تفسير سفر راعوث الأصحاح 1 للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الأول
خرج أليمالك ومعه امرأته نعمي وابناه محلون وكليون من بيت لحم من أجل المجاعة التي حلت في يهوذا وانطلقوا إِلي موآب، وكأنه بالإنسان الذي يظن في الكنيسة “بيت لحم” أنها حرمان وفي المسيح أنه خسارة فيخرج إلى العالم بزوجته (بجسده) وابنيه (مواهبه وطاقاته الروحية والجسدية)، لعل العالم يقدر أن يشبع احتياجاته ويروى جسده وينمي مواهبه، فيفقد كل شيء حتى نفسه.
1. هجرة إِليمالك وعائلته 1-5:
“حدث في أيام حكم القضاة أنه صار جوع في الأرض، فذهب رجل من بيت لحم يهوذا ليتغرب في بلاد موآب هو وامرأته وابناه” [1].
اتسم عصر القضاة بانحطاط روحي مرّ، إِذ قَدَم جيل بعد يشوع لا يعرف الرب ولا يذكر عمل الرب في إِسرائيل (قض 2: 10)، فجرى وراء الآلهة الغريبة وقد لخص الكتاب هذه الفترة التي استمرت حوالي 450 سنة بالقول: “في تلك الأيام لم يكن ملك في إِسرائيل، كان كل واحد يعمل ما يحسن في عينيه” (قض 17: 6). وإذ باع الإسرائيليون أنفسهم للآلهة الغريبة عبيدًا، لذلك كثيرًا ما كان الله يسمح للأمم أن تستعبدهم، وكأنه أراد أن يدخل بهم إلى المذلة بنهب الأمم لهم حتى يدركوا مذلتهم الداخلية بتسليم قلوبهم وأفكارهم لآلهتهم الوثنية. أقول ما كان يسمح به الرب ظاهرًا من آلام إنما مرآة لما حدث لهم داخليًا بمحض إرادتهم خلال انحرافهم عن الإيمان الحق.
في هذه الفترة ظهر أليمالك في بيت لحم من أفراثه مع زوجته نعمي وابناه محلون وكليون الذين هاجروا من بيت لحم إِلي أرض موآب يطلبون الشبع.
لقد دعى الرجل “أليمالك” الذي يعنى (إلهي ملك)، لكنه للأسف حمل هذا الاسم شكلًا أما بقلبه فلم يتكل على ملكه بل خرج إِلي موآب ليحيا تحت ظل ملكها. خرج من “بيت لحم” التي تعني (بيت الخبز) والتي تبعد حوالي خمسة أميال جنوب أورشليم، والتي عرفت بقبر راحيل (تك 35: 19)؛ انطلق من بيت الخبز الحقيقي جائعًا، ولم يدرك أنه في هذا الموضع يولد السيد المسيح “الخبز السماوي”. ومع أنه كان منتسبًا لأفراثه التي تعني (ثمار) لكنه كان عقيمًا في حياته الداخلية. لقد أنجب ابنان لكنهما لم ينزعا عنه عقمه بل أكداه فالأول يُدعى “محلون” أي (جدب) أو (مرض) والثاني يُدعى “كليون” أي (خراب). وكأن هجرة أليمالك لم تأتِ صدفة ولا عن فكر سريع وإنما عن حياة عقيمة مجدبة عاشها أليمالك سنوات طويلة حتى وهو في بيت لحم.
أما زوجته فهي “نعمي” التي تعني (متنعمة القلب)[7] لذلك عندما رجعت وأرادت أن تحمل اسمًا مضادًا دعت نفسها “مرّة” إِذ كانت مرّة النفس. ربما “نعمي” هي مؤنث لكلمة “نعمان” (تك 46: 21؛ عد 26: 40؛ 2 مل 5: 1)، وهو اسم يُستخدم أحيانًا ليعبر عن إِله الخصوبة في الأدب الكنعاني[8].
إِذن خرج أليمالك كمن يطلب ملكًا يشبعه غير الله، حمل معه زوجته نعمي تمثل الجسد المتنعم الذي يطلب الملذات، أما إبناه أي ثماره الروحي فهي المرض والخراب. أي أنه يمثل الإنسان الذي يحمل اسم المسيح دون حياته، فينطلق من بيت لحم من يهوذا ليحيا بجسده متنعمًا، وبثمار فساد عوض الثمار الروحية الحية.
2. العودة إلى أرض يهوذا 6-7 :
إِن كان أليمالك وعائلته قد تركوا أرض ميراثهم وانطلقوا إِلي بلاد غريبة يحتمون فيها بالرغم من تحذير الله لهم من مخالطة الشعوب الوثنية حتى لا يزيغوا عن الحق (تث 23: 6)، فقد فقدت نعمي رجلها وتزوج ابناها بموآبيتين ليستقرا هناك خلافًا للشريعة (تث 7: 3-4؛ خر 34: 15-16)، وحتى هذين الابنين ماتا بلا وارث.
لقد صارت نعمي التي تمثل الجسد المتنعم فاقدة لكل شيء، فقدت حياتها (رجلها) وخسرت مواهبها وطاقتها الروحية والجسدية إِذ مات إِبناها، وتحولت نعمي إلى “مرّة”. هنا إِذ صارت فارغة تمامًا أدركت الحاجة إِلي العودة إِلي أرض يهوذا كما إِلي الكنيسة حيث الشبع الحقيقي والتمتع بافتقاد الله للبشرية، إِذ قيل “فقامت هي وكنتاها ورجعت من بلاد موآب لأنها سمعت في بلاد موآب أن الرب أفتقد شعبه ليعطيهم خبزًا” [6].
3. نعمي تشفق على كنتيها 8-14 :
إِن كانت نعمي تمثل الجسد المتنعم، لكنها في نفس الوقت حملت من جانب آخر لطفًا ورقة في التعامل خاصة مع كنتيها. بلا شك تمسُك كنتاها بها حتى وضعا في قلبيهما أن يتركا شعبهما وعشيرتهما وينطلقا معهما إِلي حيث تذهب دون أن تترجيا منها شيئًا. لقد ردا لها الحب بالحب!
طلبت منهما أن يرجعا إِلي بلدهما معلنة لهما أنها تطلب لهما أكثر مما تطلبه لنفسها، ففي محبتها لهما قالت: “إِرجعا يا بنتيّ، لماذا تذهبان معي؟ هل في أحشائي بنون بعد حتى يكونون لكما رجالًا؟ إِرجعا يا بنتيّ، واذهبا لأني قد شخت عن أن أكون لرجل وإن قلت ليّ رجاء أيضًا بأنيّ أصير هذه الليلة لرجل وألد بنين أيضًا، هل تصبران لهم حتى يكبروا؟ هل تنحجزان من أجلهم عن أن تكونا لرجل؟ لا يا بنتيّ، فإني مغمومة جدًا من أجلكما لأن يد الرب قد خرجت عليَّ” [11-13].
في محبة أعلنت لهما أنها حتى إِن تزوجت الليلة وحملت بأكثر من طفل فهل تنتظر الكنتان حتى تنجب لهما حماتهما رجلين عوض اللذين ماتا؟! هنا لم تشر نعمي إِلي إِمكانية زواجهما من الوليين التاليين، ربما لأنها كانت قد تركت عشيرتها منذ سنوات طويلة ولا تعرف ماذا يكون موقف الوليين من الكنتين خاصة وإِنهما غريبتا الجنس.
على أي الأحوال كان موقف الكنة الأولى “عرفة” موقفًا مُشرفًا، فيه روح الحب الباذل فقد ودعت حماتها إِلي الطريق واشتاقت أن تُلازمها حتى النهاية لكن تحت إِلحاح حماتها ثلاث دفعات تركتها بعد أن سكبت دموع الحب. إِنها مثال بشريّ حيّ يحمل وفاءً صادقًا لكنها في النهاية رجعت إِلي موآب مرة أخرى بعد أن أعطتها القفا، ولعل اسمها يدل على تصرفها، إِذ كلمة “عرفة” تعني (عنق) أو (خلف العنق).
أما راعوث فلم تقدم مثالًا بشريًا رائعًا إِنما فاقت الحدود البشرية. انطلقت بالإيمان إِلي ما فوق الفكر البشري، حملت إيمان إِبراهيم الذي عبر من حاران إِلي كنعان ليتبع الله فيتمتع بالأبوة للأمة المقدسة، أما هي فبالإيمان انطلقت من موآب إِلي كنعان تتعبد للإله الحيّ لتهب هذه الأمة خط الملوك… ومن نسلها يأتي ملك الملوك متجسدًا.
قدمت نعمي ما لديها: الشيخوخة والعقم والعجز، وكأنها تمثل الناموس الموسوي الذي شاخ وأعلن عجزه عن تقديم أولاد يُفرح قلب الأمميات… لكن إِيمان راعوث كان أعظم! ما كان الناموس عاجزًا عن تقديمه صار لنا نحن الذين كنا قبلًا من الأمم خلال الإيمان بالسيد المسيح. وكما لم تبق راعوث مترملة زمانًا طويلًا بعد ولا قبلت أبناء من أحشاء نعمي بل قبلت بوعز عريسًا لها، هكذا نحن أيضًا لم يتركنا الرب في ترملنا ولا وهبنا عريسًا خلال أحشاء الناموس بل قبلنا السيد المسيح – بوعز الحقيقي- عريسًا لنا بالإيمان.
4. إِصرار راعوث على العودة معها 15-18 :
حملت نعمي محبة لكنتيها، وكانت مثلًا حيًا للحماه التي تكسب كناتها، لكن وهي تمثل حرفية الناموس أغلقت باب الرجاء أمامهما فرجعت عرفة أما راعوث فبالإيمان فتحت الباب التي أغلقه حرف الناموس، إِذ في إِصرار أكدت أنها تكمل الطريق، قائلة: “لا تلحي عليَّ أن أتركك وأرجع عنكِ، لأنه حيثما ذهبت أذهب، وحيثما بت أبيت، شعبك شعبي، وإلهك إِلهي، حيثما مت أموت وهناك أندفن. هكذا يفعل الرب بيّ وهكذا يزيد، إِنما الموت يفصل بيني وبينك” [16-17].
الحب يرتفع فوق الحرف وينطلق بالنفس إِلي ما فوق كل حدود حتى الموت، فقد أصرت أن تموت معها وهناك تدفن.
على أي الأحوال يرى القديس چيروم في هذا التصرف من جانب راعوث درسًا حيًا لنعمى التي فقدت رجاءها في كل أحد إِذ مات رجلها وابناها ولم يتركا لها من يعولها، والآن يُقدم لها الرب الأرملة الشابة غريبة الجنس لتكون سندًا لها، إِذ يقول: [هربت نعمي من المجاعة إِلي أرض موآب ففقدت رجلها وابنيها، لكنها إِذ حرمت ممن يسندونها طبيعيًا لم تتركها راعوث الغريبة[9]]. ويرى القديس أمبروسيوس أن تصرف راعوث كان بمثابة مكافأة إِلهيه لنعمى على حياتها التقوية، فما بذرته من حب جنته في أواخر حياتها، إِذ يقول: [لقد حُرمت نعمي من رجلها وابنيها وفقدت نسلها فصارت عقيمة لكنها لم تفقد مكافأة رعايتها التقوية إِذ وجدت تعزية في حزنها وعونًا في فقرها[10]].
ونحن كمؤمنين نقف في إِجلال أمام نعمي وراعوث، فنعمى. استطاعت وهي “حماه” أن تقتنص بالحب كنتها لتسحبها حتى من شعبها وآلهتها الوثنية لترتبط بها وبشعبها وبإلهها دون أن تترجى شيئًا ملموسًا. لا بد وأن راعوث قد رأت في حياة نعمي شهادة حب صادق وحياة تقوية فائقة سحبت قلبها وفكرها وكل طاقتها من الحياة الموآبية الفاسدة! هذا وإِن ما قالته راعوث لحماتها يبقى حديثًا حيًا خالدًا يكشف عن قلب أحب حتى الموت… تُرى هل نحب مسيحنًا ونشتهي أن نموت وندفن معه كما اشتهت راعوث من جهة حماتها؟!
5. نعمي وراعوث في بيت لحم 18 -22:
“فذهبتا كلتاهما حتى دخلتا بيت لحم، وكان عند دخلوهما بيت لحم أن المدينة كلها تحركت بسببها، أهذه نعمي؟!“[19].
دخول نعمي وراعوث إِلي بيت لحم حرك المدينة كلها، إِذ توقع الكل أن تدخل نعمي ومعها أولادها وأحفادها مع غنم وخيرات كثيرة… لكنها رجعت فارغة تمامًا اللهم إِلاَّ كنتها الموآبية التي تمثل ثقلًا ومسئولية لا عونًا. وهكذا صارت نعمي مثلًا صارخًا للإنسان الذي يطلب تنعمه في العالم لا الله فيفقد كل شيء، ربما حتى ملامحه وابتسامته، إِذ قيل “أهذه نعمي؟!”.
حقًا كما أن الإنسان الذي يلتصق بالله ليتجلى في داخله يحمل بهاءه فيه منعكسًا حتى على ملامحه الخارجية فإن الإنسان الذي يهرب من الله طالبًا شبع العالم يفقد حتى سلامه الطبيعي وهدوء قلبه وبشاشته الظاهرة!
إِذ دخلت نعمي ومعها راعوث إِلي بيت لحم بعد غيبة طويلة “قالت لهم: لا تدعوني نعمي بل ادعوني مرّة، لأن القدير أمرّني جدًا، إِنيّ ذهبت ممتلئة وأرجعني الرب فارغة، لماذا تدعونني نعمي والرب قد أذلني والقدير قد كسرني” [20-21].
لقد حسبت نعمي أن ما حدث لها ليس فقط علامة على غضب الله عليها وإِنما حسبته إِعلانًا عن خطاياها. لقد كشفت أن ما حلّ بها ليس مجرد صدفة ولا كوارث طبيعية مجردة لكن يدّ الله القدير امتدت إِلي حياتها لتفضح ضعفها وتكسرها… لأجل بنيانها.
ومع ما حملته كلمات نعمي من نغمة المرارة لسقوطها تحت التأديب الإلهي لكنها قدمت نغمة الشكر لله الذي أرجعها إِلي بيتها مرة أخرى حتى وإن كانت فارغة.
لقد رجعت نعمي في وقت الحصاد [22] لتجد حقول بيت لحم قد امتلأت بالثمار… فإن كانت قد رجعت فارغة لكن الله يشبعها من حصاد بيت لحم (الكنيسة). إِن كانت قد صارت نعمي “مرّة”، فمولود بيت لحم هو وحده يقدر أن ينزع عنها مرارتها ليهبها سلامه وفرحه، وكما يقول الأب يوحنا من كرونستادت: [إِذ يحل المسيح في القلب بالإيمان يسكن فيه السلام والفرح، فإنه ليس بدون سبب يُقال عن الله قدوس ويستريح في قديسيه[11]]، كما يقول: [إِنني أرى بعينيّ قلبي كيف أتنسم المسيح في قلبي عقليًا، كيف يدخل إِليه فيهبه فجأة سلامًا وفرحًا. لا تتركني أسكن وحدي بدونك يا واهب الحياة، يا نسمتي، يا فرحي، فإنه يصعب عليَّ أن أُترك بدونك[12]].