رو9: 15 …إني أرحم من أرحم وأتراءف على من أتراءف
14فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَلَعَلَّ عِنْدَ اللهِ ظُلْمًا؟ حَاشَا! 15لأَنَّهُ يَقُولُ لِمُوسَى:«إِنِّي أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ، وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ». 16فَإِذًا لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى، بَلْ ِللهِ الَّذِي يَرْحَمُ. (رو 14:9-16)
+++
تفسير القديس يوحنا ذهبي الفم
” لأنه يقول لموسى إني أرحم من أرحم وأتراءف على من أتراءف ” (رو15:9).
ومرة أخرى يزيد الرسول بولس من حجم التعارض أو التناقض، وفي المنتصف يزيل هذا التعارض، ويجد له حلاً، ثم يخلق مرة أخرى، صعوبة أخرى، ولابد لنا أن نفسر ما قيل حتى يصبح أكثر وضوحا . فالرسول بولس يقول إن الله قال، الكبير يستعبد للصغير، قبل ولادتهما. ماذا إذا؟ هل الله ظالم؟ حاشا. إذا فلنستمع للكلام اللاحق، هناك إنفصال بين الفضيلة والشر على الأقل في حالة يعقوب وعيسو، بينما الخطية كانت واحدة ومشتركة بين جميع اليهود، خطية صناعة العجل الذهبي، إلا أن البعض أدين والبعض لم يدن. ولهذا قال: “أرحم من أرحم وأتراءف على من أتراءف “. لأن الله يقول لموسى، لست أنت المسئول عن معرفة المستحقين للرأفة، فاترك هذا لي، فإن لم يكن هذا هو عمل موسى أن يعرف، فبالأولى كثيرا، لا يكون عملنا. ولهذا لم يشر فقط إلى ما قيل، بل ذكر لمن قاله. لأنه يقول هذا الكلام لموسى، لكي ينتقد من خلال مكانته عند اليهود ، أي شخص يعارض أحكام الله.
إذن بعدما قدم الحل للتساؤل الذي نشأ من الكلام السابق، لم يطرح مرة أخرى، تناقضا أو تعارضا آخرا ، بل قال:
” فإذا ليس لمن يشاء أو لمن يسعي بل الله الذي يرحم لأنه يقول الكتاب لفرعون إني لهذا بعينه أقمتك لكي أظهر فيك قوتي ولكي ينادى باسمي في كل الأرض ” (رو 16:9-17).
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
إذ أعلن الرسول حُبّه الشديد لخلاص بني جنسه وحزنه عليهم لأنهم رفضوا مواعيد الله الصادقة، مؤكدا أن كلمة الله لن تسقط، وإنما تتحقق الوعود في إسرائيل الروحي الجديد، بدأ يحدّثنا عن اختيار الله للأمم كشعبٍ له، وليس من حق الإنسان الاعتراض على تدابير الله وقضائه، مؤكدًا أن هذا الاختيار ليس بالأمر الجديد، إذ سبق فأعلن الله عنه بالأنبياء.
“فماذا نقول؟ ألعلّ عند الله ظلمًا؟ حاشا” [14].
كأن اعتراضًا قد أثير بقوله أن الله أحب يعقوب وأبغض عيسو وهما بعد في البطن لم يعملا خيرًا أو شرًا، ألا وهو: ألعلّ عند الله ظلمًا؟ وتأتي الإجابة قاطعة لا تحتاج إلى تدليل: حاشا! لأننا لا نقدر أن ندرك كل أسرار حكم الله وتدبيراته من كل الجوانب، فحكمنا البشري مختلف تمامًا عن حكم الله. هنا يودّ الرسول أن يؤكّد مبدأ هامًا أن الله لا يحابي أحدًا ولا يظلم أحدًا، حتى وإن بدا لنا حسب الفكر البشري ذلك في أمر ما. بهذا يمهّد الرسول الطريق كي لا يحكموا على خطّة الله الخلاصيّة من جهة قبول الأمم، لا لسبب إلا إدراكنا أن الله ليس بظالم وإن بدا تصرفه غير مُدرك بالنسبة لنا.
“لأنه يقول لموسى:
إني أرحم من أرحم، وأتراءف على من أتراءف” [15].
تحقق هذا الحديث الإلهي مع موسى حين اشتاق أن يتمتّع بالمجد الإلهي (خر 33: 19 الترجمة السبيعينية)، وقد جاء هذا القول ليُعلن لموسى أنه مع كل تقدير الله له ولجهاده ولكن ما يناله من عطيّة سماوية ألا وهو التمتّع برؤية المجد الإلهي فهي نعمة مجّانية إلهية تُعطى له، وليس ثمنًا لجهاده، ولا عن أعمال ذاتية. لكنها أيضًا لا توهب للمتراخين أو الخاملين؛ هي نعمة مجّانية للمجاهدين بروح الإيمان الحيّ.
ويرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن حديث الله هذا مع موسى يعني أن موسى مع ما بلغه من تقدير في عيني الله لا يقدر أن يدرك أعماق حكمة الله وأحكامه، وكأن الله يقول له: [يا موسى، ليس لك أن تعرف من هو مستحق لحبي نحو الإنسان، إنما اُترك هذا لي. فإن كان ليس من حق موسى أن يعرف فكم يكون الأمر بالنسبة لنا؟]
هذا ويلاحظ أن الله لم يقل: “أرحم من أرحم، وأهلك من أهلك”، بل قال: “أرحم من أرحم وأتراءف على من أتراءف”، مظهرًا سلطانه الإلهي في الحب والرحمة والرأفة بالإنسان، إذ لا يودّ هلاك الخاطئ مثل أن يرجع ويتوب، أنه بادر بحب يعقوب من جانبه أمّا بغضة عيسو فجاءت ثمرًا طبيعيًا لجحود عيسو نفسه وإصراره وعناده على عدم قبول مراحم الله. الله حب، لكنه لا يلزم الغير بقبوله.
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (14): “فماذا نقول ألعل عند الله ظلماً حاشا.”
إذا كان الإختيار والتفضيل يعتمد أساساً علي الله الذي يدعو الإنسان، فهل يكون الله قد سلك بالظلم ضد عيسو؟ حاشا= ليحذر أن يخطر علي بالنا شئ كهذا. فنحن لا يمكننا أن ندرك كل أسرار حكمة الله. الله ليس بظالم حتى وإن بدا حكمه غير مفهوم لنا.
الآيات (15،16): “لأنه يقول لموسى إني أرحم من أرحم وأتراءف على من أتراءف. فإذا ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى بل لله الذي يرحم.”
حين سأل موسي الله أن يري مجده (خروج33) أجابه الله بهذه الإجابة، وكأنه أراد أن يقول له “مع كل تقديري لجهادك وتعبك. لكن رؤية مجدي هي عطية مجانية إلهية تُعطي، وليس ثمناً للأعمال، لكنها قطعاً لا توهب للمتراخين والمتكاسلين“. والله وحده يعرف من هو الذي يستحق عطايا محبته. الله الذي يرحم= فالله لا يعطي بحسب الأعمال بل بحسب رحمته، فلا توجد أعمال في هذه الدنيا يستحق صاحبها أن يري مجد الله. وليس معني هذا عدم أهمية الأعمال فالله يطلب أن نصلي لكي يعطينا (مت37:9،38) فعلة وخدام ليزداد الحصاد. والرحمة هنا في معناها العام تعني عطايا الله وخيراته التي حصل عليها إسرائيل دون الأمم لفترة من الزمن.
ولاحظ أن الله لم يقل أرحم من أرحم وأهلك من أهلك، فهو يستخدم سلطانه في الرأفة والحب والرحمة، فالله لا يريد هلاك الخاطئ مثلما يرجع ويحيا (حز23:18). والله محبة لكنه لا يلزم أحد بمحبته ولذلك لم يلزم عيسو بها.
ونلاحظ أن الله يوزع مراحمه علي الكل، ولو منع رحمته عن أي إنسان ما عاش لحظة، فهو يرحم الجميع ويشرق شمسه علي الأبرار والأشرار ويعطي كل واحد قوته. وحتي أعمالنا الصالحة هو أعطانا برحمته أن نعملها (يع17:1) وليس أن أعمالنا الصالحة تستدر مراحمه. لكن الرسول مازال مهتماً بإبراز حرية الله في الإختيار، فهو يختار بمراحمه وليس بحسب أعمال أحد. يريد أن يظهر سلطان الله المطلق في إختياره مختاريه (وهو يقصد الأمم طبعاً).
ليس لمن يشاء ولا من يسعي= هذه تشبه قوله في (1كو7:3) “ليس الغارس شيئاً ولا الساقي بل الله الذي ينمي” فهل يفهم من هذه الآية أن الله ألغي عمل الغارس والساقي. وهل الزرع يمكن أن ينمو دون غارس أو ساقي. لكن المهم قوة النمو التي هي من قبل الله، ولكن قوة النمو هذه يلزمها زارع وساقي. لا يمكن أن نضع أمامنا آية بمعزل عن باقي الكتاب. فأمامنا آيات أخري مثل “تمموا خلاصكم بخوف ورعدة” + ” الذي يصبر إلي المنتهي فذاك يخلص” + “كن أميناً إلى الموت” فهذه الآيات فيها طلب أن نقبل الله بإرادتنا الحرة. ومعني هذا أننا لا نستطيع أن نتجاهل دور الإنسان الإيجابي في تمتعه بالخلاص المجاني. والله يريد إرادتنا الحرة أو مشيئتنا الإختيارية مع سعينا الجاد. فالكتاب وحدة متكاملة لا نتعامل مع جزئياته أي لا نتعامل مع آية واحدة دوناً عن باقي الكتاب.
وهنا بولس الرسول لا يتكلم عن مشكلة تخص الأفراد، بل عن قبول الأمم، وهل من حق الله أن يقبلهم أم لا. فمنطق اليهود أن الله لا يجب أن يقبل الأمم. أما بالنسبة لنا كأفراد، فنحن بمشيئتنا الحرة نسعي ونجاهد والله يعين فهو دائم العطاء. فحين يقول الله أتراءف علي من أتراءف= يجب أن نضع بجانبها أن الله عادل وبار، فهو بالتالي سيتراءف علي من يستحق رأفاته.
- تفسير رسالة رومية 9 – القديس يوحنا ذهبي الفم
- تفسير رسالة رومية 9 – القمص تادرس يعقوب ملطي
- تفسير رسالة رومية 9 – القمص متى المسكين
- تفسير رسالة رومية 9 – القمص أنطونيوس فكري
- تفسير رسالة رومية 9 – الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف
- تفسير رسالة رومية 9 – د/ موريس تاوضروس
- تفسير رسالة رومية 9 – كنيسة مارمرقس مصر الجديدة