تفسير سفر الرؤيا اصحاح 3 لابن كاتب قيصر

الأصحاح الثالث
الفصل الرابع

رؤ3: 1-6

15- (1) اكتب إلى الملاك الذي لكنيسة سرديس هذا ما يقوله الذي معه سبعة أرواح الله وسبعة النجوم إنني عارف أعمالك فإن لك اسم الخلاص أنك حي وأنك ميت (2) فكن محترساً وقو البقية لئلا تموت لأني لم أجد إيمانك وأعمالك كاملة عند إلهى (3) فاذكر كيف قبلت وضللت واحفظ وتب وإذا لم تتب ولم تحترس أنا آتي مثل لص ولا تعلم الساعة التي آتي إليك فيها (4) لكن ثم لى أسماء أخر قلائل في سرديس هؤلاء الذين لم ينجسوا لباسهم مع امرأة ويسلكون معى بثياب بيضاء لأنهم يستحقون (5) ومن يغلب هكذا ألبسه ثيابا بيضاء ولا أمحو أسماءهم من سفر الحياة وأظهر ظهورا أسماءهم أمام أبي وأمام ملائكته (6) من له أذنان أن يسمع فليسمع ما يقوله الروح للكنائس.

 قوله:«اكتب إلى الملاك الذي لكنيسة سرديس[1] » ، ملاك كنيسة سرديس هو رئيسها ، وسرديس جزيرة من أعمال آسيا ، ويقال لبطريقها أي نائب المملكة فيها «صاحب البحر» كما ذكر ذلك في كتاب المسالك والممالك ويقال لها أيضا سردانية. وقوله : «هذا ما يقوله الذي معه سبعة أرواح الله وسبعة النجوم» ، تأمل هذه الغرائب من فيض هذا الروح ، إنه فسر لنا أولاً النجوم بأنها سبعة الأرواح ، فكيف جعلها هنا غيرها وعطف النجوم على الأرواح والشيء لا يعطف على نفسه ؟ وهل ذلك إلا ليبين لنا أن سبعة الأرواح غير شبعة أرواح الله بيانا في إخفاء وإخفاء في بيان ؟ لأن سبعة الأرواح وهي سبعة النجوم هي رؤساء الكنائس كما فسرناها . وسبعة أرواح الله هي الملائكة التي قال متقدما إنها أمام العرش ، المنفذة للأوامر الإلهية كما بين هنالك . أما قوله : «إنني عارف أعمالك فإن لك اسم الخلاص أنك حي وأنك ميت» فيريد بأعماله اجتهاده في العبادة ، ويريد باسم الخلاص إيمانه باسم المسيح ، وهذا يدل على أن هذا الرئيس ، وإن كان مجتهدا في تكميل ذاته ، فإنه مقصر من جهتين ، إحداهما : إنه سريع الميل إلى غواية من يغويه غير ضابط لنفسه ، ولذلك قيل له : « اذكر كيف قبلت وضللت » والأخـرى : تقصيره في تقوية شعبه وتثبيتهم ، ولذلك قيل له : « وقو البقية» . فباجتهاده في كمال نفسه ، قيل له : « إنك حي» ، وبتقصيره عن ضبط ذاته ، قيل له : « إنك مبت» ، ومراده بقوله حي أي ذو حياة والحياة هنا علم الحق وعمل الخير ، بدليل قول هذا الرسول في إنجيله عن سیدنا (يو6: 63): « والكلام الذي كلمتكم به هو روح وحياة» أي هو حق وبر ، وقوله(يو3: 17) : « لأن الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليحيى العالم» ، أي ليفيدهم علم الحق وعمل الخير . ومراده بقوله ميت أي ناقص عن الكمال ، والنقص يناقض الكمال كما يناقض الوجود العدم ، وقد ذكر هذا المعنى بولس الرسول(1تي5: 6) في حق الأرامل المؤمنات : «وأما من تلهو فقد ماتت وهي حية» ، وليست جهة الحياة هي جهة فيلزم اجتماع الضدين قوله : «فكن محترسا وقو البقية لئلا تموت» ، الاحتراس عن التقصير عن إدراك الكمال ، وتقوية البقية ، أي تثبيتهم في إيمانهم وأعمالهم ، فإن كمالهم من جملة كماله ، وكماله بكمالهم . ويريد بالبقية شعبه وقطيع رعيته الذين تحت رئاسته . وأما قوله لئلا تموت فإنه توعد له إن قصر عن تقوية البقية بالموت الاخترامي وإلا بالضرورة فهو يموت الموت الطبيعي ، قواهم أو لم يقوهم.

 قوله : «لأني لم أجد إيمانك وأعمالك كاملة عند إلهي» ، إن الكمال بحسب هذا الغرض له رتبتان ، الأولى : كمال المرء في نفسه بإيمانه وأعماله البارة ، وإلى هذه الرتبة أشار الإنجيل إلى ذلك الغني الذي حفظ الوصايا بقوله(مت19: 21) : «إن أردت أن تكون كاملا امض وبع كل ما لك وأعطه للمساكين وتعال اتبعنی» ، فهذا هو الكمال الأول والرتبة الأخرى : فهى رتبة الرؤساء والمعلمين الذين لا نفع منهم بكمالهم في أنفسهم ، بل أن يفيض كمالهم على غيرهم بكلمة الإيمان والأعمال ، وإلى هذه الرتبة أشار سيدنا بقوله(مت5: 19) : «إن من يعمل ويعلم هذا يدعى عظيما في ملكوت السماء» . ولا شك أن هذا الرئيس لم يحرز الكمال الأول ولا الثاني كما بينا ، إما لأنه قد ضل وغوى ، وإما لأنه لم يقو شعبه . وأما قوله عند إلهي فلا يصح فهمه عن سيد الكل إلا من حيث هو إنسان.

قوله : «اذكر كيف قبلت وضللت » ، أما قبوله فظاهر إنه قبل من غيره وذلك الغير إما روح شرير أو إنسان مضل مبتدع ، وهذا دليل قلة ضبطه وثباته . وأما الضلال فعلى ظاهره ، وهو العدول عن سبيل الحق والخير قوله : «واحفظ وتب» ، أما الحفظ فلما حصله ومدح عليه ، وأما التوبة فعن غوايته وقلة اهتمامه بتعليم رعيته والأمين الحكيم هو الذي يعطى رفقته طعامهم الروحاني في حينه ، وحد التوبة إنها إنذار أن لا يعمل في المستقبل مثل الماضي الذي تاب عنه والحفظ ظاهر وهو التمسك بلوازم التوبة والتحرز من الوقوع في ما يخالف حكمها ، فإن الناس في سيرتهم على خمس طبقات :

 الأولى : طبقة الصالح ، وهو الذي يسلك ولا يعثر فيحتاج أن يقوم من عثرته ، وهذه الطبقة عزيزة جدا لم يصل إليها أحد من البشر إلا واحد كسيرة سيد الكل بالجسد ، القائل(يو8: 46) : «من منكم يوبخنى على خطيئة » والقائل(يو10: 11) : « أنا هو الراعي الصالح» ، وكذلك قال(لو18: 19) : «ليس صالح إلا الله وحده » ، تشبه هذه الطبقة بالشمس.

الثانية : الحفيظ ، وهو الذي يعثر نادرا ويقوم فلا يعثر ، كموسی وأشعيا ويونان وزكريا وبطرس الرسول ومن يجرى مجرى هذه الأنوار ، وتشبه هذه الطبقة بالقمر.

الثالثة : طبقة النقي ، وهو الذي يسلك ويعثر ثم يقوم ويكون في آخرته قائما ، وهذه طبقة الأنقياء العتيقة والحديثة ، كداود النبي ويوشع الملك وغيرهما ، وتشبه هذه الطبقة بالنجوم .

الرابعة : طبقة الساقط ، وهو الذي يسلك ويعثر فلا يقوم ، وهي على قسمين ، أحدهما : أن يتوب فلا يقبل كقايين وعيسو وشاول الملك وعالي الكاهن ويهوذا الأسخريوطي . والآخر : أن لا يتوب أصلا بل يستمر على عثراته كيوربعام بن ناباط ومن يجرى مجراه ، وتشبه هذه الطبقة بالسراج الذي يضيء يسيرا ثم ينطفىء.

الخامسة : طبقة الشرير كالذين هم من نشأتهم على الشر أو عبادة الأوثان أو من شابههم ، وتشبه هذه الطبقة بالظلام الأفل وهذه تقابل الطبقة الأولى ؛ والمشار إليها هنا هي الطبقة الثانية.

قوله : « وإذا لم تتب ولم تحترس أنا أتى مثل لص ولا تعلم الساعة التي أتى إليك فيها » يريد بإتيانه هنا إتيان أمره وقضائه إطلاقا لاسم الملزوم على اللازم ، وهو توعد له بما تقدم بالموت الاخترامي ، وذلك مشروط بعدم توبته . وأما الإتيان مثل لص ، فجهة المشابهة أن اللص لا يزال يراقب غفلة أو سهو أو إعراض صاحب الدار عن التيقظ أو إهمال احتراسه ، حتى يدرك وقت الإمكان فينقض بسرعة ، هكذا ورود الموت بغتة ، أي في ساعة لا تعلم ، وحين لا يدرك ، وفي وقت مجهول ، كالفخ المنطبق على الطائر عند غفلته

 أما قوله : «لكن ثم لي أسماء أخر قلائل في سرديس هؤلاء الذين لم ينجسوا لباسهم مع امرأة» ، فهذا متسق مع قوله وقو البقية ، وكأنه قال : لكن ثم لى أسماء أخر غير هذه البقية ، وهم قوم قلائل بالنسبة إليها وقد عرفت أنه يريد بالأسماء مسمياتها ، وأما ثيابهم فيريد بها القوة الشهوانية ، بدليـل قول الرسول يهوذا في الفصل التاسع من رسالته « وكونوا مبغضين للباس ثوب الجسد النجس» ، أي استعمال قوته الشهوانية في الرذائل . ولما كانت الشهوة أعم من الرذيلة ، والرذيلة أعم من المباضعة من وجه ، خصص الرذيلة بقوله الدنس ، وخصص المباضعة بقوله مع امرأة أي لم يقربوا امرأة . وهؤلاء الأسماء قوم أطهار تمسكوا من جملة فضائلهم بالعفة عن ملامسة امرأة البتة حلالا أو حراما ، لأن تنكيره المرأة للعموم والدليل على أن الأمر كذلك ، قوله في الفصل الرابع عشر [فص 65] من هذه الرؤيا ، لما رأى الحمل واقفا على جبل صهيون ومعه المائة ألف وأربعة وأربعون ألفا ، أن صوتا كرعد قال له : « وهؤلاء هم الذين لم ينجسوا ثيابهم مع امرأة لأنهم أبكار وهؤلاء هم الذين يمشون مع الحمل حيث يذهب » ، فإن كانوا أعنى الأسماء التي في سرديس ، إسرائيليين ، فهم من جملة المائة ألف وأربعة وأربعين ألفا ، وإن لم يكونوا بإسرائيليين ، لم يكونوا من جملة تلك العدة ، بل من الأبكار المؤمنين من الشعوب . وليت شعري ، كيف ومضجع الزوجة طاهر بالنص والإجماع ، يعمه هذا الدنس المذكور ؟ والجواب أن البتولية أشرف من التزويج لأن بها يشترك مع الملائكة الأطهار وبه [الزواج] يشترك مع البهائم وبقية الحيوانات ، ولهذا كانت العفة أشرف من الزواج ؛ وبهذا الاعتبار أطلق علیه دنسا بالإضافة إلى العفة.

. قوله : « ويسلكون معي بثياب بيضاء لأنهم يستحقون » ، هذا السلوك هو إخبار عن صحبتهم للحمل ومسيرهم معه حيث سلك ، وذلك إنما يكون في القيامة الأولى ، وإلا فأجسادهم لم تقم إلى الآن والثياب البيضاء هنا رمز على العفة وشرفها من جهة أن البياض لون صاف شبيه بالنور ويؤثر فيه أيسر دنس ، ويتميز لأن الثياب البيضاء جاءت في الجليان رمز على معنيين الأول : بكورية العفة ، بدليل قوله : «الذين لم ينجسوا لباسهم مع امرأة ويسلكون معى بثياب بيضاء» والثاني : رمز على المديح والشكر والنعمة والبهجة الإلهية . وفي هذا القسم طبقات بحسب طبقات قابلية ، لأن الكتاب يقول : «المنازل في بيت أبي كثيرة » . وقد ورد الجليان على أربع طبقات : الأولى : طبقة بكورية العفة ، بدليل قوله : «من يغلب هكذا أنا ألبسه ثيابا بيضاء »

الثانية : طبقة النبوة ، بدليل قوله في الفصل الخامس [فص ١٩] عن الأربعة والعشرين المشائخ إنهم : « متدرعون بثياب بيضاء» لا يقال إن ذلك لهم من قبل عفتهم لأن فيهم المتزوجين كموسى وداود وغيرهما.

الثالثة : طبقة الشهداء ، بدليل قوله : «فأعطى للواحد منهم حُلة بيضاء»

 الرابعة : طبقة أهل المضايق والشدائد ، بدليل قوله : « هؤلاء هم الآتون من المضايق الشديدة فابيضت حللهم وزهت بدم الحمل »

 وسيد الكل له المجد ، وإن كان مبدأ كل فضيلة ، فله هذه المراتب الثلاث : أعنى العفة فكرا وحسا ، والملك ، ومقاساة الشدائد . وعندما تجلى على جبل ثابور ، شوهد بلباس أبيض : «تقى لامع كالبرق والثلج لا يقدر على مثله مبيض على الأرض» ، وهذا الرسول البتول ممن شاهد وشهد في هذه الرؤيا.

قوله : وهم يستحقون ، أي يستحقون هذه المنزلة بهذه المزية لاستعدادهم لشرفها ، لأنهم جاهدوا جواذب الطبيعة ، فكانوا في أجسادهم على الأرض كالملائكة في السماء ، وحق لهم الظفر والغلبة ، ورفع علامته التي هي البياض ، فلذلك قوله : « ومن يغلب هكذا ألبسه ثيابا بيضاء» . على أن البياض أيضا شعار الصابرين على المضايق كالشهداء والمعترفين وأمثالهم كما سيأتي في مكانه.

قوله : «ولا أمحو أسماءهم من سفر الحياة» ، يظهر أن ما يدل عليه هذا السفر أخص مما يدل عليه السفر الذي سيأتي ذكره ، ولذلك خصص بإضافته إلى الحياة ، لأن هذا رمز على من ثبت في العالم الإلهي من الأبـرار خاصة. وقد أومأ إليه لوقا الإنجيلي في بشارته لما عاد السبعون من بعثة سيدنا اثنين اثنين وفرحوا بطاعة الأرواح لهم ، فقال لهم : «افرحوا بأن أسماءكم مكتوبة في السموات »(لو10: 20) ، أي من جملة الفائزين . وأما كونه لا يمحو أسماءهم ، فإن العلم الإلهى كاشف لما تكون عليه آخرة كل إنسان من خير أو شر ، وما ثبت في العلم الإلهى لا يجوز أن يخالف ما الأمر عليه . فآخرة هؤلاء لا يجوز أن تكون صالحة إلا صالحة وهم فائزون . فطوبى لمن ثبت اسمه في هذا المحل.

قوله : « وأظهر ظهورا أسماءهم أمام أبي وأمام ملائكته» ، أراد المصدر مع فعله للتأكيد ، ومعلوم أيضا أن أسماءهم ظاهرة لله وملائكته ، فما الفائدة في إظهار ظاهر ؟ والمراد بذلك أنهم لا يعرض عنهم كالمطروحين ، بل تذاع أسماؤهم ويذكرون للدلالة على الإقبال عليهم والرضى عنهم ، فإن ذلك من جملة النعم. وقوله : «من له أذنان أن يسمع فليسمع» وبقية الفص ، قد مضى تفسيره. 

واعلم أن ما كتب به هنا لرئيس سرديس ، وما كتب به لرئيس أفسس بينهما أشباه ونظائر ، لأنه قال هناك : «هذا ما يقول الذي في يده اليمنى السبعة النجوم» ، وقال هنا : « هذا ما يقوله الذي معه سبعة أرواح الله وسبعة النجوم» . وقال هناك : « إنى عارف بأعمالك» ، وقال هنا : «إنى عارف أعمالك» . وقال هناك : « أن المحبة في الأول تركتها عنك» ، وقال هنا : «لم أجد إيمانك وأعمالك كاملة عند إلهي» . وقال هناك : « فاذكر كيف سقطت وتب لئلا أتى إليك» ، وقال هنا : « فاذكر كيف قبلت وضللت واحفظ وتب وإذا لم تتب ولم تحترس أنا آتى»

رؤ3: 7-13

 16- (7) واكتب إلى ملاك كنيسة فيلادلفيا هذا ما يقوله القدوس الحق الذي بيده مفاتیح بيت داود الذي يفتح فلا يغلق أحد وإذا أغلق فليس يقدر أحد أن يفتح (8) أنا أعرف أعمالك وإيمانك هوذا جعلت أمامك بابا مفتوحا ولا استطاعة لأحد أن يغلقه لأن لك قوة يسيرة وحفظت قولى ولم تجحد اسمى (9) هوذا أعطيك جماعة الشيطان الذين يقولون إنهم يهود وليسوا هم قوم ولكنهم يقولون الكذب وهوذا أجعلهم يأتون ويسجدون لك وينطرحون أمام رجليك ويعلمون جميعهم أنى أنا أحببتك (10) وأنت حفظت قولى وصبرى ومن أجل هذا أنا أيضا أحفظك من التجربة الآتية على الخلق كلها لتجرب كل من على الأرض (11)  وأنا آتي سريعا فتمسك بالذي معك كي لا يأخذ أحد إكليلك (12) من يغلب أضعه عمودا في بيت إلهى ولا يخرج بعد وأكتب اسم إلهى عليه واسم المدينة الجديدة التي لأبي أورشليم النازلة ء من قبل إلهي واسمى الجديد (13) من له أذنان أن يسمع فليسمع ما يقوله الروح للكنائس السماء.

 قوله : «اكتب إلى ملاك كنيسة فيلادلفيا[2] » ، مدينة سميت باسم من أنشأها وهو أتالوس فيلودلفوس أي محب الأخت . وهي لفظة يونانية تفسيرها : «فیلو» محب ، و «دلفيا » الأخت ، لأن في آخرها علامة التأنيث.

قوله : « هذا ما يقوله القدوس الحق الذي بيده مفاتیح بیت داود » القدوس والحق من الأوصاف الإلهية ، وعدل عن صيغة اسم الفاعل إلى المصدر للمبالغة ، كما يقول في عادل عدل وليتميز بذلك عن أوصاف البشر والمفاتيح يريد بها الحكم النافذ ، لأن طاعة المأمور للأمر كطاعة القفل للمفتاح ، وهو على سبيل المحاكاة والتمثيل المفهم للسمع ، ويريد ببت داود ملمه على يهوذا وإسرائيل . وحسن في التمثيل إنه لما ذكر مفاتيح ذكر بیتا ، وهذا المعنى إنما يصح أن يفهم من ناسوته المعظم وهو ، وإن كان ملك السماء والأرض ، فإن وعد الله لبني إسرائيل بالمنتظر على ألسن أنبي نه إنما كان هكذا ، وكذلك قال جبرائيل الملاك لسيدة نساء العالمين مريم البتول : « ويجلس على كرسى داود أبيه»(لو1: 32) ، وإن كان ليس أب البشر : فالنسبة الناسوتية له من الأمم تنتهى إلى داود ثم يهوذا.

قوله : «الذي يفتح فلا يغلق أحد وإذا أغلق فليس يقدر أحد أن يفتح » ، يريد بالفتح والغلق تنفيذ أحكامه بالحياة والموت ، والإسعاد والإشقاء ، والدينونة والمغفرة ، والعطاء والمنع ، إلى أمثال ذلك من مصادر القوة العالية . كما ذكر في بشارة هذا الرسول : «بل أعطى الحكم كله للابن »(يو5: 22) ، وقال هو المسيح عن نفسه : « أعطيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض »(مت28: 18) ، ولا مانع إذا أعطى ولا معط إذا منع.

وأما قوله : « أنا أعرف أعمالك وإيمانك» ، قد مضى تفسير مثله.

قوله : «هوذا جعلت أمامك بابا مفتوحا ولا استطاعة لأحد أن يغلقه » ، يريد بهذا الباب الاستعداد والقبول منه ، بدليل قول بولس الرسول : « قد انفتح لی باب عظيم في البشري »(1كو16: 9) ، أي استعداد قوم يدخلون الإيمان . هكذا هذا الرئيس جعل له أن يدعو أرباب البدع الذين بمدينته لطاعته والخضوع له وأما كون لا استطاعة لأحد أن يغلقه ، فهو أن أحدا لا يقدر أن يجرفهم عن طاعته ، فذلك قوله عن جماعة الشيطان «هوذا أجعلهم يأتون ويسجدون لك وينطرحون أمام رجليك »

وقوله : «لأن لك قوة يسيرة وحفظت قولى ولم تجحد اسمى» ، القوة التي له هي المحافظة على الإيمان ، وإنه لا يجحد . وكونها يسيرة هو أنه لم تطل مدة عقابه ولا كثرت آلامه بحيث يعدم صبره ويعز جلده،  بل نال الشهادة مناجزة مساهلة ، بدليل قوله : «فتمسك بالذي معك كي لا يأخذ أحد إكليلك» . قوله « وحفظت قولی» ، يريد بذلك حفظه الوصايا بالإجهاد في العبادة ومثابرته عليها.

أما قوله : «هوذا أعطيك من جماعة الشيطان الذين يقولون إنهم يهود وليسوا هم قوم ولكنهم يقولون الكذب » جماعة الشيطان كل من خرج من الحق ، ومن جملتهم هؤلاء القائلون إنهم يهود وليسوا هم قوم ولكنهم يقولون الكذب وقد فسرنا هذا النص بعينه في ما كتب به إلى كنيسة اسمرنا . وقوله : « وهوذا أجعلهم يأتون ويسجدون لك وينطرحون أمام رجليك »، إتيانهم إليه هو طاعتهم له وهي الموهبة الأولى . وسجودهم له وانطراحهم أمام رجليه هو خضوعهم له ، وهو الموهبة الثانية . وقوله : « ويعلمون جميعهم أنى أنا أحببتك وأنت حفظت قولي وصبري» ، أما علمهم بأن سيدنا له المجد أحب هذا الرئيس فهي الموهبة الثالثة وحفظ قوله قد بين ، وأما إضافة الصبر إلى سيد الكل ، فإن الشيء قد يضاف تارة إلى فاعله كقولك : هذا السيف صنعتي ، وتارة إلى مفعوله كقولك للمجروح : هذا جرحك ، والمراد هنا بقوله وصبرى إضافة الشيء إلى مفعوله ، فيكون تقدير القول : يعلم جميعهم أنى أحببتك وأنك حفظت قولي وثبت على اسمى.

قوله : « من أجل هذا أنا أيضا أحفظك من التجربة الآتية على الخلق كلها لتجرب كل من على الأرض» ، أي ومن أجل حفظ وصاياي أنا أحفظك من التجربة الآتية ، والتجربة النازلة بالخلق أجمع هيجان الملوك الكفار في تلك الأيام بتحريك من الشيطان على جميع المؤمنين ، وعقابهم لهم بأنواع تفوق الحصر بالنار ، والسلخ ، والغليان في الزيت والقطران ، وتقطيع الأعضاء إربا إرباً، وتسريج الجسم بأمشاط الحديد ، وعصر الهنبازين ، وإراقة الخل والجير على الجراحات ، والنشر بالمنشار ، والصلب بالتسمير ، والإلقاء إلى الأسد والحيات ، وإلى غير ذلك ، والقتل بالسيف أخيرا . ولذلك سطر التواريخ آخر قوانين الرسل ما نسخته : «لما فرغ الحواريون من وضع السنن الجديدة ، وكثر المؤمنون على الأرض ، فكان الملوك – بحيل الشيطان – كفارا ، فأسرعوا لقتل المؤمنين وتعذيبهم ليسجدوا للأصنام . وكان في ضيق وشدة وقهر يشغل عن وضع سنن أخرى نحو ثلاثمائة وست وخمسين سنة إلى قرب ملك قسطنطين الكبير . وإذا نال إنسان إكليل الشهادة معجلا من غير عذاب يطول فيه أمره ويعدم صبره ، فلا شك أن هذا حفظ وعناية.

وقوله : «وأنا آتي سريعا » ، هذا الإتيان إشارة إلى انتقال هذا الرئيس بالشهادة ، ولهذا تلاه بقوله : «فتمسك بالذي معك كي لا يأخذ أحد إكليلك »

قوله : «من يغلب أضعه عمودا في بيت إلهى ولا يخرج بعد» ، قد فسرنا الغلب ما هو ، والعمود يريد بها الثبات بدليل قوله ولا يخرج بعد وقول الرسول بولس أيضا «فلنعلم كيف يجب أن يكون في بيت الله الذي هو كنيسة الله الحي عمـودا وثباتا للحق » . ويريد ببيت إلهه أورشليم السمائية ، وبقوله لا يخرج بعد ، أي لا ينتهي هذا الخلود في النعيم ولا انقضاء له ، بل يكون أبدا سرمديا . وقوله : « وأكتب اسم إلهى عليه واسم المدينة الجديدة التي لأبي أورشليم النازلة من السماء من قبل إلهى واسمى الجديد» ، قد عرفت أن الاسم تارة يراد به مجرد الاسم كما قال : «فص وعليه اسم مكتوب» ، وتارة يراد به المسمى كقوله «لكن لى عندك أسماء قلائل»  أي أشخاص قلائل . وكما قال الإبركسيس : «وفي هذه الأيام قام بطرس في وسط الإخوة ، وكانوا كثيرا مجتمعين هنا وهنا يكونون قدر مائة وعشرين اسما » ، ومراده أشخاص . وهذه ثلاثة أسماء قد ذكر كتابتها هنا : الأول قوله : «اسم إلهي» ، وأظن هذا الاسم هو الذي قيل في الفصل العشرين [فص ۱.۳] عن الأمين الصادق إن «على رأسه أكاليل كثيرة » (5) وهناك اسم مكتوب لا استطاعة لأحد أن يعلمه إلا هو وحده ، فمحاولة معرفة هذا الاسم بعد هذا القول جهالة ، لأنه من الأسرار المكنونة الغوامض المصونة عن البشر وغيرهم . ولعل في معرفة هذا الاسم الأعظم أو التلفظ به تأثير ، ولذلك أخفى وكتم ، لأن في أسماء الله تعالى الواردة في الكتب العتيقة والحديثة أسماء لا تذكر في كل وقت ولا كيف اتفق ، بل في أعياد كبار وأوقات مخصوصة ، كالاسم العبراني الذي على أربعة أحرف ، والاسم الذي على ستة أحرف ، وأسماء أخرى تجرى هذا المجرى ؛ فيكون هذا الاسم المكتوب أعظمها ، وهذا ما يكمن قوله فيه وقد ذكر في كتاب قصص الرسل مما يناسب هذا المعنى «إنهم كانوا يعملون العجائب بالاسم» ، وكقول بطرس الرسول للمفلوج المجتدى منه : «الذي لي أنا أعطيه لك باسم يسوع الناصري قم »

والثاني قوله : «اسم إلهي عليه واسم المدينة الجديدة التي لأبي أورشليم النازلة من السماء من قبل إلهي» ، إن كانت إشارته بهذا الاسم إلى لفظة أورشليم فهو ظاهر ، وإن كانت الإشارة به إلى أسماء أخر لهذه المدينة فهو مكتوم ، ولعله الذي قال عنه أولا : إنه مكتوب على الفص ، والله أعلم باليقين في ذلك . والكلام في المدينة النازلة من السماء سيأتي في مكانه بمشيئة الله تعالى.

والثالث قوله : « واسمى الجديد » ، وهذا الاسم هو المذكور في الفصل العشرين [فص ۱.۳] المقول فيه عن سيد الكل : «واسم مكتوب على ثوبه وفخذه ملك الملوك ورب الأرباب » ( ، فهذا هو اسمه الجديد . أما الكتابة في قوله : « وأكتب اسم إلهى عليه» فإن كيفيتها مشكلة مستبعدة إن كان اللفظ على ظاهره ، لأنها تكون من باب الوسم  والعلامة ، والأقرب أن يكون مراده بالكتابة التعريف ، ومثال ذلك : أنك إذا عرفت من شخص أنه ابن فلان وأخو فلان ونسيب فلان ، فإن هذه ثلاثة تعريفات دلت على ثلاثة معان ملحقة وتختص به ، وتدركها أنت منه وتعرفها كما تعرف من المكتوب ما يدل عليه والكتابة هي المعرفة بذلك . فيكون تقرير هذا الفص بهذا الاعتبار على هذه الصورة : من يغلب آخذه إلى الملكوت ، ويعرف أنه له نسبة اختصاص إلى إلهى وإلى ، وأنه من أهل الملكوت . وأما الترتيب في ذكر هذه الأسماء الثلاثة فإنه بدأ باسم الإله لشرفه ، وختم باسم سيدنا لأنه آخر ما يسمع ويبقى في الذهن ؛ فتعين أن يكون اسم المدينة وسطا وبقية الفص قد مضى تفسير مثله.

رؤ3: 14-22

17- (14) واكتب إلى ملاك كنيسة اللاذقية هذا ما يقوله الحق الشهيد الأمين والحقيقي رأس خليقة الله (15) أعرف أعمالك وأنك لست كثيفا ولا لطيفا فإن كنت أنت ماء باردا أولا حـارا (16) فكن هكذا ماء فاترا لا أنت ماء سخن ولا أنت ماء بارد لئلا أقطعك طرفك (17) لأنك تقول إنى أنا غنى ولست أحتاج إلى أخذ شيء وما تعلم أنك أنت ضعيف وشقى وأنت متصدق ومسكين أعمى عريان (18) وأشير عليك أن تبتاع ذهبا منى مسبوكا بالنار لتستغنى وثيابا زاهية ألبسك لئلا تظهر فضيحة عريك وذرورا أجعله في عينيك لتبصر ظاهرا (19) لأنى أنا الذين أحبهم أؤدبهم وأعلمهم فغر في الخير وتب (20) لأنى هوذا واقف على الباب وأقرع فمن يسمع ويفتح الباب لي أدخل معه وأكل معه وهو معى (21) من يغلب أنا أمنحه أن يجلس معى على كرسى كمثلى لما غلبت جلست مع أبي على كرسيه (22) من له أذنان أن يسمع فليسمع ما يقوله الروح للكنائس.

 قوله : «اكتب إلى ملاك كنيسة اللاذقية [3]» معلوم أن ملاكها رئيسها والمدينة مشهورة.

قوله : « هذا ما يقوله الق الشهيد الأمين والحقيقي » الحق صفة لسيدنا بما هو إله وقد ذكرنا علة الوصف بالمصدر دون اسم الفاعل والشهيد الأمين وصف له بما هو إنسان : أما شهيد ، فلأنه قتل صلبا بالجسد من أجل دعوة الخلق لمعرفة الحق ، وأما أمين ، فلأنه لم يمل ولم ينحرف عن الصواب في قوله ، ولا عن الفضل في فعله ، ولم يحد عن المجموع في تعليمه . وفي هذا أدى الأمانة كاستحقاقها . ولهذا قال بعد ذلك : « والحقیقی» ، فنسبته إلى الحق لتأكيد هذه المعاني المشار إليها.

قوله : «رأس خليقة الله » يريد بالرأس الرئيس الحاكم ، وهي لغة معروفة مستفاضة في الشريعة ، أعنى تسمية سيدنا بالرأس . وأصل ذلك التشبيه والتمثيل أن للرأس الرئاسة والاستيلاء على بقية البدن ، ولذلك جعل محلها في أعلاه مشرفة عليه . وفي ذلك يقول بولس الرسول : « وجعله رأسا للبيعة التي هي جسده » ، وفي الفصل التاسع من رسالته إلى أهل كولوسي «كما أن المسيح رأس الكنيسة وفيه وهو رأس جميع الرؤساء والمسلطين » وفي الفصل السادس عشر منها(كو2: 19) : «وتفتخر باطلا ولا تتمسك بالرأس الذي منه جميع تركيب الجسد » . ويريد بخليقة الله المخلوقات السمائية والأرضية البسيطة والمركبة ، لأنه تعالى أخضع له الكل وجعله وارثا للكل وحاملا للكل.

 قوله : « أعرف أعمالك وأنت لست كثيفا ولا لطيفا » يريد بالأعمال العبادة كما قلنا . ويريد بالكثيف الخاطيء ، لأن حد الكثافة الوضيعة أنها قوة طبيعية يتحرك بها الجسم إلى الوسط بالطبع . كذلك الخاطيء ينحط مع جواذب الطبيعة ويرسخ معها إلى أسافل الحضيض ، كالحجر الذي يطلب مركزه ويهوى إلى أسفل فيكون جثمانيا ؛ فهذا وجه المناسبة من المعنيين ويريد باللطيف الصالح ، وحد اللطافة الوضيعة أنها قوة طبيعية يتحرك بها الجسم عن الوسط بالطبع ، وهكذا الصالح متعال عن أوساخ الطبيعة وجواذب الشهوات ، مترفع عنها ، فيكون روحانيا فلذلك ليس هو بمغرق في الإصلاح ولا بمتهافت ساقط في الشرور ، بل متوسط بين هذين الطرفين واعلم أن لفظة كثيف وثقيل في اللغة القبطية واحدة وهي 2opy وكذلك C3140 تدل بالوضع على السخن وبالاستعارة على اللطيف إطلاقا لفظة لاسم الملزوم على اللازم .

قوله « فإن كنت أنت ماء باردا أولا حارا (16) فكن هكذا ماء فاترا لا أنت ماء سخن ولا أنت ماء بارد » ، يريد بالماء البارد القليل الغيرة في الصالحات أو العادم لها ، بدليل قوله بعد ذلك : «فغر في الخير وتب » قوله : « يريد بالماء الحار المفرط الغيرة المتهورة زيادة عما ينبغي ، ليقابل طبیعتی الحار والبارد مقابلة التضاد . ويريد بالماء الفاتر المعتدل بين طرفي الإفراط والتفريط ، فلذلك قال : «لا أنت ماء سخن ولا أنت ماء بارد » لأن أفضل الأمور ذوات الطرفين أوساطها ؛ فكأنه قال : كن غيورا في مكان الغيرة ساكنا في مكان السكون ، كما أنت في الأعمال متوسط بين الصلاح والطلاح وليس الطلاح بطرف للصلاح فيكون التوسط فيه فضيلة ، بل هو مباين له وقد كان ينبغى خلاف ذلك ، وهو أن تتوغل في الصلاح وتهمل الطلاح بالكلية ، وتكون في الغيرة وسطا.

قوله : «لئلا أقطعك من طرفك »[4] ، هذا توعد له إن أصر على أمرين ،  أحدهما : الميل إلى بعض الشرور ، والثاني : قلة الغيرة في الخير . ومراده بالطرف العنق أو الرأس لأن لفظة مشتركة في اللغة القبطية بين الطرف والقلب ، لأنها جاءت في مثل الغنى والعازر بمعنى طرف ، إذ قال : «يبل طرف أصبعه »(لو16: 24) ، وجاءت في مثل ولدى صاحب الكرم : أكل قلبه بمعنى ندم(لو21: 32) . وقد ترجمها بعض المترجمين في هذا الموضع : الوسط ، مستعارة من القلب ، لأن قلب كل شيء وسطه ، وهو جائز على بعد ، وترجمتها بالطرف أولى لما قلناه ، ولكون هذا القول في معرض الوعيد لا يجوز أن يكون رمزا على شهادته.

 قوله : «لأنك تقول إنى أنا غنى ولست أحتاج إلى أخذ شيء» ، أي أن هذا الرئيس يقول كذلك في نفسه عن نفسه. والغني هو الإكثار بقول مطلق ، إما من مال أو علم أو فضيلة علمية . ويقابله الفقر ، وهو عدم توفر هذه أو قلتها . والمراد بالغني هنا أشياء جزئية خاصة توهم هذا الرئيس إنه غنى بها ، ودلت عليه قرائن يأتي ذكرها وتفصيلها ، وتلك ستة أوصاف فاضلة : أولها : غيرة ويقابلها إهمال وثانيها : تواضع ويقابله ترفع وثالثها : صبر ويقابله خور ورابعها : تيقظ عقلى ويقابله تغفل وخامسها : علم ويقابله جهل وسادسها : استعداد للبقاء رالبر ويقابله استعداد الفناء بالشر.

قوله : «وما تعلم أنك أنت ضعيف وشقى وأنت متصدق ومسكين أعمى عريان» ، معان عامة أطلقها باللغة الروحانية على ستة معان خاصة ، دلتنا هذه على تلك الستة الأوصاف الفاضلة المتقدم ذكرها . أما الضعيف فوصف الضعيف في الغيرة وفي غيرها ، وأراد به الضعيف في الغيرة خاصة ، يعم وهو المهمل ، بدليل قوله بعد ذلك : «فغر في الخير» . وأما شقى وضف يعم شقاوة الترفع أي الكبرياء وغيره ، وأراد به الترفع خاصة بدليل قوله : «وتب » أي هذه الخلة الذميمة التي تهدم كل فضيلة . وأما متصدق فوصف يعم تصدق المال عن فقر ، والجاه عن ذل ، والصبر عن خور ، وغير ذلك . ومراده الخور خاصة لأن صاحبه يلوذ بمن يراه ، ويستعين به كأنه متصدق منه محتاج إليه ، وإن لم يستفد بذلك شيئا والصبور ثابت صامت كأنه مستغن بما فيه المعاضدة بغير الله ؛ ولذلك قال : « وأشير عليك أن تبتاع منی مسبوكا بالنار لتستغنى» ، وسنعيد تفسير هذا بعد . وأما مسكين المسكنة في التيقظ العقلي كأنه عديمه أو مقل منه . وهذا هو التغفل لقلة نقاء القلب وكثرة كدره . فأما المتيقظ بعقله فهو متصل بالإلهيات مشاهد كمالها ، وعنه يقول الإنجيل : «طوبي للنقية قلوبهم فإنهم يعاينـون الله . وفيما يقول في الرؤيا : «لأني هوذا واقف على الباب وأقرع فمن يسمع ويفتح الباب لي أدخل .. وما يلى ذلك» ، فقد توقف الدخول على شرطين : السماع والفتح . والسماع هو الطاعة والفتح هو الاستعداد كما مضى تفسيره فيما كتب به إلى ملاك كنيسة فيلودلفيا ، وسنزيد ذلك بيانا فيما يأتي . وأما أعمى فوصف عمى البصر وهو معروف ، وعمى البصيرة وهو الجهل . ومراده الثاني بدليل قوله : « وذرورا  أجعله في عينيك لتبصر ظاهرا » ، وسنذكر تفسير هذا في مكانه . وأما عريان ، فيريد بالعرى جسد الفناء لأن الناس في الدنيا بحسب أعمالهم على ثلاثة أقسام : قسم أخيار ، وقسم أشرار ، وقسم ممزوج خیره بشره وفي الآخرة يكونون على قسمين لا غير لأن القسم الثالث يميز ، فمن غلب خسره كان من القسم الأول ومن غلب شره كان من القسم الثاني . وإلى هذين القسمين أشار الإنجيل المقدس بقوله : «إن الحاكم يقسم الخراف عن يمينه والجـداء عن شماله ويرسل أولئك إلى النعيم ويصرف هؤلاء إلى الجحيم ».

فأصحاب اليمين باستعدادهم تكون أجسادهم روحانية باقية منيرة لا تتألم ولا تقبل الفناء الذي هو الموت الثاني ، فهذا الجسد الشريف سماه بولس جسد البقاء بقوله : «وإذا لبسنا جسد البقاء لا نعرى بعد » وسماه الجسد الروحاني بقوله : « يموت بجسد جسمانی ويقوم بجسد روحانی » ، وسمت هذه الرؤيا الأجساد من جهة كونها باقية تلبس ثيابا ، ومن جهة شرفها واستضاءتها زاهية ، ولذلك قال : « ثيابا زاهية» . وأصحاب الشمال باستعدادهم تكون أجادهم جسمانية مظلمة قابلة للموت الثاني والآلام الشديدة ، فهذه الأجساد سماها بولس نفسانية وسمتها الرؤيا عريا في قولها : «کی لا تظهر فضيحة عريك» ، لأن العرى يستلزم الفضيحة ، والخطايا تستلزم الخزى.

قوله : «وأشير عليك أن تبتاع ذهبا مني مسبوكا بالنار لتستغنى » أما إشارته عليه فدليل على تفويض الاختيار وعدم الجبر على عدم الخير أو الشر ، ولكنه من غير إلزام أشار إشارة مصلحة ، إن قبلها السامه فله ، وإن أباها فعليه . وأما الابتياع فمعاملة ومعاوضة ، إن فعل صالحا جزى خيرا وإن فعل طالحا جزى شرا . والذهب يريد به الصبر الجميل والتجلد عند حلول الحوادث والتجارب ، لأن خاصية هذا المعدن الصبر على نيران السبك وفنون الامتحان ، وأما الذي يعطيه قبالته كأنه ثمنا له أو عوضا عنه ، فهو التوكل عليه والتسليم إليه والتصميم على أن لا يخلص سواه . وكونه مسبوكا بالنار ، أي مجربا ممتحنا خالصا لا شبهة فيه . وأما استغناؤه به فعن من يتوكل عليه من الرؤساء أو يستعين به من البشر ، وهو قول المزمور : «لا تتكلوا على الرؤساء ولا على بني البشر » ، وتقدير النص هكذا : أشير عليك أن تتوجه إلى ، وتتوكل على ، فأعطيك صبرا خالصا تخلص به وتستغنى عن أي أحد تحتاج إليه أو تستعين به في ذلك.

قوله : «وثيابا زاهية ألبسك لئلا تظهر فضيحة عريك» ؛ أما الصياب فقد عرفت أنها جسد البقاء ؛ وأن زهوها هو استضاءتها وشرفها . واللباس والظهور والفضيحة على ظاهرها .والعرى هو جسد الفناء . وتقدير القول : اشتر منى جسدا باقيا مستلزما لسعادة الأبد مضيئا كيلا يظهر خزيك فى موقف الدينونة بجسد الفناء المظلم المستلزم للشقاء .

قوله ‘: «وذرورا أجعله فى عينيك لتبصر ظاهرا»  يريد بالذرور الاستعداد للكشف ؛ لأنهكما أن الذرور يجلو البصر للإبصار . هكذا الاستعداد يجلو البصيرة للكشف . ويويد بعينيه بصيرته لا بصره ؛ ولكنه لما ذكر ذرورا حسن أن يذكر بصرا على سبيل الاستعارة . والدليل على أنه أراد البصيرة لا البصر ؛ قوله : «لأنى أنا الذين أحبهم أؤدبهم وأعلمهم» ؛ والعلم يكون بمعنى الكشف لا الإبصار بالحاسة . وأما الإبصار فيريد به الإدراك العقلى ‎٠‏ يدليل قول هذا الريسول : فأما من يعمل الشر فإنه لا يرى الله»”’ والله لا يُرى بالحس . ويريد بقوله ظاهرا أى صحيحا لا ريب فيه ؛ ولا هو من الخيال والوهم ؛ فعن هذه احترز بقوله ظاهرا قوله : «لأنى أنا الذين أحبهم أؤدبهم وأعلمهم» . المحبة على ظاهرها ؛ وأما تأديبهم فبالتجارب ليظهر فيهم جوهر فضيلة الصبر . وأما تعليمهم فبإفاضة الكشف عليهم.

وقوله : «فغر فى الخير وتب» قد مضى تفسيره.

قوله : «لأنى هوذا واقف على الباب وأقرع فمن يسمع ويفتع الباب لى أدخل معه وآكل معه وهو معى» . الوقف على الباب بريد به شدة القرب والدنو ؛ بدليل قول مرقس الرسول ؛ «فإذا رأيتم هذه الأمور فاعلموا إنه قد قَربَ على الأبواب»”‘ . وأما القرع فيريد به الإنذار بواسطة رسله وكتبه.
وأما السماع فيريد الطاعة ؛ وكثير ما جاء كذلك . وأما فتح الباب فهو الاستعداد والتأهيل والقبول.

وأما قوله : « أدخل معه» ، فيريد بذلك : أفيض عليه الروح وأضىء عقله . فلذلك قال هذا الرسول في إنجيله : « ونأتي ونتخذ عنده المنزل » وقوله : « وآكل معه وهو معى» ، يريد بالأكل إدراك الإلهيات ونيلها والعلم بها . فإن الجوع والعطش قد جاءا بمعنى الشوق إليها في قول الرب على لسان عاموس النبي لبني إسرائيل «هوذا أيام تأتى يقول السيد الرب أرسل جوعا في الأرض لا جوعا للخبز ولا عطشا للماء بل لاستماع كلمات الرب». أراد بالشوق التلهف إلى إدراك الإلهيات وإذا كان الجوع والعطش هما الشوق إليها ، فتبين أن الأكل والشرب هو النيل منها وللشرب والأكل معان أخر غير هذا لا نطيل بذكرها فنخرج عن المقصود.

قوله : «من يغلب أنا أمنحه أن يجلس معى على كرسى» ، الغلب قد تقدم إنه الظهور إلى آخر هذه الحياة في علم الحق وعمل الخير والصبر على التجارب . والمنحة على ظاهرها والجلوس يريد به الكرامة والوقار . وهذا الكرسي الذي يجلس عليه هذا الغالب ، يريد به الرفعة والتمييز الموهوب له من الله تعالى ، وإضافته إلى سيدنا إضافة الملك وإلى هذا إضافة اختصاص ، بخلاف الكرسي المضاف إلى الآب ، فإنه يريد به الجلالة والعظمة والأبهة والملك وما أشبه ذلك . وإضافته أيضا إضافة ملك قوله : «كمثلى لما غلبت جلست مع أبي على كرسيه» ، هذا مثل القول المتقدم ، وللمماثلة ثلاث جهات : أحدها الغلب ، وثانيها الجلوس ، وثالثها إن الجلوس على كرسى ويكون تقدير جملة القولين من علم وعمل وصبر إلى المنتهى ممن أنذرتهم فأطاعوا واستعدوا أفضت عليه روح الحكمة والمعرفة ورفعته وأكرمته وميزته كما غلبت أنا فأعطاني أبي الجلالة والعظمة وكل سلطان في السماء وعلى الأرض وبقية الفص تقدم تفسير مثله وقد كمل بكماله تفسير الرؤيا الأولى.

 

  1. ‏ ساردس مدينة في الأناضول ، وهي إحدى مدن ليديا القديمة ، ويقال إنها كانت قديما مقر قارون الغنى المشهور ، وكانت مشهورة بالثروة في زمن الرسول ويميل أهلها إلى اللذات الرديئة . وقد أصبحت أطلالا ، وبشمالها القرية الحديثة التي أطلق عليها اسمها محرفا إلى سارت.
  2. ‏ فيلادلفيا أو فيلودلفيا مدينة واقعة في تخوم ليدية وفريجية بآسيا الصغرى ، تبعد نحو 25 ميلا إلى الجنوب الشرقي من ساردس ، بناها أتالوس فيلودلفوس ملك برغامس الذي مات سنة 138 ق. م. ، واسمها الآن باللغة التركية «الله شهر » أي مدينة الله.
  3. ‏لاودكية في الأناضول من بلاد آسيا الصغرى ، تبعد نحو 40 ميلا إلى الشرق من أفسس و 12 ميلا من كولوسي الكائنة على نهر ليكوس. ويقال إن القديس بولس الرسول قد كتب رسالة إلى مدينة لاودكية هذه ، إذ جاء في رسالته إلى مدينة كولوسي ما نصه : « ومتى قرنت عندكم هذه الرسالة فاجعلوها تقرأ أيضا في كنيسة اللاودكيين والتي من لاودكية تقرأونها أنتم أيضا » (كو4: 16).
    ولاودكية هذه كانت عاصمة فريجيا الكبرى ، وكانت تسمى أولا ديوسپولیس ، فجدد أبنيتها وزينها أنطيخوس اسطراطونيخوس وأطلق عليها اسم امرأته لاودكية وهي كلمة يونانية معناها [حكم الشعوب) ، وقد خربتها الزلازل ، ولا تزال بها بعض آثار هياكلها ومراسمها ، واسمها الآن باللغة التركية «اسكي حصار »

  4.  يوجد خلاف هنا في هذه الفقرة من العدد 16 بين النسخة القبطية والنسخ الأخرى فالنسخة القبطية تقول : … وترجمتها هكذا : «لئلا أقطعك من طرفك » بفتح الطاء والراء ، أما بقية النسخ فقد اتفقت على هذا الوضع لهذه الفقرة : «فأنا مزمع أن أتقيأك من فمي» ، ففي النسخة المطبوعة باللاتيني والعربي في روما سنة 1671 [بأمر المجمع المقدس المتوكل على انتشار الإيمان المسيحي هكذا] : ,Nee calidus incipiam [فأبدى أقيك (أتقيأك) من فمي) ، وفي النسخة السبعينية المطبوعة بأثينا سنة 1894 …، وفي النسخة المطبوعة بالقبطى واللاتيني سنة 1617 في لندن بمعرفة الكنيسة الإنجليكانية … وفي النسخة المطبوعة في الموصل سنة 1876 نقلا عن النسخة السريانية : «فأنا مزمع أن أتقيأك من فمي» ، ومثل هذا القول في طبعة اليسوعيين والروم الأرثوذكس والبروتستانت هذا نرى أن الإجماع هو في قوله : «فأنا مزمع أن أتقيأك من فمي» ، ولا ندري العلة التي جعلت النسخة القبطية تنفرد بهذا القول : «لئلا أقطعك من طرفك » أن مع الترجمة الصعيدية توافـق إجماع النسخ السالفة وتختلف مع هذه ، فإنها تقول :  « مزمع أن أتقيأك من فمي».
     أوردنا هنا ما ورد في مختلف هذه النسخ ، لأننا لم نستطع تغيير الآية كما هي عليه في الإجماع ، لأن المفسر القبطى ، اعتمادا على النسخة القبطة والترجمة العربية التي أمامه ، ذهب يشرح معنى كلمة (طرف) كما هو واضح بعاليه الترجمات الأخرى التي ذهبت تفسر أتقيأك من فمي بأنه كما أن المعدة لا تحتمل ولا تهضم الشيء الفاتر حيث يحصل لها منه غثيان ، فإنها ترده من حيث أتى هكذا الله تعالى يرفض الفاترين في عبادتهم ولا يقبلهم العنوان العجيب ، ص 167 و 168 ، وكفاية اللبيب ، ص 35
    هذا ، ولنعد إلى النص القبطى وترجمته العربية التي اعتمد عليها مفسرنا كاتب تبصر ، فنقول : إن هذا العلامة كان ملما باللغة القبطية إلماما تاما ، بل إنه قد وضع فيها مقدمة تعتبر حجة . ولنكتب النص ثم ترجع كلماته إلى عناصرها الأولى ، عسانا نصل إلى حقيقة ما يقصد المترجم القديم :
    أقطعك من طرفك  أولا  بمعنى قطع ، وقد جاءت في 2بط2: 22 او بمعنى [تقيأ) ، فإذا أخذنا كلمة  نجدها مركبة من + ضمير المتكلم و للمستقبل و من  بمعنى تقيأ ، وإذا وضعنا حرف المخاطب  بعد   بدل  في ال فيكون المعنى الكامل سأتقيأك ، وهو المراد . بقيت الترجمة طرف قلت وقد جاءت في لو16: 24 بمعنى طرف الأصبع ، وفي مت21: 29 و 32 ؛ رو11: 29 ؛ 2کو7: 8 و10 ؛ عب7: 21 بمعنى ندم وترجمتها الحرفية [أكل قلبه) ، إذن فمعنى 20 طرف وقلب . وعلى ذلك تكون الترجمة هكذا «لئلا أتقيأك من قلبي» . ويلاحظ القاريء أن المفسر قد تكلم عن القلب وأنه وسط كل شيء ، وعلى ذلك تكون عبارة … تترجم هكذا «لئلا أقطعك من طرفك ولئلا أتقيأك من قلبي» . 

 

تفسير سفر الرؤيا – 2 سفر الرؤيا – 3 تفسير سفر الرؤيا تفسير العهد الجديد تفسير سفر الرؤيا – 4
ابن كاتب قيصر
تفاسير سفر الرؤيا – 3 تفاسير سفر الرؤيا تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى