صُرَّة المر حبيبي لي، بين ثديي يبيت

«صُرَّة المر حبيبي لي، بين ثديي يبيت» نش 1: 13

أهمية نشيد الأنشاد للراهب

الكنيسة تحتاج إلى مريم وإلى مرثا تحتاج إلى خدَّام ورعاة تخصصوا للخدمة، وتحتاج أيضًا إلى رهبان عملهم الوحيد هو العبادة ومحبة الرب بكل القلب. والإنسان لكي ينجح لا بد أن يعرف طريقه ودعوته. فالإنسان المُهيَّاً لطريق الخدمة يكون الخطأ أن يترهَّب، والعكس أيضًا. فالمدعو للرهبنة لا أن يُكرّس من صحيح يصح نفسه للخدمة، وإن فعل ذلك لا تكون خدمته ناجحة الراهب هو إنسان اختاره الله ليُكرّس نفسه للحب الإلهي ويتخصص في عبادته، وتقديم الحب له. لذلك هو يجد في نشيد الأنشاد خير معينٍ له لتتميم دعوته. وهو حينما يُقدِّم الحب للمسيح، لا يفعل ذلك بصفته الشخصية فقط، بل كعضو في جسد الكنيسة يقدم الحب للمسيح بالنيابة عن الكنيسة كلها. فالكنيسة كلها جسد واحد، والله شكل الجسد بكل الأعضاء اللازمة له بشرط أن يكونوا جميعًا مترابطين ومترافقين معا فيقوم كل عضو بدوره بالنيابة عن الجسد كله.

«صُرَّة المر حبيبي لي»

المُرُّ نوع من الأعطار طعمه مرّ ولكن رائحته عطرية منعشة، وهو من أفضل المواد الحافظة. وبسبب أنه مُرٌّ فهو يمثل الآلام فمعروف أن المجوس قدَّموا للمسيح المر تعبيرا عن آلامه المزمعة. وعند الصليب قدَّم العسكر للمسيح «خمر ممزوجةً بِمُرّ»(مر15: 23)، وعندما أراد يوسف ونيقوديموس أن يُكفّناه أحضرا «مزيج مُرٌ وعود نحو مئة منا » (يو 19: 39) فالمُر يُمثَّل الآلام، ولكن بسبب رائحته الطيبة المنعش فهو يُمثل الألم الممزوج بالحب، أو الحب المؤلم.

فعندما تقول العروس إن الحبيب مثل صرَّة المرّ وإنه بين ثدييها يبيت، تعني أن حبَّه مؤلم للقلب، ولكنه في نفس الوقت ألم مُبهج ومُفرح. وهنا تقابلنا نفس المضادة التي سمعناها في قول بولس الرسول: «أفرح في آلامي» (كو 1: 24). فالذي يوحد الفرح بالآلام هو الحب الإلهي.

الحب الإلهي حب يجرح القلب. كانت العذراء أكثر من جُرح قلبها بالحب الإلهي، كما تنبأ لها سمعان الشيخ: «وأنتِ أيضًا يجوز في نفسكِ سيف» (لو 2: 35). وتُصوّرها لنا صلوات الكنيسة وهي واقفة تحت الصليب تقول: [أما العالم فيفرح لقبوله الخلاص، وأما أحشائي فتلتهب عند نظري إلى صلبوتك الذي أنت صابر عليه من أجل الكل يا ابني وإلهي] (قطع الساعة التاسعة). فالعذراء مثال أول، أو مثال أعلى للنفس التي يُجرح قلبها بالحب الإلهي.

في ذكصولوجية الصليب نقول: [السلام للصليب سيف الروح]، فالصليب هو سيف الروح القدس الذي به يجرح الروح القدس القلوب بالحب الإلهي.

في سفر التثنية توجد نبوة عجيبة عن جرح الحب الإلهي هذا، يقول:
«ويختن (= يجرح) الربُّ إِلَهُك قلبك وقلب نسلك لكي تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك لكي تحيا» (تث 30: 6).

نلاحظ في هذه الآية أولاً أن هناك علاقة بين ختانة القلب وبين الحب الإلهي، وهذه أول إشارة مبكرة لجرح القلب بالحب الإلهي . كذلك نلاحظ في قوله «لكي تحيا أن هذا الحب هو الذي يوصل للحياة الأبدية وهذا بعينه ما قاله المسيح للذي سأله ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟»، فكانت الإجابة: «تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك … افعل هذا فتحيا» (لو 10: 20- 28)، فهذا الحب هو الطريق الرسمي للحياة الأبدية.

«أفرح في آلامي»

قلنا إن المرَّ الذي يجمع بين طعم المرارة وبين الرائحة الطيبة المنعشة يُشير إلى آلام الحب الإلهي الممزوجة بالفرح الروحي: «أفرح في آلامي».

هناك آيات أخرى كثيرة في العهد الجديد تجمع بين هذين الأمرين اللذين يبدوان متناقضين، أي بين الألم والفرح:

+ «أُسرُّ بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح» (2کو 12: 10).
+ «احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة» (يع 1: 2)
+ «فذهبوا فرحين من أمام المجمع لأنهم حُسبوا مستأهلين أن يُهانوا من
أجل اسمه» (أع 5: 41).
+ «كما اشتركتم في آلام المسيح افرحوا لكي تفرحوا في استعلان مجده أيضًا مبتهجين» (1بط
  4: 13).

ولكن لماذا الألم في المسيحية صار هكذا ممزوجا بالفرح؟

ذلك لأن الألم صار شركةً في آلام الرب وهذه الشركة هي شركة حب، وشركة الحب دائمًا مُفرحة نجد تعبيرًا عن هذه الشركة بوضوح في قصة يعقوب ويوحنا اللذين طلبا من المسيح أن يجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره في ملكوته! لكن المسيح صحح لهما الطلب قائلاً: «لستما تعلمان ما تطلبان. أتستطيعان أن تشرب الكأس التي أشربها أنا؟ » (مر 10: 38) معروف أن الشرب من الكأس الواحدة لأي جماعة متحابة هو من أكبر علامات الألفة والمحبة، وكان لليهود ولائم طقسية تُعرف بالحابوراه أي “وليمة المحبة”، وفيها كانت كأس خمر تدور على المجتمعين. فالمسيح هنا يعرض على يعقوب ويوحنا الشركة في آلامه في صورة شركة في المحبة، كالموجودة بين الأحباء حينما يشتركون في كأس واحدة. (٦

والآن كيف تترجم هذا الكلام في حياتنا العملية؟

كيف نفرح بالآلام؟

لنفرض أنه أصابني ألم أو وجع أو مرض من أي نوع، أو أساء إلى أحد إخوتي، أو أني ظلمتُ وجُرحت في كرامتي،… نتيجةً لذلك تكون نفسي مجروحـة مـن الداخل؛ ولكن إن اعتبرتُ أن هذا الجرح هو شركة في شرب الكأس مع المسيح، وأنه عطية وموهبة من الرب: «قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط، بل أيضًا أن تتألموا لأجله» (في 1: 29)، حينئذ يمكن أن أفرح، يمكن أن أشكر الرب، وأشترك في الصلاة التي قالها الشهيد بوليكاربوس، بينما كانوا يحرقون أعضاءه:

[أباركك، أيها الآب، لأنك حسبتني أ أهلاً لهذا اليوم وهذه الساعة لأنال نصيبًا مع جميع قديسيك في كأس مسيحك].

فالذي ينتبه أن الآلام التي تُصيبه يمكن أن يقبلهـا مـن أجـل حـب المسيح، ستصير كل آلامه ممزوجة بالفرح والشكر . حينئذ يمكن أن يقول مع بولس الرسول: «أفرح في آلامي»، هذا القول العجيب الذي يجمع بين كلمتين متناقضتين كل الألم والفرح، ولكن الذي جمع بينهما هو الحب الإلهي. التناقض:

«صرة المر حبيبي لي»

الحب الإلهي ليس سهلاً، إنه دائمًا يجرح القلب ويؤلمه، لماذا؟ لأنه يُميت الذات. اعلم أن محبتك للمسيح تتناسب تناسبًا عكسيًا مع محبتك لذاتك. فالظروف التي تنمي حبك للمسيح هي هي نفسها التي تُميت ذاتك. لو كنت جاهلاً لهذا الأمر، فإنك سترفض السلبيات التي تُصيبك وتتذمر عليها وتسأل الله لماذا : لك بهذه يسمح التجارب ….

أما إن انتبهت أن هذه الظروف عينها هي التي تساعدك على نموّك الروحي وتُعطيك شركة في شرب كأس المسيح؛ فإنك في الحال ستجد مشاعر حب وفرح تغمر قلبك، عند قدوم أي تجربة.

إذا فهمت ذلك، فإنك إذا تعرّضت للإساءة قد تشعر أن نفسك مجروحة ومعجونة من الداخل، ولكنك في نفس الوقت تشعر أن روحك راضية ومتعزية، بل العجيب أنها تشمت في ذاتك، وكأنها تقول لها: “موتي يا ذاتي، لا توجد طريقة يستطيع بها الله أن يُميتكِ ويُخلّصني منك سوى بهذا الشخص الذي جرحك وأهانكِ وشتمك، وادَّعى عليكِ أشياء لم تحدث. فإذا فهمتُ أنَّ حُبي للمسيح يتناسب عكسيًا مع تمشكي بذاتي، فبقدر ما تكون ذاتي مجروحة بقدر ما تكون روحي فرحةً وفائضة بكلمات الحب والشكر للمسيح.

«بين ثديي يبيت»

«إنه دخل ليبيت عند رجل خاطئ (زکا)» (لو 19: 7).

«وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً» (يو 14: 23).

كلمة «يبيت» تشير إلى تواجد الرب على الدوام، في الليل والنهار، بين جدران قلبي «بين ثديي»…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى