تفسير المزمور 26 للقديس أغسطينوس

عظة أولى في المزمور الخامس والعشرين
(بحسب السبعينية)
طهارة الكنيسة

هذا المزمور هو نشيد الطهارة الحقيقية : يُمكن أن ينطبق على الكنيسة المطهرة بيسوع المسيح، أو على النفس المؤمنة التي تنشد سعادتها، والتي لا تتذوّق طعم السعادة إلا في الطهارة.

لداود

1- يُمكن أن يُفهم بداود هنا، لا يسوع المسيح الوسيط في بشريته، بل الكنيسة الراسخة البنيان في المسيح.

2 – «قاضني يا ربّ فإنّي سلكت في الطهارة» (26: 1). قاضني يا ربّ، فإني بعد أن غمرتني برحمتك، نلت بعض استحقاق بسبب طهارتي التي حفظتُ طُرُقَها. وعلى الربّ توكلت فلا أزل»: غير أنّي لا أتوكل على نفسي، بل على الربّ فلا أتزعزع.

3- «جربني يارب وافحص نفسي» (26: 2)، لئلا يغيب عن ناظري سقم خفي، امتحنّي يا ربّ وجرّبني . عرفني بنفسي وبالناس، لا بك أنت الذي ترى كلّ شيء. «امتحن بالنار كُليَتَيَّ وقلبي». داوِ أفكاري وشهواتي بدواء يُطهِّرُها كما النار. «فإن رحمتك أمام عيني في كلّ حين» (26: 3). لئلا تأكلني النار بكليتي، أضع أمام عينيَّ، في كلّ حين، لا استحقاقاتي بل تلك الرحمة التي تعضدني في حياتي هذه. «وطاب لي حقك». أنفتُ في كلّ ما هو كذب، وطاب لي حقك. وبه ومعه استطعت أن أرضيك.

4 – «لم أجالس أهل الباطل» (26: 4). لم أطلب لقلبي جماعة الذين يجهدون في طلب لذة الخيور العابرة، ليتمتعوا بسعادة مستحيلة . وإلى صانعي الإثم لا أنضم : ولمّا كانت تلك الخيور مصدر كل إثم، فإنّي لا أتورّط مع أصحاب الدسائس.

5- «أبغضت الأشرار» (26: 5). لكي تتألف جماعة مجمع بطل، ينبغي أن يجتمع الأشرار، وأنا أمقت تلك المجامع . «ولا أريد مجالسة المنافقين»: لا أريد أن أشارك الأثمة في مجالس كهذه، لأنّي لا أجعل فيها سعادتي. لن أجالس الأثمة.

6 – «مع الأبرار، أغسل يدي» (26: 6): مع القديسين اصنع أعمالا صالحة، ومع الأنفس القدّوسة أغسلُ يديَّ اللتين ستطالان رفعةً ملاك. وأطوف بمذابحك يا الله!».

‏7- «لكي أسمع صوت تسابيحك» (26: 7). وأتعلم أن أباركك. «وأُخبِرَ بجميع معجزاتك». عندما أتعلم أن أسبحك، أُحدّث بجميع معجزاتك.

8- «يا ربّ، إني أحببت جمال بيتك» (26: 8)، أي كنيستك . «ومقام سكنى مجدك»، أي المقام الذي تتمجد في سكناه.

9- «لا تهلك نفسي الخطأة» (26: 9) أي لا تُهلك نفسي مع مع الذين يبغضونك، فإنّها تُحبّ جمال بيتك. «ولا حياتي مع أهل الدماء». أي مع الناس الذين يبغضون القريب. لأنّ بيتك تزينه وصيتان.

10– «أيديهم ملوّثة بالإثم» (26: 10). لا تهلكني مع أهل الدماء ذوي الأعمال الشريرة. «يمينُهم مملوءة رشوة». وما أعطوه لينالوا الخلاص الأبدي، استخدموه لجمع خيور هذا العالم، ونظروا إلى الرحمة كتجارة (1تي 6: 5).

11- «أمّا أنا الذي سلكت في الطهارة فافتدني برحمتك» (26: 11). وليكن دم إلهي الثمين خلاصًا لي كاملا، ولا تتخلَّ عنّي رحمتك إلى الأبد.

12- «ثبتت قدماي في طريق الاستقامة» (26: 12). لم تنأ محبّتي عن البر «في المجامع أبارك الربّ». لن أترك الذين تدعوهم يتجاهلون جودتك، لأنّي أجمع إلى محبتك محبة القريب.

 

عظة ثانية في المزمور الخامس والعشرين
الطهارة

 يُلائم القديس أوغسطينس المزمور مع الفكرة التي تقول بأنّ علينا أن نتسامح مع الأشرار في الكنيسة، الأمر الذي يبدو موجها ضدّ الدوناتيين الذين تذرّعوا في انشقاقهم بالفوضى المنتشرة بين المسيحيين، وبالمسيحيين الضعفاء الذين يُزعزعهم الشك من اجتماع الأشرار مع الأبرار. ويحثّ الصالحين على أن يُثَمروا في نفوسهم عطايا الله .

1 – قرأتم قداستكم، مثلنا، هذا المقطع للقديس بولس: «على حسب الحقيقة التي علمناها يسوع المسيح، ينبغي أن تخلعوا عنكم الإنسان العتيق الذي عشتُم فيه في الماضي، والذي تُفسده أوهام شهواته، وتتجدّدوا في داخل أنفُسِكم، وتلبسوا الإنسان الجديد الذي خُلق على صورة الله في البرّ والقداسة الحقيقية» (أف 4: 21-24). ولئلا تتصوّروا أنه ينبغي أن نتعرّى من شيء محسوس كمن يتعرّى من ثوب، وأن نلبس كمن يرتدي ثوبا ، كما لو كنا نخلع عنا رداء لنلبس رداء آخر؛ ومخافة أن تحول فكرة أرضيّة دون أن يتم الناس في الداخل، وبطريقة روحيّة، ما يوصينا به الرسول، فإنّه يوضح لنا، لتوه ما معنى أن نخلع عنا الإنسان العتيق ونلبس الإنسان الجديد. لأنّ ما تبقى مما قرأناه، يُفسر لنا ذلك. يبدو وكأنّه يُجيب على هذا السؤال : كيف أخلع عنّي الإنسان العتيق وألبس الإنسان الجديد؟ أأكون مثل إنسان ثالث أخلع عنّي عتيقا كان لي لأتخذ جديدا لم يكن لي؟ فنكون أمام ثلاثة، والذي في الوسط يتخلّى عن القديم ليلتصق بالجديد؟ إذا ، من أجل ألا تُربكنا فكرة كهذه، وألّا نجد مبررا لغموض النص، لكوننا لم تتم الوصية، يُضيف القديس بولس : «لذلك أنبذوا الكذب، ويصدق كلّ واحدٍ منكم قريبه في الكلام، لأنا أعضاء بعضنا البعض» (أف 4: 25)

2 – لا تذهبوا، يا إخوتي، إلى حدّ التصوّر بأن علينا ألا نقول الحقيقة إلا للمسيحيّين، فيما نستطيع أن نكذب على الوثنيين. أصدقوا قريبكم؛ وقريبكم هو من وُلِد مثلكم من آدم وحواء. جميعنا أقرباء بالولادة البشرية؛ ولكننا إخوة أيضًا في الرجاء وفي الميراث السماوي . عليكم، إذًا، أن تُعاملوا كلّ إنسانٍ على أنه قريب، حتى قبل أن يكون للمسيح. فإنّكم لا تعرفون منزلته أمام الله، وتجهلون ما رسمه الله له. يسجد امرؤٌ للحجارة، فتهزأون منه ؛ ثم يتوب، ذات يوم، من موضع سخرية، ويسجد للربّ ويصيرُ أتقى منكم. لدينا، إذًا، إخوة مستترون في أولئك الناس الذين لم يصيروا بعد أبناء للكنيسة، كما أنّ هناك أبناءً للكنيسة يتوارون بعيدًا عنا. لهذا علينا، بسبب جهلنا بالمستقبل، أن نرى في كلّ إنسان قريباً لنا ، لا في الطبيعة البشرية فقط، بل في الميراث السماوي. لأننا نجهل ما سيغدو عليه ذاك الذي ليس كان لكم اليوم بشيء.

3- إسمعوا، إذًا، ما يُسمّيه القديس بولس أيضًا، خَلْعَ الإنسان العتيق، ولبس الجديد. «أنبذوا كلّ كذب وليصدق كلّ واحدٍ منكم الكلام لأنا أعضاء بعضنا لبعض. اغضبو ولا تخطأوا» (أف 4: 25-26). فإذا غضبت على عبدك الذي أخطأ ، فاغضب على نفسك لئلا تخطأ . «لا تغرُبِ الشمس على غضبكم» (أف 4: 26). أي لا يدم غضبكم طويلا. لأنّ المسيحي إذا انزلق في الغضب، إن لضعف بشري، أو لسقم في الجسد المائت الذي نلبسه، فلا ينبغي أن يطول الغضب فيمتد إلى الغد أنبذه من قلبك، قبل أن يُشرق النور الذي يُرى، لئلا يحتجب عنك النورُ الذي لا يُرى. على أن بوسعنا أن نُعطي هذا المقطع معنى آخر، ونرى في الشمس المسيح نور الحق وشمس البرّ، لا الشمس التي يعبدها الوثنيون والمانويون، وتنير أعين الخطأة، بل الشمس التي هي النور للطبيعة البشرية، والبهجة للملائكة. أما البشر، فإذا كانت أعين قلوبهم كليلة لا تقوى على احتمال نورها الساطع، فإنهم يتطهرون عن طريق العمل بالوصايا، لكي يتمكنوا من تأملها . وعندما تسكن تلك الشمس في الإنسان بالإيمان، إحترزوا ألا يطغى الغضب فيكم، إلى حد يغرب معه المسيح على غضبكم، أو بالأحرى، يتخلّى عن نفوسكم لأنه يأنف السكني مع الغضب. ولعلنا نقول إنّه ينطفئ عنكم، إذ تنطفئون أنتم عنه : لأنّ الغضب المتأصل يغدو حقدًا ؛ وعندما يسود الحقد تسود الجريمة. قال القديس يوحنّا : «من أبغض أخاه فهو قاتل» (1يو 3: 15). وقال أيضًا : «من يبغض أخاه يبقى في الظلمة» (1يو 2: 9) . ولا عجب في أن يكون إنسان في الظلمة عندما تغرب الشمس عنه. 

4 – ولعلّ هذا هو أيضًا معنى ما سمعتموه في الإنجيل: «حصل خطر على السفينة في البحيرة، وكان يسوع نائما» (راجع لو 8: 23). لأنا نُقلعُ في بحيرة، لا الرياح تبرحُها ولا العواصف؛ وتجارب الدهر لا تنفك كل يوم تعمل على إغراق سفينتنا . كيف يحدث ذلك لو لم يكن يسوع نائما ؟ لو لم يكن يسوع نائما فيك لما كنت تتعرض لكلّ تلك الزوابع والأنواء، بل لنعمتَ بالسلام الداخلي، لأنّ يسوع يسهر معك. ماذا يعني أن يسوع ينام؟ يعني أن النائم هو إيمانك بيسوع المسيح. إذ ذاك تهب العواصف على بحيرة هذه الحياة، فترى الآثم مزهوا، والبار في الضيق : تلك هي التجربة، وتلك هي الأنواء التي تهوج. وتصرخ نفسك : أهذا ، إذًا، عدلك يا ربّ، أن ينعم الشرير بالفرح، ويُعاني الصديق الشدّة؟ تحنق على الله وتقول : أهذا، إذًا، عدلك؟ فيجيبك الربّ : أهذا ، إذًا، إيمانك؟ أهذا ما وعدتك به؛ ألأجل أن تزهو في هذه الحياة، أنت مسيحي ؟ تتكدّر لرؤية الأشرار في نعمة يمرحون، فيما ينبغي أن يُعذِّبوا مع إبليس . لم هذا اللغو؟ لم تضطرب لصخب أنواء هذه الحياة وعواصفها؟ – لأنّ يسوع نائم، أو بالأحرى، إيمانك بيسوع المسيح هو النائم في قلبك . ماذا تفعل لتخرج من الخطر؟ – أيقظ يسوع، وقل له : «يا معلم ها نحن نهلك !» (لو 4: 24). هذه البحيرة القليلة الأمان تُخيفُنا، ونكاد نهلك. فيستيقظ يسوع، أو بالأحرى يستيقظ الإيمان بيسوع في قلبك وفي نور الإيمان، سترى في نفسك أنّ الخيور المعطاة اليوم للأشرار، لن تبقى لهم إلى الأبد : فإما يفقدونها في هذه الحياة، أو على الأقلّ عند الموت. أما أنت، فالذي وعدت به سيبقى إلى الأبد. وأمّا هم فسعادتهم لوقت، وسرعان ما تزول. «تيبس وتسقط كزهرة عشب» (إش 40: 7)، «لأنَّ كلّ بشر عُشب» (إش 40: 6). «العشب يبس، والزهرة سقطت وأما كلمة الربّ فتبقى إلى الأبد» (إش 40: 8) . أشح بوجهَكَ، إذًا، عن كلّ ما يسقط، وانظر إلى كلّ ما هو باقٍ. فعندما يستيقظ المسيح، لن تقدر العاصفة أن تهزم قلبك ولا الأنواء أن تُغرق سفينتك، لأنّ إيمانك سيأمر الرياح فتهدأ، والعواصف فتسكن ويزول الخطر. هذا، يا إخوتي، معنى مشورات الرسول لنا بأن نخلع عنا الإنسان العتيق.

«إغضبوا، ولا تخطأوا ؛ ولا تغرب الشمس على غضبكم، ولا تجعلوا لإبليس موطئًا» (أف 4: 26-27). الإنسان العتيق هو الذي كان يترك موطنا لإبليس، فلا يكن كذاك أمرُ الجديد. «من كان سارقًا، فلا يسرق!» (أف 4: 28) الإنسان العتيق يسرق، فلا يسرقنَّ، بعد، الإنسان الجديد! إنّه أيضًا إنسان، وهو الإنسان نفسه : كان آدم، فليصر المسيح يسوع ؛ كان الإنسان العتيق، فليغدُ الإنسان الجديد.

5- لكن، لنتأمّل مليّا في المزمور ، فنرى أن كل مسيحي يتقدّم في الكمال في الكنيسة، ينبغي أن يتحمّل الأشرار في الكنيسة. على أنّ الذي يُشبههم لا يعرفهم، لأنّ الذين يشكون في الغالب من الأشرار هم بدورهم أشرار؛ وأيسر على الإنسان الصحيح أن يحتمل مريضين، من أن يحتمل مريض مريضًا. فإليكم، إذًا، يا إخوتي ماذا نقول: «الكنيسة، في هذه الدنيا ، بيدر يُدرَسُ عليه الحَبّ». كرّرنا هذا القول مرارًا، وها نحن نكرّره على البيدر قش وحنطة. فلنحترز ألا نفصل القش، قبل أن يأتي الربّ وبيده المذرى لا يخرجن أحد من البيدر قبل ذلك الوقت، وكأنّه لا يقوى على تحمّل الخطأة، لئلا يراه العصفور خارج البيدر، ويلتقطه قبل أن يُجمَع في الأهراء السماوية. إسمعوا يا إخوتي ماذا يعني هذا الكلام عند بدء الدراسة، لا تتلامس الحبوب من خلال القش وتكون بمثابة الغريبة عن بعضها بسبب القش الذي يفصل بينها . فمن لا ينظر إلى الحصاد إلّا من بعيد، لا يرى غير القش، ويصعب عليه أن يرى الحَبّ إن لم يقترب ويمد يده وينفخ بفمه فيُحدِث الفصل. واحيانا يحصل أن يكون الحبّ الجيّد منفصلا وغريبا بعضه عن بعض، فيظنُّ المسيحي الذي يتقدّم بورع أنه وحيد. وهذه الفكرة، يا إخوتي، كانت تجربَةً لإيليا جعلت ذاك النبي العظيم يهتف، على ما يُذكرنا به الرسول «يا ربّ، قتلوا أنبياءك، ودمّروا مذابحك، وبقيت  أنا وحدي، وقد طلبوا نفسي ليأخذوها» (1مل 19: 10؛ رو 11: 3) . لكن، بمَ أجابَه الربّ ؛ «لقد أبقيتُ لي سبعة آلاف ركبة لم تجت للبعل» (1مل 19: 18). لا يقول الله : هناك اثنان أو ثلاثة مثلك، بل قال : لا تحسب أنّك وحدك، فإن معك سبعة آلاف، أفتحسب بعد أنك وحدك؟ إليكم باختصار، ما نبهتكم إليه منذ البداية. فلتصغ إلي قداستكم بانتباه وأسأل الله أن يُلامس قلوبكم برحمته، لكي تفهموها، فتُثمر فيكم. إسمعوا بكلمة : لا يعتبرنّ الذي ما زال شريرا أنه لا يوجد من هو صالح، ولا يتوهمنَّ الصالح أنه وحده صالح. أتفهمون جيّدًا؟ أعيد وأكرّر فأصغوا : لا يتصور من كان شريرا، وفحص ضميره، فلم يتلقَ غير شهادة كاذبة، أنه لا يوجد البتة صالح؛ ولا يحسبن الصالح أنه وحده صالح، ولا يخافن، على بره، من مخالطة الأشرار ؛ يأتي يومٌ يُفصل فيه عنهم. وقد رتلنا اليوم: «لا تهلك نفسي مع الخطأة، وحياتي مع أهل الدماء» (25: 9). ما معنى لا تهلك نفسي مع الخطأة؟ – أي لا تهلكني لكوني مختلطا معهم. لماذا يخشى الهلاك معهم ؟ – أظنُّ أنّه يقول الله : تحتملنا الآن ونحن مختلطون، لكن لا تُهلك بالجملة من تركتهم مختلطين. ذاك هو معنى المزمور الذي أريد أن أتأمله بسرعة معكم، لقصره. 

6- «قاضني يا ربّ» (26: 1) هذه الرغبة في المقاضاة رغبة مقيتة، وقد تحمل له الخطر. ما هو ذلك الحكم الذي يتوسله؟ – فصله عن الأشرار. وحكم الفصل ،هذا هو الذي يُشير إليه بصراحة في مزمور آخر: «أللهمَّ قاضِني وافصل دعواي عن دعوى شعب ليس بقدوس» (42: 1). نرى هنا معنى عبارة «قاضِني». لا يذهبَنَّ أخيار وأشرار إلى النار الأبدية بلا تمييز كما نرى اليوم الأشرار والأخيار يدخلون معًا إلى الكنيسة . قاضنى يا ربّ». ولماذا؟ – «لأنّى سلكت في طهارتي ورجائي في الربّ لن يتزعزع» (25: 1). ما هو هذا الرجاء في الربّ؟ – إنّ من لم يرجُ الربّ ويتوكل عليه، يهوي وسط الأشرار. من هنا جاء المحرّضون على الإنشقاقات : تزعزعوا لرؤية أنفسهم وسط الأشرار، وهم الأفظع إثمًا، وخجلوا من أن يكونوا صلاحًا وسط الخطأة. ألا ليتهم كانوا الحَبّ الجيد، لكانوا احتملوا القش في الحصاد، إلى أن ياتي حامل المذرى . لكنهم لم يكونوا سوى قش فهبت الريح، وعجّلت مجيء مذرى الربّ، وفصلت عن الحصاد ذاك القش وطرحته وسط الأشواك . فصل القش، فهل كلّ ما بقي حنطة؟ القش وحده يطير في الريح قبل الفصل، غير أنه يبقى قش وتبقى حنطة؛ وعندما يحين زمن الفصل يُذرِّى القش. إليكم ما يقوله النبي: سلكت في طهارتي، فرجائي في الربّ لا يتزعزع». لو لم أرج سوى الإنسان، لربّما تعثر هذا الإنسان وسقط في الشرّ، ولم يعد يسلك سبل البر التي تعلمها ، أو حتّى علمها في الكنيسة، وتاه في السبل التي أرشده إليها الشيطان. لو رجوتُ إنسانًا لخاب رجائي وتهاوى وسقط مع ذلك الإنسان المترنّح الساقط ولكني وضعت رجائي في الرب، فلن يتزعزع.

7- يُتابع النبي فيقول : «جربني يا ربّ وافحص نفسي. إمتحن بالنار كليتي وقلبي» (26: 2). ما معنى عبارة «إمتحن بالنار كليتي وقلبي معناها إمتحن بالنار شهواتي وأفكاري». فالكليتان، هنا، تُمثلان الشهوات، والقلبُ الأفكار، لئلا تقف أفكاري عند الشر، فيُثير الشر شهواتي. وبأي نارٍ أمتَحِنُ كُليَتَيَّ؟ – بنار كلامك. وبأي نارٍ أمتحن قلبي؟ – بنار روحك. وعن هذه النار قيل في مكان آخر : «ليس من يتوارى عن لظاها» (مز19: 7) ، وعنها قال الرب ايضًا : «جئتُ لألقى على الأرض نارا» (لو 12: 49). 

8- ويُتابع النبي : «فإنّ رحمتك أمام عينيَّ، ولذ لي حقك» (26: 3). أي أنني لم أطلب رضا الناس، بل رغبت في أن أرضيك في داخلي الذي تنفذ إليه عيناك، لا يهمني ألا أُرضي الناس الذين لا يرون إلا الظاهر، على ما قال الرسول : «فليختبر كلّ واحدٍ عمله، وحينئذ يكون افتخاره بنفسه لا بسواه» (غل 6: 4).

9- «لم أجالس أهل الباطل» (26: 4). ما معنى عبارة «لم أجالس»؟ إسمعوا يا إخوتي بقوله «لم أجالس»، يستنجد بالله الذي يرى كل شيء. بوسعك أن تغيب عن اجتماع، وتكون جالسا فيه. مثلا : لست في مسرح، لكن أفكارك المسرحية تستحوذ على ذهنك، خلافًا لهذا القول: «إمتحن بالنار كُليَتَيَّ» ؛ فأنت، في هذه الحال جالس في المسرح، على الرغم من غيابك عنه بالجسد. لكن، قد يحدث أن يُدخِلَك إليه صديق، ويستبقيك فيه، أو قد تُرغمك بادرة محبّة على الجلوس. كيف يكون ذلك ممكنا؟ قد يحدث أن يرغب مسيحي في صنع عمل صالح يُرغمه على الجلوس في المسرح قاصدًا أن يُحرّر مصارعا . بوسعه إذ ذاك أن يجلس وينتظر أن يظهر ذاك الذي يُريد إنقاذه. فعلى الرعم من حضور ذاك الرجل بالجسد، فإنّه لم يجالس أهل الباطل. فما معنى المجالسة؟ معناها أن تكون في القلب مع الجلساء. فإن غاب قلبك، فأنت لا تُجالس على الرغم من حضورك الجسدي. وإن حضر قلبك، فأنت مجالس على الرغم من غيابك. «وإلى صانعي الإثم لا أنضم، إذ قد أبغضتُ مجمع الأشرار» (26: 4) ترون، إذًا، أنّ مجالسة الأشرار تكون في الداخل. 

10 – «مع الأبرار، أغسل يديَّ» (26: 6)، لا بماء مرئية. إنما غسل اليدين يكون في صنع الأعمال الصالحة بأفكار نقية طاهرة في عيني الله. فإنه تحت نظر الله ذاك المذبح الذي تقدم إليه الكاهن الذي قرب ذاته لأجلنا . المذبح مقدّس، وليس بوسع أحدٍ أن يتقدم منه ما لم يغسل يديه مع الأبرار. صحيح أن كثيرين يتقدمون منه بغير استحقاق، ويرضى الله لوقت بأن تُدنّس أسراره. لكن، يا إخوتي، أيكون أمرُ أورشليم السماوية كأمر الأسوار التي تطوّقنا ؟ قطعا لا ؛ وإذا دخلتم مع الأشرار ضمن أسوار هذه الكنيسة، فلن تدخلوا مع الأشرار حضن إبراهيم. فلا تخافوا، إذًا، أن تغسلوا أيديكم. «سأطوف بمذبح الربّ : ذاك المذبح الذي تقرّب عليه نذورك الله، أو تسكب صلواتك، بإيمان طاهر، وتُعرّف الربّ بنفسك ؛ وإذا كان فيك ما يُمكن ألا يرضي الله، فإنّ الذي يقبل نذورك واعترافاتك يشفيك. فاغسل يديك وسط الأبرار، وطف بمذبح الربّ لكي تسمع أصوات تسابيحه.

11- وهذا في الواقع ما يلي: «لأسمع صوت تسابيحك، وأحدث بجميع معجزاتِك» (26: 7) . ماذا تعني عبارة «لأسمع صوت تسابيحك»؟ – أي أن أفهم ،والحال فإنّ السمع، عند الله، لا يكون في استشفاف الأصوات التي يسمعها كثيرون، وكثيرون آخرون لا يسمعونها. فيا لكثرة الذين يسمعوننا ويُصمون آذانهم عن الله ! يا لكثرة من لهم آذان، لكن لا تلك الآذان التي تكلّم عنها يسوع حين قال: «من له أذنان سامعتان فليسمع» (مت 13: 9). ماذا يعني إذا ، سماع صوت التسبيح؟ سأقولُ، لو تسنّى لى، بمعونة الله وصلواتكم. إنّ سماع صوت التسبيح يعني أن أفهم في داخلي أن كل ما فَسُد في بالخطيئة، نابع مني، وكلّ ما هو صالح ومستقيم، فمن الله يأتيني. فاسمع، إذًا، صوت التسبيح، من دون أن تُسبّح نفسك، مهما كان برك. إمدح برك ، تغدُ شرّيرًا . جعلك التواضع بارا، فأعادتك الكبرياء شريرا. سعيت إلى النور بتوبتك، فجعلتك التوبة نيّرا، وغدوتَ مُشرقا.  لكن، إلى مَن تُبتَ؟ أإلى ذاتِك؟ لو كان لك أن تستنير بالتوبة إلى ذاتك، لما وقعت قط في ظلمة، لأنك تكون مع ذاتك في كل حين. فمن أين يأتيك النور؟ – من توبتك إلى آخر غيرك. ومن هو هذا الآخر الذي ليس أنت؟ الله الذي هو النور. لم تكن أنت نورا بسبب خطاياك. والرسول الذي أراد أن يُسمِعَ المؤمنين صوت التسبيح يقول : «كنتم أمس ظُلمة، وأنتم الآن نور» (أف 5: 8). ماذا تعني عبارة «كنتم أمس ظلمة»  سوى أنكم كنتم تلبسون الإنسان العتيق؟ وأنتم الآن نور . ذاك أنكم نُوّرتُم فصرتم نورًا بعد أن كنتم ظلمة. حذار أن تحسب أنك نور بذاتك : «إنما النور هو الذي ينير كلّ إنسانٍ آتٍ إلى العالم» (يو 1: 9) . أما أنت، فإنّ طبيعتك، وإرادتك الفاسدة، وبعدك عن الله، كلها جعلتك ظلمةً، وصرت الآن نورًا. ولكن لئلا يغتر الذي يُسرهم بقوله : «أنتم نور»، يُضيف الرسول: «في الربّ». فهو يقول: «كنتم أمس ظلمة، أما الآن فأنتم نور في الربّ». فإذا لم يكن نور خارج الربّ، وإذا كنتم أنتم نورًا ، فذاك بالتحديد لأنكم في الربّ، «وأي شيء لك لم تنله؟ فإن كنت نلته فلماذا تفتخر كأنك لم تنله؟» (1كو 4: 7). تلك هي، في مكان آخر، لغة الرسول للمتكبّرين الذين يُريدون أن ينسبوا لأنفُسِهم عطايا الله ، ويفتخروا بما لديهم من خیر كأنه نابع من ذواتهم. يقول لهم : أي شيء لكم لم تنالوه؟ فإن كنتم نلتموه فلماذا تفتخرون كأنكم لم تنالوه؟ فمن أعطى الوضيع انتزع من المتكبرين، لأنّ من يُعطي بوسعه أن يسترد. ذاك هو المعنى، يا إخوتي، هذا إذا قُيْضَ لي أن أفهمكم إيَّاه بقدر ما كنت أرغب. لكنّي إن لم أف بالمرام، فإنّي على الأقل فعلتُ المستطاع. ذاك هو معنى عبارة سأغسل يدي مع الأبرار، وأطوف بمذبحك، يا إلهي، لأسمع صوت تسبحك ، أى من أجل ألّا أغتر بالتوكل على نفسي، في ما فيَّ من صلاح، بل عليك أنت أتوكّل لأنّك أعطيتنيه؛ ولا أطلب المجد لنفسي، بل أطلب مجدك وأطلبه فيك وعليه أضاف النبي: «لأسمع صوت تسبيحك وأُحدث بجميع معجزاتك». أجل، بمعجزاتك لا بمعجزاتي.

12- والآن يا إخوتي، أنظروا إلى الإنسان الذي يُحبّ الله، والذي توكل على الله . ها هو وسط الأشرار، ويسأل الله ألّا يُهلكه مع أولئك الأشرار، لأنّ الله مُنزّه في أحكامه. وأنت إذا رأيت أناسًا مجتمعين في مكانٍ واحد تظنُّهم متساوين في الفضل؛ فلا تخف، لأنّ الرب لا يخطأ. أنت بحاجةٍ إلى نسمةٍ، لتفصل القش عن الحنطة الجيدة؛ بحاجة إلى هبة ريح؛ وبما أنك لست أنت نسمة الريح القوية تلك، تتمنى أن تهب الريح فتُسعِفك . وعندما تُذرّي الحصاد وتهز القش والحنطة، تحمل الريح كلّ ما كان خفيفًا، وتُبقى ما ثقُل أنت تلجأ إلى الريح لتفصل ما في حصادك. لكن هل الله بحاجة إلى من يُسعفه في أحكامه، لئلا يُهلك الأخيار الأشرار؟ لا تخف، إذًا، واطمئِنَّ، حتى ولو كنت وسط الأشرار ؛ وقلْ مع النبي : «يا ربّ إنّي أحببتُ جمال بيتك» (26: 8). بيت الله هذا هو الكنيسة، التي تضم، بلا شكّ، الكثير من الأثَمة؛ لكنّ جمال بيت الله هذا هو في الأبرار وفي القديسين : وذاك هو الجمال الذي أُحِبّه فيها. «أحببت مقام سكنى مجدك». ما معنى هذا القول؟ أقرّ بأنّ لهذا القول المعنى نفسه، الغامض إلى حد ما، لما جاء أعلاه فليُعِنّي الربّ ويُهيئ قلوبكم للإصغاء. ما الذي يُسمّيه النبي مقام سكنى مجدك»؟ سبق أن قال : «أحببت جمال بيتك»؛ ولكي يُفسّر هذا الجمال، يُضيف: «أحببت مقام سكنى مجدك». لا يكتفي بأن يقول : «مقام سكنى الربّ»، بل قال : مقام سکنی مجد الله فما هو مجد الله هذا ؟ عن هذا المجد، قلتُ لتوي، بأن من يصير بارا لا يفتخر بنفسه بل بالله يفتخر. لأنّهـ جميعهم خطئوا ، فإنّهم جميعهم يحتاجون مجد الله (رو 3: 23). إذ ذاك، فإن الذين يسكن الله فيهم، ويُمجّدونَه لعطاياه، ولا يبتغون أن ينسبوا إلى أنفُسِهم ما لهم من خير بل يُقرون بأنهم من الله نالوه، فهؤلاء يصنعون جمال بيت الله لما كان الكتاب المقدس يُميزهم بشكل خاص، لو كان غيرهم يملكون عطايا الله حقا، ولكنهم لا يمجدون الله بل يُمجدون أنفُسَهُم: يتمتعون بعطايا الله، لكنهم لا يُساهمون في صنع جمال بيته لأنّ الذين يُساهمون في صنع ذلك البيت الذي هو مقام سكنى مجده، إنّما هم مقام سكنى مجده. لكن، أين يسكن مجد الله إن لم يكن في الذين يفتخرون بما يصنعه مجد الله لا مجدهم؟ إذًا، لأني أحببت مجد بيتك، أي جميع الذين هم لك ويطلبون مجدك؛ ولأني لم أتوكَّل قط على إنسان، ولم أقتبل المنافقين، ولا أرغب لا في لقائهم ولا في مجالستهم في مجامعهم ؛ ولأن هذا كان سلوكي في كنيسة الله، فماذا يكون ثوابي؟ الآية التالية تعطينا الجواب: «لا تُهلِك نفسي مع الأثَمة، وحياتي مع أهل الدماء» (26: 9)

 
13- «الفاحشة ملء أيديهم وأَيْمانُهم ملوّثة بالرشوة» (26: 10). الرشوة ليست فقط تقادم تبذل فيها الثروة والذهب والفضة والنفائس، ولا جميع الذين يقبلونها كرشوة يقبلونها . الكنيسة تقبل التقادم أحيانًا، وبطرس نقشه قبلها ، والربّ قبلها أيضًا، فكان له كيس مال، والفضة التي كانت تُلقى فيه، كان يوضاس يختلسها (يو 12: 6). ما معنى قبول التقادم؟ إن من يحكم بالظلم، لا طمعا بذهب أو فضة أو نفائس أخرى، لكن لمجد باطل، يقبلُ تقدمة، أحطّ تقدمة. فتح يده ليقبل شهادة لسان غريب وخسر شهادة ضميره. إذا ،
«الفاحشة ملء أيديهم، وأيْمانُهم ملوّثةٌ بالرشوة». ترون، يا إخوتي أنهم تحت عيني الله أولئك الذين لم تتلوّث أيديهم بالإثم، ولا أيمانهم بالرشوة. إنهم تحت عيني الله ، ولا يسعهم أن يقولوا إلا له وحده: «تهلك نفسي مع الأئمة، وحياتي مع أهل الدماء». وحده بوسعه أن يرى أنهم لا يقبلون أي رشوة. وهكذا، يا إخوتي، على رجلين أن يُصفّيا خلافهما أمام خادم الله ، وكلّ منهما لا يرى الحق إلا في دعواه. فلو رأى أن دعواه غير محقة، لما لجأ إلى قاضي. هذا يدعي الحق، وذاك أيضًا. يتقدمان من القاضي، وقبل الحكم، يقول كل منهما : نرضى بحكمك؛ معاذ الله أن نطرح قضاءَك ! وانتم ، ماذا تقولون؟ – أحكم، بحسب نظرتك، لكن احكم ويلٌ لي إن حاولت أن أعترض. كلاهما يُحب القاضي قبل أن يلفظ حكمه. ذاك أن الحكم سيدين أحدهما ، ولا يُعرف من يكون المُدان. فإذا أراد القاضي أن يُرضي الإثنين، فهذا يعني أنه نال مديح الناس هديّةٌ. وهذه الهدية التي قبلها، أنظروا أتي هدية أفقدته قبل كلامًا يُحدثُ صخبا ويزول، ليخسر الكلام الذي يتردّد ولا يزول. لأنّ كلمة الله تتردّد بلا انقطاع ولا تزول، أما كلمة البشر فتضمحل ، لكثرة ما تُلفّظ. يخسر الثابت الدائم، ليكسب التافه الزائل، لكنه إن لم يلتفت إلا إلى الله، فإنّه سيلفظ حكمه ضد أحدهما ، مركزا أنظاره على الله الذي إليه يُصغي وهو يلفظ حكمه. ولعلّ الذي بدينه الحكم لا يقوى على إيقافه خاصة إن لم يكن ذا صلة بالحق الكنسي، بل من شأن شرائع الرؤساء الذين جعل احترامهم للكنيسة أحكامه كلّها غير قابلة للنقض، فإذا لم يكن قادرًا على إيقاف الحكم، يُحوّل ناظريه عن ذاته، ويتطلع بشذرٍ إلى القاضي، ويكاد يُمزقه بكل قواه يقول : لقد أراد أن يُرضي خصمي، فآثر الغني، وتلقى منه الرشاوى، وخاف أن يجرحه . إذا ، بتهم القاضي بأنه قبل الرشوة. ولو ان فقيراً رفع دعواه ضدّ غنيّ، فجاء الحكم لصالح الفقير، لقال الغني الكلام نفسه: ارتشى القاضي. فأي رشوة يُقدّم الفقير؟ يقول (الغني) : إنه نظر إلى فقره، وخاف أن يُعاب إن هو قضى ضد الفقير، فإذا به يخنق صوت العدل ويحكم ضدّ الحق. فإذا كان يستحيل تفادي تلك المهاترات، فافهموا أنّ الله وحده يرى الذين يقبلون الرشي والذين يرفضونها ؛ والذين يرفضونها بوسعهم وحدهم أن يقولوا أمامه : «أما أنا فقد سلكت في الطهارة فافتدِني وارحمني، فإنّ قدمي ثابتةٌ في الطريق القويم» (26: 11، 12). لعلي زللتُ بالشك، وبسعي الذين راحوا ينددون بوقاحة وجسارة ضد حكمي، لكنّ قدمي ثبتت في الطريق القويم. لماذا في الطريق القويم؟ – لأنه سبق أن قال: «على الله توكلت فلا أتزعزع (26: 1).

14 – إلامَ يَخلُص؟ – «في المجامع الكبرى أبارك الربّ» (26: 12) أي أنني لا أبارك نفسي في الكنائس، كما لو كنت مطمئنا إلى الناس، بل أباركك أنت بأعمالي ومباركة الله في المجامع، يا إخوتي، هي العيش بطريقة تكون معها أعمال كل منا مجدا للربّ. إنّ مباركة الربّ باللسان وشتمه بالأعمال لا تعني مباركته في المجامع . الجميع يُباركونه باللسان، لكنَّهم لا يُباركونه جميعهم بالأعمال. بعضهم يُباركونه بالكلام والبعض الآخر بالأعمال. أما الذين تتنافى أعمالهم مع كلامهم، فأولئك يُجدّفون على الرب. والذين لا يدخلون الكنيسة، فعلى الرغم من أنّ الذريعة الحقيقية التي تمنعهم من أن يكونوا مسيحيين هي تعلقهم بحياة الفساد، فإنّهم يتذرّعون بالمسيحيين الأشرار، ويُفاخرون بأنفُسِهم، ويضلّون إذ يقولون: لماذا أستنهض نفسي لأصير مسيحيا؟ خدعني مسيحي، ولم أخدعه قط . حنث مسيحي بيمينه عليّ، ولم أحنث قطّ . هذه اللغة تُبعدهم عن الخلاص، ولا ينفعهم أن يكون فيهم القليل من الصلاح، لكن أقله ألا يكونوا كثيري الشر. فكما أنة من العبث أن يفتح من في الظلمة عينيه، كذلك من العبث أن يُغمضَهما وهو في النور. تلك هي صورة وثني أتكلّم عنه بسبب حياته الشريفة في ظاهرها يفتح عينيه غير أنه في الظلمة، لأنه لا يعرف الربّ الذي هو نورُه ؛ أمّا المسيحيّ الذي يعيش في الفساد، فإنّي أعترف أنه في نور الله، لكنّ عينيه مغمضتان. في مجونه، يرفض أن يرى الذي باسمه هو، في وضح النهار، أعمى، ولا يُحييه أي شعاع من النور الحقيقي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى