تفسير رسالة رومية اصحاح 9 للقديس يوحنا ذهبي الفم

تفسير رسالة رومية – الإصحاح التاسع

العظة السابعة عشر:رو9: 1

” أقول الصدق في المسيح. لا أكذب وضميري شاهد لي بالروح القدس(رو1:9).

۱ ـ هل كان كلامي غير واضح، حين كلمتكم في اليوم السابق عن أمور عظيمة ليست أرضية بل سمائية تتعلق بمحبة الرسول بولس للمسيح؟ وإن كانت الكلمات التي ينطق بها القديس بولس هي ـ بحسب طبيعتها ـ أعظم وأسمى من كل الكلمات المعتادة، إلا أن ما قيل اليوم يفوق بكثير ما قيل سابقا ، ، بقدر ما تتميز به تلك الكلمات على كلماتنا. وإن كنت لم أتصور أن هذه الكلمات التي قرأت أكثر تميزا، ولكن عندما سمعناها اليوم، ظهرت أكثر بهاء من كل الكلمات السابقة. وهذا بالضبط ما اعترف به الرسول بولس نفسه، فقد أشار إليه منذ البداية. لأنه كان ينوي الحديث عن الأمور الأعظم، إذ أن ما يريد قوله، قد لا يكون موضع تصديق من كثيرين. أولاً فهو يؤكد على ما يريد قوله، الأمر الذي اعتاد أن يصنعه البعض، عندما يقولون شيئا لا يكون موضع تصديق من الكثيرين، لكنه كان مقتنعا به جدا ، خاصة وأنه يقول:

” إن لي حزنا عظيما ووجعا في قلبي لا ينقطع. فإني كنت أود لو أكون انا نفسي محروما من المسيح لأجل أخوتي أنسبائي حسب الجسد ” (رو2:9-3).

ماذا تقول يا بولس؟ هل المسيح الذي لم يفصلك عنه شيء، لا ملكوت السموات، ولا جهنم، ولا الأشياء المرئية، ولا غير المرئية، الآن تود أن تكون محروما منه؟ ماذا جرى؟ هل تغيرت وألغيت تلك المحبة؟ يجيبك بالنفي ، ويقول لا تخف، بل محبتي له قد أصبحت أكثر قوة. إذا كيف تود أن تكون محروما، وتطلب التغرب والإنفصال عن ذاك الذي ليس له مثيل ولا يمكننا أن ننفصل عنه؟

يجيبنا بقوله، لأنني أحبه كثيرا جدا. أخبرني كيف وبأي طريقة؟ بالحقيقة، هنا يوجد لغز. لكن من الأفضل، إن أردنا معرفة ذلك، علينا أن نعرف أولاً ماذا تعني كلمة محروم، وحينئذ لنسأله عن هذه الرغبة ، وسنعرف معنى هذه المحبة غير الموصوفة والعجيبة. ما هو معنى الحرمان؟ اسمع ما يقوله ” إن كان أحد لا يحب الرب يسوع المسيح فليكن أناثيما (محروما). أي لينفصل عن الجميع، وليكن غريبا عن الكل. تماما مثلما لا يجرؤ أحد أن يلمس بيديه النذير المخصص لله، ولا أن يقترب منه، هكذا ذاك الذي ينفصل عن الكنيسة، فهو يدعوه بهذا الاسم محروما لكي يفصله عن الجميع، ويبعده بعيدا جدا، وبالعكس، يحث الجميع بخوف شديد، على الإنفصال والابتعاد عنه. لأن النذير من جهة الإكرام لا يجرؤ أحد أن يلمسه، بينما العكس هو الذي يحدث هنا، إذ ينفصل الجميع عن ذاك الذي قطع من الكنيسة.

وبناء عليه، فالإنفصال هو واحد، ومتشابه، وهذا وذاك قد إنفصل عن الكثيرين، لكن طريقة الإنفصال ليست واحدة، بل هما مختلفان. فهو قد ابتعد عن واحد، لأنه مخصص لله، وإنفصل عن الآخر لأنه تغرب عن الله وقطع من الكنيسة. إذا ولكي يعلن بولس هذا ، قال: “كنت أود لو أكون أنا نفسي محروما من المسيح “. ولم يقل كنت أريد، بل مشددا على هذه الرغبة، يقول “كنت أود”. لكن إن كان ما قيل يسبب لك إزعاجا، إذ ربما تكون ضعيفا، ا، فيجب ألا تفكر في هذا الأمر فقط، أي أنه أراد أن ينفصل عن المسيح، بل فكر في السبب الذي من أجله أراد أن ينفصل، عندئذ ستفهم محبته الفائقة. فهو قد مارس الختان، وكان علينا أن ننتبه إلى الرغبة والسبب في هذه الممارسة، حينئذ سنعجب به أكثر. أيضا لم يمارس الختان فقط، بل حلق رأسه، وقدم ذبيحة، ومع هذا لم نقل أنه يهودي، بل من أجل هذا تحديدا وعلى وجه الخصوص نقول إنه تحرر من اليهودية، وأنه خادم نقي وحقيقي للمسيح.

هكذا مثلما تراه وهو يختتن ويذبح، فلا تحكم عليه لهذا السبب أنه متهود ، بل لأجل هذا السبب على وجه الخصوص تكرمه وتكلله، كما لو كان غريبا عن التهود. هكذا عندما تراه وهو يود أن يكون محروما، لا تنزعج من أجل هذا، بل من أجل هذا تحديدا وبصفة خاصة، يجب أن تعترف به منتصرا، طالما أنك عرفت السبب، الذي من أجله أراد هذا الأمر. لأنه إن لم نفحص الأسباب، ستقول عن إيليا أنه كان قاتلاً للناس، وعن ابرام أنه ليس فقط قاتلا للناس، بل قاتلاً لابنه، بل وفينحاس وبطرس، سنتهمهما بالقتل أيضا. وليس فقط من جهة القديسين، بل من جهة إله الكل، فإن الذي لا يحفظ هذا المنهج”، سيتشكك فيه، بسبب أمور كثيرة هي ليست موضع حديثنا الآن. إذا لكي لا يحدث هذا في كل الأمور المشابهة انظر إلى السبب، والرغبة، والزمن، وكل ما يبرر الأمور التي تحدث لنفحص الأمور على هذا النحو. هذا ما ينبغي أن نصنعه نحن الآن تجاه هذه النفس الطوباوية.

٢ ـ إذا ما هو السبب؟ لنرجع إلى يسوع، موضع حب الرسول بولس. “كنت أود”، يقول: ” لو أكون أنا نفسي محروما من المسيح لأجل اخوتي أنسبائي حسب الجسد”. وهذا دليل على تواضعه، لأنه لا يريد أن يبدو، وكأنه قادر على التحدث عن عظائم، بل هو يعترف بهذه القدرة للمسيح. ولهذا قال “اخوتي أنسبائي”، لكي لا يظهر تميزه. بل من أجل محبته للمسيح لم يرد أي شيء، اسمع، فإنه بعدما قال “اخوتي أنسبائي” أضاف:

” الذين هم إسرائيليون لهم التبني والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد. ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلها مباركا إلى الأبد آمين” (رو9: 4-5).

وما معنى هذا؟ لأنه لو أراد أن يصير محروما، لكي يؤمن آخرون، كان يجب أن يطلب هذا الإيمان للأمم أيضا، ولكن إن كان يريد ذلك لليهود فقط، فهو بهذا يظهر أنه ليس المسيح هو السبب في ذلك، بل إن السبب يعود في المقام الأول لقرابته لليهود. أما إذا كان يود أن يكون محروما من المسيح من أجل الأمم، ما كان ليظهر هذا الأمر نفسه”. ولكن نظرا لأنه تمنى ذلك لليهود فقط، فهو يبرهن بوضوح كيف أنه يهتم بإظهار مجد المسيح.

 وأنا أعرف أن هذا الكلام يبدو لكم غريبا، لكن لكي لا تنزعجوا سأحاول سريعا أن أجعله أكثر وضوحا. لأنه لم يقل ما قاله ـ هكذا مصادفة ـ لكن لأن الجميع تكلموا واشتكوا على الله، أنه على الرغم من أنهم كرموا بأن دعوا أبناء الله، وأخذوا الناموس، وعرفوا الله قبل جميع البشر، وقبلوا المواعيد، وكانوا آباء لأسباطهم، والأهم من كل هذا، على الرغم من أنهم كانوا أسلافا للمسيح ـ لأن هذا هو معنى “ومنهم المسيح حسب الجسد” ـ إلا أنهم اضطهدوا المؤمنين وأهانوهم، وحل محلهم أناس لم يعرفوا الله أبدا، أى أولئك الذين أتوا من الأمم. لقد جدفوا على الله، وعندما سمع بولس هذا، حزن وتألم بسبب أن مجد الله لم يستعلن، لذلك تمنى أن يكون محروما، وإن كان ممكنا، أن يخلص هؤلاء المقاومين، بأن يوقف تجديفهم، لكي لا يظهر أن الله خدع أجيالاً كثيرة، قد وعدها بالهبات أو العطايا.

ولكي تعرف أنه كان يود أن يكون محروما من المسيح لأجل إخوته ، لأنه عاني من أجل أن يبرهن لهم أن وعد الله الذي أعطى لابرام: “لك ولنسلك أعطي هذه الأرض “٢٤”، لم يكن وعدا كاذبا، أضاف: 

” ولكن ليس هكذا حتى إن كلمة الله قد سقطت ” (رو6:9).

يبين هنا أنه ظل صابرا على كل هذا، من أجل كلمة الله، أي من أجل الوعد الذي أعطى لابرام من أجل اعلان مجد الله. تماما كما أن موسى ظهر أنه تشفع لأجل اليهود، ولكنه كان قد فعل كل شيء لأجل إعلان مجد الله. كما يقول الكتاب: “لئلا تقول الأرض التي أخرجتنا منها لأجل أن الرب لم يقدر أن يدخلهم الأرض التي كلمهم عنها .. أخرجهم لكي يميتهم في البرية. هكذا الرسول بولس أيضا، لكي لا يقولوا : لقد ثبت أن وعد الله كاذب، وأنه تكلم بالكذب عن تلك الأمور التي وعد بها، وأن كلام الله لم يتحقق، لذلك أراد أن يكون محروما. ولهذا تحديدا، لم يقل من من أجل الأمم، طالما أن الله لم يعد الأمم بأي شيء، ولا قدموا له الخدمة ، ولهذا لم يجدفوا عليه، ومن أجل هذا هو تمنى أن يكون محروما من أجل اليهود الذين أخذوا الوعد ، وأيضا الذين كان لهم علاقة معه قبل الآخرين.

إذن لو أنه تمنى هذا لأجل الأمم، ما كان ليظهر بهذا الوضوح، أنه صنع هذا لأجل إعلان مجد المسيح، لكن لأنه أراد أن يكون محروما لأجل اليهود، يتضح عندئذ وبصفة خاصة أنه تمنى هذا فقط لأجل المسيح. ولهذا . قال: “ولهم التبني والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد”. لأن الناموس الذي تحدث عن المسيح قد أعلن بواسطة اليهود، كما أن كل العهود تمت مع هذا الشعب، والمسيح نفسه أتى منهم، إضافة إلى أن الآباء الذين نالوا المواعيد هم من اليهود. ولكن حدث العكس وفقدوا كل النعم، وهكذا فإني أود أن أقطع، وإن كان ممكنا أن أنفصل عن جماعة المسيح وأتغرب. لكن دون أن أتغرب عن محبة المسيح، فحاشا لي أن أفعل هذا طالما أن ما أفعله، هو بسبب المحبة، بل أنني سأقبل أن أتغرب عن هذا التمتع، وهذا المجد، حتى لا يجدف على إلهي، وحتى لا يقول البعض إن الأمور انتهت كما تنتهي مشاهد مسرحية عادية. والحقيقة أنه وعد الجميع وأعطى الجميع، آتي من آخرين، وأعطي لآخرين. وعد أجيال اليهود، وهجر أحفادهم، وقاد أولئك الذين لم يعرفوه قط، إلى الصلاح والنعم.

هؤلاء اليهود، تعبوا في دراسة الناموس، وقرأوا النبوات، بينما الأمم، الذين عادوا بالأمس من عبادة الأوثان، صاروا أفضل منهم.

وحتى لا يقولوا هذه الأمور عن إلهي – هكذا يقول الرسول بولس ـ على الرغم من أنهم يتكلمون بالظلم، فإنني مستعد بكل ارتياح أن أفقد الملكوت، بالإضافة إلى هذا المجد الذي لا يعبر عنه، وأن أتحمل كل الأمور المؤلمة، لأنني أعتبر أن التعزية التي هي أعظم من كل شيء، تكمن في ألا أسمع بعد أي كلام تجديف على ذاك الذي أحبه للغاية (أي يسوع المسيح). ولكن إذا كنت لم تقتنع بكلامي، فكر في أن كثيرين من الآباء، قبلوا هذا (أي هذه المحبة)، من أجل أبنائهم، وفضلوا أن ينفصلوا عن هذه الأمور، وبالأكثر وهم يرونهم يتقدمون، لأنهم اعتقدوا أن تقدمهم يسبب سعادة أكثر، من مرافقتهم . لكن نظرا لأننا بعيدين جدا عن هذه المحبة، فإننا لا نستطيع أن نفهم ولا حتى هذا الذي قيل . فإن البعض لا يستحقون أن يسمعوا ولا حتى اسم بولس، وهم بعيدون جدا عن غيرته الشديدة، حتى أنهم يعتقدون أنه يقصد بكلامه، الموت الزمني، فهؤلاء أستطيع أن أقول عنهم، إنهم يجهلون رسالة بولس بشدة، تماما بقدر ما يجهل العميان أشعة الشمس، أو من الأفضل أن نقول، بل وأكثر من هذا.

لأن الرسول بولس، الذي كان يمات كل النهار، والذي تعرض لأخطار كثيرة، وقال: ” من سيفصلنا عن محبة المسيح. أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع، ولم يكتف بهذا، لكنه عبر فوق السماء، وسماء السموات، وفاق ملائكة، ورؤساء ملائكة، وكل السموات، وأدرك وفهم الأمور المستقبلية والأمور الحاضرة، الأمور المنظورة وغير المنظورة، المحزنة والمفرحة، وكل الأمور التي تنتمي إلى الاثنين ـ الأرضي والسمائي ـ ولم يترك أى شيء، وعلى الرغم من كل هذا، لم يشعر بالشبع، حتى أنه افترض وجود كون آخر كبير، كيف يمكن بعد كل هذا أن يشير إلى الموت الزمني، كأنه تحدث عن شيء خطير؟ إن الأمر ليس هكذا في الحقيقة، بل أن هذا الموت يحدث حتى للحشرات التي تعيش في الطين. إذا لو أنه كان يقصد هذا، كيف تمنى أن يكون هو نفسه محروما من المسيح؟ فإن مثل هذا الموت (الجسدي) هو الذي سوف يضمه بالحري إلى من يحيون في المسيح، ويجعله يتمتع بهذا المجد.

لكن بالتأكيد هناك البعض ممن يتجرأوا على الحديث عن أمور أخرى أكثر سخرية من هذه، فيقولون إنه لا يقصد بحرمانه من المسيح، أن يموت، بل هل يشتاق أن يعيش حياة عظيمة، وتكون مكرسة للمسيح، أما الذين يتمنون الموت الجسدي فهم البائسين الذين لا قيمة لهم بالمرة. لكن كيف يرغب في أن يكون محروما من أجل اخوته وأنسبائه؟ إذا بعدما نترك كلام الخرافات، والهذيان، لأنه لا يستحق أن نقند هذا الكلام ونواجهه، تماما كما أنه لا يستحق أن نواجه حديث الأطفال الذين يتلعثمون، لنعد مرة أخرى إلى هذه العبارة (أي أن يكون محروما)، متمتعين ببحر محبته، وفي كل مكان تكرمه وثوقره من أجل محبته، وندرك لهيب المحبة الذي لا يعبر عنه. أو من الأفضل أن نقول إنه مهما قال المرء عن هذه المحبة، فإنه لا يقول شيئا ذا قيمة. لأن هذه المحبة هي أكثر إتساعا من كل بحر، وأكثر توهجا من كل لهب، ولا يوجد كلام يمكن أن يوفها حقها كما ينبغي، أما نفسه، الذي اكتسبها بصورة كاملة وتامة ، فهو وحده الذي يعرفها.

3ـ إذن لنتقدم، ونأتي إلى كلامه مرة أخرى، هذا الكلام: “فإني كنت أود لو أكون أنا نفسي محروما “. ماذا تعني عبارة “أنا نفسي”؟ تعني الذي ، صار معلما للجميع، وحقق إنجازات لا حصر لها، وينتظر أكاليلاً لا تعد، ومن أحب المسيح، حتى أنه فضل محبته عن كل شيء، ومن كان يحترق كل يوم من أجله، والذي كان يعتبر أن كل شيء يأتي في المرتبة الثانية بعد محبته للمسيح. لأنه لم ينعم بمحبة المسيح له فقط، ولكن أراد هو نفسه أن تكون محبته للمسيح أسمى وأعلى من كل شيء . وخاصة أن هذه المحبة كانت هدفه. ولهذا تحديدا كان يتطلع نحو المسيح فقط، وقبل أن يعاني كل الآلام، بكل رضا وسهولة، لأنه كان يهدف لشيء واحد فقط، أن يسر بهذا الحب الممتع . وبالتأكيد هو يتمنى هذا، لكن لأنه لا يريد أن يحدث هذا الأمر، أي أنه لا يريد أن يكون محروما، يحاول فيما بعد أن يصد الإتهامات، ويشير في حديثه إلى كلمات الهذيان التي يتكلم بها البعض، لكي ينقضها، وقبل أن يعرض دفاعه الواضح ضد هؤلاء، كان قد وضع أساس هذا الدفاع . لأنه حين يقول: ” الذين .. لهم التبني والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد ” فهو لا يقول شيئا آخرا، سوى أن الله أراد الخلاص لهؤلاء، وأوضح هذا من خلال كل ما صنعه قبلاً، وبأن المسيح قد جاء منهم، وبكل ما وعد به آباءهم. إلا أنهم ردوا الإحسان، بالجحود.

ولذلك فإنه يذكر فقط ما يعتبر دليلاً على عطية الله، ولا يمتدح هؤلاء، لأن التبني هو نتيجة لنعمته، وهكذا المجد والعهود والاشتراع . وبعدما أدرك كل هذا تماما، وبعدما فكر كيف أن الآب والابن قد اهتما بخلاص هؤلاء، صرخ بقوة قائلاً: ” إلها مباركا إلى الأبد أمين “، رافعا هو نفسه الشكر ـ من أجل كل شيء ـ إلى ابن الله الوحيد الجنس. وكأن الرسول بولس يقول، حتى لو أن الآخرين كانوا يجدفون، لكن نحن الذين نعرف أسراره، والحكمة التي لا يعبر عنها ، والعناية الكبيرة، ندرك جيدا، أنه لا يليق به التجديف، بل يستحق كل المجد. ويحاول الرسول بولس بعد ذلك بدون أن يكتفي بما في ضميره، أن يشير إلى أفكار هؤلاء، ويستخدم كلمات شديدة القسوة ضدهم، لكي يبطل وجهة نظرهم، وحتى لا يظهر وكأنه يتكلم معهم، كما لو كانوا أعداء، يقول فيما بعد “أيها الاخوة إن مسرة قلبي وطلبتي إلى الله لأجل إسرائيل هي للخلاص “. ولكنه هنا بالإضافة إلى الأمور الأخرى التي قالها ، لا يظهر كأنه يتكلم عن تلك الأمور التي يتحدث عنها ضدهم إنطلاقا من عداوة . ولهذا تحديدا لم يتوقف عن أن يدعوهم أقارب واخوة.

لأنه على الرغم من أنه استعرض كل ما قاله عن المسيح، إلا أنه جذب تفكيرهم، وبعدما أعد الطريق وحرر نفسه من كل حيرة، من جهة تلك الأمور التي كان ينوي أن يواجههم بها، عندئذ بدأ الكلام الذي طلبه الكثيرون، تماما كما أشرت سابقا، إن أولئك الذين أعطى لهم الوعد قد فقدوا الحرية، بينما أولئك الذين لم يسمعوا عن الوعد مطلقا، نالوا الخلاص قبل هؤلاء اليهود. ولكي يزيل هذا الشك أو هذه الحيرة، أوجد حلاً قبل أن يذكر التناقض، لكي لا يقول أحد : ماذا إذا ، هل أنت تهتم بالأكثر بمجد الله، أم أن الله يهتم بمجده؟ وهل الله يحتاج لمساعدتك، حتى لا تسقط كلمة الله؟ يصد هذا الكلام فيقول، إنني قلت: “ليس هكذا حتى أن كلمة الله سقطت “، لكي أبين محبتي للمسيح. لأنه بالتأكيد لو أن الأمور حدثت هكذا ـ كما يؤكد الرسول بولس ـ ما وجدنا في حالة ضعف، بحيث نضطر أن تدافع عن الله، ولكي تثبت أن الوعد ظل ثابتًا. لقد قال الله لابراهيم “لك ولنسلك أعطي هذه الأرض” وأيضا “تتبارك فيك (في نسلك) جميع قبائل الأرض”. لنر إذا، كما يقول الرسول بولس، من هم نسله، لأن ليس كل الذين ينحدرون منه، هم نسله، ولهذا قال:

” لأن ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون. ولا لأنهم من نسل إبراهيم هم جميعا أولاد ” (رو7:9).

 إذن لو أنك عرفت من هم نسل إبراهيم، سترى أن الوعد أعطي لأحفاده، وستعلم أن الكلام لم يكن كذبا. أخبرني إذا، من هم نسله؟ لا أتكلم أنا ، هكذا يقول الرسول بولس، بل أن العهد القديم نفسه يفسر نفسه، قائلاً الآتي: “لأنه باسحق يدعى لك نسل “. وشرح ما معنى “باسحق”.

” أي ليس أولاد الجسد هم أولاد الله بل أولاد الموعد يحسبون نسلاً” (رو8:9).

لاحظ حكمة الرسول بولس وافتخاره، لأنه لم يقل، وهو يفسر هذا الجزء، أن أولاد الجسد ليسوا أولاد إبراهيم، لكن ليس هم “أولاد الله”، وهكذا يربط أمور الماضي بالحاضر، ويظهر أنه لم يكن اسحق فقط، هو ابنا لإبراهيم. فما يقوله يعني الآتي: إن كل من ولدوا على مثال اسحق، هؤلاء هم أولاد الله، ونسل إبراهيم. ولهذا قال ” باسحق يدعى لك نسل “، لكي تعرف، أن كل من يولد بالطريقة التي ولد بها اسحق، يكون على أية حال نسل ابراهيم.

إذا كيف ولد اسحق؟ ليس وفقا لناموس الطبيعة، ولا بحسب قوة الجسد، ولكن بحسب قوة الوعد. ما معنى “بحسب قوة الوعد”؟

” لأن كلمة الموعد هي هذه أنا آتي نحو هذا الوقت ويكون لسارة ابن ” (رو9:9).

هذا هو الوعد، وكلمة الله قد تحققت وولد اسحق. ما معنى هذا؟ طالما أن كان هناك رحم وبطن للأم يعني أنه ليس بقوة البطن، لكن بقوة الوعد قد ولد اسحق. هكذا نحن أيضا تولد بكلام الله، لأن كلام الله هو الذي ينجبنا ويلدنا في جرن المعمودية بالماء، عندما تعمد باسم الآب والابن والروح القدس. لكن هذا الميلاد لا ينتمي للطبيعة الجسدية، بل لوعد الله . تماما كما سبق وأخبر بميلاد اسحق، فقد تممه في وقته، هكذا فإن ميلادنا سبق وأعلنه منذ عهود قديمة بواسطة كل الأنبياء، ثم بعد ذلك حققه الله . أرأيت مدى عظمة العمل الذي أظهره، وكيف أنه بعدما وعد بهذا الأمر العظيم، حققه بكل سهولة؟ أما عندما قال اليهود إن” باسحق يحسب النسل” فهذا يعني أن كل من يولد من اسحق هو من نسله، وكان ينبغي أن يدعى كل اليهود أولاده، لأن جدهم آساف كان ابنا لاسحق. أما الآن، ليس فقط لم يدعوا أولادا، بل وتغربوا جدا عن إبراهيم . أرأيت كيف إن أولاد الجسد ، ليسوا أولاد الله، بل إن الميلاد الثاني بالمعمودية يستعلن بقوة الله في هذه الطبيعة الجسدية؟ وإن كنت قد حدثتني عن الرحم، فأنا أستطيع أيضا أن أتحدث عن ماء المعمودية. لكن كما أن كل شيء هنا يتعلق بالروح القدس، هكذا هناك أيضا كل شيء يتعلق بالوعد ، لأن الرحم (أي رحم سارة) من حيث العقم والشيخوخة، كان أكثر برودة من الماء. إذا لنعرف بكل تدقيق أصلنا النبيل، ولنُظهر سلوكا يليق بهذا الأصل . لأن هذا الأصل ليس فيه أي شيء جسدي ولا أرضي، ودعونا نحن أيضا ألا نتعلق بأى شيء جسدي أو أرضي . لأنه لا النوم، ولا رغبة الجسد، ولا الأحضان، ولا الشهوة، يمكن أن تصنع شيئا، بل محبة الله للبشر هي التي تصنع كل شيء. وكما حدث في السابق وتقدم العمر جدا، هكذا الآن بعدما أتت شيخوخة الخطايا ، ظهر اسحق الجديد ، وجميعنا صرنا أولاد الله، ومن نسل إبراهيم. 

4 . ” وليس ذلك فقط بل رفقة أيضا وهي حبلى من واحد وهو اسحق أبونا ” (رو10:9).

إنه موضوع عظيم الشأن. ولهذا يطرح أفكارا كثيرة، ويحاول أن يزيل الشكوك من كل النواحي . إذا لو أن سقوط هؤلاء اليهود يعد أمرا غريبا ويسمع لأول مرة، بعد كل هذه الوعود الكثيرة، فبالأكثر يعد أمرا غريبا أن نتكلم عن تلك الخيرات، نحن الذين لم نتوقع شيئا مثل هذا. إن ذلك يشبه ابنا لملك، نال وعودا، بأنه سيخلفه في السلطة، ثم حرم من حقوقه السياسية، وحل محله شخص محكوم عليه بالسجن، ومحمل بشرور كثيرة، وبعدما خرج من السجن أخذ السلطة التي من حق ابن الملك. فماذا تقول إذا؟ أتقول إن الابن كان غير مستحق؟ ولكن الآخر أيضا كان غير مستحق، بل وبالحري كان غير مستحق البتة، وكان ينبغي إما أن معا، وإما أن يكرما معا . وهذا ما حدث فيما يتعلق بالأمم واليهود، بل وأكثر من هذا، فإن الجميع هم غير مستحقين، وهذا ما أظهره في الاصحاحات السابقة بقوله: ” إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله “، لكن ما يسمع لأول مرة، هو أن الأمم فقط قد خلصوا ، على الرغم من أن الجميع كانوا غير مستحقين.

لكن مع هذا، من الممكن أن تنتاب المرء حيرة، فإن لم يكن لدى الله النية أن يتمم وعوده، فلأي سبب وعد؟ لأن الناس الذين لا يعرفون المستقبل، كثيرا ما يضلون، وغير المستحقين ينالون وعداً بأن يأخذوا عطايا ، بينما ذاك الذي يعرف مسبقا، أمور الحاضر والمستقبل، يعرف أنهم سيجعلون أنفسهم غير مستحقين للوعود، ولهذا لن ينالوا شيئا من تلك الوعود، فلأي سبب وعد؟ كيف وجد الرسول بولس حلا لهذه الأمور؟ الحل في أن يظهر من هو إسرائيل الذي حصل فيه الوعد . لأنه بعدما برهن على أن هناك وعد،  أثبت هذا أيضا “لأن ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون “. ولهذا لم يشر إلى اسم يعقوب، بل ذكر اسم إسرائيل، الأمر الذي يعد دليلاً على فضيلة البر، والعطية التي أخذها من الله، وعلامة على أنه رأى الله . حسنا إن كان الجميع قد أخطأوا، فكيف أن البعض خلص والبعض الآخر هلك؟ لأن ليس الجميع أرادوا أن يتبعوا الله، أما بالنسبة لله، فمن المؤكد أن الجميع دعيوا للخلاص.

وهو لم يشر إلى هذا أولاً، إلا أنه يجد حل لهذه المسألة بطريقة تثير الإعجاب، من خلال أمثلة أخرى، متطرقا إلى موضوع مختلف في معرض حديثه، مثلما فعل من قبل عندما حل معضلة معقدة بمشكلة أخرى. إن الأمر هنا يتعلق بموضوع بر المسيح، وبهذا يكون الجميع قد تمتعوا بالبر. وقد عرض الرسول بولس الأمر فيما يتعلق بآدم قائلاً: “لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد. فبالأولى كثيرا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البرسيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح. ولم يتوصل إلى حل خاص فيما يتعلق بآدم، بل قدم الحل من خلال فيض النعمة وعطية البر، وأظهر كيف أن لديهم أكثر من سبب يجعل ذاك الذي مات، لأجل خلاصهم، يسود عليهم. لأنه أن يدان الجميع لأن واحد قد أخطأ، فهذا لم يكن منطقيا في نظر الكثيرين، أما أن يتبرر الجميع، لأن واحد قد حقق البر، فهذا ما يعد أمرا منطقيا ولائقا أمام الله. لكنه لم يحل تلك الحقيقة المحيرة (أي طالما أن الجميع قد أخطأوا، فكيف أن البعض قد خلص والبعض هلك). لأنه بقدر عدم وضوح ذلك، بقدر ما استد فم اليهودي، وابتدأ يتحير فيما يختص بالأممي، وهذا يفسر الحيرة التي ظهرت منذ البداية.

هكذا هنا أيضا، فالرسول بولس يجد حلاً مناسبا لأولئك الذين هم في شك كامل بالنسبة لموضوعات أخرى، لأن جهاده كان ضد اليهود. ولهذا فإن الأمثلة التي أوردها لا يشرحها بشكل تام، لأنه لم يكن مسئولاً عن هذه الموضوعات، كما في الصراع ضد اليهود، أما فيما يخصه هو شخصيا ، فإنه يكون فيها أكثر وضوحا مقارنة بالموضوعات الأخرى. ولماذا تندهش أن البعض من اليهود خلص، والبعض لم يخلص الآن؟ فمن الممكن للمرء أن يرى أن هذا يحدث منذ البداية لدى الآباء .. إذا لماذا دعى اسحق فقط نسل إبراهيم، على الرغم من أن إبراهيم قد ولد إسماعيل أيضا”””، وهكذا صار إبراهيم أبا أيضا لكثيرين جدا؟ ولكن إسماعيل كانت أمه عبدة. وما علاقة هذا بالأب؟ أيستثنى هذا بسبب الأم! لكن ماذا سنقول عن نسل قطورة؟ ألم يكن نسلاً حرا وينتمي لأم حرة؟ لماذا لم يكرم بنفس الكرامة مع اسحق؟ ولماذا أتكلم عن هذا النسل؟ لقد ولدت رفقة الزوجة الوحيدة لاسحق، إبنين، لكن على الرغم من أنهما كانا من نفس الأب والأم، وأنهما قد أتيا بنفس الآلام التي تصاحب الولادة، وبالإضافة إلى كل هذا فقد كانا توأم، إلا أنهما لم يتمتعا بنفس القدر من المحبة. وأنت هنا لا تستطيع أن تقول عن الأم إنها عبدة، كما في حالة إسماعيل، ولا أن الواحد قد ولد من هذه البطن، والآخر من بطن أخرى، تماما كما حدث مع قطورة وسارة، لكنهما خرجا من نفس البطن.

إذن ولأن الرسول بولس انتهى إلى مثال واضح، من حيث إن هذا لم يحدث لاسحق فقط:

” لأنه وهما لم يولدا بعد ولا فعلا خيرا أو شرا لكي يثبت قصد الله حسب الاختيار ليس من الأعمال بل من الذي يدعو. قيل لها أن الكبير يستعبد للصغير كما هو مكتوب أحببت يعقوب وأبغضت عيسو ” (رو11:9-13).

لأي سبب صار الواحد موضع محبة، بينما الآخر موضع بغضة؟ لماذا الواحد خدم، بينما الآخر خدم؟ السبب هو أن الواحد كان تقيا ، بينما الآخر كان شريرا. بل وحتى قبل ولادتهما، فإن الواحد قد كرم، والآخر أدين، بل وهما لم يولدا بعد قال الله: “إن الكبير يستعبد للصغير”. ولماذا قال الله هذا الكلام؟ لأن الله ليس مثل الإنسان الذي ينتظر حتى نهاية الأعمال، ليرى الصالح أو الشرير، بل هو يعرف من قبل هذه الأعمال، من هو الشرير ومن هو الصالح، وهذا ما حدث أيضا في حالة الإسرائيليين، بطريقة مثيرة للإعجاب، ففي حالة عيسو ويعقوب، ألم يكن الأول شريرا والآخر كان تقيا؟ أما في حالة الإسرائيليين فقد كانت الخطية عامة، إذ أن الجميع عبدوا العجل الذهبي.

لكن البعض رحم، والبعض لم يرحم. لأنه يقول لموسى: ” إني أرحم من أرحم وأتراءف على من أتراءف“.

من الممكن أن يرى المرء هذا الأمر، في أولئك الذين أدينوا. إذا ماذا تقول عن فرعون الذي عوقب وتعذب جدا؟ هل لأنه كان قاسيا وغير مطيع؟ ثرى، هل كان هذا وحده الذي عوقب؟ كيف عوقب بكل هذه القسوة؟ أما بالنسبة لليهود، لماذا دعا الذي ليس شعبه شعبه، وأيضا لم يجعل الجميع مستحقين لنفس الكرامة؟ لأنه يقول: ” إن كان شعبك يا إسرائيل كرمل البحر ترجع بقية منه (أي تخلص بقية منه) “. ولماذا بقية فقط (هي التي تخلص)؟ أرأيت مقدار الصعوبة التي أحاطت بهذه الموضوعات؟ وقد فعل الرسول بولس هذا بشكل مبرر جدا. لأنه عندما تريد أن تضع الخصم في حيرة، ينبغي ألا تعطي الحل مباشرة. بالإضافة إلى أنه لو اتضح أنك أنت نفسك مسئول عن نفس الحل، فلماذا تعرض نفسك لمزيد من المخاطر؟ لماذا تجعل اليهودي، أكثر وقاحة، وتجعل كل الأشياء تصير ضدك؟ حسنا فلتخبرني أيها اليهودي، بينما لديك كل هذه الحيرة أو الشكوك، ولا تستطيع أن تجد حلاً لواحدة منها، فلماذا تسبب كل هذا الإنزعاج من جهة دعوة الأمم؟ لكنني أستطيع أن أقدم سببا عادلاً، والذي لأجله تبرر الأمم، بينما أنتم فقدتم البر. لأن هؤلاء الأمم تبرروا بسبب إيمانهم، أما أنتم فلانكم اتكلتم على أعمال الناموس فقد خسرتم البر، وبعدما تنازعتم هكذا ، تكثثم العهد من كل ناحية. لأن الكتاب يقول: “لأنهم إذ كانوا يجهلون بر الله ويطلبون أن يثبتوا بر أنفسهم لم يخضعوا لبرالله

5 ـ إذن الحل لكل هذا، أقول بإيجاز أن الحل يعطي من خلال تلك النفس الطوباوية (أي نفس بولس). ولكي تصير هذه الأمور أكثر وضوحا، لنفحص كل جانب مما قيل على حدى، عالمين هذا أن بولس الطوباوي قد ركز كل اهتمامه ليبين من خلال كل ما قيل، أن الله وحده يعرف المستحقين، أما البشر، فلا يوجد بينهم من يملك هذه المعرفة، حتى إن اعتقد أن لديه قدر كبير منها، فالإنسان في أمور كثيرة يجانبه الصواب في أحكامه. إذا فذاك الذي يعرف جيدا خفايا الفكر، هو الذي يعرف تماما من هم المستحقين لنوال الأكاليل، ومن هم الذين يستحقون الجحيم. ولذلك فمن المؤكد أنه قد أدان كثيرين من البشر، ممن يعتقدون أنهم صالحون، بعدما فحصهم بدقة، ومنح الأكاليل لمن أعتبروا أشرارا، بعدما أظهر أنهم صالحين، وأصدر حكمة من خلال رؤيته الصحيحة والنزيهة، ودون أن ينتظر أن يعرف عن طريق أعمالهم من هو الصالح، ومن هو الشرير.

ولكي لا يكون الكلام ملتبسا، لنأت إلى كلمات الرسول بولس نفسه ” وليس ذلك فقط بل رفقة أيضا وهي حبلى من واحد .. “. وكأنه يشرح قائلاً: كنت أستطيع أن أشير إلى نسل قطورة، لكنني لم أفعل ذلك، بل ولكي أؤكد على ما أقوله، أذكر لكم أولئك الذين ولدوا من أب واحد ، وأم واحدة. لأن الاثنين أيضا (أي عيسو ويعقوب)، ولدا من رفقة واسحق، الابن الحقيقي والشرعي الذي صارت له مكانة أفضل من الجميع، والذي قال عنه ” باسحق يدعى لك نسل “، والذي صار أبا لجميعنا . لكن مع أن ذاك كان أبا لنا، ونسله كان ينبغي أن يصيروا آباء لنا، إلا أنهم ليسوا كذلك . أرأيت أن هذا لم يحدث بالنسبة لإبراهيم فقط، بل حدث بالنسبة لابنه أيضا، وأن الإيمان والفضيلة هما اللذان يضيئان في كل مكان، ويعلنان عن ماهية القرابة الحقيقية؟ لأنه من هنا تعرف (أي من خلال الإيمان والفضيلة)، وليس فقط صلة القرابة، فعندما يكون الأبناء مستحقين لفضيلة الأب، عندئذ يدعون أبنائه. لأنه لو كان الأمر متعلقا بصلة القرابة فقط، لكان ينبغي أن يتمتع عيسو بتلك الامتيازات التي تمتع بها يعقوب، لأن ذاك أيضا كان من رحم ميت، وأمه كانت عاقرا. إلا أن (صلة القرابة) لم تكن هي المطلب الوحيد، بل الأمر هنا مرتبط بفضيلة النفس، وهو لم يشير لهذا مصادفة، بل كان ذلك لأجل تعليمنا وتهذيب سلوكنا، ولم يقل لأن الواحد كان تقيا، والآخر كان شريرا، ولهذا فضل الواحد من أجل تقواه، فماذا إذا؟ هل أولئك الذين يأتون من الأمم هم أكثر تقوى، أم الذين يأتون من اليهود؟ وإن كانت حقيقة الأمر هي هكذا بالفعل، إلا أنه لم يشر إليها بعد، لأن ذلك كان يبدو أمرا مزعجا بدرجة أكبر. لكنه نسب كل شيء إلى سابق علم الله، الذي لا يمكن لأحد أن يتجرأ على معارضته، حتى وإن كان هذا الإنسان يتسم بالجنون الشديد. ثم يقول ” وهما لم يولدا بعد ، ” قيل لها إن الكبير يستعبد للصغير“.

ويتضح من هذا أنه حتى الأصل النبيل حسب الجسد، لا يفيد شيئا ، لكن ينبغي أن نسعى نحو فضيلة النفس التي يعرفها الله، حتى قبل الأعمال. “لأنه وهما لم يولدا بعد ولا فعلا خيرا ولا شرا لكي يثبت قصد الله حسب الاختيار ليس من الأعمال بل من الذي يدعو. قيل لها إن الكبير يستعبد للصغير “. لأن هذا كان دليلاً على أن الله بسابق علمه، اختار من بين هذين اللذين هما نتاج نفس آلام الولادة، ولكي يظهر اختيار الله الذي تم بحسب سابق معرفته، فإنه في يوم ولادتهما، أعلن من هو الصالح ومن هو الشرير . هكذا يقول الرسول بولس، لا تقل لي إذا إنك تقرأ الناموس والأنبياء، وإنك خدمت سنوات عديدة، لأن الله الذي يعرف أن يختبر النفس، هو وحده الذي يعرف من هو المؤهل للخلاص. إذا لتتقدم نحو صاحب الاختيار غير المدرك، لأنه هو وحده الذي يعرف بالتدقيق من الذي سيكلله.

إذن ربما يكون هناك كثيرون ممن اعتقدوا أنهم أفضل من القديس متى البشير بحسب الأعمال؟ بيد أن الله الذي يعرف الأسرار، والذي يفحص قدرة العقل، ويدرك قيمة اللؤلؤة الموجودة في الطين. فبعد أن ترك متى أولئك العشارين الآخرين، واهتم بإظهار جمال اللؤلؤة، اختاره الله، الذي بحسب إرادته الصالحة أغدق على ذلك الرسول من نعمته، فقد برهن متى على أنه اجتاز اختبار الله له بنجاح . فإن كان في الفنون الإنسانية، وفي كل الأمور الأخرى، عندما يتخذ الأشخاص المتميزون قرارا أو يبدون رأيا، فإن اختيارهم يتم بناء على وجهة نظرهم التي يقتنعون بها، وليس بحسب الطريقة التي بها يختار البسطاء، فالكثيرون لا يروق لهم ما يختاره البسطاء ويقبلون ما يرفضونه، وهذا كثيرا ما يفعله أيضا مدربوا الخيول، والمتخصصون في اختبار الأحجار الكريمة، وغيرهم من ممارسي الفنون الأخرى، فبالأحرى جدا الله محب البشر، والذي هو الحكمة التي لا تحد، وهو وحده الذي يعرف جيدا كل الأمور، لن يقبل رأي البشر، بل يقرر لكل شيء حكما بحكمته الصحيحة التي لا تخطئ . ولهذا تحديدا اختار أيضا عشارا ، ولصا ، وزانية، بينما رفض الكهنة، والشيوخ، والأراخنة.

ويستطيع المرء أن يرى أن هذا يحدث مع الشهداء، فالكثيرون من الذين كانوا محتقرين في عصر الاضطهادات، قد نالوا الأكاليل، والعكس قد حدث، فإن بعضا ممن كانوا يعتبرون عظماء، إنقلب بهم الحال وسقطوا . إذا ألا تناقش الخالق في أحكامه، ولا أن تقول، لماذا يكلل الواحد ويدان الآخر، لأنه هو وحده يعرف هذه الأمور. ولهذا قال: ” أحببت يعقوب وأبغضت عيسو”.

ومن المؤكد أن هذا قد حدث بعدل، فأنت تعرف الأمور عند نهايتها، أما الله فيعرفها جيدا قبل نهايتها. لأن الله لا يطلب مجرد إتمام للأعمال، بل يطلب الرغبة الصادقة، والإرادة الصالحة. إذ أن مثل هذا الإنسان، إذا اضطرته بعض الظروف أن يخطئ، فإنه سرعان ما يرجع، وإذا عاش لبعض الوقت في الخطية، فلن يفقد خلاصه، بل سيقيمه الله كلي المعرفة سريعا ، كما أن من يفسد بالخطية، سيهلك حتى ولو ظهر كأنه يصنع شيئا صالحا، طالما أنه يصنع هذا بضمير شرير، لأن داود أيضا على الرغم من أنه إرتكب جريمة قتل، وزنا، إلا أنه تنقى سريعا من كل خطية، فهو قد فعل هذا في ظرف سيء، في غفلة أو عدم تبصر، وليس عن ضمير شرير، أما الفريسي، وهو لم يجرؤ على ارتكاب مثل هذه الخطايا ، وقد إفتخر بأمور أخرى صالحة، فإنه فقد كل شيء، بسبب ضميره الشرير.

6. ” فماذا نقول؟ ألعل عند الله ظلما حاشا.” (رو14:9).

أى أنه لم يحدث لنا ظلم، ولا لليهود أيضا. ثم يضيف أمرا آخرا أكثر وضوحا قائلاً؟

” لأنه يقول لموسى إني أرحم من أرحم وأتراءف على من أتراءف ” (رو15:9).

ومرة أخرى يزيد الرسول بولس من حجم التعارض أو التناقض، وفي المنتصف يزيل هذا التعارض، ويجد له حلاً، ثم يخلق مرة أخرى، صعوبة أخرى، ولابد لنا أن نفسر ما قيل حتى يصبح أكثر وضوحا . فالرسول بولس يقول إن الله قال، الكبير يستعبد للصغير، قبل ولادتهما. ماذا إذا؟ هل الله ظالم؟ حاشا. إذا فلنستمع للكلام اللاحق، هناك إنفصال بين الفضيلة والشر على الأقل في حالة يعقوب وعيسو، بينما الخطية كانت واحدة ومشتركة بين جميع اليهود، خطية صناعة العجل الذهبي، إلا أن البعض أدين والبعض لم يدن. ولهذا قال: “أرحم من أرحم وأتراءف على من أتراءف “. لأن الله يقول لموسى، لست أنت المسئول عن معرفة المستحقين للرأفة، فاترك هذا لي، فإن لم يكن هذا هو عمل موسى أن يعرف، فبالأولى كثيرا، لا يكون عملنا. ولهذا لم يشر فقط إلى ما قيل، بل ذكر لمن قاله. لأنه يقول هذا الكلام لموسى، لكي ينتقد من خلال مكانته عند اليهود ، أي شخص يعارض أحكام الله.

إذن بعدما قدم الحل للتساؤل الذي نشأ من الكلام السابق، لم يطرح مرة أخرى، تناقضا أو تعارضا آخرا ، بل قال:

” فإذا ليس لمن يشاء أو لمن يسعي بل الله الذي يرحم لأنه يقول الكتاب لفرعون إني لهذا بعينه أقمتك لكي أظهر فيك قوتي ولكي ينادى باسمي في كل الأرض ” (رو 16:9-17).

لأنه تماما كما قال هناك، إن البعض قد خلص والبعض قد أدين، هكذا هنا أيضا قد حفظ لنا الكتاب قصة فرعون، لهذا السبب عينه. ثم يأتي مرة أخرى ويقول كلاما قاطعا ومثيرا.

” فإذا هو يرحم من يشاء ويقسى من يشاء. فستقول لي لماذا يلوم بعد؟ لأن من يقاوم مشيئته ” (رو18:9-19).

أرأيت كيف حرص على أن يجعل الكلام كله مثيرا للحيرة؟ ولم يقدم حلاً مباشرا، وذلك لأجل منفعتهم، فقد لجم ذاك الذي يعترض على هذه الأمور، قائلاً الآتي:

” بل من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله ” (رو20:9).

يقول الرسول بولس هذا الكلام، لكي يوقف الفضول الذي يأتي في وقت غير ملائم، من جانب مثل هذا الإنسان، الذي يعلق كثيرا، ويضع له لجاما، ولكي يعلمنا من هو ومن هو الإنسان، وكيف أن عنايته غير مدركة، ويوضح كيف أنها أسمى من تفكيرنا، وكيف أن كل شيء ينبغي أن يخضع له، حتى أن الرسول بولس، حين يبرهن على ذلك للمستمع، ويجعل إرادته مرنة، عندئذ يضيف الحل بطريقة غاية في السهولة، هكذا يجعل الكلام مقبولاً بالنسبة له.

هو لم يقل، إنه أمر مستحيل أن تقدم حلا لهذه الأمور، بل لا يصح أن نفحص الأمور المشابهة أو المماثلة . لأنه يجب أن نؤمن بما يصنعه الله ولا نتفحصه، وحتى لو كنا نجهل أسبابه، ولهذا يقول: ” من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله “. أرأيت كيف أنه احتقر التباهي والتفاخر ورفضه؟ “من أنت أيها الإنسان “؟ هل تُشارك في القدرة الإلهية؟ هل عينت مشيرا لله؟ لأنه لا يمكنك أن تكون شيئا، بل ولا ثمثل شيئا مقارنة بالله. لأنه من حيث إنه يقول من أنت، فهو يركز هنا على عدم قيمة الإنسان الذي يجاوب الله، أكثر من تركيزه على فكرة أنك لا شيء . من جهة أخرى فهو يعلن من خلال سؤاله عن نوع من الغضب، ولم يقل من أنت أيها الإنسان الذي تتحاور مع الله؟ بل “من تجادل”، بمعنى من أنت يا من تعارض، أو يا من تقاوم. لأنه عندما يحكم أحد على أعمال الله، ويقول: هكذا كان ينبغي أن يكون، أو ليس هكذا، فهذا ما يوصف بأنه اعتراض . أرأيت كيف أنه أخافهم وأفزعهم، وجعلهم يرتجفون بالأكثر فلا يجرؤون على البحث والفحص؟ هذه هي صفة مميزة للمعلم المتميز، ألا يتبع رغبات التلاميذ المتنوعة في كل الإتجاهات، بل أن يقودهم إلى إرادته، وبعدما ينزع الأشواك من طريقهم، فإنه يبدأ في إلقاء البذار، ولهذا لا يجيب مباشرة على التساؤلات التي تطرح من كل نوع.

7 ـ ” ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا أم ليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان ” (رو21:9).

إنه لم يقل هذا لكي يلغي حريتنا، بل لكي يظهر إلى أي مدى يجب أن نطيع أو نخضع لله. إذا عندما نحاول أن نناقش الله في قراراته، فلن يكون سلوكنا بصورة أفضل من الطين . لأنه ليس فقط لا ينبغي أن تعارض، بل ولا أن نطلب من الله أن يقدم لنا تقريرا عن أعماله، ولا حتى أن نتكلم، ولا أن تفكر، بل علينا أن نكون مثل الطين الطيع في أيدي الخزاف، والذي يتحول إلى الشكل الذي يريده ذلك الخزاف. لقد أورد الرسول بولس هذا المثل، ليس لمجرد إظهار التصرف الذي يجب أن يكون عليه المرء، بل لكي يشير إلى الطاعة غير المحدودة وإلى السلوك الكامل. ويجب أن ننتبه في كل موضع، إلى أنه لا ينبغي علينا أن نتعامل مع الأمثال على أنها وحدة واحدة، بل يجب أن تأخذها بكامل عناصرها، ثم نختار العنصر أو الجزء المفيد منها ، ولهذا إستخدمت الأمثال، ثم نترك البقية . تماما مثلما يقول: ” جثم كأسد “، يقصد به ذاك الذي لا يقاوم، والمرعب، ونستبعد عنصر الوحشية أو الشراسة، وأية خاصية أخرى من خصائص الأسد. وأيضا عندما يقول: “أصدمهم كدبة مثكل[هو13: 8]، يقصد رغبة الإنتقام. وعندما يقول: “لأن الرب إلهك هو نار آكلة”، يقصد الهلاك في الجحيم. هكذا هنا أيضا يجب أن نفهم المعنى المقصود من الطين، ومن الخراف والآنية.

ولكن عندما يضيف قائلاً: ” أم ليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان “، لا يجب أن تعتقد أن الرسول بولس قال هذا عن عملية الخلق، ولا للأسس التي يتطلبها تحديد نظام المخلوقات، بل يعني بذلك سلطان الله من ناحية، والتنوع الذي يوضحه أعماله من جهة أخرى. لأنه إن لم نفهمها هكذا، فلابد أن ينتج عن ذلك أمور كثيرة لا تليق بالله. إذن لو أن الكلام هنا عن الترتيب أو النظام، وعن الصلاح، والشرور، فسيكون الله هو الخالق، ولن يكون الإنسان متسببا في أي شيء. وأيضا سيظهر القديس بولس ذاته، وهو الذي يمتدح دائما حرية الاختيار، كأنه يتناقض مع نفسه. إذا فهو هنا لا يريد شيئا آخرا، سوى أن يقنع السامع تماما، بأن يتراجع أمام الله، وألا يضعه موضع المساءلة البتة عن أى شيء. لأنه كما أن الخراف يصنع من كتلة واحدة الأواني التي يريدها، ولا يعترض احد على ذلك. هكذا الله أيضا، الذي يدين البعض ويكرم البعض من نفس جنس البشر، ولا ينبغي أن تفحص عمله هذا، بل تخضع له فقط، وأن تتمثل بالطين، فكما أن الطين يصبح طيعا في أيدي الخراف، هكذا أنت أيضا يجب أن تُطيع رأي ذاك الذي يدبر كل الأشياء، لأنه لا يصنع شيئا بدون سبب، ولا مصادفة، حتى وإن كنت لا تعلم أسرار حكمته.

ومن المؤكد أنك تترك الخزاف يصنع من كتلة واحدة أواني مختلفة، ولا تدينه، بينما تطلب من الله أسبابا عن إدانة البعض وتكريم البعض الآخر، ولا تسمح له بمعرفة من هو المستحق ومن هو غير المستحق، خاصة عندما تكون نفس الكتلة هي من نفس الجوهر، فإنك تطلب وترغب أن تنتج عنها أشكال متشابهة. ألا يعتبر هذا التفكير علامة على درجة خطيرة من الجنون؟ على الرغم من أن وجود التافه والمهم لا يرجع إلى كتلة الطين ـ في حالة الخراف ـ بل يعتمد على حرية الاختيار ( في استخدام الإناء). إلا أنه، وكما سبق وأشرت يجب أن نأخذ هذا المثال، بهذا المعنى فقط، أي أنه لا يجب أن تُعارض الله، بل أن نتراجع أمام عنايته غير المدركة. بالإضافة إلى أنه يجب أن تكون الأمثلة التي تخص أولئك المشار إليهم ـ أي الذين يعترضون على تدبير الله ـ أكبر من هذه المطالب، حتى تصير هذه الأمثلة، حافزا للمستمع، لأن يخضع لإرادة الله بالأكثر، لأن الأمثلة إن لم تكن واضحة، فلن يكون ممكنا أن تكون لها فاعلية في تبكيت ذاك الذي يعارض كما ينبغي .

٨ ـ هكذا الرسول بولس أوقف نزاعهم بأسلوب لائق جدا. لكنه بعد ذلك قدم الحل أيضا. فما . هو هذا الحل؟ يقول:

” فماذا إن كان الله وهو يريد أن يظهر غضبه ويبين قوته احتمل بأناة كثيرة آنية غضبه مهيأة للهلاك. ولكي يبين غني مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد. التي أيضا دعانا نحن إياها ليس من اليهود فقط بل من الأمم أيضا ” (رو22:9-24).

ما يقوله يعني الآتي: كان فرعون إناء غضب، ذلك الإنسان الذي بقسوته أثار غضب الله. لأنه برغم طول أناة الله عليه، إلا أنه لم يصبح أفضل، بل ظل غير قابل للإصلاح، لذلك لم يسميه إناء غضب فقط، بل ” آنية مهيأة للهلاك ” فهو الذي أعد نفسه للهلاك . لأنه لم يكن يغفل شيء من الأمور اللازمة لإصلاحه، حتى يرجع إلى الله، ولم يتجاهل شيئا من تلك الأمور التي تقوده إلى الهلاك وتحرمه من كل غفران.

لكن برغم أن الله كان يعرف تلك الأمور ” احتمله بأناة كثيرة ” لأنه أراد أن يقوده للتوبة. فلو أنه لم يرد هذا، لما كان قد أطال أناته . لكن لأن فرعون لم يرد أن يستفيد من طول أناة الله، حتى ينقاد إلى التوبة، بل أعد ذاته للغضب، فقد جعله الله مثالاً، حتى يصلح به الآخرين، الذين صاروا أكثر صلاحا بواسطة إدانته، وهكذا أظهر الله قوته . إن الله لا يريد أن تصير قوته مدركة بهذه الطريقة، بل بشكل مختلف، من خلال إحساناته وعطاياه، وهذا ما أعلنه بكل الوسائل منذ البداية، لأنه إن كان الرسول بولس لا يريد أن يظهر أنه قوى، لأنه يقول (في موضع آخر) ” ليس لكي نظهر نحن مزكين بل لكي تصنعوا أنتم حسنا”، فبالأولى جدا الله أيضا لا يريد ذلك. وبرغم من أن الله قد أطال أناته على فرعون، حتى يقوده إلى التوبة، إلا أن لم يتب، واحتمله الله زمنا طويلاً، مظهرا قوته إلى جوار صلاحه . فلم يستفد فرعون، من طول الأناة هذه . لقد أظهر الله قوته معاقبا إياه، وبقى فرعون غير قابل للإصلاح، هكذا بين محبته للبشر، راحماً هؤلاء الذين وإن كانوا قد صنعوا شرورا كثيرة، لكنهم تابوا.

لم يتحدث الرسول بولس عن محبة البشر، بل عن “المجد”، تكلم بهذا لكي يبين أن هذا المجد بشكل خاص هو مجد الله، ولهذا حرص على أن يذكره، قبل كل الأمور الأخرى. لكن عندما يقول “سبق فأعدها للمجد”، فهو لا يقصد أن كل شيء يعتمد فقط على الله، لأنه لو حدث هذا، فلن يكون هناك أي عائق يعيق خلاص الجميع، بل كان سيظهر سابق علمه مرة أخرى، ويبطل الفروق بين اليهود والأمم . وهنا أيضا توجد مبررات كثيرة ، لأنه ليس فقط أن البعض هلكوا والبعض خلصوا من اليهود، بل ومن الأمم أيضا. ولهذا تحديدا لم يقل كل الأمم، بل “من الأمم أيضا “، ولا كل اليهود ، بل “من اليهود”. تماما مثلما حدث مع فرعون، الذي صار إناء للغضب، بسبب مخالفته هو، هكذا هؤلاء قد صاروا آنية رحمة بسبب قبولهم لمراحم الله بفرح. 

إن الشيء الأكبر ينسب لله، وهؤلاء أيضا قدموا شيئا يسيرا. ولهذا لم يقل آنية تفاخر، ولا آنية شجاعة، بل “آنية رحمة”، لكي يبين أن كل شيء ينسب لله. بالإضافة لقوله “ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى “، وإن كان ما قيل يبدو كنسيج غير متناسق، إلا أن كلام الرسول بولس لا يثير أي حيرة أو شك.

إذن عندما يقول: ” ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى “، فهو لا يبطل إرادة الإنسان، لكنه يبين أنه ليس كل شيء متوقفا على الإنسان، بل يحتاج إلى نعمة الله. أى أنه كان ينبغي على الإنسان أن يشاء وأن يسعى، ولكن بشرط ألا يكون لديه إتكال على ثقته في جهاده، بل على ثقتته في محبة الله للبشر. هذا تحديدا ما قاله في موضع آخر “لا أنا بل نعمة الله التي معي” وحسنا قال: ” قد سبق فأعدها للمجد “. لأنهم لم يقروا بأنهم قد خلصوا بالنعمة، واعتقدوا أن هذا الأمر يسبب لهم حرجا أو خجلا، لذلك فإنه يبطل هذه الرؤية بسهولة واضحة. لأنه لو أن هذا الأمر قد أظهر مجد الله، فبالأكثر جدا قد حمل مجدا لهؤلاء، ويكون الله قد تمجد فيهم . لكن إنتبه إلى امتنان وإلى حكمة الرسول بولس التي لا يعبر عنها، لأنه وإن كان لم يشر إلى فرعون ـ في كلامه عن هؤلاء الذين أدينوا – بل أشار إلى أولئك اليهود الذين أخطئوا ، وجعل كلامه أكثر وضوحا، وأظهر من جهة الآباء، أن الخطايا وإن كانت واحدة، إلا أن البعض هلك، والبعض رحم، حتى ينزع شكوكهم. لأن البعض من الأمم قد خلص، بينما اليهود هلكوا ، ولكي لا يجعل كلامه مزعجا، يقدم الدليل على العقاب من خلال الاشارة إلى الأمم، حتى لا يضطر أن يدعو هؤلاء آنية غضب، بينما يقدم أولئك الذين رحموا من الشعب اليهودي.

وإن كان من المؤكد أنه قد أجاب اجابة كافية مدافعا عن تدبير الله، وكان يدرك جيدا أن الله، يعرف أن هناك آنية هلاك، لكنه بين إحتمال الله الذي لا حد له والذي ظهر في طول الأناة، وليس مجرد طول أناة، بل أناة كثيرة، إلا أنه لم يرد أن يشر بهذا لليهود. إذا كيف صار البعض آنية غضب، والبعض آنية رحمة؟ حدث هذا بناء على إختيارهم، لأن الله كلي الصلاح، يظهر نفس الصلاح تجاه الطرفين . لأنه لم يرحم فقط أولئك الذين يخلصون، بل وفرعون أيضا، وكل هؤلاء، يخلصون بقدر ما يعتمدون عليه، طالما أنهم وكذالك فرعون قد تمتعوا بنفس طول الأناة ، لكن إن كان فرعون لم يخلص، فهذا يرجع إلى اختياره هو، طالما أنه لم يأخذ شيئا من الله، أما كل من اعتمد على الله، فقد نال كل شيء، لأنه ليس أقل من الذين خلصوا.

9 ـ إذن بعدما أعطى الحل لهذه المسألة، ولكي يجعل كلامه محل ثقة، يقدم أيضا الأنبياء الذين نادوا من قبل بهذه الأمور ذاتها. لأن هوشع أيضا من البداية كتب عن هذه الأمور، قائلاً:

‘ سأدعو الذي ليس شعبي شعبي والتي ليست محبوبة محبوبة ” (رو25:9).

ولكي لا يقولوا إن بولس يخدعنا بحديثه عن هذه الأمور، اتخذ هوشع النبي شاهدا ، لأنه يصرخ قائلاً: “سأدعو الذي ليس شعبي شعبي “. إذا من هو الذي لم يكن شعبه؟ من الواضح أنه يشير إلى شعب الأمم. ومن هي تلك التي لم تكن محبوبة؟ هم الأمم أيضا. لكنه تكلم عنهم، أنهم صاروا شعبه، وأنهم محبوبون أيضا، وأنهم سيصيروا أبناء الله.

” ويكون في الموضع الذي قيل لهم فيه لستم شعبي أنه هناك يدعون أبناء الله الحي” (رو26:9).

لكن لو أن هذا قد قيل عن الذين آمنوا من اليهود، وهكذا يستقيم الكلام، إذا سيتضح أن هؤلاء الذين جحدوا الله، بعد كل إحساناته هذه ، قد استبعدوا أنفسهم، وفقدوا الحق في أن يكونوا شعبا. وحدث تحول كبير، فما هو العائق الذي منع أولئك الذين لم يستبعدوا أنفسهم، من أن يصبحوا مدعوين أيضا، وقد صارت لهم دالة عند الله، هؤلاء الذين كانوا منذ البداية غرباء، لكنهم بعدما أطاعوا، استحقوا نفس العطايا؟

بعدما استشهد بهوشع، لم يكتف به، بل قدم إشعياء الذي يتكلم متفقاً مع هوشع، لأن إشعياء ” يصرخ من جهة إسرائيل “، أي بجرأة يصرخ ولا يتراجع. إذا ـ وكأن الرسول بولس يقول ـ لماذا تهاجموننا إذا كان هؤلاء الأنبياء قد تحدثوا عن هذا الأمر قبل أن يحدث، وذلك بصوت قوي يفوق قوة النفير؟ إذا بماذا يصرخ إشعياء؟

” وإن كان عدد بني إسرائيل كرمل البحر فالبقية ستخلص” (رو27:9).

أرأيت كيف أنه أيضا لا يقول إن الجميع سيخلصون، بل المستحقون هم الذين سيخلصون؟ لأنني لا أنظر إلى الكثرة، بل أخلص فقط هؤلاء الذين يستحقون، وهو لم يذكر لهم رمل البحر مصادفة، بل لكي يذكرهم بالوعد القديم، والذي صاروا ، مقارنة به غير مستحقين. إذا لماذا تضطربون، تُرى هل الوعد كاذب، بعدما أعلن جميع الأنبياء، أن الخلاص ليس للجميع؟ بعد ذلك تحدث عن طريقة الخلاص. أرأيت دقة النبؤة والحكمة الرسولية، أي الشهادة القديمة، وكيف كانت مناسبة جدا؟ لأن هذه الشهادة، لا تظهر فقط، أن البعض هم الذين يخلصون، وليس الجميع، لكنه يضيف أيضا كيف سيخلصون؟

” لأنه متمم أمر وقاض بالبر. لأن الرب يصنع أمرا مقضيا به على الأرض” (رو28:9).

ما يقوله يعني الآتي: إنه ليس هناك حاجة لفترة زمنية، ومتاعب وجهاد من خلال أعمال الناموس، لأن الخلاص سيحدث سريعا جدا. لأن هذا هو الإيمان، أنه بكلمات قليلة يتحقق الخلاص “لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت.

أرأيت ماذا تعني عبارة ” لأن الرب يصنع أمرا مقضيا به على الأرض” والأكثر دهشة، أن هذا الأمر المقضي به السريع، لم يحمل فقط الخلاص، بل والبر أيضا. كما سبق إشعياء وقال:

” لولا أن رب الجنود أبقى لنا نسلأ لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة” (رو29:9).

إنه يظهر هنا أيضا أمرا آخرا، هو أنه حتى هؤلاء قليلي العدد، لم يخلصوا هكذا من أنفسهم. وأنهم كانوا متجهين إلى هلاك أنفسهم بأنفسهم، وكانوا سيموتون مثل أهل سدوم، أي أنهم كانوا سيهلكون أنفسهم بالكامل (لأن أولئك هلكوا بالكامل). وهؤلاء يقول عنهم كان من المفترض أنهم سيصيرون مثل أهل سدوم، لو لم يكن الله قد صنع معهم رحمة عظيمة، ولو أنه لم يحفظهم بواسطة الإيمان، لكن هذا قد حدث في السبي الجسدي، لأن الكثيرين أقتيدوا إلى السبي وهلكوا، بينما قليلون فقط هم الذين خلصوا.

۱۰ ـ ” فماذا نقول إن الأمم الذين لم يسعوا في أثر البر أدركوا البر. البر الذي بالإيمان ولكن إسرائيل وهو يسعى في أثر البر لم يدرك ناموس البر” (رو30:9۔31).

المؤكد أن الحل الواضح يوجد هنا. لأنه من خلال طبيعة الأمور قد أظهر أن ” ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون “، ومن الأجداد. ذكر يعقوب وعيسو، ومن الأنبياء هوشع وإشعياء، ثم يضيف الحل الأهم، بعدما أسهب في حديثه السابق عن مقدار الشك . بالإضافة إلى ذلك فإن هنا الأمر له بعدين، أن الأمم أدركوا البر، وأنهم أدركوه بدون أن يسعوا إليه، أي دون أن يحاولوا إدراكه، ومن جهة اليهود أيضا، فهناك أمران، أن الإسرائيليين لم يدركوا البر، برغم أنهم قد حاولوا إدراكه. ولهذا فقد استخدم الرسول بولس الكلمات بأكثر وضوح، لأنه لم يقل إنه “ربح البر”، بل “أدرك”. أي أن الأمر الذي يسمع لأول مرة والمثير للغرابة، هو أن الذي سعى في أثر البر، لم يدرك البر، بينما ذاك الذي لم يسع، قد أدرك البر. والواضح أنه حاول الترفق بهم، بقوله ” وهو يسعى “، ولكنه أعلن بعد ذلك الصدمة الكبيرة.

إذن لأنه كان لديه ما يضيفه لتقديم الحل القوي، لم يتردد أبدا، جاعلاً المفارقة أكثر فزعا. ولهذا لم يتكلم عن الإيمان والبر، لكنه أظهر أن اليهود كانوا مدانين قبل الإيمان أيضا، إذ أنهم قدهزموا في الأمور التي تخصهم. فأنت أيها اليهودي لم تدرك البر من خلال الناموس، لأنك قد خالفته، وصرت مسئولاً عن اللعنة، بينما أولئك الذين لم يأتوا عن طريق الناموس، بل أتوا من طريق آخر، أدركوا برا أعظم من بر الناموس، هذا البر الذي أتى بالإيمان. هذا تحديدا ما قاله من قبل “لأنه إن كان إبراهيم قد تبرّر بالأعمال فله فخر ولكن ليس لدى الله لكي يبين أن بر الإيمان أعظم من بر الناموس.

لقد قال قبلا إن الشكوك أو التساؤلات نوعان، أما الآن فقد صارت ثلاثة، أي أن الأمم قد أدركوا البر، ودون أن يسعوا في أثره قد أدركوه، وأنهم أدركوا أن هذا البر الذي بالإيمان هو أعظم من بر الناموس. هذه التساؤلات ذاتها هي بالضبط التي تصاغ أيضا من جهة اليهود من الناحية العكسية، أن الإسرائيليين لم يدركوا البر، وأنهم لم يدركوه على الرغم من أنهم سعوا في أثره، وأنهم لم يدركوا ولا حتى القليل منه. إذا بعدما وضع السامع في حيرة، أضاف الحل سريعا فيما بعد، ثم يقدم السبب لكل ما قيل. ما هو السبب إذا ؟ هو:

” لأنه فعل ذلك ليس بالإيمان. بل كأنه بأعمال الناموس ” (رو32:9).

هذا هو الحل الواضح جدا لكل ما سبق طرحه، والذي لو كان قاله من البداية مباشرة، لما كان مقبولاً بهذه السهولة. ولكن نظرا لأنه ذكره بعد تساؤلات كثيرة، وإعداد، وبراهين، وعرض لشروحات كثيرة جدا، فقد جعله أكثر سهولة وأكثر قبولاً. هذا هو سبب هلاكهم، أنهم لم يريدوا أن يتبرروا بالإيمان، بل بأعمال الناموس. ولم يقل بالأعمال، بل ” كأنها بأعمال الناموس “، مظهرا كيف أنه، ولا هذا البرقد أدركوه.

” فإنهم اصطدموا بحجر الصدمة. كما هو مكتوب ها أنا أضع صهيون حجر صدمة وصخرة عثرة وكل من يؤمن بي لا يخزى” (رو33:9).

أرأيت مرة أخرى كيف أن الافتخار أو الشجاعة تأتي من الإيمان، وكيف أن العطية هي للجميع؟ لم يقل إنها فقط لليهود، بل هي لكل الجنس البشري، لأن كل واحد سواء كان يهوديا أم يونانيا أم سكيثيا أم ثراكيا أو من أي جنس، عندما يؤمن سيتمتع بمجازاة كبيرة ولن يخزى، لكن ما يستحق الإعجاب في كلمات إشعياء النبي هو أنه لم يقل فقط كل من يؤمن، بل أنهم لن يؤمنوا، لأن كلمة اصطدموا بحجر العثرة، تعني أنهم لن يؤمنوا. تماما كما أعلن سابقا، عن أولئك الذين يهلكون وأولئك الذين يخلصون، قائلاً: ” وإن كان عدد بني إسرائيل كرمل البحر فالبقية ستخلص “، و “لولا أن رب الجنود أبقى لنا نسلا لصرنا مثل سدوم “، ودعى من الأمم أيضا، وليس فقط من اليهود، هكذا تحديدا هنا أيضا، يقول إن البعض سيؤمنون، والبعض سيتعثرون. أما من حيث إنهم يتعثرون فهذا يأتي نتيجة عدم الانتباه، حيث أنهم فشلوا في أمور أخرى. إذا لأن هؤلاء تطلعوا نحو الناموس، اصطدموا بحجر الصدمة. ويقول النبي، حجر صدمة، وصخرة عثرة بسبب الاختيار، والنهاية التي تنتظر أولئك الذين لم يؤمنوا.

۱۱ ـ يا ترى، هل صار ما قيل واضحا لكم، أم أنه يحتاج بعد لكثير من الشرح؟ أنا أعتقد أن الأمر أكثر من بالنسبة للذين دققوا في فهم ما شرحناه، لكن إذا كان البعض لم ينتبه، فيمكن أن نلتقي معهم بشكل خاص، ويسألون ويعرفون. لأنه لهذا جعلت الشرح مطولاً، حتى يتضح بصورة كبيرة، ويصبح مقبولاً لدى الجميع، ولكي يستمر سريان التتابع الفكري . ولهذا سأنهي الحديث هنا، دون أن أحدثكم مطلقاً عن الموضوعات السلوكية، الأمر الذي تعودت أن أفعله، لكي لا أجهد ذهنكم أيضا بالكلام الكثير، حان الوقت إذا لأنهي حديثي بالنهاية المناسبة، وأختتمه بتمجيد إله الكل، فلنعطي المجد لله، لأن له الملك والقوة والمجد إلى الأبد آمين.

تفسير رومية – 8 رسالة رومية – 9 تفسير رسالة رومية تفسير العهد الجديد تفسير رومية – 10
القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير رومية – 9 تفاسير رسالة رومية تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى