البابا غبريال الثاني

 

 لما كانت قصة الإنسان تبدا بالمهد وتنتهي إلى اللحد ، كان القول بأن التاريخ يعيد نفسه صحيحاً إلى حد بعيد. ذلك لأن المؤرخ كلما تناول سيرة بطل من الأبطال إضطر إلى أن يبدأها وينتهي منها على الوتيرة عينها . وهكذا يتكرر القول بأن السدة المرقسية شغرت بانتقال البابا الجالس عليها إلى الأخدار السماوية واجتماع الأساقفة والأراخنة للتداول فيمن يخلفه . وعلى هذا القياس نرى أن كرسى مارمرقس خلا للمرة التاسعة والستين ، وللمرة التاسعة والستين أيضا اجتمع الأساقفة والأراخنة للتشاور في أمر من ينتخبونه .
وكان لكنيسة القديس مرقوريوس ( أبي السيفين ) إذ ذاك شماس اسمه أبو العلا بن تريك ، حكيماً ، محباً للجميع ، متضلعاً من الأسفار الإلهيه والعلوم المدنية ، ساهراً ، صاحياً. وفوق هذا كله فقد كان راسخ العقيدة الأرثوذكسية ، محباً للشعائر الدينية ، مكرساً للصلاة والتأمل . وكان يقضي نهاره في نقل الكتب وافتقاد اليتامى والأرامل والسؤال عن المسجونين ، وكان أبو العلا – إلى جانب شماسيته – كاتباً في ديوان الخليفة الأمر. ولكن لما جاءت نياحة الأنبا مكاري الثاني في أعقاب مقتل الأفضل ، ظل الكرسي المرقسي شاغرة مدة من الزمن  – لأن الأساقفة والأراخنة لم يجتمعوا بسبب اختلال الأمن . فلما هدأت الحالة نوعاً ما اجتمعوا معاً ، رأوا أن ينتدبوا نفراً منهم للذهاب إلى دير الأنبا مكاري الكبير في برية شهيت، فلما وصل المندبون إلى ديرهذا القدس العظيم صحبهم  رهبانه إلى دير الأنبا يؤنس كامي الذي كان يرأسه إذ ذالك ناسك شيخ معروف بقداسته وتقواه اسمه يوسف، وحالما وقعت أعينهم على هذا الراهب أدركوا في الحال صدق ما سمعوا عنه لأن النعمه الإلهيه كانت تضيئ على وجهه وتنعكس منه بنور عجيب. وما أن رآهم حتى منحهم بركته ثم قال لهم : ( عودوا يا أولادي إلى القاهرة لأن المختار من الله لهذه الكرامة العظمي هو ابو العلا شماس كنيسة القديس مرقوريوس ). ففرحوا لهذه الكلمات فرحاً عظيماً، وزاد فرحهم حين علموا أن هذا الشماس كان يلعب في طفولته أدوار الكهنة والشمامسة ، فذكرهم عمله هذا بالأنبا اثناسيوس الرسولي وتمنوا على الله أن يكون مثله.
 وعادوا إلى مصر لفورهم وحملوا أبا العلا إلى الاسكندريه حيث رسمه الأنبا غبريال الثاني سنة ۸۳۸ ش.
وكان ترتيبه السبعين بين باباوات الاسكندرية .
وقد استهل الأنبا غبريال الثاني باباويته بالذهاب إلى دير القديس مكارى الكبير ليقوم بصلاة القداس الإلهي في هذا الدير عملاً بتقاليد ذلك العهد، وقضى بالدير بضعة أسابيع ثم عاد إلى مقر رئاسته بالكنيسة المعلقة ببابليون . وانقضت بضعة أيام جاء بعدها كاهن يرغب في أن يكون أسقفاً على اخميم مقابل مبلغ من المال. فتألم البابا شديدا لهذا العرض ولم يوافق على الرسامة . ومن المؤلم أن هذا الكاهن زعم أنه يستطيع الحصول على بغيته إن هو اشتكي الأنبا غبريال إلى ابن الخليفة . فقابله ، وقدم إليه هدايا ثمينة ، فأرسل ابن الخليفة رسولاً من عنده إلى البابا الإسكندرى ، يطلب إليه رسامة الكاهن الذي لم يرع للكهنوت حرمة . فبعث هذا البابا الجرئ الجدير بأن يجلس على السدة المرقسية  برسالة الى الخليفة نفسه لم يقل فيه غير هذه العبارة :  (أن ديني يمنعني من رسامة كاهن يبغي هذه الكرامة بالمال) وكانت هذه الرسالة القصيرة سبب في أن يحترم الخليفة وابنه كاتبها منذ اللحظة التي تلقاها فيها حتى آخر نسمة من حياتهما . وأصدار الأوامر إذ ذاك إلى المصريين جميعاً بوجوب احترام الأوامر الباباوية وتنفيذها بكل دقة وسرعة .
 وحدث أن الخليفة الآمر بدأ يجمع في شخصه سلطة الخلافة وسلطة الوزارة لأنه – بعد أن قتل الأفضل – عين وزيراً بدلاً منه اسمه المأمون. ثم لم يلبث أن قتله. ثم نال راهب قبطي اسمه أبو نجاح حظوة كبيرة في عيني الخليفة ، فأتخذه مستشاراً له ولو أنه لم يعينه وزيراً . ولكن الآمر رأي بعد شهور  قصيرة أن يتخلص من مستشاره بنفس الطريقة التي تخلص بها من وزيريه ، على أن رجال بلاطه  سئمواهذاالشطط، فاغتاله أحدهم في ثورة غضب وتولى الخلافة من بعده ابن عمه الحافظ.
 وفي تلك الأثناء تقدم ملك الحبشة إلى الأنبا ميخائيل مطران تلك البلاد إذ ذاك ، يرجر منه رسامة أسقف أكثر من العدد المتفق عليه بين كنيستي الاسكندرية والحبشة . على أن الأنبا ميخائيل رد على الملك بقوله انه لا يستطيع أن يخرج على التقاليد إلا بأذن من البابا الاسكندري ، فلم يقنع الملك بهذا الجواب بل أرسل خطابا إلى الأنبا غبريال الثاني يتضمن طلبه هذا ، ثم تجاوز الحدود فبعث إلى الخليفة الحافظ يستشفع به . فما أن تلقي الحافظ هذه الرسالة حتى بعث برسول من قبله إلى البابا الإسكندرى بطلب إليه أن يحقق رغبة الملك الحبشي . فقال البابا المرقسي : « لو انني حققت أمنيته لعجلت باليوم الذي تنفصل فيه الكنيسة الحبشية عن أمها الكنيسة القبطية التي تعتز بهذه الأمومة . ولا شك عندي في أنه لو تم هذا الانفصال لأدى إلى إضعاف العلاقات بين البلدين) . وقد اقتنع الحافظ بهذا الرد ووافق البابا الإسكندرى على رأيه في عدم رسامة أسقف جديد .
ثم رأي الأنبا غبريال الثاني أن مسئوليته لا تنحصر في رعاية شعبة المعاصر له ، بل أنها تمتد لتشمل الأجيال الآتية من بعده ولكي يؤدي هذه المسئولية أصدر مجموعتين من القوانين : تتضمن المجموعة الأولى منهما اثنتين وثلاثين مادة يتعلق الجزء الأول منها بالأساقفة والكهنة وبالمسلك الذي يجب عليهم انتهاجه كرعاة مؤتمنين على الشعب المسيحى، ويختص الجزء الثاني منها بالشعائر الدينية والفرائض الكنسية. أما المجموعة الثانية فتشتمل على قوانين الميراث . وقد وجه الأنبا غبريال الثاني هاتين المجموعتين إلى الكهنة والشعب إذ قال : “غبريال – بنعمة الله وحكمته الفائقة ، وسابق عمله – بطريرك مدينة الاسكندرية العظمى وبابا الكرازة المرقسية . يكتب إلى جميع الاخوة المُظللين بنعمة الله المختارين، ليباركهم الله , وبذراعه القوية ليخلصهم ويحميهم ، وليكن السلام والنعمة معكم ، وليسكنا فيكم ، وليفيضا على بيوتكم من الأن وإلى الأبد آمين” . وبعد أن قدم الأنبا غبريال الثاني السبح لله على نعمائه ، قال : « عندما تأملت الكرامة التي منحني إياها الله الأب ضابط الكل امتلات رحمة لعظمتها ، وحين أمعنت التأمل خيل إلى أنني أسمع صوت  موسي العظيم في الأنبياء قائلا : أنا ثقيل الفم واللسان، والى ارميا وهو ينذر بقوله :  أني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد ، وتجاوبت مشاعري مع هذين النبيين وهما يعبران عن عجزهما أمام ما يأمرهما به الله القدير إذ أحسست بضعفي وعجزي أمام مجد الكرامة الكهنوتية وما يستتبعها من مسئوليات . وعندما رن في أذني الأمر الألهي كما أن في آذان هذين النبيين وحتم على الطاعة ، فلم يسعني إلا أن ابذل الجهد لتنفيذ أحكام الله ، طالبا إليه تعالى أن يسندني بنعمته ويؤازرني بحكمته ويقويني لكي أرعى شعبه وأرشده إلى ميناء السلام . ولما عملت على تحقيق وصايا الله تذكرت كلماته سبحانه إلى حزقيال النبي وهي : إذا لم تنذر الشرير . ولا تكلمت انذارا له من طريقة الرديئة لاحيائه . فذلك الشرير يموت بأثمه , أما دمه فمن يدك أطلبه”. ولهذه الأسباب كلها سارعت إلى تدوين هذه القوانين تذكيرا لكم ، واستنهاضا لهمتكم ، رغم أني متأكد من أنكم تعرفون غرضي الذي استهدفه من هذا العمل ، وانني على يقين من أنني – بتنفيذي الوصايا الإلهية – أنال واياكم البركة والسلام فكونوا على ثقة من أنكم حين تسمعون كلامي لا تطيعونني أنا ، وإنما تطيعون الأب السماوي الذي أقامني لرعايتكم وتطيعون الإبن الحبيب الذي قدم حياته فدية عنكم ، وتطيعون الروح القدس الذي يرشدكم ويهديكم إلى طريق الحق والإله الواحد – المثلث الأقانيم – يجازيكم خيرا يعوض أتعابكم بحسب مراحمه الجزيلة . ثم انتقل البابا المرقسي – بعد هذا الخطاب – إلى تدوين القوانين التي عدها في المرتبة الأولى من الأهمية وهي الخاصة بحماية رجال الدين والشعب معاً مبتدئا بنفسه ، فهو نص في المادة الأولى على نهى الباباوات من الالتجاء إلى السيمونية. 
أما المجموعة الثانية فتهدف إلى تنظيم الارث . وقد استهلها البابا غبريال الثاني بقوله . أنه لما كانت المسيحية ديناً يهيئ الناس للحياة الأبدية ، فقد أغفل الرسل والآباء الأولين أمر المواريث اغفالاً تاما . ثم مرت الأجيال ، وأدرك بعض البابارات أن الشعب في حاجة إلى من يرشده في هذه الأمور ، على أنه لما كانت بعض القوانين التي وضعوها لا تصلح إلا للعصور التي وضعت فيها ، فقد قرر أن ينقحها ويبوبها مستعينا بما جاء في الأسفار المقدسة وفي القوانين التي وضعها الآباء الأولين.
على أن الأنبا غبريال اختط طريقاً أدي في النهاية إلى القضاء على اللغة القبطية ذلك أنه لما وجد أن الغالبية من الشعب لم تعد تفهم اللغة القبطية أصدر أمره بقراءة الأناجيل والخطب الكنسية وغيرها من القراءات باللغة العربية بعد قراءتها بالقبطية حتى يتسنى لجمهور المصلين فهم ما يسمعونه . وهذا الأمر سليم من حيث التربية لأن المصلين يجب أن يفهموا الشعائر فهماً صحيحاً لكي يستطيعوا تركيز انتباههم على ما يسمعون والا تشتت أفكارهم ونقصت قيمة الصلوات التي ترن في مسامعهم دون إدراكهم إياها . على أن الاستعاضة بالعربية عن القبطية في الشعائر نفسها ضاعفت من استهانة القبط بلغتهم الأصلية إذ لم تعد لها أية ضرورة اطلاقا . وقد أدرك خلفاؤه خطورة هذا الأمر ولكنهم عملوا به . ولكن هل كان في استطاعة الأنبا غبريال وخلفائه أن يستحثوا القبط على دراسة لغتهم كي يفهموا الشعائر الدينية على الأقل ؟ لا نستطيع تقديم الرد القاطع على هذا السؤال . ولكن الذي نستطيعه هو أن الأيام قد أثبتت أن الأمر الذي أصدره أدي في النهاية إلى أن تصبح اللغة القبطية في حكم اللغات الميتة وبخاصة بعد طغيان الأفكار الدخيلة واللغات الأجنبية على بلادنا . ويا حبذا لو يأتي اليوم الذي فيه يتقن الشعب لغة كنيسته ولا يصلي إلا بها.
وما أن فرغ الأنبا غبريال الثاني من كتابة هذه القوانين حتى مرض وقارب الموت . وذات ليلة رأى في حلم جموعاً من الكهنة والرهبان يحملون الأناجيل والمجامر والصلبان ، وسمعهم يقولون له : « ستنال الشفاء من هذا المرض الصعب . ولكننا سنعود إليك بعد سنة من الزمان لنأخذك كي تعيش معنا ». وقد تحققت هذه الكلمات ، إذ أن البابا الاسكندري قد عوفي بعد أيام قلائل من مرضه ، وعاود رعاية شعبه بكل أمانة . ولما استكملت الأرض دورتها حول الشمس تمت الرؤيا وانتقل إلى بيعة الأبكار في هدوء شامل . وكانت أيام باباويته أربع عشرة سنة وثلاثة
شهور.
___
من كتاب قصة الكنيسة القبطية – إيريس حبيب المصري
 
 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى