كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي - القمص متى المسكين
الكرازة والتفسير التقليدي للكتب المقدسة
بكتابة الأسفار المقدسة نشأت في الحال ضرورة تفسيرها وشرحها شرحاً كاملاً صحيحاً بالفكر والإحساس الرسولي اللذين بهما كتبت الأسفار المقدسة. وإنها، في الحقيقة هبة عظمى وثمينة أن تحصل الكنيسة على تفسير تعليمي للأسفار المقدسة مصدره الرسل أنفسهم ! فوجود شرح وتفسير مع الأسفار المقدسة من نفس المصدر، جعل الإيمان ل المسيحي منذ البدء وحدة متكاملة .
ليس أن التقليد التفسيري أضاف شيئاً جديداً على ما أعلن في الأسفار المقدسة، ولكنه قد أمدها بالقرينة الحية وأبرزها على الواقع المدرك، فأوضح مشيئة الله تماماً وجعل قصد الروح القدس في متناول الإدراك العادي. حتى أصبحت الأسفار المقدسة مع التقليد التفسيري البسيط وحدة واحدة منسجمة ، [ فالحق يظل وحدة كاملة منسجمة.].
ووظيفة التقليد التفسيري هي أن يجعل الأسفار المقدسة ليست مجرد مبادىء نتناقلها عن الأجيال السالفة، بل حياة في الإيمان ممتدة من الأول حتى النهاية .
فصوت المسيح في الأسفار المقدسة لا يمكن أن نسمعه بوضوح إلا إذا دعمه الشرح التفسيري حسب الإيمان الحق، كما عاشه وآمن به الرسل أنفسهم وعلى ضوء خبرة الكنيسة عملياً ، وليس كما يتوهمه العقل منفرداً عن الكنيسة ومهملاً شهادة الذين سمعوه وتحققوه بأنفسهم.
كما أن الأسفار المقدسة بدون شرح توضيحي وتفسير، لا تمثل الإيمان الصحيح ولا تنقل صوت المسيح، وشرح الأسفار المقدسة شرحاً صحيحاً لا يمكن أن يكون إلا إذا قام على معناها الصحيح، والمعنى الصحيح لها لابد أن يطابق الواقع، والواقع الحي للأسفار هو المسيح أولاً وهو الرسل وهو الكنيسة التي عاشت بالإنجيل ألفي سنة، وهذا هو التقليد ! لأن المسيحية في أساسها ليست مبادىء وعقائد، بل حياة. فهي الخليقة الجديدة التي ظهرت في العالم بشهادة أخلاقها وسلوكها وقوة نصرتها على العالم والخطيئة، وهي ظهرت أول ما ظهرت، منبثقة من شخص ربنا يسوع المسيح، وامتدت بالكلمة والروح لتشمل جنس الإنسان وترفعه إلى مستوى الحياة الأبدية مع الله .
والمسيحية كما تُلتمس في الجماعة، تلتمس بجملتها أيضاً في الفرد الواحد. فالإنسان المسيحي يستوعب كل الحق إنما بالقدر الذي تسعفه به إمكانياته المحدودة.
والمسيحية تأتى إلى الفرد كدعوة للحياة الجديدة، كضرورة ملحة للتوبة والندامة، كرغبة وكشهوة للقداسة والتطهير والإغتسال في دم المسيح أكثر منها كدعوة للـمـعـرفـة والتبحر في فحص اللاهوت ، وإن كانت لا تُعدّم هذه أيضاً في الطريق كهبة من الله نفسه وليس كواجب يلتزمه الإنسان .
فالـتـقـلـيـد الرسولي كان يلتزم من ذاته بنقل حياة المسيح لكل فرد ، بطولها وعرضها وعمقها وارتفاعها … الذي هو المسيح فيكم رجاء المجد، الذي ننادي به منذرين كل إنسان ومعلمين كل إنسان بكل حكمة لكي تحضر كل إنسان كاملاً في المسيح يسوع.» (كو1: 27 و 28)
ولكن هذه الحياة الجديدة نفسها، بل هذه الندامة والتوبة ، بل هذه القداسة والتطهير بدم المسيح، هي قائمة على أصول ومبادىء ومعرفة الحق. لأن المسيح يسمي نفسه «الطريق والحق والحياة (يو 14: 6) ، أي أن فيه مذخراً لنا كافة الأصول التي إذا استُعلناها ، أدركنا قصد المسيح ونلنا الصلات التي يمكن أن تربطنا بالله وتخلصنا .
إنما هذه الأصول والمبادىء والمعرفة المستعلنة لنا في المسيح لا تقوم على أسلوب علمي منطقي ونظريات جافة مجردة، كما إنها لا تقوم على تأملات فردية شخصية هوجاء، بل هي «استعلان الحق بنُطق روحي يكون من الله ، وكقوة دائمة يشهد لها الروح إذ يكون لها سلطان على قلب كل من يسمعها ، تفهم بسهولة ولكن لا تبقى متعوقة في العقل، إذ لها قوة الفعل الآمر والتحريك القلبي، فهي معرفة نظرية وعملية معاً ومفهوماتها لها قدرة الفعل والحركة ، بل والإقامة من الموت. فالعقل يتأثر بها، والإرادة في الحال تخضع لها ، والضمير يتوبخ بشدة، والرجاء يسيطر، والحياة تسري . .. لأن هذه المعرفة هي بعينها نور الحياة الجديدة وقوة من قواتها ، لأنها منبثقة من المسيح نفسه وتشدُّنا إليه، فهي نفخة المسيح، وهي الروح القدس الذي يتغلغل الطبيعة البشرية خارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته» (عب 4: 2)، لتلقينا إلى طين التوبة ثم ترفعنا إلى رجاء المجد.
وعلينا دائماً أن نفرق بين المعرفة الآتية إلينا من الله والأسلوب الذي نحاول أن نصيغ به هذه المعرفة ، فالمعرفة الأولى إلهية والثانية بشرية : المعرفة الأولى هي الحق الإلهي اللانهائي، والثانية هي العقيدة بتحديداتها.
والحق الإلهي يهب حياة، والعقيدة تحفظ هذا الحق.
ولكننا نخطىء في حق الإنجيل إذا ظننا أن أسفاره يعوزها الأسلوب المنطقي في كشف الحق، أو النظام التدرجي في المعرفة، أو أنها تخلو من الترتيب التعليمي. هذا افتئات على أسلوب المسيح والروح القدس المبدع، الذي سبق فخلق هذا الكون بنظامه وترتيبه ومنطقه وعلومه التي حيرت الإنسان واستنزفت كل طاقاته الفكرية وعبقرياته ، ولا يزال واقفاً أمامها منذهلاً ومتحيراً، لأن مجرد رتابة الحق فيها أربكته .
أما الحقيقة عند الإنسان، وأما النظام والترتيب والمنطق والعقل والنظام المنهجي، فهذه كلها استمدها الإنسان من الحقائق الطبيعية، وأما الحقائق الطبيعية فقد خلقها الذي أوحى بالأسفار المقدسة ورتبها!
ولم يبق لدى الإنسان إلا أن يتعمق الأسفار المقدسة ليدرك فيها ومنها سر الحق كله وسر المنطق والنظام والمنهج .
هذا كان أول عمل اضطلع به الرسل بمساعدة الروح نفسه، وما قانون الإيمان البدائي الذي وضعه المسيح أولاً كقانون للعماد، الذي شرحه الرسل وبسطوه للمؤمنين، وقرره مجمع نيقية بعد ذلك كما نؤمن به الآن، إلا أول تفسير لسر الخليقة الجديدة التي ينادي بها الإنجيل.
ففيه وضع أساس الإيمان :
+ بالإله الواحد،
بالأبوة الضابطة للكل،
+ و بربوبية الابن الوحيد و بتجسده وموته الفادي وقيامته المحيية وصعوده الغالب وجلوسه الممجد مع الآب ومجيئه الثاني للحكم والدينونة ،
+ و بقيام الكنيسة المقدسة كشركة في الطبيعة الإلهية .
+ و بالمعمودية المجددة لخلقة الإنسان بالروح.
+ و بسر الجسد والدم للغفران والحياة والتقديس .
+ و بألوهية الروح القدس المحيي العامل في التوبة والتغيير.
+ و برجاء تكميل كل شيء في الحياة الجديدة في الدهر الآتى بالقيامة بالجسد.
هذه كلها كانت في البذرة الأولى لقانون الإيمان، كما علم به الرسل، كما رأوه في المسيح، وكما شاهدوه في القيامة والصعود، وكما أعطاهم الروح القدس أن ينطقوا كاشفاً عن المسيح الذي فيهم وعن الملكوت والحياة المختبئة داخلهم وعن القوة العاملة معهم للكرازة .
وبشيء من التبصر، نلمح العمق الهائل الذي في هذا القانون الإيماني الرسولي، ونكتشف قوة وجبرؤوت الإستعلان الذي غطى وحكم كل الحقائق الواردة في الأسفار المقدسة وليس هذا فقط، بل وصار هذا القانون المعيار الذي يحكم على كل تعليم، والمقياس الذي تُقاس به كافة الأعمال، والأساس الذي لا يمكن أن يُبنى خارجه بناء و يكون سليماً ! إذن، فبدون هذا القانون عينه لا يمكن أن نتقدم لشرح الأسفار جميعاً!
هذا القانون الذي وضعه الآباء الرسل يشهد أن هؤلاء المطوبين كانوا يعيشون و يتحركون و يفهمون و يتكلمون بالحق وفي حدود الحق، لا كأنهم مقيدون بالحق، بل متسعون وممتدون بالحق إلى مالانهاية. فالرسائل التي كتبها الرسل بعد كتابتهم للإنجيل، تشهد على مدى هذا الإتساع الذي كانوا يعيشون فيه و يفكرون به . فالروح القدس الذي كان يعمل فيهم لم يَسُد عليهم ليقيدهم بل ليقودهم ، ولا كان يملي عليهم القول بل كان يجعل قولهم مطابقاً للحق، كمعاينين وشهود وليس كمتأملين أو حالمين .
ومن أعظم مآثر الروح القدس وأفضاله على الكنيسة والبشرية كلها، أنه أبقى على الإختلافات الطبيعية التي كانت تميز رسولاً عن رسول، سواء في الفكر أو التعبير أو المزاج أو البيئة. واختص الروح فقط بتوجيه هذه المميزات للتعبير عن الحق الواحد والمسيح الواحد. فقدمت الأسفار المقدسة لنا، بناء على ذلك، ألواناً مبدعة للحق من كافة الزوايا الممكن أن يُرى بها هذا الحق ! فأصبح التعمق في معرفة المسيح والتقرب إليه بالروح والإستعلان شيئاً لا ينتهي، شيئاً يفوق إمكانيات وقدرة أي إنسان بمفرده، مهما أوتي من قدرة واستعلان.
وهكذا نرى أن السبعة والعشرين سفراً التي للعهد الجديد، ومعها التقليد الرسولي بغناه ووفرته، ولو أنها تحمل حقاً واحداً منسجماً غاية الإنسجام المسيح واحد فيه كل ملء اللاهوت وله كل سلطان مما في السماء وما على الأرض، إلا أنها تحمل لنا أعماقاً لهذا الحق متعددة ذات مميزات رسولية وطابع بشري يتناسب مع كل عمق وكل فكر وكل بيئة وكل مزاج وكل موهبة، شيء لن ينتهي ولا يمكن أن يستقصى إلا بمجيء المسيح نفسه.
والقديس إير ينيئوس أول من اكتشف طابع الإنجيل ذا الحق الواحد المتعدد الأعماق، فسماه ( الإنجيل ذو الأربعة الأوجه) لأنه يحمل أربع شهادات لأربعة أوجه رسولية : متى ، ومرقس، ولوقا ، و يوحنا ، حيث يشترك في متى يعقوب أيضاً، ويشترك في مرقس بطرس أيضاً و يشترك في لوقا بولس أيضاً .
فعندنا في الأناجيل والرسائل وبالتالي في التقليد الشفاهي والتعليم والتفسير أربعة أوجه رسولية متميزة غاية التمايز ومبدئياً ، فإن منشأ هذا التمايز، في الأساس، كان قبول المسيحية على صعيدين متباينين أشد التباين الصعيد اليهودي، والصعيد الأممي الوثني ؛ فنشأت مسيحية على أصل يهودي ومسيحية على أصل أممي. وقد تكون لكل صعيد تيارات عميقة وطابع مميز صبغ كل التعاليم والأفكار والمبادىء والممارسات في العبادة على مدى العصر الرسولي بأكمله إلى أن ذاب الصعيدان معاً في جيل جديد ليس أصله يهودياً ولا أصله أممياً ، بل مسيحي !!
فالمسيحية التي قبلت على أصل يهودي، لما دخلت وجدت ميراثاً غنياً من الإستعلانات الإلهية والعادات والممارسات الروحية فتمسكت بها على قدر ما وجدت فيها من حق . أما المسيحية التي قبلت على أصل وثني فلم تجد ناموس موسى ولا فرائض ولا عادات متأصلة ، فانتقلت نقلة شديدة مفاجئة من الناموس الطبيعي إلى النعمة . فنشأ من ذلك اتجاهان في التعليم واضحان غاية الوضوح :
1 – تعليم متحفظ متمسك بالميراث الروحي الزاخر بالممارسات والصلوات والعبادة.
2 – تعليم متحرر منطلق من كل فروض وقيود متجه ومتحرك بالنعمة فقط.
وكان لكل تعليم رسله : وسماهم الإنجيل رسل الختان» و «رسل الغرلة» ، أي رسل اليهود ورسل الأمم .
وقد تغلغل هذان الإتجاهان في كافة التعاليم والتوجيهات والتفسيرات والممارسات، وحينما كانا يتقاربان معاً ليصطدما كان الرسل يسارعون لعقد المجمع ليقاربوا بين الإتجاهين بأقصى ما يمكن من التفريط في النواميس والفرائض الجسدية التي تبدو زيادة أو ثقيلة على الأمم حتى لا يثقلوا عليهم الإيمان، وفي نفس الوقت كانوا يحتفظون بأقصى ما يمكن من العادات وفروض العبادة الروحية وطقوسها وصلواتها حتى لا يتبدد التراث الروحي الذي ورثته الكنيسة من العهد القديم، وذلك إتماماً لقول الرب ما جئت لأنقض بل لأكمل . » (مت 5: 17)
– الرسل والمشايخ والإخوة (مع كل الكنيسة) يهدون سلاماً إلى الإخوة الذين من الأمم في أنطاكية وسوريا وكيليكية. إذ قد سمعنا أن أناساً خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال مقلبين أنفسكم وقائلين أن تختتنوا وتحفظوا الناموس الذين نحن لم نأمرهم رأينا وقد صرنا بنفس واحدة أن نختار رجلين ونرسلهما إليكم مع حبيبينا برنابا و بولس . رجلين قد بذلا أنفسهما لأجل آسم ربنا يسوع المسيح . فقد أرسلنا يهوذا وسيلا وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاهاً لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلاً أكثر غير هذه الأشياء الواجبة . » (أع 15: 22-28)
ولكن هذين الإتجاهين في أصول التعليم المسيحي ليسا في طبيعتها متعارضين ولا منفصلين، إذ نجدهما معاً في شخص يسوع المسيح وفي حياته وأقواله ، فهو المخلص لليهود والأمم والحامل الكل في نفسه الذي جاء «يأكل ويشرب» (مت 11: 19) ويقضي الليل كله في الصلاة ( لو 6: 12). لهذا نجد أن هذين الإتجاهين في التعليم يتقاربان شيئاً فشيئاً حتى يلتحما تماماً معاً في الأجيال الصاعدة، ويكونان طبيعة الكنيسة الواحدة الجامعة الرسولية . فلم يعد بطرس رسولاً للختان ولا بولس رسولاً للغزلة بل رسولان للكنيسة الواحدة.
و يوحنا الرسول لما أشرف على نهاية العصر الرسولي ونظر بعيني شيخوخته التي عبرت المائة عاماً، استطاع أن يمد يده و يكتب إنجيله الذي يعبر عن الوحدة الكاملة التي صارت لهذين الإتجاهين ثم يرفع يده مرة أخرى و يبارك الأجيال الصاعدة الحاملة غنى اليهود وحرية الأمم ، غنى الطقس وعمق النعمة !!
ولكن نعود مرة أخرى إلى التمايز الشخصي الذي في الرسل الذي انطبع على صفحات الإنجيل والذي كبرته الرسائل وأوضحته.
فنـجـد القديس يعقوب الرسول يمثل ناموس الأعمال، وكأنه في رسالته يشرح إنجيل متى . ونجد القديس بولس الرسول يمثل ناموس الإيمان، وكأنه يشرح في رسائله إنجيل لوقا.
ونجد القديس بطرس الرسول يمثل ناموس الرجاء ، وكأنه يشرح في رسالتيه إنجيل مرقس.
ونجد القديس يوحنا الرسول يمثل ناموس المحبة، وكأنه يشرح في رسائله ورؤياه إنجيله.
ولكن الأسفار في اتجاهاتها لم تكن تمثل الواقع بقدر ما كانت تحفر وتعمق في طبيعة البشرية كلها لترسي أساس الإيمان المتعدد الأوجه ليكون قانون الإستعلان الإلهي للأجيال في أقصى امتدادها واستنارتها .
فالإتجاه التعليمي الذي يشدد على ناموس الأعمال ورثته الكنيسة، فكون فيها الإتجاه النسكي الأصيل المبدع الذي صارع ضد العالم والجسد وغلب ؛ وصار شهادة حية لصدق الإنجيل والرسالة والرسولية.
والإتجاه التعليمي الذي يشدد على ناموس الإيمان والحرية ورثته الكنيسة، فكون فيها الإتجاه الكرازي الذي جعلها تنطلق بلا قيد تبشر بحرية وتضع الأساس لكي يبني عليه الإتجاه النسكي مثله العليا وأخلاقياته .
والإتجاه التعليمي الذي يشدد على الرجاء ورثته الكنيسة ليكون عاملاً أساسياً يسند الطبيعة البشرية في نُسكها وجهادها ومصارعاتها مع الجسد والعالم، لأن الإخفاق والنكوص أمران لا يمكن تحاشيها، وكذلك لا يمكن علاجهما إلا بناموس الرجاء.
والإتجاه التعليمي الذي يشدد على المحبة ورثته الكنيسة فكون فيها الإحساس التصوف المبدع الذي جعل الكنيسة تفتح ذراعيها لتحتضن الأعداء وتدوس على كل المعاثر.
هذا هو التقليد الذي ورثته الكنيسة من رسلها الأطهار واختزنته، ليكون جزءاً حياً في طبيعتها الإلهية.
التقليد الرسولي يجمع شمل الكنيسة
و يوحد فكرها ويحفظ إيمانها الصحيح
وبتقدم الكنيسة ظهرت قيمة التفسير للأسفار المقدسة، وظهرت قيمة التمسك بالتقليد الرسولي في فهم الأسفار وشرحها وتأويلها بحسب قانون الإيمان!
فقد قام المبتدعون والهراطقة ونبذوا عنهم كل التقليد الرسولي وضر بوا بقانون الإيمان عرض الحائط، وبدأوا يفسرون الإيمان من واقع آيات الأسفار المقدسة فقط معتمدين على العقل والمنطق فطعنوا ، أول ما طعنوا، في ألوهية المسيح وقالوا إنه مخلوق !!
أما من الجهة الأخرى، فقد انبرى لهم الآباء الأساقفة الأمناء على الوديعة 318 أسقف وقالوا بألوهية المسيح ومساواته للآب في الجوهر، برأي واحد وفكر
واحد وفهم واحد، جمعتهم الكنيسة وكأنهم في أبروشية واحدة. ووحد فكرهم وإيمانهم التقليد المحفوظ، وقاد عقلهم الإستعلان الإلهي بوحدته الكاملة كما أدركه الرسل.
أما الفريقان، فقد تمسك كل منهما بآيات الإنجيل، ولكن الهراطقة إذ خرجوا على الكنيسة أعوزهم التقليد الرسولي وأعوزتهم وحدة الإستعلان الإلهي للأسفار كلها، فخرجوا على قانون الإيمان وطعنوا المسيح وفككوا الثالوث وجدفوا على الله فلم يسعفهم تمسكهم المطلق بالإنجيل ولا منطقهم المعقول!
لقد كان رأس مال الكنيسة هو تقليدها الرسولي . والمدافعون عن الحق لم يكونوا أبداً أحراراً في تفسيرهم لقانون الإيمان، فالتقليد التفسيري لقانون الإيمان كما قبلوه وكما مارسوه ضرورة آمرة ملزمة ، لقد « سُلّم الإيمان مرة للقديسين» (يه 3)؛ ثم حفظ أمانة إلى الأبد في أعناق الأساقفة وفي رسالة للقديس أثناسيوس بعث بها للقديس سيرابيون يشرح له وجهة النظر هذه :
[وعلينا أن نعتبر هذا التقليد الذي هو تعليم وإيمان الكنيسة الجامعة منذ البدء، الذي أعطاه الرب ؛ وكرز به الرسل ؛ وحفظه الآباء ؛ والذي عليه تأسست الكنيسة وقامت.].
وكما قال أيضاً للقديس سيرابيون :
[إن الآريوسيين فقدوا الرؤية العامة للأسفار الإلهية.]
أما كلمة «الرؤية العامة» هنا عند القديس أثناسيوس وهي باليونانية δκοπός ، فمرادفها عند إير ينيئوس كان ( النظرية العامة » أو الفكرة الجامعة أو الأساسية. أي أن الإنسان الفاحص للأسفار المقدسة يلزمه أولاً أن يكون لديه الرؤية العامة للأسفار المقدسة حسب تعبير القديس أثناسيوس ؛ أو يكون عنده الفكرة الجامعة الأساسية من الأسفار المقدسة وهذا ما يقدمه التقليد لكل من يعيش مخلصاً للكنيسة وآبائها أباً عن أب، ولكن الهراطقة والمبتدعين إذ لا يأخذون أب ولا عن تـقـلـيـد يفقدون الرؤيا الجامعة للأسفار المقدسة وتعوزهم الفكرة الأساسية التي تقوم عليها .
و يعود القديس أثناسيوس و يوضح كيف سار في المعركة الإيمانية مع آريوس :
[حسب الإيمان الرسولي المسلّم إلينا بالتقليد من الآباء، قدمت هذا التقليد دون أن أستحدث عليه شيئاً من الخارج. فما تعلمته فهذا هو ما كتبته، وهو مطابق للأسفار المقدسة.]
وهنا إشارة محكمة إلى وحدة التفسير مع الأسفار في توافق مطلق يقود إلى استعلان الحق استعلاناً كاملاً مضموناً .
ومن كلام القديس أثناسيوس يتبين لنا أن التقليد كان بمثابة العقل الواعي للكنيسة المفسّر للإيمان. فالإلتجاء إلى التقليد كان يمثل التشبث بفكر الكنيسة الذي هو فكر الرسل والمسيح نفسه !! وهنا نورد قولاً للقديس ألكسندروس بابا الإسكندرية الذي رأس مجمع نيقية :
[ العقيدة الرسولية نحن نموت من أجلها.]
والكنيسة لم تكن تحفظ التقليد في كتب أو تختزنه في مخطوطات، ولكن كانت تعيشه كل يوم في قانون إيمانها الحي الذي تمارسه في صلواتها وعباداتها وطقوسها وأسرارها. لأن قانون الإيمان بتفسيره الكامل كان يلقنه الأسقف للمعتمدين دائماً . لذلك فإن حق تفسير الأسفار المقدسة كان ميراثاً إلهياً للكنيسة، وحقاً موقوفاً عليها وحدها، لأنها تعيشه، ولأنها كانت مستعدة أن تموت دائماً من أجله.
أما قصد الكنيسة من تفسيرها للأسفار المقدسة فلم يكن محدوداً بتوضيح المعنى فقط بل كان أولاً لإعلان المسيح نفسه لكي تحيا به الكنيسة. فالإيمان لا ينتهي عند الفهم، ولكنه يبتدىء و ينتهي بالحياة مع المسيح.
كتب القمص متى المسكين | |||
كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي | |||
المكتبة المسيحية |