الحق خاضعين تحت نيرهم لحفظهم أوامر رسله.

ثم زادهم مديحاً قائلاً: «ولأنك حفظت كلامي وصبري فلهذا أنا أحفظك من التجارب الآتية على الكافة التي على الأرض»، بين بهذا أعظم رجاء: إن الذين يحفظون وصية الله هو يحفظهم من المحن، ويجعل لهم حظا في ملكوته.

وقوله: «أنا آتي سريعاً» (يشير إلى) قلة بقائنا على الأرض وأنه يفتقدنا بالوفاة، الصالح والطالح، فمن حفظ الوزنة التي معه وتاجر فيها وربح خلص، ومن تهاون نُزعت منه الكرامة المؤبدة.

وقوله: «الذي يغلب يعطى (أن يكون) عمودا أبيض» لم يغن عمود حجر، بل مجدا قائما ثابتًا إلى الأبد في مدينة أورشليم المستعدة، التي هي الملكوت المستأنفة . وقوله «إلهي» لأجل التجسد. «والجديد» يعني (أن) الأشياء العتيقة (قد) زالت، وكل شيء تجدد بالمسيح له المجد.

من الرؤيا: «قال اكتب لملاك كنيسة اللادقية: هكذا يقول الأمين الشاهد الحق، رئيس خلائق الله. إني عارف بأعمالك، وأنك غير بارد ولا حار بل فاتر، وإلا كنتُ أزيل ذكرك، لأنك تقول إني غني وليس أنا محتاجا لشيء. ولا تعلم أنك ضعيف شقئ فقير عار أعمى عريان. وأنا أشير عليك أن  تشتري مني ذهبا مسبوكا لتستغني به، وثيابا بيضا تلبسها لئلا يظهر سوء عورتك، وذرورا[1] تكحل به عينيك لكي تبصر. فإني أنا أبكت وأؤدب الذين أنا أحبهم. فغر الآن وثب، لأني هو ذا أنا واقف على الباب وأقرغ. فالذي يسمع ويفتح لي الباب، أدخل معه إلى الوليمة، وهو أيضاً معي على كرسي، كما غلبتُ وجلست مع الآب على كرسيه، من له أذنان سامعتان فليسمع ما يقوله الروح للكنائس» (رؤ3: 14-2).

التفسير: «أوعز إلى رئيس كنيسة اللادقية قائلاً: هكذا يقول الشاهد الأمين الحق»، وهذه اللفظة مختصة بالثالوث القدوس، لأن الآب يسمى الحق  كما كتب: «ليعرفوك أنك أنت الإله الحق وحدك» ، وعن ذاته قال (المسيح): «أنا القيامة والحق والحياة ، وعن الروح القدس قال: «روح الحق الذي من الآب ينبثق . ولهذا أثبت المعنى ها هنا أيضاً. 

 وقوله: «رئيس خلائق الله» لأجل التجسد، كما يقول الرسول بولص: «ليكون الابن بكرا لإخوة كثيرين» . فانظر الابن الوحيد كيف صار بكرا لإخوة كثيرين، لأن الوحيد ليس له من يشبهه، والبكر يدل على إخوة. فهو وحيد بالحقيقة مساوي الآب في الجوهر، وقد صار بكر ورئيس ومتقدم كل الخيرات بالتجسد، وهو باقي وحيد الآب إذ له شرف اللاهوتية لم يزل.

 فلهذا قال: «إني عارف بأعمالك»، أعني أنه عالم بكل أعمال البشر، وقوله «غير بارد ولا حار» عني (أنه) ليس فيه برودة الأمم ولا قوة حرارة الإيمان بحسن الأعمال، وعرفه (أنه) لولا (أن) فيه بقية رجاء، كان يبيد ذكره من سفر الحياة.

وقوله: «إنك تقول إني غني وليس أنا محتاجا لشيء» عني إهماله التعليم والبحث على ما يجب به خلاص النفوس، وفاتر النية لأجل ما يجب وينبغي، لتكون السيرة فاضلة ملائمة لاسم النصرانية. ثم عرفه أنه بالضد ذلك لكونه قد قنع بما هو فيه من التهاون وظن أنه الكمال. فقال له: «أنت شقي فقير أعمى عريان» وهذه العاهات تختص بالنفس وأنواع فقرها من ذوات الله.

فقال: «أنا أشير عليك»، يا لهذا التحنن وكيف هو ممزوج بكثرة التنازل والاستعطاف، وهو قوله: أنا أشير عليك، كمثل صديق يشير على صديقه الخاص به بما ينفع نفسه. وما هي المشورة؟ قال: أن تشتري مني لا من غيري. وبأي شيء تشتري؟ إلا بالاتضاع والطلبة. وما الذي تشتري؟ قال: «ذهبا مسبوكا»، ومن خصائص الذهب المسبوك أنه لا يوجد فيه شيء من الدغل[2] ولا من الخمل[3] ، بل إبريز نقي مصفى، عني بهذا الأعمال الفاضلة النقية من كل رياء ومجد فارغ وطلب مجازاة  عالمية، بل من أجل الله خاصة تكون أعماله بأسرها. وهكذا يرث غنى ملكوت الله التي لا ينالها فقر.

ثم قال: «وثيابا بيضا تلبسها لئلا يظهر سوء عورتك» عني بهذا نقاوة النفس والجسم، بالعفة المتشبهة بالله. كما يقول الرسول المنتخب بولس: «أنتم الذي انصبغتم بالمسيح، للمسيح لبستم»

ثم قال: «وذرورا تكحل به عينيك لتبصر» عني النظر الباطن الذي للنفس، إذا قبلت الذرور الذي هو كلام الله، القاطع منها كل غشاوة، التي تسبب لها ظلمة المعصية وتسلك في سبيل غير مستقيمة، وتعثر وتسقط. فالذي يقبل هذه الذرور يضيء جداً بأعمال الفضيلة، ويصقل عيني عقله، وقلبه يتنقى، ويكمل عليه المكتوب: «طوبى للنقية قلوبهم فإنهم يعاينون الله» (مت5: 8).

ثم جذب عقولنا كي نقبل كلامه بفرح، ونأخذ تأديبه ببشاشة للمنفعة، فقال: «لأني أبكت الذين أحبهم». عني أن الأب لا يؤذب إلا ابنه الخاص به ليكون مستقيما ويرث كل ما لأبيه، لئلا يصير غريبًا منه. ثم قال: «فغر الآن وثب» عني غيرة على البنوة الفاضلة ليكون ابن الإله وشريكا في الميراث.

 ثم عرفنا كثرة اجتهاده وعنايته بنا وأنه يريد لنا الخلاص بالحقيقة أكثر مما نريده نحن لأنفسنا، فقال: «لأني هو ذا واقف على الباب وأقرع، فالذي يسمع ويفتح لي أدخل معه إلى الوليمة وهو أيضاً معي». أنظرت الآن يا محب الأدب محبته لجنسنا، وقوله إني واقف على الباب غير متهاون بأمركم، لأنه أسلم ذاته عن الكافة . وقرعه الباب أعني أنه يقرع أسماعنا بالتعليم دائماً، وهو قوله المحق ما نطق به على أفواه أنبيائه ورسله بتأييد الروح القدس. فالذي يسمع من الأقوال المحيية ويفتح باب قلبه يحل الرب المسيح فيه، كما قال عز قائل: «الذي يحفظ وصيتي، أنا والآب نأتي وعنده نتخذ المنزل». وقد ذكر في الإنجيل: «طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم وقرع يفتحون له للوقت» وما يتلو ذلك . وعني بالوليمة الملكوت، التي أعدها الرب لحافظي وصاياه. 

وقوله: «الذي يغلب» عني قهر الرذيلة بعمل الفضيلة. قال: «أنا أعطيه أن يجلس معي على كرسي»، عني أنه يملك معه إلى الأبد. وقال أيضاً كما يقول الرسول: «إنّا إذا صبرنا معه سنملك معه»، وقال أيضاً: «ندخل حتى نتجاوز حجاب الباب، موضع سبق ودخل بدلنا يسوع وصار رئيس كهنة إلى الأبد ، عني بهذا التجسد. وكذلك قال الرب له المجد: «كما غلبت وجلست مع الآب على كرسيه»، هذه اللفظة قيلت على التجسد الذي به غلب الشيطان وداس الموت وسبى الجحيم وفتح الفردوس، وهيأ لنا طريقا إلى الملكوت، وأعطى لنا سبيلاً أن نغلب بمعونته، ثم أصعد الجسد الذي كان ساقطا تحت الهاوية إلى العلا سماء السموات، فوق الملائكة والرؤساء والقوات، وأخضع تحت قدميه كل شئ ، له المجد دائماً.

  1.  الذرور ما يذر في العين وعلى الجرح من دواء يابس (المعجم الوسيط)، ويقصد به هنا الكحل.
  2. الدغل: عيب في الأمر يفسده (المعجم الوسيط). ١
  3. خُمل الرجل: خفي ولم يعرف (المعجم الوسيط). فالمقصود هنا الأشياء الخفية في الذهب أي الشوائب.

تفسير سفر الرؤيا – 2 سفر الرؤيا – 3 تفسير سفر الرؤيا تفسير العهد الجديد تفسير سفر الرؤيا – 4
الأنبا بولس البوشي
تفاسير سفر الرؤيا – 3 تفاسير سفر الرؤيا تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى