إخفاء المسيح لمسيَّانيته كان أمراً هاماً في رسالته
المسيح كان يعي مسيانيته منذ بدء نزوله للخدمة حتى ختامها، ولكن لم يكن إعلانه عنها في البدء كما كان في الختام. إذ كان حذراً أشد الحذر في بداية خدمته ـ بعد أن كشف عن سلطانه الفائق على الشيطان والأمراض بكل أنواعها وعلى الطبيعة – أن يكتشف الناس أنه مسيا الآتي. والسبب في ذلك لم يكن في شيء ينقصه؛ بل للتعاليم الخاطئة التي سَرَتْ بين الشعب بكل فئاته أن المسيا الآتي سيكون على مستوى السياسة: ملك مُحارب، وعلى مستوى الخلاص يخلص الشعب من عبوديتـــه تحت أيدي الرومان. حيث فُهمت الآيات في النبوات والمزامير فهماً خاطئاً. يتناسب عقلية الشعب وتصوراته، فالمسيا “ سيضرب الأمم بعصا من حديد”، «تحطمهم بقضيب من حديد مثل إنــاء خراف تكسرهم» (مز 9:2) «أفض رجزك على الأمم الذين لا يعرفونك وعلى الممالك التي لم تدعُ باسمك.» (مز 6:79)
لذلك حرص المسيح أشد الحرص أن لا يفهم الشعب أنه المسيًّا الآتي للحرب والسياسة والخلاص من أيدي الرومان والأعداء. فكان يوعي تلاميذه أن لا يقولوا إنه المسيَّا، وأيضاً المرضى وكل الذين أخرج منهم الشياطين أمرهم أن لا يقولوا لأحد. والشياطين التي كانت تعترف أنه ابن الله وأنه جاء ليعذبهم كان ينتهرهم حتى لا يتكلموا. كل ذلك كان بقصد أساسي أن لا يخطئ الشعب في فهـــم مسيَّانيته. ولكن عدا ذلك كان يقولها صراحة أنه ابن الله وأنه جاء ليخلص من الخطية والعدو الحقيقي وهو الشيطان. ولما سأل المسيح تلاميذه ماذا يقولون عنه : مَنْ هو، واعترف المسيح ابن الله الحي، تهلل المسيح بالروح وعلق على ذلك بأن الآب نفسه – وليس لحم ولا دم – هو الذي أعلن له هذا. وبعدها ابتدأ المسيح يُعلن عن أ آلامه المزمعة وموته وقيامته.
بمعنى أن المسيح كان يتمشى في إعلانه عن نفسه بالقدر الذي يتساوى مع إمكانية التلاميذ والشعب في إدراك مسيَّانيته الإدراك الحقيقي والصحيح.
أما في أواخر خدمته للملكوت فابتدأ يُعلن صراحة – سواء بأقواله أو بأعماله – أنه هو مسيا الآتي. كما أعلن ذلك صراحة ومواجهة لرؤساء الكهنة : «فأجاب رئيس الكهنة وقال له: أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله؟ قال له يسوع أنت قلت وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء.» (مت 26: 64,63)
أما الشعب فقد استخدم معهم التعليم المتدرّج والتعبيرات المخفية، مثل: ابن الإنسان، وهو الاصطلاح النبوي الذي تكلّم عنه دانيال أنه هو مسيَّا الآتي، صاحب الملكوت والمملكة الآتية، ذلك حسب التقليد. وبالرغم من ذلك لم يستطع أن يمنع الشعب – الذي أطعمه من الخمس خبزات والسمكات القليلة – من أن يكتشف أنه هو المسيَّا الملك الآتي إنما بمفهوم الخلاص المادي والحربي ومُعطي خبز الراحة. فقاموا قومة واحدة وانضم لهم التلاميذ ليمسكوه عنوة ويجعلوه ملكاً، مما جعل المسيح يلزم تلاميذه بركوب السفينة في الحال وبأن ينطلقوا عبر البحيرة. واستطاع بسلطانه أن يهدئ هذه الزوبعة وانطلق وحده في الجبل ليُصلّي، إذ كانت هذه تجربة قد ساقها العدو ليفسد عليه استعلان ملكوته الروحي.
لذلك ولا محالة قد خسرنا كثيراً جداً من إمكانيات استعلان المسيح لنفسه على المكشوف أثناء تعليمه وخدمته. أما هو في ذاته فكان إحساسه بمسيَّانيته وببنوته الله أمراً واضحاً شديد الإشعاع، مع تواضع ووداعة فائقة التصور. اسمعه وهو يتكلّم عن نفسه : «فالذي قدَّسه الآب وأرسله إلى العالم أتقولون له: إنك تحدف، لأني قلت إني ابن الله !» (يو (36:10). ثم اسمع تواضعه العجيب في احتجاج لطيف: «قال لهم يسوع: لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم. ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلّمكم بالحق الذي سمعه من الله هذا لم يعمله إبراهيم» (يو 8 40,39). فمن هذين التصريحين نتيقن كيف كان يحمل الإحساس المتعاظم جـــداً بلاهوتـــه والمتواضع جدا ببشريته !! فلما أرادوا إحراجه أن يكشف عن نفسه علانية، زادها خفاء دون أن ينقص من حقيقة نفسه: «فاحتاط به اليهود وقالوا له: إلى متى تعلّق أنفسنا؟ إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهراً. أجابهم يسوع: إني قلت لكم ولستم تؤمنون الأعمال التي أعملها باسم أبي هــي تشهد لي» (يو 10 (24 و 25). إلى هذا الحد كان حريصاً جداً أن . يترك لهم هم ا مَنْ هو؟ وكانوا متحيّرين ومنقسمين بسبب . تدخل الفريسيين في التقليل من تعاليم المسيح ومعجزاته : وها هو يتكلم جهاراً ولا يقولون له شيئاً ! ألعلَّ الرؤساء عرفوا يقيناً أن هذا هو المسيح حق أن يقولوا . ا؟» (يو26:7)