تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 12 للقمص متى المسكين

الأصحاح الثاني عشر:

(د) الاستعداد للضيقة القادمة (1:12- 21:13)

هذا هو القسم الرابع وهو يختص بتعاليم للتلاميذ والبعض منها للجميع، وينقسم إلى عدة أقسام:

1 – تعليم للشهادة والاستشهاد (1:12-12)

(مت 26:10-33، 20,19)

هذا القسم موجـود في إنجيل ق. متى (26:10-33) إنما بدون الآية (10) فهي مذكورة في (مت 32:12)، والكلام موجه في إنجيل ق. متى نحو التلاميذ كوصايا للإرسالية، ويضيف إليها ق. لوقا نصيحة دائمة للاحتراس من رياء الفريسيين الذين يضمرون شيئاً ويتكلمون بشيء آخر.

والتعاليم هنا في جملتها موجهة للكنيسة لتقوم برسالتها بعد قيامة المسيح من الأموات. والمسيح هنا يشير إلى مستقبل الأيام حينما يصير ما هو خفي أو تحت ستار الآن ظاهراً ومستعلناً، ويقصد به سر المسيانية الذي كان يحاول المسيح إخفاءها أنها ستظهر وتستعلن، وحينئذ تبتدئ الآلام والاضطهادات بالنسبة للتلاميذ والمؤمنين به. وهو يدعو تلاميذه أن يظهروا سره دون خوف أو رياء ومهما حدث لا ينبغي أن ينكروه. ويصرح المسيح أنه لن يكون معهم حينئذ، ولكن عناية الله سترافقهم إلى الدرجة التي يرعى فيها الله حياتهم حتى إلى شعرة واحدة من رؤوسهم (الآية 7، 18:21). على أن الروح القدس الذي سيرسله المسيح لهم سيؤازرهم لكي يعطوا اعترافاً به، الأمر الذي تم بالحرف الواحد ونقرأه في سفر الأعمال: «وإذ ارتفع بيمين الله وأخذ موعـد الـروح القدس من الآب سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه وتسمعونه» (أع 33:2). ونبرة تعليم المسيح لتلاميذه تتراوح بين التشجيع والتحذير، وقد شدد المسيح على التحذير من الرياء بالنسبة لتلاميذه لئلا – تحت أثر الخوف من الناس – ينكروا المسيح في الظاهر، فهذا لا يغفر.

1:12 «وفي أثناء ذلك إذ اجتمع ربوات الشعب، حتى كان بعضهم يدوس بعضاً، ابتدأ يقول لتلاميذه: أولاً تحرزوا لأنفسكم من خمير الفريسيين الذي هو الرياء».

الحاصل هنا أن المسيح ابتدأ يعلم تلاميذه عـن أمـور آتية حتماً، بينما الجموع تحيط به وتسمع وتتعلم. أول تعليمه كان التحذير من الرياء الذي أصبح يفهم لدينا الآن بأنه هو إخفاء حقيقة النفس ثم الظهور بمظهر آخر، وبالنسبة لتلاميذه وكل المؤمنين يعني إزاء الخوف ننكر المسيح وإذا لم يكن هناك ما نخافه نعلن إيماننا. وهذه الآفة الخلقية لا تزال تعمل عملها في كثير من المؤمنين حتى الآن، وربما تنتهي بتغيير الاسم أيضاً أو إعطاء أسماء للأولاد لا تظهر أنها مسيحية، وهذا معناه أننا سهلنا لهؤلاء الأولاد – وبعد ذلك الرجال ـ استخدام الاسم غير المسيحي لعدم المجاهرة بالإيمان بالمسيح. وهكذا يتضح لنا لماذا جعل المسيح أول درس لتلاميذه أن يتحرزوا من رياء الفريسيين الذين يظهرون للناس أبراراً وأتقياء وهم في الداخل مستبيحون وأشرار.

2:12 «فليس مكتوم لن يستعلن، ولا خفي لن يعرف».

هنا النفي مغلظ “ليس لن” كما يقولون نفي النفي إثبات. فهنا يشدد المسيح تشديداً أن ما يخفى عن الناس سوف يستعلن بواسطة الله ولكن جهاراً، كذلك كل ما قلته لكم سرا فيما يخص سر المسيا سوف يعلن جهاراً. هنا يحض المسيح على العلانية قولاً وفكراً فيما يخص اسمه وعمله والملكوت الذي كشف أسراره لهم. كما يحض على نقاوة القلب والضمير حتى يصير قول التلاميذ مطابقاً لما يضمرونه، فتصير خدمتهم وحياتهم مطابقة، وسلوكهم أمام الناس لا يعيبه أحد أو يؤاخذهم إنسان كبير أو صغير، فيقولون الحق الذي يؤمنون به دون خوف أو إخفاء. وهذا يحسب دعامة قوية من دعائم أخلاق الخادم أو المبشر. كما يرتاح الحق الإلهي في القلب والضمير الذي يصون صدقه ويصون كرامته بشجاعة تضيف على الإيمان قوة التصديق. فالكارز الذي يقول الحق كما يضمره، يسمعه الناس بشغف ويطيعه الفكر والقلب دون شك.

3:12 «لذلك كل ما قلتموه في الظلمة يسمع في النور، وما كلمتم به الأذن في المخادع ينادى به على السطوح».

كلمة لذلك” في اليونانية كما هي هنا في العربية تحمل هذه الآية على سابقتها بانسجام، في ما يسمع ويقال في الخفاء يتحتم أن يعلن في النور. والقصد الأساسي أن لا يكون للكارز أو الخادم أسرار يخفيها عن السامعين، ولا مبادئ أو تعاليم ثقال في الخفاء ويخشى استعلانها للناس. هذا ضعف وجبانة في الخادم، فالخادم الشجاع بالحق والمتكل على الإيمان الصادق كلامه كله علانية وليس عنده ما يخشاه أو يخاف أن يعلنه لأنه صاحب حق ومعان بالحق.

كذلك يشدد المسيح بتلميح واضح أن كل التعاليم التي سمعتموها مني قبل الصليب يتحتّم أن تذاع بعد القيامة”. فالمسيح قلق على الخدمة بعد انتهائها على الأرض، فهو يحاول أن يجعل التلاميذ أداة قوية ثابتة لا تتزعزع أمام المخاوف والاضطهادات لإذاعـة رسالة الإنجيل والمناداة بالملكوت والخلاص.

4:12 «ولكن أقول لكم يا أحبائي: لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، وبعد ذلك ليس لهم ما يفعلون أكثر».

هنا رجعة لحساب الآية السابقة، وهنا «يا أحبائي» يخاطب بها تلاميذه الذين صاروا مؤتمنين على كل ما يخص المسيح، يحذرهـم مـن الخـوف أو الجزع إزاء الملمات والتهديد بالموت لأنه أعطاهم في السابق وصية العلانية. والكلام عن المسيح والخلاص علانية سينشئ عـداوة واحتكاكاً وربما وقوفاً للمحاكمة بل وربما القتل. إذن فليحذروا من الخوف لئلا يضيعوا الإيمان ويفلت منهم زمام الحق وتخور نفوسهم إزاء الشهادة بشجاعة. فالآن يشرح لهم أن أي اضطهاد مهما بلغ من ا الشدة والشناعة فهو لن يكون أكثر من قتل الجسد، أما النفس والروح فهي باقية وقائمة ودائمة عند الله تنال جزاءها الحسن. وهناك قول مأثور يقول: “ماذا الشاة بعد ذبحها”.

5:12 «بل أريكم ممن تخافون: خافوا من الذي بعدما يقتل، له سلطان أن يلقي في جهنم. نعم أقول لكم: من هذا خافوا!»

‘بل’ حرف استزادة لمزيد من التأكيد مع مقارنة هامة. هنا المسيح يؤكد على أهمية الخوف ولكن ليس ممن يقتل الجسد بل من الذي بعد أن يميت يلقي النفس في جهنم.

«جهنم»: gehenna

وهي كلمة أرامية وأصلها ge-hunmom وهو وادي هنوم جنوب وغرب أورشليم. ويبدو أنه صار مملوءاً بالزبالة، وكانت تقاد فيها النار ونارها كانت تبقى كثيراً.

ثم يشدد المعنى أكثر بإعادة التركيز على الخوف النافع والهام. وهنا يكشف المسيح عن سلطان الله في إرسال النفس إلى جهنم أي مكان العذاب، وهو العقاب الأخير لمن يفعل الشر ويقاوم الله. والخوف لا  ينبغي أن يكون إلا من الله الذي يميت ويحيي. وهنا استحالة أن يأمر الله أن نخاف الشيطان أبدأ، صحيح أنه قتال للناس منذ البدء ولكن لا يقوى الشيطان على القتل إلا بموافقة الله. وواضح هذا في سفر أيوب حينما أعطى الله تصريحاً للشيطان أن يفعل بالجسد ما يشاء ولكن حذره أن يمد يده إلى نفسه:

+ «وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب وجاء الشيطان أيضاً في وسطهم. فقال الرب للشيطان: من أين جئت؟ فأجاب الشيطان الرب وقال: من الجولان في الأرض ومن التمشي فيها. فقال الرب للشيطان: هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟ لأن ليس مثله في الأرض، رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر. فأجاب الشيطان الرب وقال: هل مجاناً يتقي أيوب الله؟ أليس أنك سيجت حوله وحول بيته وحول كل ما له من كل ناحية. باركت أعمال يديه فانتشرت مواشيه في الأرض. ولكن ابسط يدك الآن ومس كل ما له فإنه في وجهك يجدف عليك. فقال الرب للشيطان هوذا كل ما له في يدك. وإنما إليه (نفسه) لا تمد يدك …» (أي 1: 6 -12)

ثم بعد ذلك: «قال الرب للشيطان: ها هو في يدك (جسده) ولكن احفظ نفسه.» (أي 6:2)

ولكن أثبت أيوب الجدارة ولم يخيب ظن الله فيه وبقي متمسكاً بكماله وظل يتشكى من حاله وإلى الرب لم يفرط بكلمة. وعندما أغاظته امرأته كونه لم يزل يبارك الله وهو في أسوأ حاله قال: «تتكلمين كلاماً كإحدى الجاهلات أ الخير نقبل من عند الله والشر لا نقبل؟» (أي 10:2)

+ «أما أنا فقد علمت أن ولي حي والآخر على الأرض يقوم وبعد أن يفنى جلدي هذا وبدون جسدي أرى الله.» (أي 19: 26.25)

6:12 «أليست خمسة عصافير تباع بفلسين، وواحد منها ليس منسيا أمام الله؟»

 المسيح هنا يتمادى في إظهار العناية بمخلوقاته، فمرة يقول شعرة واحدة من رؤوسكم لا تهلك، وشعور رؤوسكم محصاة، وأخرى يقول: إن العصفور لا ينسى أمام الله بمعنى أنه يعطيه طعامه وشرابه في حينه. وفي إنجيل ق. متى يقول: «وواحد منهما لا يسقط على الأرض بدون (إذن) أبـيكم »(29:10). في الحقيقة قول المسيح هذا يعطينا صورة عن شمولية رعاية الله للعالم تحت قوانين وموازين ذاتية لا تخل، الذي نقول عنه نحن إن الطبيعة تصحح نفسها، فلا يوجد فعل إلا وله رد فعل، ولا توجد حركـة إلا ولهـا قـيـاس ومـدى في الطبيعـة، وكـل مـوت يقابلـه حـيـاة وليسـت حـيـاة إلا من حياة، وليس عجز إلا وله تعويضه، ولا عمل إلا وله جزاء. وهذا يشعرنا بلانهائية الله في العلم والفعل والحكمة والتدبير. فإذا عرفنا ذلك فمن البديهي أنه إذا سلمنا أنفسنا الله في طاعة العبادة والمحبة فحياتنا في أمان، لأن موتنا ينقلنا إلى عنده لأكثر أمان: «لأننا إن عشنا فللرب نعيش وإن متنا فللرب نموت. فإن عشنا وإن متنا فللرب نحن» (رو 8:14). لذلك أصبح الإيمان به ضرورة مطلقة، والشهادة له ربح لأنها تثبت وجودنا عنده. ولهذا حينما يقول المسيح: «لا تخافوا» فهو ضامن لعدم الخوف، بمعنى إن كنا نجازف ونلقي أنفسنا عليه فهو يده ممدودة تحتنا وذراعه يحملنا : «لأن من يمسكم يمس حدقة عينه.» (زك 8:2)

7:12 «بل شعور رؤوسكم أيضاً جميعها مُحصاة! فلا تخافوا. أنتم أفضل من عصافير كثيرة!»

المسيح بهذا يؤكد معرفته بنا معرفة أكثر مما نعرف نحن أنفسنا. فمن ذا يستطيع أن يعد شعر رأسه؟ هذا يعرفه الله عنا ويعرف بالتالي ما يضرنا وما يفيدنا وما يدور بقلبنا وفكرنا. لذلك أصبح من البديهي أن نسلمه الجسد والنفس والروح، فهو أكثر أمانة عليهـا مـن أنفسنا. فإذا كان الأمر كذلك فيمن نخاف؟ وممن نرتعب؟ هذا الكلام بشيء من التأمل البسيط يدفع في النفس روح شجاعة لتخطي أصعب الأهوال، وبشيء من التصديق يواجه الإنسان المخاطر بقلب مطمئن: «إن قامت علي حرب ففي ذلك أنا مطمئن» (مز 3:27)، «أيضاً إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرا لأنك أنت معي.» (مز 4:23)

آباؤنا العظام الأوائل الذين قالوا هذا عاشوه وجربوه ووجدوه حقاً، لأننا ونحن نقرأ أقوالهم هذه نحس فعلاً أنها خرجت من عمق اختبار ومن حياة غلبت أهوال الموت. فأي إنسان يستصغر هذا الكلام أو يحسبه مبالغاً فيه هو جاهل أو على الأقل لم يذق الله بعد: «ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب!» (مز 8:34). حينما يدخل الإنسان في مجازفة دينية للشهادة أو استعراض لأعمال المسيح ويكون قد ذاقها، تخرج كلماته من فمه وفيها الشهادة وقوة الحق ويحس بقلبه ملتهباً فيه. والمسيح بأقواله هذه يربي فينا روح روح المجازفة المحسوبة والقدرة الواعية في الاعتماد عليه. 

8:12 «وأقول لكم: كل من اعترف بي قدام الناس، يعترف به ابن الإنسان قدام ملائكة الله».

«ابن الإنسان»:

هنا التعبير المحبوب عند المسيح بالنسبة لعمله بعد القيامة وخاصة فيما يخص الدينونة والجزاء. والمسيح هنا يحاول أن يوضح لتلاميذه أن مستقبلهـم فـوق عنـد الله في الحياة الأبدية يتوقف أساساً علـى قدرتهم في التعبير والإعلان بشجاعة عن المسيح هنا، وطبعاً الاعتراف بالمسيح يتم هنا؛ ومفروض أننا أمام حالة محاكمة وتهديد بالعقوبة أو الموت، حيث لا ينفع الكارز لا فهم ولا علم ولا قدرة ذاتية، بل قوة إيمان مجازف بالحياة للاعتراف والشهادة للمسيح، وأي اهتزاز في وقت الشهادة يحسب إنكاراً. فمطلوب الشهادة شجاعة إيمانية” متكلة كلية على الله القادر أن يقيم من الأموات!! فكل من استهان بالموت وقت الخطر أو الشهادة يرى القيامة حاضرة فيه!! يرى نفسه غالباً ومنتصراً وهو مقيد وتحت الحكم، ويستشعر قمة حريته الروحية وهو في السجن والسلاسل في يديه.

والمسيح هنا يحاول أن يربط ذهن تلاميذه من الآن بحتمية الوقوف أمام الله والملائكة ليسمع شهادة المسيح له: إن بالاعتراف باستحقاق المحـد الـذي يستمده من الآب له، أو بخزي الإنكـار وعـدم الاستحقاق. أمر مرعب ومخيف أن نقف موقف المدان أمام الله وملائكته القديسين. وحينئذ تظهر تفاهة الأمور التي فضلها الإنسان في حياته عن أمانته لله والمسيح التي ورثته خزي الوجوه، حتى ولو كانت هذه التي باع حياته وإيمانه وحبه من أجلها هي الدنيا بأكملها!! «ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وأهلك نفسه أو خسرها.» (لو 25:9)

9:12 «ومن أنكرني قدام الناس، يُنكر قدام ملائكة الله».

هنا السقوط في الامتحان ليس مرجعه ساعة إنكار أو يوم أو سنة، بل العمر كله يقاس على مستوى الاعتراف بالمسيح من عدمه. إن العروض التي يتواجه بها الإنسان لكي يعترف بالمسيح تحسب بالمئات والألوف. هنا الحزن المربع لو أن الحياة كلها إن كانت ستين سنة أو ثمانين تُعتبر ـ دون شهادة تخرج من القلب والفم لحساب المسيح – أنها مأساة العمر وخسارة الحياة. وقد قالها المسيح إنه مهما ربح الإنسان من مال وشهرة وكرامة وصحة وقوة وبأس وذكاء وتفوق، ما قيمة هذا كله إزاء أن يقف الإنسان أمام الله كإنسان أنكر المسيح أو استهان باسمه أو صليبه، ورفض الفداء والخلاص الذي قدمه الله بابنه مجاناً لكل إنسان.

ولسنا هنا في معرض ذكر الخطايا وحسابها بل أمام عمل واحد هو الاعتراف بالمسيح أو إنكاره. لأنه لو أعطى الإنسان كل أمواله صدقة ولكنه أنكر المسيح أمام الناس، سيلقى المثل إذ ينكره المسيح أمام ملائكة الله. وكون المسيح ينكر إنساناً . يعني أن هذا الإنسان قد فقد نصيبه في الحياة الأبدية.

10:12 «وكل من قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له، وأما من جدف على الروح القدس فلا يغفر له».

لقد اتفق آباؤنا القديسون الأوائل في الكنيسة على أن التجديف على ابن الإنسان هو خطية غير المسيحيين الذين لم يعرض عليهم الإيمان بعد، أما من حذف على الروح القدس فهي خطية المسيحيين الذين قبلوا العماد وشربوا الدم وصاروا عارفين الله والمسيح ومعانين ومؤازرين بالروح القدس. هؤلاء إن جذفوا على الروح القدس يكونوا قد حكموا على أنفسهم بالكفر، وقبلوا على أنفسهم القطع من شعب الله.

«قال كلمة»:

ومعناها عند الآباء الأول نقلاً عن التقليد اليهودي أنه نطق باللعنة، وقد جاءت في إنجيل ق. مرقس (29:3) بمعنى: يجدف”. وفي تحليلها الكنسي تعني الرفض بفكر شرير واع لقوة الخلاص وعمل نعمة الله.

ويلاحظ أن في قول المسيح: «من قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له» هنا أعطى المسيح لقبه المتواضع الذي يكاد يكون بحد ذاته إنكاراً لذاته. لذلك نظن أيضاً أن غفران الخطية هنا هو لمن يجدف على ابن الإنسان، ويقصد به شخصه، عندما يكون المحذف لا يعرف حقيقته المسيانية أو الإلهية. أما التجديف على الروح القدس، فمعروف أن الروح القدس يعمل علناً وله معجزات هائلة. ومعروف أنه له كيان إلهي وتاريخ طويل من الأعمال منذ العهد القديم وإلى الجديد. لذلك من يجدف عليه فليس له عذر.

كذلك نرى أن ابن الإنسان” هو لقب يختفي المسيح فيه لكي لا يستعلن أنه المسيا، أي أن المسيح أراد بهذا اللقب أن يخفي حقيقته الإلهية. لذلك أصبح التجديف عليه غير محسوب. ولكن الروح القدس لا هو مختف في اسمه ولا في عمله، فمحاولة التجديف عليه هي بمثابة مقاومة علنية لله. كذلك فإن اللقب الذي اختاره المسيح لنفسه ليخفي فيه ألوهيته هو منتسب إلى الأرض وليس إلى الله ، في حين الروح القدس منتسب إلى رأساً فالقدوس الوحيد هو الله كروح.

11:12و12 «ومتى قدموكم إلى المجامع والرؤساء والسلاطين فلا تهتموا كيف أو بما تحتجون أو بما تقولون، لأن الروح القدس يعلمكم في تلك الساعة ما يجب أن تقولوه».

وهكذا ينبه ق. لوقا بوضعه هذه الآية مباشرة بعد السالفة ويؤكد على أهمية الروح القدس وعمله الخطير في حياة المؤمن ككل، وحياة الكارز كاختصاص. لأن الروح القدس منوط به أن يأخذ من المسيح ويلقـن التلاميذ بمـا يشهدون وبمـا يدافعون عـن المسيح. يعني ، أن الروح القدس يقـف حاجزاً مانعاً بين الكارز ونفسه عندما تخور ويحاول الإنكار. هنا الروح القدس ينبري ويشجع ويقوي ويؤكد في قلب الإنسان وفكره ويمده بما يقول ويبرهن به إيمانه بالمسيح. بمعنى أن الروح القدس سيجعل الكارز والخادم على درجة يقينية من الاعتراف بالمسيح إذ يمده بالكلمة والحكمة: «أنا أعطيكم فماً وحكمة لا يقدر جميع معانديكم أن يقاوموها أو يناقضوها» (لو 15:21). وطبعاً واضح أن المسيح يقصد بالحكمة الروح القدس.

من هذا يعني عجيب حقا أن ينبري الروح القدس ويدافع معنا عن حقيقة المسيح حينما نقع تحت مقاومة شديدة وأعلى قامتنا، هنا يأخذ الروح القدس عمله دون أن نسأله، فهو ألزم نفسه بهذه العملية. لذلك يشدد المسيح القول بأن لا نهتم بما نقوله أو بما نحتج به، هذا أغرب من الخيال. إذ إن كان هذا أمر الكرازة والخدمة فمن يهرب أو يتراجع أو يخاف لضعفه أو عدم لياقته للشهادة والكرازة باسم المسيح؟ أن الكرازة والخدمة مفتوحة وهمها ويقلها يستلمه الروح القدس شخصياً، وكأن الكارز أو الخادم يسير ومعه محاميه الخاص وضامن الإفراج بدون كفالة:

+ «حينئذ امتلأ بطرس من الروح القدس وقال لهم: يا رؤساء الشعب وشيوخ إسرائيل … فلما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا، ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعاميان، تعجبوا … وتآمروا فيما بينهم قائلين: ماذا نفعل بهذين الرجلين؟ لنهددهما تهديداً أن لا يكلّما أحداً من الناس فيما بعد بهذا الاسم. فدعوهما وأوصوهما أن لا ينطقا البتة، ولا يعلما باسم يسوع. … وبعد ما هددوهما أيضاً أطلقوهما، إذ لم يجدوا البتة كيف يعاقبونهما.» (أع 8:4-21)

هكذا كانت يد يسوع المسيح ممدودة وروحه القدوس يعطي الشجاعة والحكمة والقوة، علماً بأن التلميذين كانا صيادي سمك!! عاميين عديما العلم!!

+«في احتجاجي الأول لم يحضر أحد معي، بل الجميع تركوني. لا يحسب عليهم. ولكـن الـرب وقف معي وقواني، لكي ثيتم بي الكرازة، ويسمع جميع الأمم، فأنقذت من فم الأسد. (2تي 4: 16و17)

وأمامنا الآن وعد المسيح قبل الصليب وتتميم وعده بعد القيامة. ومنه يتحقق القارئ أننا أمام منهج إلهي مدروس ووعود صادقة وأمينة تمت في حينها وتتم كل يوم. وها أمامنا الكنيسة تحيا بعد أن عبرت ألفي سنة مرفوعة الرأس والشهادة في فمها! ولكن عبر هذا الزمان بأيامه الثقيلة وسنينه الدموية على أجساد شهداء هذا عددهم ودموع كالنهر!!

2 – مثل الغني الغبي (13:12-21)

القديس لوقا وحده

بينما المسيح مسترسل في تعليم تلاميذه خرج صوت من الجمع بسؤال غير مجرى حديث المسيح الذي كان يدور حول عدم الخوف في الكرازة وتأمينها بعمل الروح القدس. وكان سؤال هذا الإنسان عن المال وما يجر على أصحابه من نزاع وقلق وهم. وهنا يدخل المسيح بإجابته معلماً عن الطمع ويتجه بنفس هذا التعليم نحو التلاميذ وكرازتهم مستقبلاً (12: 22-34) لتكون خالية من الطمع من نحو القنية الزمانية.

وفي البداية حاول هذا السائل أن يجر المسيح إلى الوقوف بين متخاصمين على ميراث. وهكذا يخلق المسيح (في إنجيل ق. لوقا) من الأوضاع العادية دروساً للكرازة. فمن رياء الفريسيين أعطى درس عدم الرياء والعلانية بالنسبة للتلاميذ في الكرازة. كذلك هنا من سؤال السائل عن قسمة الميراث يخرج المسيح بدرس للتلاميذ عن عدم الطمع وعدم القنية المادية الخطيرة التي استغرقت من هذا الاصحاح من الآية (22:12) حتى الآية (34)!

والمسيح لمما دعاه السائل أن يقف قاضياً بينه وبين أخيه يقسم لهما الميراث، الذي بالطبع انتهى بينهما إلى عراك ونزاع، رفض المسيح هذه الدعوة لا عن عدم اختصاص بل بسبب الطمع الذي يخيم على هذين الأخين.

من هنا ابتدأ يقول لتلاميذه: إن التلميذ يلزمه أن يكون صاحب إحساس شديد نحو الحق والقيم، مدركاً أن الحياة لا تقاس بما يملك الإنسان. فإن الأساس الذي يبني عليه التلميذ حياته هو الضرورة القصوى أن يتدخل الله في صميم علاقته بالعالم حتى يوفر له الحياة الحقيقية أو الحياة تبع الحق. وهنا سوف يدرك أن كل الملكيات بكل أنواعها وأصنافها فاقدة قيمتها في نظره. وحينئذ يحسب الإنسان عظيماً أو حقيراً بمقدار قربه من الله أو بعده عنه، حيث يصبح الذي ليس له دالة معا الله هو الشقي والفقير والبائس والعريان، حتى ولو كانت ملايينه أتخمت البنوك !! «لأنك تقول إني أنا غني وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان» (رؤ 17:3). وهنا أمامنا إنسان غني جداً بالمال وفقير جداً بالروح، فماذا سيعمل له المال ولماذا أتعب نفسه هكذا باطلاً، أليس هذا يحسب أنه غني ؟؟ والغباوة هنا ليست شتيمة ولكن تعبير عن عدم الرؤية السليمة وانعدام ميزان تقدير الأمور بالنسبة للحق والحيـــــاة والله . وخروج هكذا بعيداً عن أقل مستويات العلاقة بالحق والله يجعله غبيا مهما ادعى الذكاء والحكمة والمقدرة في كسب المال والرجال، وسوف نرى كيف وضع المسيح له مثلاً خاصاً ؛ وعلى نوره نقول هنا: إن كان قد أمضى من حياته كل شبابه في مشروع أو مشروعات ضخمة ناجحة بحسب تقدير كل الناس، ولكن بعد أن يكون قد أكملها تماماً يشعر بشيء في قلبه، وإذا هـو نـداء بفراغ العمر والاستعداد للرحيل، وهو لا يملك مليماً واحداً روحيا يسنده في رحلة غروب الحياة والوقوف أمام الله. ولو كنت معه وسألته ما رأيك في مشاريعك بل حياتك، يقول باختصار : “كلام فاضي”، وتكون هي الكلمة الأخيرة :

+ «رأيت كل الأعمال التي عملت تحت الشمس فإذا الكل باطل وقبض الريح.» (جا 14:1)
+ «ثم التفت أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداي وإلى التعب الذي تعبته في عمله فإذا الكل باطل وقبض الريح.» (جا 11:2)

ولكن ليس كل غني غبيا، فالروح يكلمنا عن الغني البار: «فرق أعطى المساكين بره قائم إلى الأبد. » (9:112)

لم يدخل المسيح أكثر مما يستلزمه الرد على سؤال صاحب الميراث المتنازع عليه.

13:12 «وقال له واحد من الجمع: يا معلم، قل لأخي أن يقاسمني الميراث».

هذا السائل توجه إلى المسيح باعتباره رابي” أي معلم لأن هذه وظيفة الرابيين، يفصلون في المنازعات. ولكن اختار ق. لوقا هذه المقدمة حتى يدخل إلى موضوع الطمع كدرس قائم بذاته للتلاميذ ليعيشوا به ويأمنوا المنازعات. وواضح أن أخاه الأكبر رفض أن يعطيه حقه في الميراث، وغالباً ليبقى الميراث كما هو ويعملان فيه سوياً، ولكن الأصغر أخذه الطمع أن يأخذ نصيبه لكي يعمل فيه وحده ليصير غنياً، وهذا ما لمحه المسيح بالروح، وأكمل المسيح القصة لتكون عبرة لمن يعتبر .

14:12 «فقال له: يا إنسان، من أقامني عليكما قاضياً أو مقسما؟»

رفض المسيح معناه أنه ليس رابيا من الرابيين الذين مهنتهم الفصل في القضايا. وربما نفيه القاطع أنه ليس قاضياً، وهو في نفس الوقت معلّم، يدعو السائل أن يدرك رسالة المسيح الحقيقية. وهذا التعليم صالح للكنيسة لكي تعتبر نفسها ليست مكاناً لفض المنازعات على المال وغيره، ولكن رسالة الكنيسة هي الدعوة للخـلاص وليس الاشتغال بالأمور المادية التي تخص العـالم. وهـذا توجيـه واضـح للكارزين والخدام أن لا يتدخلوا في شئون الأسر والعائلات وفض المنازعات التي لهـا مـن يفصل فيها. فالكارز في المسيحية ليس رابيا يهودياً بل معلماً للخلاص، ولا ينتظر الكارز أن يعطيه الله الإلهام ليرى الحل الأصلح، ولا ينتظر الشعب أيضاً أن هذا عمل الكاهن. فالله له خدمة والعالم له خدمة، وكل خدمة لها اختصاصها وأربابها. وهذا ربما يكون من الدروس الهامة والخطيرة جداً في حياة الكنيسة والخدام، فالمسيح لم يقلها في الهواء بل قالها كحكم قائم بذاته واجب الاستماع إليه والتنفيذ بمقتضاه: « من أقامني عليكما قاضياً أو مقسماً». هذا يتحتم أن يكون منهج الكنيسة ويلتزم به الخادم مهما كانت درجته. أما خدمة المنازعات بين الشعب فهذه وظيفة العلمانيين في الكنيسة حسب التدبير الكنسي الأصيل وهم المدعوون بالأراخنة. 

15:12 «وقال لهم: انظروا وتحفظوا من الطمع، فإنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله».

واضح أن المسيح لمح هذه الصفة في ذلك السائل وطلبه قسمة الميراث. المسيح هنا ينتقل إلى الدرس التعليمي «تحفظوا من الطمع» وكأن الطمع داء أو وبأ أو لص قادم يسرق كنز الإنسان الذي هو قلبه. المسيح هنا يعالج كطبيب، فالطمع مرض عوارضه النزاع والانقسام والمخاصمة والمشادة وربما الضرب أو القتل. فالمسيح كطبيب ماهر أراد أن يستأصل هذا الداء من الأصـل بأن يتحفظ الإنسان حتى لا ينغلب له ويتركه يدخل حياته فيبدد سلامه ويعكر صفو حياته ويسيء إلى الناس، فيخسر الإنسان رضی الله وسلام القلب. ثم ينتقل المسيح من الطمع إلى محبة القنية والتخزين للمال والقوت الذي هو الحافز على الطمع. والمسيح يحذر أن المال والقنية لا يمكن أن تكون مصدر سعادة إنسان أو أمنه أو سلامه، فهي لن تحل محل عمل الله. إنه وهم يتوهمه الإنسان الطامح للغنى والقنية والمال، وهذا الوهم يدفعه لعمل المستحيل لكي يحصل على شهواته حتى ولو بالكذب والسرقة والاختلاس. والكارز والخادم معرض جداً لهذا الداء الوبيل لأن الناس يستأمنونه على أموالهم، ويعطونه من مالهم للكنيسة والصرف على الفقراء، فيستحل الخادم، كاهن أو راهب، هذا المال لنفسه ويبدأ عملية الجمع وطلب المزيد فيدخل هذا الإنسان البائس في عش العنكبوت الذي لا يحس به، الذي هو شيطان المال اللذيذ، حيث يغزل عليه خيوطه ويربطه من كل جهة فيصبح همه الأول وربما الوحيد لا الخدمة والكرازة ولكـن جمع المال. وتضيع الحياة ويضيع الرجاء الأعظم وينسى المسيح من القلب وتصبح كلمة الأمانة والشرف كابوساً على نفسه لا يطيق سماعها أو قراءتها، ويصبح مرعوباً من لا شيء وكأن شيئاً يطارده ويشير إليه بإصبعه وهو ليس إلا الضمير، فيحاول إسكاته ولكـن هيهات فهو صوت المسيح!!

16:12 «وضرب لهم مثلاً قائلاً: إنسان غني أخصبت كورته».

المسيح يوفر على سامعيه كيف صار هذا الإنسان غنياً كما كنا ننتظر حسب تسلسل الحوادث والكلام، ولكنه بدأ مباشرة بالإنسان أنه صار غنيًا وكورته أي عزبته أخصبت، الأشجار مثمرة والزهور يانعة والإنتاج وفير. ولكن يلاحظ القارئ مما سلف أن الغني إنسان أصيب بداء جمع ا المال والاستماتة في المزيد بكل وسيلة مشروعة وغير مشروعة، ولكن هنا يظهر فجأة أنه غني ولكن وراءه ما وراءه من العمليات الضرورية للغنى. أما الداء الذي جمع به هذه الثروة فلا يزال ينخر في عظامه. ولننظر ما ستأتي به الأيام مع الطمع.

17:12و18 «ففكر في نفسه قائلاً: ماذا أعمل، لأن ليس لي موضع أجمع فيه أثماري؟ وقال: أعمل هذا: أهدم مخازني وأبني أعظم، وأجمع هناك جميع غلاتي وخيراتي».

هنا بدأ شيطان آخر غير شيطان الجمع والغنى وهو شيطان المزيد الذي يلازم الإنسان الغني بقية عمره. فلابد من مخازن وأمناء وموظفين ومزيد من الحراسة وسهر الليل وعد وحسابات الداخل والخارج، ودخلت الحياة كلها في الكلمة السحرية المزيد” التي من أجلها يهدم ويبني ويقلع ويزرع، ولا يكف عن التفكير في مستقبل أكثر وغنى وخيرات بلا عدد تحصيناً من فقر أو مجاعة.

19:12 «وأقول لنفسي: يا نفس لك خيرات كثيرة، موضـوعة لسنين كثيرة. استريحي وكلي واشربي وافرحي».

هنا دخل الغني في دور المستقبل وطول العمر والخيرات الفائضة لمزيد من سنين مؤمنة ضد الجوع والحاجة، وتوهم أن في هذا استراحة من هموم العمل والخوف من الفقر والعوز. وهكذا صنعت فلسفة الطمع في الغنى والتخزين وزيادة الأرض والتأمين على المال والعيال والمسكن والعمل، وكل ما يمكن أمن عليه بماله الوفير، ونسي وتجاهل أن الله هو الذي يميت ويحيي ويغني ويفقر. وأن الحياة لا تؤمنها الأموال ولا تضمنها ليوم أو ليلة واحدة حتى ولا دقيقة!

20:12 «فقال له الله: يا غبي، هذه الليلة تطلب نفسك منك، فهذه التي أعددتها لمن تكون؟»

هذا رد على قول الغني لنفسه: «يا نفس لك خيرات استريحي وكلي واشربي وافرحي» فهنا لم ينتبه الغني أن نفسه في يد الله، ولا شيء في الوجود يؤمنها ضد الموت إلا الملكوت، أو يضمن لهـا الـفـرح إلا الخـلاص بالمسيح. وأن الجمـع والمزيـد والاقتنـاء الحقيقي والغنى الوافر هو في السماء كنز الخيرات الحقيقية التي لا يقربها زمن أو زوال. فالمقابل لغنى الأرض هو غنى الملكوت، والمقابل لكنوز العالم هو كنز الحياة الأبدية. ومن العسير أن إنساناً يعمل لحساب الاثنين، وكل من اشتبك مع العالم على مستوى المزيد لأكثر مما تطلبه الحياة يدفع ثمنه من رصيده السماوي.

أما عمر الإنسان فإن كانت الأرض تحسبه له بالأيام والسنين، فالسماء تحسبه بما وفره لنفسه من معرفة الله وحبه وخدمته. وإن كان العمر ينتهي بحسب العالم فجأة دون علم سابق، فعمر الإنسان الروحي يمتد في الأبدية بلا حساب. أما الفرح في العالم فيأتي ويزول سريعاً ولا يتبقى له أثر، أما الفرح عند المسيح فلا يقدر أن ينزعه أحد ولا أي قوة في الأرض، وإن كان الإنسان يستمد فرحه في العالم بما حصله من مكاسب، فالمؤمن يستمده هنا من قوة الله بالروح، أما هناك فمن حضور المسيح الدائم. 

إن قصة الغني الغبي تحسب أخطر إنذار قدمه المسيح حتى لا يتوه الإنسان وراء حب المال. أما بالنسبة للكارز والخادم فهي إنذار من خطر عبادة السيد الآخر.

21:12 «هكذا الذي يكنز لنفسه وليس هو غنيا لله».

لقد أعطى المسيح إنذاراً شديد الوطأة للذي ينحرف نحو غنى العالم دون أن يلتفت إلى الله، فقد ظهر واضحاً أنه لم يكسب من تعبه وغناه على الأرض شيئاً. وهكذا ضاع نصيبه في الأرض وضاع معه نصيبه في السماء. فأي خسارة هذه.

غنى الأرض إن كان على مستوى الغباوة، بمعنى أن الإنسان لا يبالي بغنى الله فهو خسارة في خسارة، ولكن غنى السماء لا يمنع غنى الأرض إن كان نصيب البائس والفقير محفوظاً.

3 – امتلاك الأرضيات والكنز السماوي (22:12-34)

(مت 25:6-33، 19-21)

مجموعة من الوصايا معطاة للتلاميذ لها اتجاه إيجابي ضد الغنى الذي يطلب بوسائل سلبية أو غاشة كما في الجزء السالف. المسيح يطلب من التلاميذ أن لا يكون لهم اهتمام بالطعام والملبس، فهذه أمور ينبغي أن يعطى لها اهتمام ثانوي ليركز التلميذ على حياته نفسها. وأعطى المسيح مثلاً للحياة المعتمدة على الله في كل شيء: الغربان لا تجمع ولا تخزن والرب يقيتها، والتلاميذ عند الله أهم من الطيور. إذن، فالاهتمام بأمور الحياة يضعف الغاية منها وهي العلاقة بالله. وأعطى مثلاً بالزهور كزنابق الحقل فهي تلبس ثوباً من البهاء والجمال لم يستطع سليمان أن يجاريها. فهل قصر الله أن يلبسهم أفضل؟ لذلك فالتلاميذ يلزم أن ينتبهوا لأنفسهم والحياة مع الله ولا يكونوا كبقية الآخرين. والمسيح يعطي وعداً أنهم إذا اهتموا بملكوت الله فالله يهتم بحياتهم. فإن كان الله سبق ووعد بإعطائهم الملكوت أصبح التزاماً عليهم أن لا يهتموا بالأرضيات، وهـل اهتمـامـهـم هـو الـذي يطيـل حياتهم؟! أمـا كنـزهـم فـهـو محفوظ في السموات .

وعلى كل حال نجد هذا القسم من الإنجيل يحتوي على كثير من المعاني، إذ به وصايا من هنا ووصايا هناك بالنسبة لتلاميذه الذين يحاول أن يوجههم للحياة الأفضل، مع وعـود صادقة للمعونة بقدر الاتكال على الله. وفي معظم الوصايا يتضح أن المسيح ينظر إلى مستقبلهم. 

22:12 «وقال لتلاميذه: من أجل هذا أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون، ولا للجسد بما تلبسون».

 لكي نخرج م من هذه الوصايا بنظرة شاملة يلزمنا أن نفرق بين النفس والجسد في نظر المسيح. فالنفس هي العنصر الأساسي في الإنسان الذي يتحتم علينا أن نعطيها الأولوية في كل شيء بالنسبة للحياة وأعبائها، وبالأخص القلق والهم فهما يفسدان الحالة النفسية للإنسان، الأمر الذي يجعله أضعف من أن يكون ممارساً للروحيات ومتجهاً بقلبه وروحه إلى الله. والمسيح ينزل إلى الأساس، فالاهتمام الزائد بالنسبة للجسديات سواء من جهة الضروريات أو الكماليات أمر غير مرغوب فيه، لأن الهـم يقلق النفس ويحرمها من الانطلاق بالروح لتبحث عن نصيبها السماوي عند الله.

وواضح أن المسيح هنا يوعي خدامه والكارزين باسمه أن يتحرزوا من الاهتمام والقلق بالأمور المادية، لأننا سنرى في معرض الكلام أن الله في المسيح يسوع وعد أولاده وخدامه بالملكوت. معنى هذا أن يكون الملكوت هو هدف الحياة، وكل اهتمام آخر يلزم أن يخضع لمطالب الملكوت الروحية بكل حزم.

وفي بداية هذا الجزء نود أن نوعي القارئ أن المسيح بدأ يتحسّس القرب من الصليب فأصبح همه الأعظم أن يبني نفسية وروح تلاميذه كيف سيواجهون واقع حياتهم كتلاميذ كارزين لا يطغى عليهم العالم ومطالب يبني الجسد، بل يتحررون من هذه كلها مع وعد من الله بأن يكون الله معهم. ويلاحظ القارئ في كلام المسيح نبرة الموت الذي على أساسه نربح حياة في الله، اهتمامها الأول هو الملكوت. 

23:12 «الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس».

هي تصلح أن تكون فلسفة المسيحي أن نفسه وحياته أفضل من الطعام والملبس، فلا ينبغي أن نفني عمرنا في الجري وراء الأكل والملبس. هناك اهتمام آخر أرفع وأعلى إذا أتقنا انتسابنا له وهو الله، فإنه هو الذي سيلتزم بالطعام والملبس، وهكذا يتحرّر من القلق والهـم والجري وراء أمور في الدرجة الثانية بالنسبة لهدفنا الأساسي وهو الملكوت. 

24:12 «تأملوا الغربان: أنها لا تزرع ولا تحصد، وليس لها مخدع ولا مخزن، والله يقيتها. كم أنتم بالحري أفضل من الطيور!»

 والآن ها هو المسيح يقدم مثلاً حيا أمام عيوننا، فالطيور يرزقها الله رزقاً يوماً بيوم وهي لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن. المعنى هنا ليس سطحياً وإلا فلا لزوم لنا أن نزرع ونحصد ونخزن، ولكن المسيح أراد أن يكشف لنا عنصر الاهتمام الإلهي بالخليقة. فإن كان الله قد أخذ على عاتقه أن يرزق الطيور احتياجها، فهل لا يهتم بحاجاتنا؟ والمعنى أن اهتمامنا بأمور الحياة يتحتّم أن يقوم على أساس أن الله يهتم بنا أولاً وأخيراً، وإلا فاهتمامنا بأنفسنا بدون عنصر الله يكون جهالة وخطية أيضاً. إذن، فقبل أن نهتم بأمور الحياة ولوازمها يتحتم علينا أن نهتم بعلاقتنا بالله الذي سيبارك اهتمامنا ويجعله ناجحاً وهينا علينا. وهذا لو تمسكنا به جيداً وبدقة سنخرج باختبار واقعي أن الله هو الذي يعمل كل شيء ونحن إنما نحصد من مراحمه ومحبته ما لا يمكن أن نحلم به. والكلام هنا للتلاميذ أي الكارزين والخدام. وحينئذ يخرج الكارز باختبار حي عن الله والحياة والاهتمام يمكن أن يظل يعلم به طول الحياة. هذا يعني أن هذه التعاليم التي تبدو في نظرنا بسيطة وربما تافهة حسب الظاهر تحوي في جوهرها الله نفسه قائماً يثبت وجوده لمن يسعى خلفه. 

25:12 «ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعاً واحدة؟»

المعنى في هذه الآية ليس حسب ظاهرها، فجوهرها أن الله وضع قياساً لحياتنا في كل دقائقها، ووضع لنا نصيباً على الأرض وفي السماء، وكل ما علينا أن نتبعه بأمانة واهتمام به هو لكي يكمل لنا حياتنا وصحتنا وسلامنا. ومعنى الآية أن اهتمامنا بالحياة لا يزيد أعمارنا سنة واحدة ولا يوماً واحداً. وطبق ذلك على كل شيء. إذن، اهتمامنا كله ينبغي أن يكون أن نتعلم كيف نتبع المسيح بكل قلوبنا وهو يدبر لنا الحياة. ولكن ليس معنى هذا أن نتراخى في أعمالنا أو جهادنا وأمانتنا، بل أن نضعه هو في المقدمة أولا وقبل كل شيء.

26:12 «فإن كنتم لا تقدرون ولا على الأصغر، فلماذا تهتمون بالبواقي؟»

في الآية السابقة أعطى لنا المسيح مثلاً عجزنا فيه وهو هل باهتمامنا نقدر أن نزيد طولنا ذراعاً. وهنا يكمل: لذلك وجب أن تخضعوا للذي في يده الطول والعمر والحياة والصحة وكل شيء. فهو قادر على كل شيء ويستحيل أن يعجز الله عن أن يعمل ما هو لخيرنا وصلاحنا: «اسألوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يفتح لكم» (لو 9:11). والأهم من ذلك أن تسلمه كل شيء فلا تعد محتاجين لشيء.

27:12 «تأملوا الزنابق كيف تنمو! لا تتعب ولا تغزل، ولكن أقول لكم إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها».

هناك عن الاهتمام بالطعام أعطى الطيور مثلاً، وهنـا عـن الكساء والملابس الجميلة أعطى زنابق الحقل التي تسمى باللاتينية: Anemone وهي حمراء فاقعة تُرى من على بعد، التي كما قال إنها أبهى في منظرها من ملابس سليمان وكل محده. هنا المعنى عميق، لأنه لابد أن نتعب ونغزل وننسج ونصبغ ونفصل حتى نحصل على الثوب الذي نلبسه. فالمسيح لن يرسل لنا ملابس من السماء. إنما أراد أن ينبه أذهاننا إلى قدرة الله الفائقة العجب كيف يعطي الأزهار ألواناً وروائح وجمالاً يبهر العقل ويستهوي العين. والآن لو كشف الله . أعيننا لرأينا آيات الجمال المبدعة التي يلبسها للنفوس الوديعة الطاهرة التي سلمته الجسد وكل ما له ليلبسه من عنده طهراً وجمالاً ونقاء تعجز الزهرة بكل جمالها أن تحاكيها. فاللباس جيد يغطي الجسد وبالكاد يستر عورات الإنسان، ولكن أقول لو كشف الله عن أعيننا لرأينا كيف تدثر النفس ببهاء مجد الله في المسيح يسوع، وعلى حال من الديمومة التي تزيدها جلالاً فوق كل ما هو للخليقة المنظورة. نعم فلنا في المسيح يسوع ثوب محد يدوم (رو 14:13؛ غل 27:3). 

28:12 «فإن كان العشب الذي يوجد اليوم في الحفل ويطرح غداً في التنور يلبسه الله هكذا، فكم بالحري يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان؟»

نعم، فالمسيح على حق. فإن كانت زنابق الحقل التي تعيش يومها بالكاد لتذبل وتموت وتصير وقيداً، يلبسها الله هذا الإبداع والجمال لتعيش به يومها؛ فـكـم بالحري الذين خلقهم على صورته في المجد والكرامة والقداسة في إنساننا الجديد ليدوم دوام الأبد في حضرة الإله عابداً مرئماً. وهنا ننبه ذهن القارئ أنه ليس عبثاً يتمادى المسيح في وصف جمال الزهور، فهو يلمح بوضوح إلى حالة الإنسان عنده وما سيؤول إليه من محد وجمال وجلال: «يضيئون كضياء الجلد، والذين ردوا كثيرين إلى البر كالكواكب إلى أبد الدهور» (دا 3:12). فماذا بعد أن عرفنا ذلك، وماذا ينبغي أن يكون اتكالنا عليه!! وإذ ينظر المسيح إلى حال اهتمامنا بالتوافه إزاء ما أعد لنا من مجد يدعونا بقليلي الإيمان. 

29:12 «فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا».

في إنجيل ق. متى (31:6) تجيء أنه إزاء ما قال المسيح وشرح ما عاد للتلاميذ حق أن يهتموا بأكل وشرب ولبس. ولكن هنا يقطع ق. لوقا بأن لا تطلبوا ولا تقلقـوا”. والقصد عميق إذ يقصد المسيح هنا، وبعد أن علمنا عنايته بنا وما سنصير إليه من مجد، أنه لم يعد لائقاً أن نطلب منه ما نأكل ونشرب أو أن نقلق على ذلك. لأنه إن كان قد تكفل بحياتنا القادمة بكل أمجادها أفكثير عليه أن يعطي ما نحتاجه في حينه؟! 

30:12 «فإن هذه كلها تطلبها أمم العالم. وأما أنتم فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه».

كأن المسيح يقول: ليس للأبناء أن يطلبوا ما يطلبه العبيد. وليس للمختارين أن يرتبكوا بأمور العالم وقد صارت لهم خيرات السماء نصيباً معدا ومحفوظاً.

31:12 «بل اطلبوا ملكوت الله، وهذه كلها تزاد لكم».

هذا الوعد الإلهي يقوم عليه منهج ا الحياة كلهـا بكـل أمورهـا صـغيرها وكبيرها، فبنو العلي الذين اختارهم وأرسلهم هم أغنى أغنياء هذا الدهر حتى ولو افتقروا وجاعوا وعطشوا ولم يجدوا ما يسترون به أجسادهم. فالذي صار له أن يدثر بالمجد مع الابن في الميراث الأبوي يكفيه وزرة ليستر بما جسده ولقمة يسند بما جوعه. والذي صار عليه أن يطلب الملكوت ليس له أن يطلب المزيد فيكفيه أن يسمع له الآب ويملكه في ملـك السـماء: «معـتـازيـن مـكــروبين مـذلين، وهـم لم يكن العالم مستحقاً لهم، تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض» (عب 11: 37و38). هنا طلب الملكوت ليس بالسؤال والترجي بل بالسعي والالتزام بمطالب الملكوت. فالملكوت مطلبه يحتاج إلى إنسان ذي عزم وإرادة فعالة وقلب واحد لا يمسه الشك، وكل حياته تنطق بالثقة والإيمان بالله، ولا تقلقه حاجات الجسد وأعواز المعيشة. حينئذ ودون أن يسأل يوفر الله له حاجاته. وكلما زاد الإحساس بالملكوت ضعفت إحساسات الجسد ومطالبه. فصدق الطلب للملكوت يفتح الطريق إليه، وكلما امتد الإنسان نحوه بالرجاء تخلخلت صلاته بالعالم وأعـوازه، والحنين إلى الملكوت يطفئ كل حنين زائل. بهذا غلبوا وبهذا عبروا وتركوا لنا شهادة حية.

فالذي وجه قلبه نحو الملكوت يعيش غريباً على الأرض لأنه يطلب وطناً أفضل، وهو حينما يكرز فهو يتكلّم عن بيته السماوي بيقين القربى والصلة، وكأنه يدعو إلى وليمة هو يخدم فيها ويتشدد مع كل واحد لكي يلبي الدعوة.

32:12 «لا تخف أيها القطيع الصغير، لأن أباكم قد سُر أن يعطيكم الملكوت».

هنا يلتفت المسيح مرة واحدة وينتقل من وصايا في الطريق إلى هدية موهوبة في ختام المطاف سبق أن طلبوها بدموع. وفجأة نسمع صوت الراعي الصالح وهو يهش على غنماته القليلة ويسوقها لتدخل حظيرة الآب السماوي، بعد أن يكون قد أجهدها ضيق الطريق، ويسلمها ليد الآب سالمة حيث لا يوجد الخوف بعد من تيه أو ذئب متربص؛ بل تنتظرها مسرة الآب فتهرب من قلبها الكآبة والحزن والتنهد.

والقطيع الصغير كناية عن الكنيسة: «احترزوا إذاً لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه.» (أع 28:20)

وبعبارة «لا تخف أيها القطيع الصغير» نشتم رائحة الصليب والفزع وهروب التلاميذ المزمع أن يكون .

33:12 «بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة. إعملوا لكم أكياساً لا تفنى وكنزاً لا ينفد في السّموات، حيث لا يقرب سارق ولا يبلي سوس».

عملية تعزيل” أو نقل من بيتنا الأرضي لبيتنا السماوي عبر البيع والصدقة. أفخر ما عندنا وأثمن ما نمتلك إذا أردنا أن نأخذه معنا إلى فوق حيث بيت الآب الأبدي، علينا أن نبيعه ونعطي ثمنه صدقة. وأموالنـا الـتي نخاف عليهـا والـتي جعلـت القلق والخـوف عليهـا ينغص عيشتنا، إن أردنا أن نحفظها ونحافظ عليها أن نضعها في كيس متين ونرسله حيث الفقراء والعجزة والمعوزين، وهو يتحول باسمنا فوق ونستلمه كيساً من النعمة يحوي عطايا الآب السماوي لمحبيه. أما الجواهر والذهب والأشياء النادرة فهي تتحول من يدنا ليد الفقير لتصير كنزاً سماوياً يحوي كل ما هو مفرح ومسر للروح إلى الأبد. أما طالما معنا هنا فهي هم بالليل واضطراب بالنهار، حتى إذا لم تسرق فهي تفقد قيمتها قليلاً قليلاً حتى تفنى ولا يعود لها وجود، الملابس يأكلها العث والأطعمة يأكلها السوس، والمال إن لم يصرف يسرق. ومهما أمنًا على أموالنا وحياتنا ففي النهاية: «عرياناً خرجت من بطن أمي وعرياناً أعود إلى هناك» (أي 21:1). ولو انتصحنا لعشنا يومنا لا نحمل هم الغد، فيومنا لنا وباكر هو في يد القدير، فالذي يأتي، يأتي ومعه ما يسد أعوازه «حين أرسلتكم بلاكيس ولا مزود ولا أحذية هل أعوزكم شيء »(لو 35:22). و «خبزنا كفافنا أعطنا اليوم.» (مت 11:6)

أما إذا عشر على الإنسان أن يصدق هذا ويعمل به، فالكارز والخادم ملتزم بطاعته وكل من أطاع وصية المسيح وجد فيهـا مـا يفوق تصور الإنسان. لأن كلام المسيح يحمل قوته والوصية فيهـا سـر تنفيذها، وطاعة المسيح تُلزم السماء بأن تقدم معونتها.

34:12 «لأنه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضاً».

واضح أن الإنسان الذي ارتبط بالمسيح وحفظ كلامه وأطاع وصيته وبدأ ينفذ بالفعل يجد أن قلبه ينتقل شيئاً فشيئاً من القلق بالأرضيات إلى التعلق بالسماويات. فكما أن المجتهد في أمور الأرض يكون شديد الاتصال والارتباط بها، هكذا حتماً المجتهد في تتميم وصايا المسيح يبتدئ قلبه وفكره يرتبط بها وتكون فيها مسرته وعزاؤه. أما إذا طبقناها على المال ذاته تظهر الوصية أكثر، فإذا كان للإنسان رصيد في بنك ما، يهمه جداً أن يسمع أخبار هذا البنك يوماً فيوماً ويتعلّق عقله وفكره وقلبه حيث وضع ماله أو كنزه. وعلى النقيض: فالخادم الأمين الذي ابتدأ يتعلق بوصايا الرب فهذيذ قلبه ليل نهار في الإنجيل ودائم السؤال عن النصيب السماوي.

ولكن لا نأخذ كلام المسيح كمجرد وصايا قابلة أو غير قابلة للفعل والتكميل؛ بل علينا أن نعرف أن المسيح يقول وفي قوله قوة للعمل وليس لأي إنسان عذر أن يقول: هذا الكلام صعب غير قابل للتنفيذ، بل هو نافذ بالحق الذي فيه والنعمة التي تؤازر العامل به والمطيع. وكل من أطاع وصايا المسيح ربح وشهد بذلك. «السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول.» (لو 33:21)

4 – مجيء ابن الإنسان (35:12- 48)

(مت 43:24-51)

 

يستمر هنا المسيح معطياً وصاياه دون توقف، ولكن يتغير الموضوع من التخلص من الاهتمامات الدنيوية (33و34) إلى الاشتغال بالروحيات ليكون الإنسان مستعداً لمجيء ابن الإنسان (40)، ويتحرر من الانشغال الدنيوي بالاعتماد على رعاية الله والثقة في مجيء الملكوت. ويحض المسيح على السهر الروحي بالنسبة لتلاميذه الذين أسماهم «الوكيل الأمين الحكيم» الذي لا يهمل مسئوليته ولا يستغرق في الاهتمام بذاته، ولا يحاول أن يفرض نفسه على الآخرين، ولكن يملأ وقته بما ينميه باستعداد النفس لملاقاة المسيح في مجيئه. ويعطي المسيح هذه الوصايا على هيئة أمثال تعليمية وهي طريقة المسيح المحبّبة. فالسهر يشبه بعبد ساهر لينتظر محيء سيده وبيده المجازاة؛ بل ويعطي تصوراً فائقاً على العقل بالنسبة لهذا السيد، وهو أنه يجلس مع عبيده ويخدمهم بنفسه (36و37). وهذا التصوير يبدو أنه سيحققه المسيح في مجيئه، وهذا أمر عجيب على مسامعنا. ويعطي تحذيراً للذي يهمل الانتظار. ويشبه الانتظار اليقظ بإنسان ساهر على بيته لئلا يسطو عليه لص! إلى هذا الحد يريدنا المسيح أن نكون واعين للعدو. والسهر له مجازاة والبليد الكسول يفقد مكانه بحكم قاطع.

ويعطينا المسيح هنا فكرة عن المجازاة بالنسبة لمعرفة إرادة السيد، والمجازاة بإعطاء مسئوليات أكبر (48-41). وواضح من كلام المسيح أنه يتكلّم : ذهابه وغيابه وماذا ينبغي أن يكون عليه الأمناء للمسيح والمتولون على خدمة المؤمنين إلى أن يجيء. ولكن تشتم من كلام المسيح أنه يعطي توصيات للذين أهملوا الخلاص حتى ينتبهوا قبل مجيء الدينونة سواء التي عند الموت أو التي في النهاية. وقد اهتمت الكنيسة الأولى جدا بهذه التوصيات واعتبرتها لجميع المؤمنين.

35:12 «لتكن أحقاؤكم ممنطقة وسُرجكم موقدة».

«أحقاؤكم»: 

ومفردها “حق”، وهو حق الفخذ الذي يربط حزام الوسط فوقه ليشد قامة الإنسان ويجعله مستعداً للمشي أو الجري. وهذا الحزام أيضاً يمنع الإنسان من أن يستلقي وينام، فهو رمز الاستعداد الفوري. وهنـا المسيح يعطي وصيته للاستعداد: حزام الوسط والسراج المتقـد. حزام الوسط باستعداد العمل والسراج المنير باستعداد السهر. والمثل هنا له صلة كبيرة بخدمة السيد عند مجيئه، وبالتالي يكون معناه إيقاظ روح الانتباه لمقابلة الرب، ويكون الانتباه لمجرد المقابلة أي يقظة الاستعداد النفسي والروحي إما لمجيء المسيح أو للانطلاق لرؤياه، أو يكون الاستعداد ضد العدو الذي يحاول سرقة كنز الإنسان الروحي بالتجربة. أما الاستعداد بالمصباح المنير فهو أيضاً يشير إلى يقظة الروح بالقراءة والدرس والتعليم، لتكون النفس مضيئة بالمعرفة والتمييز لتكون قادرة على رؤية وجه الرب والتعرف عليه. كذلك أيضاً يعطي المصباح المضيء معنى اليقظة بالنور ضد رئيس الظلمة الذي يطغى على الروح والفكر.

وبالرغم من صغر هذه الوصية إذ تحتوي على أربعة كلمات فقط: «أحقاؤكم ممنطقة وسرحكم موقدة» إلا أنها تحوي من المعاني والتعليم شيئاً يفوق العقل. فهنا المسيح يطلب يقظة الكيان كله الجسد والبصيرة. ويعمل المثل على وجهين: وجه إيجابي وهو لياقة الإنسان على مستوى طهارة الجسد ونور المعرفة حتى يتأهل لمقابلة العريس والدخول إلى الملكوت معه، وهو الأكثر ترجيحاً واهتماماً ونفعاً، أما الوجه الآخر فهو العمل السلبي بالنسبة للعدو على مستوى الجسد المحصن بالروح والبصيرة المستنيرة بالتمييز بين الخير والشر والصدق والكذب حتى لا تؤخذ خلسة بمكر العدو.

36:12 «وأنتم مثل أناس ينتظرون سيدهم متى يرجع من العرس، حتى إذا جاء وقرع يفتحون له للوقت»

المثل هنا محصور فقط في الانتظار الساهر لاستقبال السيد. وهنا كون السيد يقرع الباب يذكرنا في الحال بسفر الرؤيا: «هاأنذا واقف على الباب وأقرع، إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي» (رؤ 20:3). هذا المثل ببساطته يجعلنا نعيش حالة السهر والاستعداد القلبي، التي إذا أتقنها إنسان يعرف مدى قوة هذا المثل على إنعاش الروح. فالسيد يأتي لدى أبناء الملكوت كل ليلة خلسة ويقرع الباب بخفة ليفتح الساهر للعريس فيدخل، نقدم له صحن أحزاننا وآلامنا وهو يقدم لنا صحن أفراحه ومسراته، هو يقاسمنا ونحن نقاسمه، هو يأخذ ما لنا ونحن نأخذ ما له. هو لا يمل أن يأتي كل ليلة إن رأى المصباح موقداً والنفس على استعداد اللقيا. ومن ذاق من صحنه ما عاد ينعس. إنها زيارات خلسة لعريس نصف الليل. 

37:12 «طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين. الحق أقول لكم: إنه يتمنطق ويتكئهم ويتقدم ويخدمهم».

السـر في هــذه الآيــة عميــق للغايـة، فالســاهر يعــني الإنســان الــذي دخـل في مناطق الـوعي الروحي فيهــا تـتم اللقيا مــع السيد، حيـث يـبطل العبـد أن يكون عبــدا ً بــل شـريك حب وشريك مجد، والأحباء يجلسون علـى مائـدة الحبيـب، والحبيـب يتمنطـق بالمجد ويجلـس يطعمهـم مـن جسـده ويسـقيهم مـن كأسـه. هذا وعد حقيقي قاله المخلص بعهد وهو عهد أخذه على نفسه حينما قال: لن أكل من عشاء الفصح هذا إلا في الملكوت، حيث يقاسمنا أفراحه مع مجده. هذا يتممه المسيح متى أراد وأينما شاء وهو يلذ له أن يعمله سرا مع الساهرين الذين أضناهم العالم بجحوده. يدخل إليهم ويمسح الدمع من عيونهم مع ويذيقهم من حبه لينسوا مآسيهم.

38:12 «وإن أتى في الهزيع الثاني أو أتى في الهزيع الثالث ووجدهم هكذا، فطوبى لأولئك العبيد».

الليل عند اليهود ينقسم إلى ثلاث فترات كل منها يسمى هزيع وهو التقسيم الذي أخذ به ق. لوقا هنا. أما الرومان فيقسمونه إلى أربعة أقسام كما في إنجيل ق. مرقس (35:13). لذلك يحسب الهزيع الثاني أو الثالث هو أقصى السهر في الليل بحسب التقسيم اليهودي. وقد اتخذ الإنجيليون الليل كناية عن غياب المسيح: «الذي ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شيء» (أع 21:3). واتفقوا أن مجيئه سيكون في آخر الليل أي منتهى أو أقصى ما تبلغه الظلمة على الأرض. «قومي استنيري لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك لأنه ها هي الظلمة تغطي الأرض والظلام الدامس الأمم. أمـا عليـك فيشرق الرب ومجده عليك يرى. فتسير الأمم في نورك والملوك في ضياء إشراقك.» (إش 60: 1-3)

وهكذا فإن أولئك العبيد السهارى هم سهارى كل الليل، بمعنى الذين حملوا نور المسيح في قلوبهم وأناروا من حولهم في ظلمة هذا الدهر: «أنتم نور العالم» (مت 14:5). وما هؤلاء العبيد سهارى الهزيع الأخير إلأكنيسة آخر الزمان ومن يمثلها في وسط ظلمة العالم الآن، بما حصلوا من عفة وطهارة واستنارة ويشهدون وسط تهديدات الموت .

39:12 «وإنما اعلموا هذا: أنه لو عرف رب البيت في أية ساعة يأتي السارق لسهر، ولم يدع بيته ينقب».

هذا الوجه الآخر للسهر هو السهر التحفظي على وديعة الإيمان وعفة النفس وطهارة الجسد. هذا السهر هو السهر الروحي تحت نعمة الروح القدس وقيادته ليحتفظ الإنسان بمواهب الخلاص والفداء بما سيقدمه بسلوكه وكلامه وقدوته. فالبيت هنا بيت النفس المحصنة بنعمة المسيح وموهبة الروح القدس. أما عملية النقب فهي تعرية النفس من عفتها والجسد من طهارته التي بمقتضاها ينغلب الإنسان للعدو ويبطل سهره ويخسر الدعوة: «من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي كما غلبت أنا أيضاً وجلست مع أبي في عرشه.» (رؤ 21:3)

40:12 «فكونوا أنتم إذا مستعدين، لأنه في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان».

في هذه الآية يختفي سر من أسرار المسيح ذات الأهمية القصوى، فهو يحث دائماً على عدم الترقب لنتخلص من القلق، ويلغي البعد الزمني . محال عبادتنا حتى لا ننتظر أن تسمع عبادتنا أو نترقب نتائجها. فأعظم نصيحة يقدمها المسيح هنا للإنسان المجاهد الساهر سواء في عبادته أو دراسة إنجيل أو تأمل وصلاة أن لا يلتفت إلى الزمن إطلاقاً. فالحياة الروحية لا ترتبط بالزمن، لذلك يُحسب السهر أنه سهر روحي غيرمحصور في الزمن، وكذلك مجيء المسيح يكون غير مرتبط أيضاً بأي زمن. وهنا يحاول المسيح التعبير عن هذا المبدأ الهام بقوله: «في ساعة لا تظنون» هنا فصل المسيح السهر والعبادة والانطلاق فيها عن المواعيد والأيام والأزمنة: «فسألوه قائلين يا رب هل في هذا الوقت ترد الملك إلى إسرائيل. فقال لهم: ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه.» (أع 1: 6و7) 

41:12 «فقال له بطرس: يارب، ألنا تقول هذا المثل أم للجميع أيضاً؟»

من الواضح أن الحث على السهر كان منذ بدء الحديث (35) موجهاً للتلاميذ، ولكن جاء هذا الاستفسار ليؤكد أنه للمسئولين عن الآخرين، التلاميذ في وقتها وبعد ذلك للكارزين، على مستوى ما جاء في الآية (39) أنه «رب البيت»

42:12 «فقال الرب: فمن هو الوكيل الأمين الحكيم الذي يقيمه سيدة على خدمه ليعطيهم العلوفة في حينها؟»

هنا المسيح يرد على بطرس بطريق غير مباشر أن الكلام موجه بصفة خاصة للذي يقيمه سيده على خدمه، لأن الكل في نظر المسيح هم خدم السيد، ولكنه أقام منهم وكيلاً أميناً حكيماً. وهكذا نخرج بالمعنى أن الكلام موجه للاثني عشـر مـع التعميم لباقي التلاميذ. وهنـا يعـطـي كلمـة وكيـل، التي بحسب المفهوم الأرامي تستلزم أن يكون ابن البيت ، على أن يكون حكيماً. ولأن المسيح أقام الاثني عشر على الخدمة فهم المكني عنهم. أما العلوفة فهي الجراية أو كمية الأكل المحددة، والمعنى الغذاء الروحي اللازم والمناسب نيابة عن رب البيت وهو الله . هذا القول وتفسيره نفهم أن الكارزين في الكنيسة المسئولين عنها هم كلهـم خـدام الله، ولكن يقام من بينهم وكيل أمين حكيم يعطي باقي الخدام جميعاً الغذاء الروحي اللازم والمناسب للخدمة. هذه أول صورة للكنيسة من المسيح. ومن هي

43:12و44 «طوبى لذلك العبد الذي إذا جاء سيدة يجده يفعل هكذا! بالحق أقول لكم: إنه يقيمه على جميع أمواله».

كان العبد الأمين الوكيل قائماً على بقية العبيد يعطيهم طعامهم الروحي في حينه. ولكن هنا الجزاء انتقل من مستوى رعاية العبيد إلى مستوى كل أمواله. وبهذا المستوى يرتقي فوق درجة العبيد التي هو منها هنا، يرتقي إلى درجة مساوية في مسئوليتها للسيد. فالارتقاء هو من وظيفته المؤقتة والمحدودة إلى وظيفة دائمة غير محدودة. وواضح الآن أنه انتقال النصيب من الخير الزمني والأرضي إلى الخير السمائي الأبدي. وهي قرينة بالآية (17:19): «فقال له: نعما أيها العبد الصالح، لأنك كنت أميناً في القليل فليكن لك سلطان على عشر مدن»

ومن هاتين الآيتين يتبين لنا أن التدرج في حمل المسئوليات ينتقل من الأرض إلى السماء، وأن في السماء مسئوليات روحية تتدرج حسب القامات وترتقي أيضاً إلى مالانهاية.

48-45:12 «ولكن إن قال ذلك العبد في قلبه: سيدي يبطئ قدومه فيبتدئ يضرب الغلمان والجواري، ويأكل ويشرب ويسكر. يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره وفي ساعة لا يعرفها، فيقطعه ويجعل نصيبه مع الخائنين. وأما ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته، فيضرب كثيراً. ولكن الذي لا يعلم، ويفعل ما يستحق ضربات، يضرب قليلاً. فكل من أعطي كثيراً يطلب منه كثير، ومن يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر»

هنا نأتي إلى سلبيات الكارزين والخدام التي نجزع من الدخول فيها لأنها تتم أمامنا بالحرف الواحد. ولكن لا العبد خاف ولا السيد عاقب. وقد أبطأ في قدومه جداً.

5 – الأزمنة الصعبة (49:12-59)

(مت 34:10-36، 3,2:16 ، 26,25:5)

لا توجد في الحقيقة مقدمة لهذا الجزء، وهو ليس أيضاً على صلة بالسابق، ولكن مضمونه الكلي يظهر أن المسيح بإحساسه المرهف بدأ يشعر بالضيقة القادمة، فابتدأ يتكلم عن الصبغة الدموية التي سيجوزها. واستهلها بقوله: إنه جاء ليلقي ناراً على الأرض، ولا يريد إلا اضطرامها، ويعني بها نار الله للشرير حريق وللبار تطهير وتزكية. وهكذا يبدأ الانقسام في البيت الواحد. التي وقد نعى على إسرائيل أنها لم تميز زمان خلاصها حتى تتقرب إلى الله قبل أن تأتي الدينونة وتدفع إسرائيل ثمن عصيانها.

49:12 «جئت لألقي نارا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟»

لا يبدو هنا أن المسيح يريد أن يعبر عن الروح القدس، فأطلق الكلمة بلا تحديد “ناراً”، وهي تأتي مع الروح القدس وتعمل عملها معه: «هو سيعمدكم بالروح القدس ونار» (مت 11:3). وهذه هي نار الله التي عرفنا عنها أنها تحرق وتُضيء، تُحرق كل ما هو شر أو شرير وتضيء كل بار وصديق، فهي نار قريبة من عمل الروح القدس الذي إن لم يحرق الشرير فهو يبكت، وإذا صار من نصيب البار فهو يطهره ويژگيه. وهكذا في الحال يحدث الانقسام والتفرقة، فالذين للحق لا يطيقون الشر ولا الشرير حتى ولو كانوا في بيت واحد.

ويبدو هنا المسيح أنه ينظر إلى الإيمان وهو يمتد ويضطرم من إنسان إلى إنسان ومن أمة لأمة. وهل يريد المسيح إلا أن تضرم نار الإيمان في الإنسان ككل فتكون منتهى سعي الابن؟! وهنا تلميح قوي أن عمل المسيح في القلب بالإيمان كنار يضرم القلب. نحن تعودنا على الإيمان البارد والفاتر ولم نذق الإيمان الناري الذي يتجلى فيه المسيح عاملاً عمله بالكامل. الإيمان الحار أو الناري هو أعلى اختبار يذوقه الإنسان ليدرك من هو المسيح وما هو عمله وما هو حبه وما هو بذله. أما الإيمان الذي يعيش به أغلب المؤمنين فهو إيمان لا حار ولا بارد، وهو في نظر المسيح أسوأ من البارد: «ليتك كنت بارداً أو حاراً» (رؤ 15:3). لماذا يكون البارد أفضل من الفاتر؟ لأن البارد يستطيع المسيح أن يشعله فيشتعل، أمـا الفـاتـر فـهـو الـذي يقـول: «إني أنـا غـنـي وقـد استغنيت» (رؤ 17:3)، فهو لا يسعى إلى أفضل أبدأ، لأنه إيمان مكتف بما له والذي له لا قيمة له!!

من نارك يا الله ألق ناراً في قلبي ليلتهب إيماناً وتشتعل روحي حبا.
نفسي مريضة ولن يشفيها إلا لهيب يمسها ولا يطفأ.
فتبقى لك جذوة مشتعلة إيماناً وحبا وبذلاً وصلاة!

50:12 «ولي صبغة أصطبغها، وكيف أنحصر حتى تكمل؟»

المسيح هنا يكشف عن معمودية الدم التي سيجوزها ولكن بإرادته :
+ «وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبدياً … فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي.» (عب 9: 12و14)
+ «لستما تعلمان ما تطلبان. أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا وأن تصطبغا بالصبغة التي
أصطبع بها أنا.» (مر 38:10)

ومن مضمون الكلام نستطيع أن نفهم أن المسيح جاء خصيصاً لهذه الصبغة ولن يهدأ حتى تكمل. وواضح أن النار في الآية السابقة هي التي يعتمد بها الإنسان كقول المعمدان: «يعمدكم بالروح القدس ونار» فتحرق وتضيء: تحرق الشر والشرير وتضيء البار وتزكيه. أما المسيح فمعموديته الخاصة هي معمودية الدم وعبور الموت. 

51:12 «أتظنون أني جئت لأعطي سلاماً على الأرض؟ كلا أقول لكم؛ بل انقساماً».

المسيح يتكلم بعقلية الشعب الذي يود أن يحصل على سلام وهو مملوء بالغش والحماقة. عند هؤلاء لا يأتي المسيح ومعه سلام بل انقسام في البيت الواحد، حيث بعضهم يؤمن فينال السلام والآخر لا يؤمن فيمكث عليه غضب الله. وكيف يتعايش ابن الغضب مع ابن السلام؟ وهنا مسئولية الانقسام لا تقع على المسيح ولا على رسالته، فرسالة المسيح حق وحياة، وإنما تقع على الذي يرفض الإيمان بالسلام ورب السلام. فكـل مـن آمـن بالمسيح صار ابناً للسلام، ورافض الإيمان هو عدو للإيمان والسلام. وكلمة الحق إذا قيلت في وسط جماعة فرقتهم في الحال إلى قابل ورافض، وليس ذلك ذنب الحق ولا قائله بل ذنب الإنسان الذي انقسم على نفسه. وطالما يوجد شرير وخاطئ سيوجد السيف والحرب والتخريب والخراب. ويستحيل على العالم أن يذوق السلام وهو ينكل بأبناء السلام ويذيقهم المـر والهـــوان. ومحبـو الـسـلام لـن يـســـــدوا بــه، فكـــــأس الهـــــان هـو مـشروبهم إلى أن تنتهي الحرب!!

وحينما قال المسيح: «طوبى لصانعي السلام» (مت 9:5)، أسرع وكملها: «طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي.» (مت 11:5)

52:12 «لأنه يكون من الآن خمسة في بيت واحد منقسمين: ثلاثة على اثنين واثنان على ثلاثة».

«من الآن»:

المسيح هنا يشير إلى بدء الانقسام مع بدء الصبغة أي الصليب، لأن الصليب كما قال سمعان الشيخ للعذراء القديسة: كسيف يجوز نفس الأم الحزينة وابنها معلق على الصليب. فبمجرد أن قبل المسيح حكم الصلب دخل الإنسان عالم الدينونة وبدأ انقسام الحق ضد الباطل، حتى ولو كانوا إخوة في بيت واحد. لأن الباطل لا يطيق الحق ولا يهادنه. فمنذ أن صلب المسيح حتى اليوم والعالم كله منقسم على ذاته والباطل يقود موكب الانقسام والقتل.

53:12 «ينقسم الأب على الابن، والإبن على الأب، والأم على البنت، والبنت على الأم، والحماة على كئتها، والكئة على حماتها».

هذه نبؤة ميخا النبي: «لأن الابن مستهين بالأب والبنت قائمة على أمها والكنة على حماتها وأعداء الإنسان أهل بيته» (مي 6:7). والمسيح يقولها هنا لأن وقتها قد حان. وتاريخ الكنيسة يحمل قصص شهداء ماتوا بوشاية أهل البيت .

54:12و55 «ثم قال أيضاً للجموع: إذا رأيتم السحاب تطلع من المغارب فللوقت تقولون: إنّه يأتي مطر. فيكون هكذا. وإذا رأيتم ريح الجنوب تهب تقولون: إنه سيكون حر. فيكون».

في مواضع سابقة كثيرة استشهد المسيح بالسحاب ومعرفة وقت المطر. المسيح هنا يشكو من بلادة عقول الكتبة والفريسيين الذين عندهم المواعيد محددة بدقة سواء في الزمان أو المكان أو الأعمال التي تشير كلها إلى أيام الفداء والخلاص ومعجزات المسيا، ولكن الآن قلوبهم مشحونة بالغش والكذب وأعمال الباطل. ضلت عقولهم وانطمست قلوبهم ولم يتعرفوا على أعز شخصية عندهم التي يترقبونها ألفي سنة. هو يقول إني ابن الله وهم يقولون أنت تحذف، ثم يعمل أعمال الله ويقولون ببعلزبول يخرج الشـــــــياطين. كــل العلام الــتـي قــال عنهـا الأنبيـاء إشـــــارة إلى أيــــام المسيا كملت بحذافيرها ولكن عميت عيونهم عن رؤية الحق.

56:12 «يا مراؤون، تعرفون أن تميزوا وجه الأرض والسماء، وأما هذا الزمان فكيف لا تميزونه؟»

لقد بدأ المسيح كرازته بالقول: «قد كمل الزمان» (مر 15:1) واقترب منكم ملكوت الله، ولكنهم سدوا آذانهم ولم تتحرك قلوبهم لا بالآيات والمعجزات ولا بالأقوال الحية والتعاليم التي تنطق بأنها مقولة من الله. ولكن أخطر ما فات عليهم هو حساب الزمان الذي كانوا يتقنون أصوله، لأن دانيال النبي حدده تحديداً. ولكن صدق فيهم قول موسى نبيهم: «إنهم أمة عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم.» (تث28:32)

57:12 «ولماذا لا تحكمون بالحق من قبل نفوسكم؟»

هذه الآية تتعرض لكل نقائص التصرفات السابقة التي لا يعوزها إلا رؤية صادقة وشهادة واقعية وحكماً بالحق. ليس إنسان فوق إنسان ليحكم عليه وإنما كل واحد من ذاته يرى الحق ويعمله. ثم كيف لا تحكمون على الأمور بحسب ما يتطلبه زمانها؟ ولكن أليست هذه الآية تشير إلى بوادر اكفهرار الجو مع الرومان ورائحة الحرب والنقمة؟

58:12و59 «حينما تذهب مع خصمك إلى الحاكم، ابذل الجهد وأنت في الطريق لتتخلص منه، لئلا يجرك إلى القاضي، ويسلمك القاضي إلى الحاكم، فيلقيك الحاكم في السجن. أقول لك: لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الأخير».

المثل هنا يحمل سمات النصيحة قبل حلول الكارثة، يتطلب من الإنسان التوبة في ميعادها قبل أن يحل دور العقاب. لأن الدينونة بلا رحمة لمن لا يرحم نفسه ويدفع ثمن خطاياه توبة ودموعاً. والفلس أورشليم وحرق الهيكل. الأخير يبدو أيضاً أنه .

ولكن يبدو من الآيتين السابقتين أن المسيح يتكلم عن حال اليهود تحت عنف الحكم الروماني، وأنه يوجه أنظارهم إلى كيفية التعامل مع الخصم قبل أن تصل القضية إلى الحاكم ثم الحرب. ولكن أيضاً تحمل طابع الروح من جهة الخطية والدينونة والتوبة والحكمة في ميعادها.

تفسير إنجيل لوقا – 11إنجيل لوقا – 12تفسير إنجيل لوقاتفسير العهد الجديدتفسير إنجيل لوقا – 13
القمص متى المسكين
تفاسير إنجيل لوقا – 12تفاسير إنجيل لوقاتفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى