تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 21 للأنبا غريغوريوس
الفصل الحادي والعشرون
لو21: 1-4 مدح عطية الأرملة الفقيرة:
وفيما كان الرب يسوع جالسا في الهيكل تطلع فرأى الأغنياء يلقون عطاياهم في الخزانة المخصصة لجمع التبرعات التي هي في حكم القرابين. ونعلم من الإنجيل للقديس مرقس أن عطاياهم هذه كانت مبالغ كبيرة من المال (مر 12: 41) . ثم رأى أرملة فقيرة ألقت في تلك الخزانة فلسين لايساويان أكثر من مليم واحد، فقال لتلاميذه والحق أقول لكم إن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من الجميع، لأن هؤلاء كلهم ألقوا عطايا لله مما فضل عنهم. وأما هي فمع عوزها ألقت كل ما تملك، . وذلك أن الأغنياء مهما كان ما ألقوه في الخزانة كثيراً، فإنهم ليسوا بحاجة إليه ولن يؤثر على ما لديهم من ثروات وفيرة. فهم حتى لو كانوا قد بذلوه يقصد الصدقة لوجه الله ـ وليس بقصد التباهي والتفاخر وإرضاء كبريائهم والتظاهر أمام الآخرين بورعهم وتقواهم، وهو الاحتمال الأرجح – فإنه لا يدل دلالة قاطعة على تأصل روح الإحسان والبذل في قلوبهم . ولا يدل دلالة قاطعة على نية التضحية بما هم محتاجون إليه للفقراء الذين هم أحـوج إليه منهم، لأن ما يلقونه إنما هو فائض عنهم ولا ينطوي تخليهم عنه على أي تصحية من جانبهم. . وأما تلك الأرملة الفقيرة فإنها إذ ألقت في الخزانة بهذا المبلغ الضئيل جدا. إنما برهنت على إمتلاء قلبها بالرحمة، لأنها وهي الأحق بالرحمة، قد أحست أنه ربما يكون ثمة من هم أحق بالرحمة منها. وأحوج إلى المليم الذي جاءت به مما هي في حاجة إليه، مع أنها لا تملك غيره ، فهذه هي التضحية في أروع وأرفع صورها. وهذا هو الدليل الذي ليس أبدع ولا أبلغ منه دليل على إيمانها بأن الله وقد تخلت عن كل ما تملك للفقراء مثلها أو الأكثر فقراً منها، لن يتخلى عنها، وإنما سيبذل لها من فيض رحمته ورأفته مثل ما بذلت وأكثر مما بذلت، وهذا هو المثل الأعلى في الإنكال على الله بقلب نقى وضمير حي ونيـة صـافـيـة ورغبة صادقة في الصداقة والعطاء لوجه الله وحده والإتجاه إليه دون سواه في غير تباه أو تفاخر أو كبرياء، أو تظاهر بأي غرض آخر من أغراض الحياة. ولذلك كان العليم الذي ألقته في الخزانة أكثر في قيمته وأكبر في معناه من كل ما ألقاه أي غني مهما بلغ ما ألقاه . لأن الله لا ينظر إلى ما يبذل الإنسان من جيبه، وإنما ينظر قبل كل شيء إلى قلبه، وما ينطوي عليه من مشاعر وأحاسيس.
لو21: 5-9 السيد المسيح يتنبأ بخراب الهيكل:
وتحدث البعض عن الهيكل وعما إزدان به من الأحجار الضخمة وتحف النذور، ونعلم من الإنجيل للقديس متى أن ذلك حدث فيما كان منصرفاً من الهيكل، وأن أولئك البعض الذين تحدثوا عنه هم تلاميذه ، وقد تقدموا إليه ويستوقفون نظره على أبنية الهيكل، (مت 16: 1). كما نعلم من الإنجيل للقديس مرقس أن أحد تلاميذه قال له «انظر يا معلم. يا لها من حجارة عظيمة ويا لها من أبنية!، (مر 13: 1). وفعلا لقد كان هيكل أورشليم من أروع أبنية العالم في ذلك العصر. وقد استغرق بناؤه ستا وأربعين سنة. وكان هيرودس الكبير يهدف من بنائه على أنقاض الهيكل القديم الذي بناه الملك سليمان إلى أن يضفى على ملكه مجد سليمان، كما كان يهدف إلى إسترضاء اليهود الذين كانوا يكرهونه ويرفضونه ملكا عليهم، ومن ثم أسرف إسرافاً عظيماً في الإنفاق عليه حتى أصبح صرحاً شامخاً، ذا أحجار ضخمة، وأروقة فخمة، تقوم على مائة وإثنين وستين عموداً شاهقاً من الرخام، وتكتسي جدرانها بالذهب والفضة، وتحيط بها ثلاثة أسوار هائلة ذات عشر بوابات عظيمة من النحاس، تزدان بزخارف على شكل عناقيد العنب الكبيرة المصنوعة من الذهب الخالص. ولم تفتاً الهدايا الثمينة والنذور الفاخرة التي كان الملوك والأثرياء يغدقونها على الهيكل تزيد من روعته وبهاء بنيانه، حتى أصبح تحفة من التحف النادرة في زمانه. فلا عجب أن انبهر برؤيته تلاميذ فادينا الذين لم يكونوا إلا قوما ريفيين بسطاء وفقراء لم يألفوا مثل هذا المظهر الباهر من مظاهر الفخامة والثراء. بيد أن الرب يسوع أثار جزعهم ودهشتهم إذ قال لهم هذه التي ترونها ستأتي أيام لن يترك منها حجر على حجر إلا ويهدم، . فسألوه في لهفة قائلين متى يحدث هذا يا معلم، وما هي العلامة التي ستنبئ بهذا حين يوشك أن يحدث ؟»، إذ كانوا يعتقدون أن خراب هذا الهيكل العظيم وإنتهاءه لن يكون إلا أن. بخراب العالم وإنتهائه، ومن ثم سألوا الرب عن الموعد الذي سيكون فيه ذلك، وعن العلامات التي يعرفون بها إقتراب ذلك الموعد، فأوضح لهم السيد الرب خطأ إعتقادهم، وشرح لهم أن خراب الهيكل – وإن كان سيصحبه خراب أورشليم وهلاك الأمة اليهودية – ليس معناه خراب العالم في اليوم الأخير، وأنبأهم بعلامات كل من الحادثتين، محذراً إياهم من أن ينقادوا وراء المضللين الذين سيأتون بعده محاولين أن يبلينوا أفكارهم بأمور غير صحيحة من شأنها أن تزعزع إيمانهم به، وتدفع بهم إلى أن يتضعضعوا أو يتـراجـعـوا عن أداء الرسالة التي كلفهم بأدائها، إذ قال لهم واحذروا من أن يصلكم أحد، فأن كثيرين سيأتون بإسمي قائلين: إني أنا هو المسيح، وإن الوقت قد اقترب، فلا تذهبوا وراءهم، ، أي أن كثيرين سيأتون بعد صعوده ـ له المجد – إلى السماء، زاعما كل منهم أ أنه هو المسيح الذي تنبأ عنه الأنبياء، وأنه جاء على مقتضى إعتقاد اليهود ليخلصهم من ربقة الرومان، وأن الوقت قد اقترب ليقيم لهم مملكة أرضية، ويقودهم إلى غزو العالم كله ليكونوا هم سادة كل الشعوب، فليحذر التلاميذ من أن يصدقوهم أو يذهبوا وراءهم بعد أن جاءهم المسيح الحقيقي وآمنوا به، وبأنه لن يقيم لهم مملكة أرضية، وإنما مملكة سماوية، إذ طالما صرح لهم بأن مملكته ليست من هذا العالم.
ثم قال الرب لتلاميذه ، وإن سمعتم بحروب وإضطرابات فلا تجزعوا، لأنه لابد أن يحدث هذا أولاً، ولكن النهاية لن تعقب ذلك فوراً، ، أي أنهم من الجهة الأخرى إن سمعوا بقيام حروب وحدوث إضطرابات، فلا ينبغي أن ينزعجوا، معتقدين أن تلك علامات على إقتراب نهاية العالم، لأنه لابد أن تقوم حروب وأن تحدث إضطرابات ما دامت ثمة حياة على الأرض، لأن هذه هي طبيعة البشر الذين فيهم أشرار لا يفتأون يعادون الأبرار ويعتدون عليهم، بيد أن ذلك ليس معناه أن نهاية العالم قد أتت.
لو21: 10-24 علامات اقتراب خراب الهيكل وأورشليم
أما علامات إقتراب خراب الهيكل وأورشليم وهلاك الأمة اليهودية فقد أوضحـهـا فـادينا لتلاميذه ، قائلاً لهم ستقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة، وتقع زلازل عنيفة في أماكن شتي، وتحدث مجاعات وأوبئة، وتظهر في السماء مناظر مرعبة وعلامات مهولة بيد أنه قبل أن يحدث ذلك كله سيقبضون عليكم، ويضطهدونكم، ويقدمونكم إلى المجامع، ويلقون بكم في السجون، ويسوقونكم إلى الملوك والولاة من أجل اسمى، فـيـؤول ذلك إلى ظفركم بالشهادة، فوطئوا أنفسكم على ألا يساوركم الهم بشأن ما عساكم أن تجيبوا به، لأنني سأعطيكم طلاقة فم وحكمة لن يستطيع كل خصومكم أن يقـارمـوها أو يناقـضـوها. وســخـونكم آباؤكم وإخـونكم وأصدقاؤكم، ويقتلون أناساً منكم، وتكونون مكروهين من الجميع من أجل أسمى. بيد أن شعرة واحدة من رؤوسكم أن تهلك. فبحباتكم تكسبون أنفسكم، ومتى رأيتم أورشليم قد أحاطت بها الجيوش، فاعلموا أن خرابها قريب، وعندئذ فيهرب الذين في اليهودية إلى الجبال، والذين في داخلها فليبارحوها، والذين في الريف خارجها فلا يدخلوها، لأن هذه ستكون أيام إنتقام ليتم كل ما هو مكتوب والويل للحبالي والمرضعات في تلك الأيام. فإنه سيكون ضيق عظيم في الأرض، وسخط على هذا الشعب، وسيسقطون بحد السيف ويؤخذون أسرى إلى كل الأمم وتكون أورشليم مدرسة من الأمم إلى أن تنقضي أزمنة الأمم،. أي أن خـراب الهيكل وأورشليم وهلاك الأمـة اليهودية لن يحدث في الغد القريب، وإنما ستمضي قبل ذلك فترة تكثر فيها الحروب بين الأمم والممالك، وتقع زلازل عنيفة في كثير من بقاع الأرض، وتحدث مجاعات وأوبئة نتيجة لهذه الحروب والزلازل أو لغير ذلك من الأسباب، وتظهر في السماء مناظر مرعبة وعلامات مهولة حتى ليبدو أن القيـامـة توشك أن تقـوم. بيد أن الذي سيحدث في الغد القريب هو ما سيحل بالتلاميذ أنفسهم في الأيام القليلة التي تلحق بصلب سيدنا يسوع المسيح وقيامته وصعوده إلى السماء، إذ سيبدأون هم بعد ذلك رسالتهم التي كلفهم بها، وهي التبشير به ويتعاليمه في كل أنحاء الأرض. وعندئذ سيقبض أعداؤه عليهم ويضطهدونهم، ويقدمهم رؤساء اليهود إلى المجامع التي هي معابدهم، والتي كانت في الوقت نفسه محاكمهم، متهمين إياهم بمخالفة الشريعة اليهودية، ويلقون بهم في السجون، ويسوقونهم إلى الملوك والولاة بتهمة إنتمائهم إلى طائفة متمردة على السلطات المدنية أو السلطات الدينية، تحمل اسمه وتنتسب إليه، وقد تحققت هذه النبوءات كلها بالفعل، إذ لم تمض ثلاثة أيام على نطق فادينا بها، حتى أمسكه اليهود . وصلبوه، وبعد ثلاثة أيام أخرى رقدها في القبر قام من بين الأموات وظهر لتلاميذه . وبعد أربعين يوماً صعد إلى السماء أمام أعينهم. ثم في يوم الخمسين حل الروح القدس عليهم، وعندئذ بدأوا يبشرون اليهود بأن هذا الذي صلبوه إنما هو المسيح مخلص العالم الذي تنبأ بعجينه كل الأنبياء. وقد استطاع تلميذه القديس بطرس في ذلك اليوم وحده الذي نزل فيه الروح القدس أن يضم إلى المؤمنين بفادينا يسوع المسيح نحو ثلاثة آلاف من اليهود (أع 2: 14) . فلم يلبث زعماء اليهود ولا سيما الكهنة ورؤساؤهم أن بدأوا في مطاردتهم وإضطهادهم، فقبضوا على التلميذين بطرس ويوحنا وألقوا بهما في السجن، ثم قدموهما إلى السنهدريم الذي هو أعلى مجلس قضائي لديهم، وكان يضم شيوخهم ورؤساء كهنتهم وزعماء طوائفهم الدينية كالكتبـة والفريسيين والصدوقيين (أع 4: 1-6) ، وبعد ذلك قبضوا على كل تلاميذ فادينا ورسله وسجنوهم (أع 5: 17 و18) وقتلوا اسـتـفـانـوس (أع 7: 58) ، ثم قتلوا يـعـقـوب أخـا يوحنا (الأعمال ۲:۱۲) ثم حاولوا قتل بطرس (أع 12: 4)، وراحوا يضطهدون كل المؤمنين بالمسيح في أورشليم حتى اضطروهم إلى الهروب منها إلى فينيقية وقبرص وأنطاكية وغيرها من البلاد (أع 8: 1 و 19). وحـيـن آمـن الـقديس بولس بالسيد المسيح وانضم إلى رسله بعـد أن كـان يـضـطـهـدهم، تـأمـر عـلـيـه اليـهـود في دمشق ليقتلوه فـهـرب إلى أورشليم (أع 9: 23 و 26) ، ثم راح ينتقل من مدينة إلى مدينة مبشرا بنادينا حتى بلغ أنطاكية فاضطهده يهود تلك المدينة وطردوه منها (أع 13: 50) فذهب إلى أيقونية، وهناك حاول اليهود قتله فهرب إلى لسترة (أع 14: 5) ، وهناك رجعوه حتى أشرف على الموت فهرب إلى دربة (أع 14: 19 و 20) وحين بلغ مدينة فيلبي جلده ولاتها وألقوه في السجن حيث وضعوا رجليه في المقطرة (أع 6: 22 – 24). وحين ذهب بعد ذلك إلى لسترة حاول اليهود الذين فيها قتله فهرب إلى بيرية (أع 17: 5 – 10)، فتعقبوه إلى هناك فهرب إلى أثينا (أع 13:17 ـ 15)، وهناك قبض عليه يهود تلك المدينة وساقوه إلى حاكمها متهمين إياه بمخالفة الشريعة اليهودية، ولكن الحاكم أطلق سراحه إذ لم تكن تعنيه الشريعة اليهودية في شيء (أع 18: 12-16) ، فراح بولس يطوف مبشراً بالمسيح في كل بلد يذهب إليه حتى سمع كلمة الرب يسوع جميع الساكنين في آسيا من يهود ويونانيين، (أع 19: 20). وحين عاد بولس من جولته التبشيرية إلى أورشليم قبض اليهود عليه هناك وانهالوا عليه ضرباً حتى أوشكوا أن يقتلوه لولا أن رآهم قائد روماني فأمسك بولس ووضع في يديه سلسلتين من الحديد وساقه إلى المعسكر، وهناك تأهب لأن يجلده لولا أن ذكر بولس أنه يتمتع بالرعوية الرومانية فكف عن جلده ، وفي الغد أمر بإحضار رؤساء الكهنة وكل أعضاء مجلس السنهدريم وأقام بولس أمامهم. فلما أراد بونس أن يتكلم إلتفت رئيس الكهنة حنانيا إلى أتباعه وأمرهم بأن يضربوه على فمه، وإذ خشي القائد الروماني عندئذ أن يفتك رؤساء اليهود ببولس انتزعه من بين أيديهم وعاد به إلى المعسكر. بيد أن رؤساء اليهود صمموا على أن يحتالوا ليظفروا ببولس ويقتلوه ، فلما علم القائد الروماني بهذه المؤامرة أخـرج بولس ليلا وأرسله مـخـفـوراً إلى فيلكس الوالي الروماني في قيصرية، فأمر هذا بإستدعاء رؤساء اليهود. وحين حضروا قال أحدهم للوالي إذ وجدنا هذا الرجل مفسداً، ويهيج فتنة بين جمع اليهود الذين في المسكونة وزعيم شيعة الناصريين، وقد شرع ينجس الهيكل أيضاً أمسكناه وأردنا أن نحكم عليه حسب شريعتناء . فصرفهم الوالي وألقى بولس في السجن، فظل فـيـه مـقـيـداً بالأغلال سنتين كاملتين. وقد حدث بعد ذلك أن الملك اليهودي أغريباس حفيد هيرودس الكبير زار قيصرية، فأمر الوالي الروماني بإحضار بولس لمحاكمته أمامه. وقد دافع بولس عن نفسه وعن إيمانه ببلاغة عظيمة حتى لقد قال له أغريباس وتكاد تقلعلي بأن أصير مسيحية، . ولكن هذا الملك لم يفصل في قضيته، لأن بولس كان قد طلب إحالة دعواه إلى قيصر الرومان في روما. ومن ثم قادوه مع غيره من الأسري إلى سـفـيـنـة أقلعت به، وبـعـد أهوال فـاسـيـة في الطريق وسل بولس إلى رومـا، وهناك قـتـله الإمبراطور الروماني نيرون. وقد كان ما حدث لبولس مثالاً لما حدث لباقي تلاميذ الرب يسوع ورسله، إذ أنهم طبقاً لما أنبأهم به معلمهم اضطهدوهم وقدموهم إلى المجامع وألقوا بهم في السجون وساقوهم إلى الملوك والولاة من أجل اسمه، إذ كانت التهمة التي وجهها رؤساء اليهود إلى القديس بولس هي أنه زعيم شيعة الناصريين، نسبة إلى تلقيب مخلصنا بيسوع الناصري.
كما تدل العبارة التي قالها له الملك أغريباس على أنهم كانوا يلقبون المؤمنين بالمسيح أيضاً بالمسيحيين، لأنهم كانوا يبشرون بأن يسوع الناصري هو المسيح الذي تنبأ بمجيله الأنبياء. كما جاء في سفر أعمال الرسل أنه ادعى التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولا، (أع 11: 26).
وبعد أن أنبأ المعلم تلاميذه بما سيكابدون من الأوجاع وأنواع العنت والعسف والاضطهاد والاستبداد وتقديمهم إلى المحاكم والحكام، أوضح لهم ما في ذلك كله من خير، قائلاً «فيؤول ذلك إلى ظهركم بالشهادة ، أي أن ذلك كله سيتيح لهم الفرصة للشهادة بإيمانهم أمام المنكرين، عسى أن يقنعوهم ويهدوهم إلى الإيمان. كما أنه سيمنحهم نعمة الاستشهاد في سبيل ذلك الإيمان. وهذا ما حدث بالفعل، إذ كان مثول التلاميذ والرسل أمام المحاكم والحكام أثمن فرصة يشرحون فيها عقيدتهم، وقد دفعت بالكثيرين إلى الاقتناع بتلك العقيدة السمانية السامية بعد ما رأوا من إخلاص التلاميذ والرسل في المجاهرة بها، وحرارتهم في الدفاع إلى آخر نسمة في حياتهم عنها. كما أتاح ذلك للتلاميذ والرسل الظفر بنعمة الاستشهاد التي هي أعلى وأغلى نعمة يمكن أن ينالها المؤمن جزاء إيمانه لأنه بها وإن خسر حياته الفانية على الأرض ، يفوز بالحياة الأبدية في السماء. وتلك هي غاية الغايات، وأرفع وأروع ما يتطلع إليه الإنسان من ثمار جهوده وجهاده وما يلاقي في الدنيا من متاعب ومصاعب، ومن مصائب ومشقات. وهذا ما حدث بالفعل أيضاً، إذ أن تلاميذ المسيح ورسله بعد أن شهدوا به أمام العالم كله استشهدوا جميعاً في سبيله وفي سبيل إيمانهم به وتفانيهم في حبه، فكان إستشهادهم هو الدليل على صدق شهادتهم، وكان هو السبيل الذي إستحقوا إذ سلكوه أن ينعموا بالحياة الأبدية في ملكوت السماوات.
وقد أراد الرب يسوع أن يشجع تلاميذه ويقويهم ويعزيهم ويطمئن قلوبهم بعد كل ما أنبأهم به مما سيكابدون من شدائد ومكايد ومحاكمات أمام المجالس والملوك والمحاكم والحكام، فأوصاهم قائلا فومنوا أنفسكم على ألا يساوركم الهم بشأن ما عساكم أن يجيبوا به، لأننى سأعطيكم طلاقة فم وحكمة، لن يستطيع كل خصومكم أن يقاوموها أو يناقضوها، . فقد كان التلاميذ قوماً بسطاء لم ينالوا قسطاً وافراً من التعليم، ولم يتمرسوا بأساليب ذوي الخبث والدهاء، وربما أقلقتهم الخشية من أن يعجزوا . حين يواجهون تلك السلطات كلها ـ عن أن يدافعوا عن أنفسهم وعن إيمانهم، أو يترافعوا مرافعة المحامين المحنكين القادرين ببلاغتهم وقوة حجتهم على تفنيد الإتهامات ومقاومة المفتريات ومناقضة الإدعاءات التي يدعيها الخصوم الأقوياء والأعداء الألداء. ولذلك أكد لهم معلمهم، وهم العارفون بحقيقة شخصيته، العالمون بمدى قدرته ـ على أنه حتى بعد إنطلاقه إلى السماء سيظل معهم وفقاً لقوله لهم وها أنا ذا ممكم كل الأيام إلى إنقضاء الدهور (مت 28: 20)، وسيعطيهم بما له من سلطان إلهي من الفصاحة والبلاغة والحكمة وقوة الحجة وسداد المنطق والقدرة على المدافعة والمرافعة مايستطيعون به أن يدفعوا كل إتهامات خصومهم ومفترياتهم الباطلة وإدعاءاتهم المضللة، وأن يرفعوا رايات الحق في وجوه أولئك الخصوم فيـفـحـمـوهم ويلجموهم ويلجذوهم إلى السكوت والصمت ، كارهين مقهورين منحورين.
كما أراد فادينا أن يشجع تلاميذه ويقويهم ويعزيهم ويطمئن قلوبهم بعد أن أنبأهم بمزيد مما سيكابدون من متاعب وتجارب قد لا يحتملها بشر لفرط شناعتها وبشاعتها وقسوتها على النفس وشدة وطأتها على الشعور والحس، إذ قال لهم: «وسيخونكم آباؤكم وإخوتكم وأقاربكم وأصدقاؤكم ويقتلون أناساً منكم وتكونون مكروهين من الجميع من أجل اسمي. بيد أن شعرة واحدة من رؤوسكم أن تهلك. فبثباتكم تكسبون أنفسكم، . إذ ستبلغ شراسة وضراوة الحرب التي سيضرمها الشيطان لمقاومة الإيمان بالمسيح يسوع والحيلولة دون إنتشار إنجيله، حتى إنه سيحرض الآباء ضد أبنائهم الذين يعتنقون العقيدة المسيحية، لدرجة يفقدون معها عاطفة الأبوة ذاتها فيخونونهم ويبلغون عنهم السلطات لتقتلهم، وربما يقتلونهم هم بأيديهم. كما يفعل ذلك الأخ ضد أخيه، والقريب مضد قريبه، والصديق صد صديقه، وقد إسطرمت نار الكراهية في قلوب الجميع نحو تلاميذ المسيح ونحو المسيحيين جميعاً، ولو كانوا من أقرب أقربائهم وأصدق أصدقائهم. وتبلغ شدة إضطرام نار تلك الكراهية حد الخيانة النكراء، بل حـد سفك الدماء لمجرد أنهم آمنوا بذلك الذي ارتضى الموت سافكاً دمه على خشبة الصليب لخلاصهم وخلاص البشر جميعاً، ولمجرد أنهم نسبوا أنفسهم إليه واتخذوا من أسمه لقباً لهم. بيد أنه يجدر بأولئك المؤمنين بالمسيح سواء أنه: من تلاميذه أو من سائر المسيحيين ألا يفزعوا مع ذلك أو يجزعوا، لأنه مهما أصابهم من شر ولو أدى إلى هلاك حياتهم الأرضية، لن يمس حياتهم السمائية بأي سوء، و ، وإنما سيخرجون من تلك المحنة منتصرين إنتصارا مجيدا، سالمين سلامة كاملة، وكأن شعرة واحدة من رؤوسهم لم تهلك. فليصمدوا غير متزعزعين ولا متضعضعين، ثابتين على إيمانهم، غير متراجعين عنه، لأنهم بذلك يكسبون أنفسهم، إذ يكسبون الحياة الأبدية لأنفسهم، لأن هذه هي الحياة الحقيقية في السماء، التي لا تعتبر حياتهم على الأرض بالنسبة لها إلا سراباً كاذباً، ووهما باطلا، ووجودا زائلاً، سرعان ما يضمحل ويفني.
بيد أن فادينا ومخلصنا له المجد حين بدأ يتكلم عن خراب الهيكل وأورشليم وهلاك الأمة اليهودية الذي كان قد تقرر في التدبير الإلهي، والذي كان السيد المسيح يعلم أنه لن تمضى بضع سنوات حتى يتم، وأوضح لتلاميذه العلامات التي تنبئ بوشك وقوعه، ونصحهم كما نصح المؤمنين جميعاً بأن يعملوا على النجاة من ذلك الهلاك، حتى يحفظ لهم حياتهم، ليكونوا هم خميرة المؤمنين في كل الأرض، ولا يهلكوا مع من سيهلكون فلا تجد شعلة الإيمان من يحملها من بعدهم، إذ قال لهم ومتى رأيتم أورشليم قد أحاطت بها الجيوش فاعلموا أن خرابها قريب. وعندئذ فليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال، والذين في داخلها فليبارحوها، والذين في الريف خـارجـهـا فـلا يدخلوها، لأن هذه ستكون أيام إنتقام ليتم كل ما هو مكتوب، والويل للحـبـالي والمرضعات في تلك الأيام، فإنه سيكون ضيق عظيم في الأرض، وسخط على هذا الشعب، وسيسقطون بحد السيف ويؤخذون أسرى إلى كل الأمم، وتكون أورشليم مدوسة من الأمم إلى أن تنقضي أزمنة الأمم، . وذلك هو ما تحقق بالفعل، فلم يمض أقل من أربعين عاماً من النطق بهذه النبوءة حتى تحققت بحذافيرها، إذ لم يلبث الرومان أن ضاقوا ذرعاً بخبث اليهود ومكرهم وعنادهم وتمردهم وما يحيكونه من دسائس وما يضرمونه من ثورات، فأرسلوا إليهم عام 70 ميلادية جيشاً ضخماً بقيادة فسباسيان، فحاصر أورشليم وظل يضيق الخناق عليها. فلما انتخبه الجيش في هذه الأثناء إمبراطوراً للدولة الرومانية خلقه في القيادة أبنه تيطس. فاستمر في حصار أورشليم وواصل الضغط على اليهود. ولم يكن هؤلاء على الرغم من الخطر المحدق بهم ليتخلوا عن صفاتهم الشكسة الشريرة التي تنزع إلى الشقاق فيما بينهم ومحاربة بعضهم بعضاً. فقد كانوا أثناء الحصار المضروب حولهم منقسمين إلى حزبين متنافرين متعادين، أحدهما يتزعمه رجل يسمى شمعون، وكان يحتل مرتفعات المدينة، وقد انضم إليه عشرة آلاف من اليهود وخمسة آلاف من الأدوميين، والآخر يتزعمه رجل يسمي يوحنا، وكان يحتل الهيكل والساحة المحيطة به، وقد انضم إليه سبعة آلاف من اليهود. وقد هد هذا النزاع الداخلي من قوة الأمة اليهودية. حتى ليقول يوسيفوس المؤرخ اليهودي أن اليهود نالهم من جراء الصراع بين أحزابهم في ذلك الحين أكثر مما نالهم من حصار الرومان. وقد عض الأمهات الجوع فأكلن أطفالهن، ومن ثم لم تلبث أورشليم أن وقعت أخيرا في قبضة تيطس، فاقتحم أسوارها وأشاع فيها الخراب والدمار، وأضرم النار في هيكلها بعد أن سلب كل ما فيه من نفائس وأموال ، ثم راح يذبح اليهود وقد صمم على أن يفديهم من على الأرض ويقطع دابرهم، حتى ! لقد أصبحت دماؤهم كالبحيرات في الشوارع وفي أروقة الهيكل التي أصبحت حطاماً وأكواماً من الرماد. وقد حمل الرومان ستمائه ألف جثة فألقوها خارج الأسوار. كما أسروا بضعة آلاف ممن تبقوا بعد المذبحة وعلقوهم على الصلبان، حتى أقد تجاوز عدد المذبوحين والمصلويين مليوناً من القتلي. وقد أسر الرومان سبعة وتسعين ألفاً آخرين ساقوهم للعمل في المناجم والمحاجر حيث هلك معظمهم تحت وطأة ما ساموهم من مذلة وإستعباد، وقد وصف يوسينوس خراب أورشليم فقال إننى لا يمكن أن أفكر في سبب لهذا إلا أن الله قـد حـتم خراب هذه المدينة النجسة، إذ سمح بهلاك أولئك المدافعين عنها، لأنه حتى أولئك الذين كانوا يرتدون الملابس المقدسة ويرأسون الصلوات العامة وكانوا موضع التبجيل من الناس جميعاً قد طرحوا عراة في الوحل وساروا مأكلا للكلاب وطعاماً للحيوانات المفترسة.. ثم وصف يوسيفوس المذابح التي إجتاحت منطقة الجليل كذلك ومـحتها محواً، فقال ، حقاً إن الله هو الذي سخر الرومان لمعاقبة الجليليين وإبادة مدنهم واحدة بعد أخرى. وقد قتلوا عشرات الألوف، فبعضهم ذبحوه بالسيف وبعضهم الآخر طعنوه بالحراب. حتى إذا أراد البعض منهم أن ينجوا بأنفسهم سابحين في البحيرة كانت النبالي تلحق بهم فتشج رؤوسهم، وإذا تشبثوا بالسفن الرومانية بترت أيديهم أو قطعت رقابهم حتى غدت البحيرة مغطاة بالدماء ومكتظة بالجثث. وقد كانت العين ترى على الشاطئ في الأيام التالية منظراً بشعاً يملأ النفس رعباً وفزعاً، إذ اكتظت الخلجان بالجثث المنتفخة وقد ضربتها الشمس، فانبعثت منها رائحة الموت وتسقطت عليها الطيور تنهشها وتبعثر في كل الأرجاء أشلاءها.
وهكذا ألحق الرومان الخراب والدمار بأورشليم عاصمة اليهود، كما ألحقوا الخراب والدمار بأكثر من ألف مدينة وقرية أخرى من مدنهم وقراهم . وقد أبادوا معظمهم. فلم يتبق منهم إلا عدد قليل تفرقوا هائمين على وجوههم في كل أنحاء الأرض. وظلوا على مر العصور غرباء مشردين مطرودين مكروهين محتقرين من الناس في كل أرض وفي كل جيل، فتحققت بذلك نبوءات أنبياء اليهود أنفسهم المكتوبة في أسفارهم المقدسة عن إنتقام الله منهم بسبب شرورهم. ومن ذلك مـا تنبأ به إرسيا النبي إذ قال وها هي ذي أيام تأتي، يقول الرب، تسير جثث هذا الشعب أكلا لطيور السماء ولوحوش الأرض.. وأجعل أورشليم رجما ومأوى بنات أوى، ومدن يهوذا أجعلها خراباً بلا سكن.. ها أنا ذا أطعم هذا الشعب أفسنتينا، وأسقيهم ماء العلقم وأبددهم في أمم لم يعرفوها هم ولا آباؤهم، وأطلق وراءهم السيف حتى أقنيهم.. وأوكل عليهم أربعة أنواع، يقول الرب: السيف للقتل، والكلاب للسحب، وطيور السماء ووحوش الأرض للأكل، والإهلاك، وأدفعهم للقلق في كل ممالك الأرض، (إر 7: 32) ؛ (9: 11 و15 و 16) ؛ (13: 1 – 4). كما قال إرميا النبي يصف خراب أورشليم ويرثيها وجلست وحدها المدينة الكثيرة الشعب.. صارت كأرملة .. كل أبوابها خربة.. نجح أعداؤها لأن الرب قد أذلها لأجل كثرة ذنوبها. ذهب أولادها إلى السبي أمام العدو.. رأتها الأعداء فضحكوا على هلاكها، قد أخطات أورشليم خطيئة. من أجل ذلك صارت رجسة.. نجاستها في أذيالها .. بسط العدو يده على كل مشتهياتها.. الأمم (أي الوثنيون) دخلوا مقدسها.. غطي السيد بغضبه إينة صهيون بالظلام.. نقض بسخطه حصون بنت يهوذا . أوصلها إلى الأرض.. كره السيد مذبحه .. رذل مقدسه. حصر في يد العدو أسوار قصورها… .. قـصـد الرب أن يهلك سـور بنت سهيـون.. أهلك وحطم عوارضها.. شيوخ بنت صهيون يجلسون على الأرض.. يرفعون التراب على رؤوسهم، يتنطقون بالمسوح .. فعل الرب ما قصد. تمم قوله الذي أوعد به منذ أيام القدم. قد هدم ولم يشفق . فلم يكن في يوم غصب الرب ناج ولا باق.. صار علينا خوف ورعب : هلاك وسحق.
انهالت حجارة القدس في رأس كل شارع.. لصق لسان الراضع يحتكه من العطش. الأطفال يسألون خبزاً وليس من يكسره لهم. الذين كانوا يأكلون المأكل الفاخرة قد هلكوا في الشوارع. الذين كانوا يتريون على القرمز احتضنوا المزابل.. لصق جلدهم بعظمهم. صار يابساً كالخشب. كانت قتلى السيف خيراً من قتلى الجوع.. أيادي النساء الحنائن طبخت أولادهن. صاروا طعاماً لهن.. أتم الرب غيظه . سكب حمو غضبه وأشعل ناراً في صهيون فأكلت أسسها.. من أجل خطايا أنبيائها وآثام كهنتها السافكين في وسطها دم الصديقين . تاهوا كسي في الشوارع وتلطخوا بالدم حتى لم يستطع أحد أن يمس ملابسهم.. لم يرفعوا وجه الكهنة ولم يترأفوا على الشيوخ .. كملت أيامنا لأن نهايتها قد أنت. صار طاردونا أخف من نسور السماء. على الجبال جدوا في إثرنا. في البرية كملوا لنا.. قد تم إثمك يا بنت صهيون.. قد صار ميراثنا للغرباء. بيوتنا للأجانب. صرنا أيتاماً.. أمهاتنا كأرامل.. جلودنا أسودت كندور من جراء نار العدو.. الرؤساء بأيديهم يعلقون ، ولم تعتبر وجوه الشيوخ.. أخذوا الشبان للطحن والصبيان عثروا تحت الحطب.. ، فرح قلبنا ، صار رقصنا نوحاً. سقط إكليل رأسنا. ويل لنا لأننا قد أخطأنا.. أظلمت عيوننا من أجل جبل صهيون الخرب.. الثعالب ماشية فيه، (مراثي إرميا 1 ـ 5).
وقد نفذ الله بذلك وعيده لليهود إن خانوا عهده وتمردوا عليه، إذ قال لهم على فم نبيهم موسى «إن لم تسمعوا لي .. وإن رفضتم فرائضي وكرهت أنفسكم أحكامي . أجمل وجهي عندكم فتهزمون أمام أعدائكم، ويتسلط عليكم مبغضوكم.. وأخريكم.. وأذريكم سبعة أضعاف حسب خطاياكم. فتأكلون لحم بنيكم ولحم بناتكم.. وأذريكم بين الأمم، وأجرد وراءكم السيف فتصير أرضكم موحشة، ومدنكم تصير خراباً.. والباقون منكم ألقى الجبانة في قلوبهم فيهزمهم صوت ورقة مندفعة، فيهربون كالهرب من السيف.. ولا يكون لكم قيام أمام أعدائكم، فتهلكون بين الشعوب، وتأكلكم أرض أعدائكم.. والباقون منكم يفتون بذنوبهم.. وأيضاً بذنوب آبائهم معهم، (لا 26: 1-39) . وقال الله لبيت إسرائيل «إن لم تسمع لصوت الرب إلهك، لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم.. يجعلك الرب منهزماً أمام أعدائك. في طريق واحدة تخرج عليهم وفي سبع طرق تهرب أمامهم. وتكون قلقاً في جميع ممالك الأرض. وتكون جثتك طعاماً لجميع طيور السماء ووحوش الأرض.. يسلم بنوك وبناتك لشعب آخر.. فلا تكون إلا مظلوماً ومسحوقاً كل الأيام .. يذهب بك الرب وبملكك الذي تقيمه عليك إلى أمة لم تعرفها أنت ولا آباؤك وتكون دهشاً ومثلاً وهزأة في جميع الشعوب الذين يسوقك الرب إليهم.. الغريب الذي في وسطك يستعلى عليك متصاعداً وأنت تنحط متنازلاً.. هو يكون رأساً وأنت تكون ذنباً.. تستعبد لأعدائك الذين يرسلهم الرب عليك في جوع وعطش وعري وعوز كل شيء.. فيـجــل حـديـداً على عنقك حتى يهلكك، يجلب الرب عليك أمة من بعيد، من أقصاء الأرض كما يطير النسر، أمة لا تفهم لسانها. أمـة جـافـيـة الوجه لا تهاب الشيخ ولا تحن إلى الولد.. تحاصرك في جميع أبوابك حتى تهبط أسوارك الشامخة الحصينة .. الرجل المتنعم فيك والمترفه جدأ تبخل عينه على أخيه، وامرأة حضنه وبقية أولاده الذين يبقيهم، بأن يعطى أحدهم من لحم بنيه الذي يأكله، لأنه لم يبق له شيء في الحصار والضيقة التي يضايقك بها عدوك في جميع أبوابك.. والمرأة المتنعمة فيك والمترفهة.. تبخل عينها على رجل حضنها وعلى إبنها وإبنتها بمشيمتها الخارجة من بين رجليها، وبأولادها الذين تلدهم، لأنها تأكلهم سراً.. ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى أقصانها .. وفي تلك الأمم لا تطمئن ولا يكون قرار لقدمك.. وترتعب ليلا ونهارا ويردك الرب إلى مصر. ف ر. فتباعون هناك لأعدائك عبيداً وإماء وليس من يشترى، (تث 28: 15 ـ 68) . ولقد كان في مجيء السيد المسيح فرصة أخيرة أمام اليهود ليرتدوا عن شرورهم، ويرتدعوا عن آثامهم، لو أنهم آمنوا به وعملوا بتعاليمه، ولكنهم على العكس أنكروه وتنكروا له وتذمروا على تعاليمه وتأمروا عليه، ثم أخيراً قتلوه ، فاستحقوا سخط الله وغضبه عليهم وقضاءه العادل بهلاكهم، بعد أن أرسل إليهم نبياً بعد نبي، وأنذرهم إنذاراً بعد إنذار، وأطال أناته عليهم آلافاً من السنين، حتى أرسل إليهم أخيراً إبنه الحبيب، ففتكوا به، وسفكوا دمه على خشبة الصليب.
وقد نصح فادينا تلاميذه وكل المؤمنين به بأنهم متى رأوا أورشليم قد أحاطت بها الجيوش فليعلموا أن خرابها قد أوشك، وعندئذ فيهرب الذين يكونون داخل المدن منهم إلى الجبال التي في خارجها ليختبئوا فيها، والذين يكونون خارج المدن فلا يدخلوها لئلا تدهمهم تلك الجيوش التي ستنهمر على أورشليم وكل المدن اليهودية انهمار السيل الجارف مسرعة مروعة كاسحة في طريقها كل شيء، فلن ينجو من بطشها إلا الذين يسرعون بالفرار والإختباء بين الصخور وفي بطون الأغوار. وأما الحبالي والمرضعات اللاتي يعوقهن عن سرعة المسير ما يحملته في أحشائهن أو على أذرعهن من أجنة أو أطفال صغار، فالويل لهن لأنهن سيعانين في فرارهن أشد المعاناة، وسيكابدن أبشع وأشنع المشقات. وفعلاً قد هرب المسيحيون طاعة لنصيحة المسيح الرب إلى الجبال المجاورة عبر الأردن ولا سيما إلى بلدة فيها كانت تسمى «بلا»، فنجوا مما أصاب سائر اليهود من هلاك.
وقد تنبأ مخلصنا بأن أورشليم عاصمة اليهود ستظل بعد هلاكهم «مدوسة من الأمم إلى أن تنقضي أزمنة الأمم،، أي أن أورشليم ستظل مدوسة تحت أرجل الوثنيين والأمم غير اليهودية فترة من الزمان جعلها الله الآب في سلطانه، معلومة لديه تعالى، وإن ظلت غير معلومة للناس.
لو21: 25-36 علامات خراب العالم :
وبعد أن وصف الرب يسوع علامات خراب أورشليم والهيكل وهلاك الأمة اليهودية، شرع يصف لتلاميذه علامات خراب العالم المادي وهلاك الأشرار من البشر جميعاً، ولعل مما يدل على أن الخراب الأول الخاص بأورشليم والهيكل والهلاك الأول الخاص باليهود غير المؤمنين، إنما هو رمز الخراب العام للعالم كله في يوم الدينونة والهلاك العام لكل الأشرار في ذلك اليوم، أن العلامات التي تسبق الحادثتين كما وصفها مخلصنا تكاد أن تكون واحدة، حتى إن الوصف متداخل في الحالتين وشامل لكلنيهما، إذ قال له المجد وستكون ثمة علامات في الشمس والقمر والنجوم، ويكون على الأرض كرب للشعوب وبلبلة، ويضج البحر وتزأر الأمواج، ويغشى على الناس من الرعب ومن توقع ما قد ينزل بالعالم، لأن قوات السماوات تتزعزع، وعندئذ سيرون ابن الإنسان آتياً في السحاب بقوة ومجد عظيم، فمتى بدأ هذا يحدث، فتطلعوا إلى الأعالي رافعين رؤوسكم، لأنه عندئذ يكون خلاصكم قد اقترب.. فالعلامات المخيفة التي تظهر في الطبيعة تسبق خراب أورشليم والهيكل وهلاك اليهود، كما تسبق بصورة أشد هولا خراب العالم وهلاك الأشرار في اليوم الأخير، وتكون في الحالتين دليلاً على إقتراب مجيء مخلصنا ابن الإنسان، وإن كانت تدل في الحالة الأولى على إقتراب ملكوته على الأرض وإنضمام الناس أفواجاً إلى صفوف رعاياه والمؤمنين به، وتدل في الحالة الثانية على إقتراب مجيده الثاني للدينونة ومكافأة الأبرار ومعاقبة الأشرار. وفي كلتا الحالتين يبشر فأدينا تلاميذه وكل المؤمنين به على مدى الزمان بأن خلاصهم من ربقة هذا العالم وشروره يكون بظهور تلك العلامات قد اقترب، ومن ثم يدعوهم لأن يتطلعوا إلى الأعالي في فرج وأن يرفعوا رؤوسهم في فخر، إذ تكلّل جهدهم وجهادهم أخيراً بالظفر والنصر.
ولكي يوضح الرب يسوع هذا المعنى لتلاميذه، ضرب لهم مثلا كعادته قائلا لهم وتأملوا شجرة التين وسائر الأشجار، فإنها متى أورقت تدركون من أنفسكم إذ تروتها أن الصيف قد اقترب. هكذا أيضاً متى رأيتم هذه الأمور تحدث، فاعلموا أن ملكوت الله قريب. الحق أقول لكم إنه لن يمضى هذا الجيل حتى يحـدث كل هذا، تزول السماء والأرض، أمـا كـلامي فلا يزول فانتبهوا لئلا تصير قلوبكم مثقلة بالتخمة والسكر والانغماس في المشاغل الدنيوية، فيفاجئكم ذلك اليـوم بغتة، لأنه سيطبق كالفخ على جميع أهل الأرض كلها. فاسهروا إذن، مواظبين على الصلاة في كل حين، كي تصيروا أهلا للنجاة من كل هذا المزمع أن يكون، ولأن تقفوا بين يدى ابن الإنسان، أي أنه كما أن إنبثاق الأوراق الخضراء في غصون الأشجار التي جفت في الخريف هو الدليل على إقتراب فصل الصيف، هكذا يكون حدوث تلك الأمور التي ذكرها له المجد هو الدليل على إقتراب ملكوت الله، وقد أكد فادينا أن هذه الأمور ستحدث قريباً بالنسبة لخراب أورشليم والهيكل وهلاك الأمة اليهودية، فليعلم تلاميذه وليعلم كل المؤمنين به ذلك علم اليقين، لأن كلام الرب مخلصهم ومخلص البشر جميعاً، إنما يعبر عن إرادة إلهية أكثر رسوخاً من السماء والأرض، حتى إن السماء والأرض إذا زالتا، لن يمكن أن يزول هذا الكلام، فليسمعوه وليموه وليطيعوه كحقيقة مقررة لا ريب فيها ولا مناص منها. ومن ثم فليعملوا بنصائحه التي وجهها إليهم للنجاة من ذلك الخراب والهلاك الذي سيحل قريباً ببلاد اليهود وبأمة اليهود.
وقد ذكر المؤرخ اليهودي فلافيوس يوسيفوس في كتابه «حروب اليهود، أو تاريخ خراب أورشليم، (المجلد الرابع – الجزء السادس، الفصل الخامس، الفقرة الثالثة) جملة علامات حدثت قبل خراب أورشليم مطابقة لما سبق وأنذر به السيد المسيح تلاميذه والمؤمنين به بقوله وتظهر في السماء مناظر مرعبة وعلامات مهولة، (لو 21: 11) منها أن نجماً يشبه السيف ظهر فوق أورشليم، يصاحبه مذنب، وقد استمر ظهورها سنة كاملة. ومنها أنه قبل بدء حرب اليهود مع الرومان، في عيد الفطير الذي يوافق اليوم الثامن من شهر نيسان، وفي الساعة التاسعة من الليل، سطع نور عظيم حول المذبح والهيكل كأنه نور الشمس، واستمر ظهوره على هذا النحو حوالى نصف ساعة. ومنها أنه في ذلك العيد نفسه كانت عجلة صغيرة يسوقها رئيس الكهنة لتقديمها ذبيحة، فولدت حملاً في وسط الهيكل ، ومنها أن البوابة الشرقية لساحة الهيكل وكانت ضخمة ثقيلة جدا مصبوبة من النحاس الخالص، لا يستطيع أن يغلقها كل مساء أقل من عشرين رجلا، وهي مستقرة على قاعدة مسلحة بالحديد، ولها مزالج ثابتة بعمق في الأرضية التي كانت تتكون من حجر واحد عظيم الضخامة – هذه البوابة تنفتح من تلقاء نفسها في الساعة السادسة من الليل، فجاء حراس الهيكل يركضون نحو قائد الهيكل وأخبروه عنها، فقام وأغلقها مع أعوانه بعد مجهود عظيم، ويقول يوسيفوس إن هذه الحادثة بدت للعامة أعجوبة تشير إلى أن الله فتح لليهود باب السعادة، ولكن العلماء منهم فهموا منها أن أمن هيكلهم قد زال من تلقاء ذاته، وأن البوابة قد إنفتحت لمصلحة أعدائهم. وكان ذلك علامة على الخراب الذي حل باليهود. وأما يوسيفوس فقد كانت تدل هذه العلامة في نظره على تخلى العناية الإلهية عن اليهود. ثم يقول يوسيفوس إنه في اليوم الأول، وفي اليوم العشرين من شهر أيار، بعد عيد الفطير بأيام، حدثت ظاهرة عجيبة أخرى لا يكاد العقل يصدقها، وتبدو خرافة لولا أن الذين رووها هم الذين شاهدوها بأعينهم، إذ يقولون إنه قبل غروب الشمس شوهدت مركبات وجمهرة من الجند مسلحين بدروعهم يجرون بين السحب، ويحيطون بالمدن، وفي عيد العنصرة فيما كان الكهنة داخلين ليلا إلى الفناء الداخلي للهيكل كعادتهم لأداء خدماتهم الدينية المقدسة، قالوا إنهم أحسوا بزلزلة وسمعوا جلبة عظيمة، ثم إذا بصوت يدوى كأنه صادر عن جمهور كثير يقول أمضوا بنا من هناء ، على أن ما أفظع من كل هذا، هو ذلك الرجل المسمى «ابن أنانوس»، وكان فلاحاً عاميا جلفا، إذ ظل أربعة أعوام متوالية قبل أن تبدأ حرب اليهود مع الرومان ـ وكانت أورشليم لا تزال في رخاء وسلام عظيمين ـ لا يفتأ يصرخ بصوت عظیم قائلاً ،صوت من المشرق. صوت من المغرب. صوت من الأربعة الرياح. صـوت ضد أورشليم والهيكل المقدس. صوت ضد العريس وضد العروس. صوت ضد الشعب كله، ، وقد كان ذلك الرجل يصرخ ليلاً ونهاراً بهذه العبارات في جميع شوارع أورشليم وأزقتها، حتى لقد إستاء كثيرون من عظماء الأمة من صيحاته تلك وأخذوا الرجل وضربوه ضرياً موجعاً، ومع ذلك استمر يردد العبارات نفسها التي كان يصرخ بها من قبل. فاشتد حنق حكام اليهود عليه وجاءوا به إلى الحاكم الروماني، وجلدوه حتى تعرت عظامه، ولكن مع ذلك لم يتأوه أو يتوجع أو يتوسل إليهم أن يكفوا عن تعذيبه، وإنما أخذ يصرخ بأكثر شدة وبأعلى صوته، قائلاً مع كل جلدة يصيبونه بها الويل . الويل لأورشليم، . فلما سأله ألبينوس حاكم اليهود من أنت ؟ ومن أين أتيت؟ ولماذا تصرخ بهذه العبارات»، لم يجب بشيء وإنما واصل ترديد هتافه المرير الحزين، ومن ثم إعتبره ألبينوس مخبولا، وأطلق سراحه. فراح يردد ذلك الهتاف في كل لحظة وكأنما قد أخذ على نفسه عهداً بهذا. ويقول يوسيفوس وحقاً لقد كان هذا نذير شؤم عما كان مزمعاً أن يحدث، . وقد ظل ذلك الرجل يردد صرخته المشلومة تلك سبع سنوات وخمسة أشهر متوالية، حتى جاء الرومان بالفعل وحاصروا أورشليم، وعندئذ أخذ يدور حول سور أورشليم صالحاً بأعلى صوته وبكل قوته والويل، الويل للمدينة، وللشعب، والهيكل المقدس»، ثم أخيرا قال «الويل، الويل لي أنا أيضاً، وعندئذ أصابه حجر من الأحجار التي كان المتحاربون يتقاذفونها، فعات على الفور وهو لا يفتأ يردد نذيره حتى أسلم الروح. وقد ردد هذه الأحداث الغريبة أوسابيوس أسقف قيصرية في كتابه «تاريخ الكنيسة وشهداء فلسطين، (الكتاب الثالث، الفصل الثامن)، نقلا عن المؤرخ اليهودي يوسيفوس.
وأما فيما يتعلق بما يرمز إليه خراب أورشليم والهيكل وهلاك الأمة اليهودية مما سيحدث في يوم القيامة الأخير، فقد نصح الرب مخلصنا تلاميذه وكل للمؤمنين به بأن ينتبهوا لأنفسهم، لئلا تجرفهم الشهوات الدنيوية من مأكل ومشرب ومن المطالب الجسدية، فـتـقـتـل فـيـهـم المواهب الروحية، وتلهيهم المشاغل الأرضية عن التطلع إلى الأمجاد السماوية، ثم يجيء فجأة ذلك اليوم الرهيب المهيب الذي سيطبق كالفخ على أهل الأرض كلها في لحظة لا يتوقعونها، فيجدهم متخمين بالطعام، سكارى من كثرة الشراب، مثقلين بهموم الدنيا وإهتماماتها، عبيداً للجسد والجسديات، مقيدين بالأرض والأرضيات، بعيدين كل البعد عن العناية بالروح والروحيات، متغافلين كل التغافل عن الإتجاه نحو السماء والسمائيات، متعلقين بكل ما هو هالك وفان، فلا يكون مصيرهم لدى العدل الإلهي إلا الهلاك والفناء، منصرفين عن كل ما هو خالد وباق، فلا يكونون مستحقين بأي حال من الأحوال حياة الخلود والبقاء. فليسهر التلاميذ وكل المؤمنين بالرب يسوع المسيح إذن في كل الأجيال، في إنتظار ذلك اليوم لئلا يفاجئهم بغته في أي لحظة اللحظات، مواظبين على الصلاة إلى الله في كل حين، وبغير إنقطاع، لتكون قلوبهم على الدوام متصلة بالله، متجهة إليه، منصتة له، متعلقة به، مطيعة إياه، خاضعة لمشيئته، خاشعة بين يديه، بحيث لا يكون لهم إهتمام إلا به، ولا إتكال إلا عليه، ولا سبيل إلا سبيله، ولا غاية إلا رضاه دون سواه ، لأنهم بذلك وحده يصيرون أهلا للنجاة من كل هذا المزمع أن يكون في يوم الدينونة من أهوال تصيب الأشرار الذين أثروا الضلال على الإيمان، وعبدوا الشهوة والمال من دون الله، ولأنهم بذلك وحده يستطيعون الوقوف في ذلك اليوم بين يدي ابن الإنسان الذي هو مخلصنا ابن الله الديان، رافعي الرأس غير خجلين، مطمئني النفس غير وجلين، مضيفين كالشمس في ملكوت أبيهم.
لو21: 37-38 مداومة الرب على التعليم :
وقد كان الرب يسوع المسيح في ذلك الوقت . على الرغم من علمه بأن اليهود سيقتلونه بعد أيام قلائل ـ لا يفتا مواظبـاً كعادته على التعليم في الهيكل، لم ينقطع عن ذلك لحظة واحدة، مشجعاً المؤمنين به من سائر الشعب على ما سيلاقونه من الآلام. وموبنا المعاندين له من رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين وغيرهم على ما يرتكبونه من الخطايا والآثام. حتى إذا جاء الليل كان يخرج ريبيت في الجبل المسمى بجبل الزيتون، وكان متاخمة للهيكل، كي ينفرد هناك في هدأة الظلام للتأمل والصلاة، وكي يتسنى له أن يعود إلى الهيكل مبكراً بمجرد أن يبزغ المفجر، لأن كل الشعب كانوا يبكرون إليه هناك ليستمعوا إلى تعاليمه وعظاته، ويستمنعوا بوجود شخصه الإلهي بينهم، مستشعرين ما في كلامه من نعمة وعزاء، وما في شخصيته من وداعة وسمو.