يو 5:1 والنور يضئ في الظلمة والظلمة لم تدركه
وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ. يو 5:1
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“والنور يضيء في الظلمة،
والظلمة لم تدركه” (5).
عمل الكلمة “شمس البر” أن يشرق بنوره على العالم، لكنه لا يلزم الذين في الظلمة أن يقبلوا نوره. الإنسان الذي يرفض النور، ويتمسك بالظلمة، يصير ظلمة لا تُدرك النور ولا تطيقه. كما إن الذي يقبل النور يصير نورًا للعالم ولا يطيق الظلمة.
إن كان الكلمة المتجسد هو “النور الحقيقي”، فإن إبليس باعتزاله مصدر النور صار “ظلمة” يبذل كل الجهد ليجتذب البشرية نحو مملكته، فيحمل سلطانًا عليهم. لهذا دعاه السيد المسيح “سلطان الظلمة” (لو 22: 53).
تقوم مملكة الظلمة على غياب النور الحقيقي، حيث تنفصل عن الكلمة الإلهي، فلا تكون لها “الحياة” ولا “النور” ولا “الحق” ولا “السلام”، بل لها أعمال الظلمة من موت روحي وبطلان وكذب وبغضة وانشقاقات وفساد الخ.
لا تدرك الظلمة النور ولا تطيقه، لذا تأخذ موقف العداوة منه لعلها تحجز النور عنه. وقد ظنت الظلمة إنها قادرة أن تطفئ شمس البرّ بصلبه، ولم تدرك أنه بالصليب حطمت نفسها، ليشرق شمس البرّ على الجالسين في الظلمة. “الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا؛ الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور” (إش 9: 2).
v “الظلمة” هي الطبيعة التي تحتاج إلى استنارة، أي الطبيعة المخلوقة… يعلن أن الخليقة العاقلة بدون الطبيعة الإلهية هي ظلمة، وهي عاجزة عن أن تلد شيئًا من نفسها وبقدراتها.
v يشرق الكلمة على كل الأشياء القادرة أن تستقبل إشعاعه وإنارته.
v الابن الكلمة غير معروف عند الظلمة، لأن المخلوق العاقل على الأرض، أي الإنسان، عبَدَ المخلوق دون الخالق (رو 25:1). إنه لم يدرك النور، لأنه لم يعرف الخالق.
v النور يضيء في الظلمة، في هذه الحياة وفي الجسد، والظلمة تطارده، لكنها لن تهزمه. أقصد أن القوة المضادة تثب في عارها ضد آدم المنظور لكنها تصطدم بالله فتنهزم، حتى إذ ننزع الظلمة نقترب إلى النور، عندئذ نصير نورًا كاملاً، أبناء النور الكامل.
v يقول: “الظلمة لم تدركه“، إذ من المستحيل أن يوجد المسيح مقهورًا، ولا يمكن أن يسكن في النفوس التي لا تريد أن تستنير. لكن لا تضطربوا إن النور لا يضم الكل، فإنه لا يحل بالقسر والإلزام بل برضى الشخص وقبوله يحضرنا الله إليه. لا تغلقوا أبوابكم في وجه هذا النور، فتتمتعون بسعادة عظيمة. لكن هذا النور يحل بالإيمان. وإذ يحل ينير بفيضٍ على من يقبله. وإن سلكتم الحياة الطاهرة اللائقة بالنور يبقي ساكنًا في الداخل بلا توقف، إذ يقول: “إن أحبني أحد يحفظ كلامي وإليه نأتي أنا وأبي، وعنده نصنع منزلاً” (راجع يو 14: 23).
وكما إن الشخص لا يقدر أن يتمتع بنور الشمس ما لم يفتح عينيه، هكذا لا يقدر أحد أن يشترك في هذا النور الأبدي ما لم يفتح عين نفسه ويجعلها حاذقة البصر بكل وسيلة.
كيف يحدث هذا؟ عندما تتطهر النفس من كل الأهواء. فإن الخطية ظلمة، وظلمة عميقة، كما هو واضح من أن الناس يمارسونها لا شعوريًا وخفية. “لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ولا يأتي إلى النور، لئلا توبخ أعماله” (يو 3: 20) “لأن الأمور الحادثة منهم سرًا ذكرها أيضا قبيح” (أف 5: 12). وكما أنه في الظلمة لا يعرف الشخص صديقًا ولا عدوًا، ولا يقدر أن يدرك أية سمة من سمات الأشياء، هكذا أيضًا في الخطية. فالذي يطمع في ربح أكثر لا يميز بين صديقٍ وعدوٍ، والحاسد يحمل عداوة حتى لمن هو ملتصق به جدًا. وواضع المكائد دومًا في صراع مع الكل على السواء…
في اختصار من يرتكب الخطية ليس بأفضل من السكارى والمجانين. وكما أنه بالليل يبدو لنا الخشب والقصدير والحديد والفضة والذهب والحجارة الكريمة متشابهة بسبب غياب النور الذي به نميز بينهم، هكذا من يسلك حياة فاسدة لا يميز سمو ضبط النفس ولا جمال الفلسفة (الحكمة).
v من ينصرف عن النور الحقيقي، أي عن الله، يصير للحال أعمى، ومع هذا لا يشعر بعقوبته وإن كان قد نالها فعلاً.
v يعبر عن شوقنا بالمرتل: “ويل لي فقد طالت غربتي عليّ، فأسكن معهم في قيدار، تقوم نفسي برحلة طويلة” (مز5:120، 6 Vulgate). “قيدار” معناها “ظلمة“، والظلمة تمثل العالم الحاضر، إذ قيل لنا: “النور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه” (5).
تفسير الأب متى المسكين
5:1- وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ
هنا يضع القديس يوحنا، ولأول مرة «النور» في مقابل «الظلمة», الوجود في مقابل العدم.
أما النور فقد عرفه بعد ذلك أنه «النور الحقيقي» وهكذا يتضح أنه طبيعة الله. لأن هناك فرقاً هائلاً بين النور المخلوق الذي هو قوة وطاقة وبين النور الخالق الذي هو حياة.
فإن كنا في الأية السابقة قد وجدنا الحياة الآبدية, التي في الكلمة, وقد دخلت في علاقة مباشرة مع الإنسان بعد الخليقة «كل شيء به كان»، وهذه الحياة كانت هي مصدر النور للناس: «والحياة كانت نور الناس»؛ فهنا في هذه الأية: «النور يُضيء في الظلمة» يزيد المعنى السابق إيضاحاً من جهة مبادرة النور من تلقاء ذاته للقيام بعمله الجوهري أي “الإضاءة”, بمعنى أن الكلمة لم يُلق على الإنسان كل مهمة التعرف على النور أو الوصول إليه. فالنور الإلهي يضيء من ذاته ومن سخاء طبيعته الالهية, كما يصفه إشعياء النبي: «وَيَكُونُ نُورُ الْقَمَرِ كَنُورِ الشَّمْسِ وَنُورُ الشَّمْسِ يَكُونُ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ كَنُورِ سَبْعَةِ أَيَّامٍ فِي يَوْمٍ يَجْبُرُ الرَّبُّ كَسْرَ شَعْبِهِ وَيَشْفِي رَضَّ ضَرْبِهِ» (إش 26:30), وهو ما يصفه بولس الرسول في اختباره العجيب: رَأَيْتُ فِي نِصْفِ النَّهَارِ فِي الطَّرِيقِ أَيُّهَا الْمَلِكُ نُوراً مِنَ السَّمَاءِ أَفْضَلَ مِنْ لَمَعَانِ الشَّمْسِ قَدْ أَبْرَقَ حَوْلِي وَحَوْلَ الذَّاهِبِينَ مَعِي. (أع 13:26).
وهنا نلتقط الفكرة المبدئية في علاقة النور بالخليقة، فحقيقة «النور يضيء في الظلمة» في معناها الخصب تفيد نصرة الخلق على العدم، كما تفيد نصرة الحق على الباطل، أو معرفة الله على الجهالة، وبالنهاية وعلى الواقع الملموس تجسد الكلمة ذاته فيما بعد. لأن هذا هو بالفعل دخول النور إلى العالم المظلم: “وهذه هي الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم…” (يو 19:3). وبدخول النور إلى ظلمة العالم انقسم عالم الإنسان إلى إنسان النور وإنسان الظلمة, وان كان إنسان الظلمة يعيث فساداً وتخريباً، ولكن لن يتغلب غير الموجود على الموجود. فإنسان النور اكتسب وجوداً أزلياً، أما الظلمة فتنتهي إلى العدم ولن يبقى إلا النور.
كذلك ففي هذه الأية يكون القديس يوحنا لا يزال منحصراً في الكلمة وعلاقته بالناس,لأن «الإضاءة» هى نور الاستعلان بالنسبة للخليقة ذات الإدراك الروحي عامة, وذلك قبل أن يحصر عمله مع خاصته أى مع شعب أسرائيل. فقوله: “النور يضيء في الظمة” يتجه إلى مطق عمل “الكلمة” في الظلمة بالنسبة للانسان عامة, دون تخصيص حقبة زمنية أو شعبب مميز أو أية ظروف خاصة. فالإشارة هنا إل طبيعة عمل جوهر النور الإلهي في الكلمة تجاه طبيعة الإنسان الروحية كإنسان. وهذه الحقيقة أشار إليها القديس بولس الرسول هكذا: “لأن الأمم الذين ليس عندهم ناموس متى فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس, فهؤلاءه إذ ليس لهم الناموس, هم ناموس لأنفسهم, الذين يظهرون عمل الناموس مكتوباً فى قلوبهم شاهدأ أيضاً ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة.” (رو 14:2-15)
واضح من كلام القديس بولس أن النور الإلهي لم يحرم الأمم من الحصول على صورة منيرة لقوانين الله الأخلاقية التي تصلح أن تدينهم وتبكت ضمائرهم.
كذلك سبق أن استشهدنا بقول للقديس بولس الرسول عل نفس المستوى باعتبار أن الله أظهر معرفته للناس عامة منذ الدهر: «إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ. لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ الْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ. (رو19:1-20)
واضح، إذن، أن النور يضيء في الظلمة بصورة عامة منذ بدء الخلق، لأن هذا عمل يختص بصميم طبيعة الكلمة بالنسبة للناس، باعتبار أن الإنسان مخلوق مُدرك على صورة الله، والله مدرك كامل, فالعلاقة بينه وبين الكلمة علاقة كيانية، حيث يستمد منه الإنسان كيانه وإحساسه بنفسه عامة، وادراكه الروحي خاصة. لذلك تقول الأية: “حتى إنهم بلا عذر”
واضح من كلام القديس بولس أن النور الإلهي لم يحرم الأمم من الحصول على صورة منيرة لقوانين الله الأخلاقية التي تصلح أن تدينهم وتبكت ضمائرهم.
كذلك سبق أن استشهدنا بقول للقديس بولس الرسول عل نفس المستوى باعتبار أن الله أظهر معرفته للناس عامة منذ الدهر: «إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ. لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ الْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ. (رو19:1-20)
واضح، إذن، أن النور يضيء في الظلمة بصورة عامة منذ بدء الخلق، لأن هذا عمل يختص بصميم طبيعة الكلمة بالنسبة للناس، باعتبار أن الإنسان مخلوق مُدرك على صورة الله، والله مدرك كامل, فالعلاقة بينه وبين الكلمة علاقة كيانية، حيث يستمد منه الإنسان كيانه وإحساسه بنفسه عامة، وادراكه الروحي خاصة. لذلك تقول الأية: “حتى إنهم بلا عذر”
ما هي الظمة:
عرفنا أن النور الحقيقي هو طبيعة الله و “الكلمة”، ومعلوم أن «الظلمة» بحسب معرفة الإنسان المادية والقياسية هي غياب النور ليس إلا، أي لا توجد ظلمة, ككيان بحد ذاته, ولكن الظمة تصير أحيانا بغياب النور. وهذا المقياس ينطق على المعنى الروحي «للظلمة» بمفهومها الروحي إلى حد كبير. فإذا أخذنا «النور» مأخذاً شخصياً يكون «النور» هو الله من جهة طبيعته. وبالتال تكون «الظلمة» هي الشخص الذي يخلو من طبيعة الله المضيئة والمنيرة (روحياً) خلواً تاماً سواء كان هذا شيطاناً أو إنساناً. وقد عرفنا الإنجيل بكل يقين أن شخص الظمة هو الشيطان. حيث يقدم لنا الإنجيل معرفة الله وكلمته أنه “المحيي” للانسان جسدياً وروحياً، والشيطان أنه “قتال للناس منذ البدء” جسدياً وروحياً، وإن الله وكلمته أمين وصادق في كل ما يقول ويعمل، وأن الشيطان “كذاب وأبو الكذاب” (يو 44:8). ومن ذلك نرى أن الله نور حقاً وأن الشيطان ظلمة بالحقيقة، ويدعوه المسيح «سلطان الظلمة»: “هذه ساعتكم وسلطان الظلمة” (لو 53:22)، وهي ساعة تزور حكم الموت للمسيح.
فإذا عرفنا الظلمة بحد ذاتها خلواً من شخص، أي من جهة طبيعتها وعملها، تكون هي السالبية بكل معانيها وأعمالها:
فإن كان النور الحقيقي أي الله هو “المحبة” وهو “الرحمة” والسلام” و”الحق” و”الأمانة”؛ يكون الظلام أو الظلمة هي اللامحبة وكل ما يتفرع منها، البغض والكراهية والحقد والحسد والنميمة والذم والقتل….. إلخ.
وهي اللارحمة وكل ما يتفرع منها، القسوة والنقمة والتعذيب……إلخ.
وهي اللاسلام وكل ما يتفرع منه، القلق والضيق والاضطراب والتشويش والخوف …..إلخ
وهي اللآحق وكل ما يتفرع منه، الغش والتزوير والتحريف والكذب….إلخ .
وهي اللا أمانة وكل ما يتفرع منها: الخيانة والإختلاس والسرقة…… إلخ .
فهذه كلها أعمال«الظلمة» التي تتخذ وجودها ونشاطها من غياب “النور”
لذلك عندما يقول القديس يوحنا إن: الله نور وليس فيه ظلمة البتة” (1يو5:1), فهذا يعني خلو طبيعته المنيرة الخيرة من كل السالبية خلواً باتاً.
وعندما يقول إن الحياة الأبدية التي في “الكلمة” “فيه كانت الحياة”, وهذه الحياة هي «نور الناس»، فهو يقصد بكل تأكيد أن حياة «الكلمة» في الناس هي مصدر كل الإيجابيات، فهي حضرة نور الله وصفاته داخل النفس البشرية حيث ينمو الحب وتزدهر الرحمة وينشر السلام ويتجذر الحق وتثبت الأمانة. وذلك كله يتم على جهتين:
فمن جهة الخالق وكلمته, فإنه يتعهد صورته التي خلق لتبقى على صورة خالقها، ومن جهة الإنسان تنزع الصورة فيه بحسب طبيعتها لتحاكي أصلها وتتعدل عليه.
هذا كله بدأ منذ الخلق وسار في طريق الزمن، مرة يعلو ومرة ينخفض، من شعب لشعب ومن إنسان لإنسان، والله يعدل طريقته بحسب اعوجاج الانسان أو استقامته، من إعلان لإعلان، ومن تزكية لتزكية، ليبلح قصده من الخلق يوم خلق. إلى أن “أظهرت الحياة الآبدية”, التي في الكلمة, التي كانت عند الأب في صميم جوهرها، وتجسد النور بملء فعله كأخر مرحلة من خطة الله الأزلية، ليأخذ الإنسان صورة خالقه ويدخل معه الحياة في حال التبني.
وقول القديس يوحنا أن “االنور يضىء في الظلمة والظلمة لم تدركه” هو تصوير بديع لحال الإنسان الذي أخفق كثيراً ومراراً في الإمساك بالنور أو التعرف عليه. فأول إخفاق شنيع ومريع كان في انحياز آدم وحواء إلى الظمة وخروجهما من دائرة النور الفعال, ثم على مدى كل الأزمنة القديمة وعلى ستوى الفهماء والحكماء والشعراء والفلاسفة الكبار، أخفق الإنسان أن يمسك بالنور أو يتحول إليه: ” لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلَهٍ بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ. وَأَبْدَلُوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى وَ الطُّيُورِ وَ الدَّوَابِّ وَ الزَّحَّافَاتِ.” رو 21:1-23)
بل ويمعن بولس الرسول في إظهار مدى تسرب النور الإلهي والحكمة الإلهية إلى حكماء العالم قديماً، وخاصة حكماء أثينا، وبالرغم من امتلاكهم “حكمة الله” فإنهم لم يخضعوا لنورها، وبالتال لم يدركوا الله بالحكمة لأنه إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة, استحسن الله أن يخص المؤمنبن بجهالة الكرازة (الصليب). (1كو 21:1)
وهذا ما يقصده القديس يوحنا في تصويره لمرحلة عمل «الكلمة» في العالم والناس فيما قبل ظهوره في العهد القديم على ألسنة الأنبياء، كـ «كلمة الله» وكنور, عندما اختار له أخصاء من شعب اختاره لنفسه للاعلان عن الله وعن قرب.
الظمة تتعقب النور:
يقول القديس يوحنا أن “النور يضىء” وهذا بحكم طبيعته الإلهية الخيرة، وهو يضىء على الجميع بلا استثناء كما يقول الإنجيل: “يشرق شمسه على الأشرار والصالحين” (مت45:5). ولكن لكي يبين الله عظم صلاحه فإنه يركز عمل نوره عل الظمة والجالسين في الظمة.
ولقد تحدد منذ الدهر بفم أنبياء كثيرين أن المسيح سيكون “نوراً للأمم” بقدر ما سيكون «مجداً لشعبك إسرائيل» (لو32:2). لذلك أصبح من طبيعة النور الخلاصية أنه يعقب الظمة منذ الآزل: «للرب حرب مع عماليق من دور إلى دور» (خر 16:17). وهو يفتش عن الذين له في مسالك الأرض كلها: “الشعب السالك في الظمة أبصر نوراً عظميماً. الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور.” (إش 2:9)
وتعقب النور للظلمة أنشأ بالتالي ترصداً وتعقباً مضاداً من جهة الظلمة تجاه النور، وذلك بحسب قانون الأفعال والحركات، مادية كانت أو روحية، القائل بأن لكل فعل رد فعل، بمقتض تدبير الله تجاه إبليس المدعو أيضاً «سلطان الظمة»، حينها قال الله للحية التي كانت تنطق بفم إبليس: «وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، هو يسحق (يرصد) رأسك وأنت تسحقين (ترصدين) عقبه.» (تك 15:3)
وقول القديس يوحنا أن «الظلمة لم تدركه» هو وصف دقيق للعجز الذي ظهر به الشيطان في صراعه ضد مصدر النور بطول الزمن وعل مدى الحياة.
فقد لخص سفر الرؤيا معركة المسيح مع إبليس والعالم هكذا: ” فَنَظَرْتُ، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ، وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ مَعَهُ قَوْسٌ، وَقَدْ أُعْطِيَ إِكْلِيلاً، وَخَرَجَ غَالِباً وَلِكَيْ يَغْلِبَ” (رؤ 2:6)
وهنا غلبة النور على الظلمة تأتي على مرحلتين: الاولى في الفعل الماضي “َخَرَجَ غَالِباً” والثانية لأفعال قادمة « وَلِكَيْ يَغْلِبَ» .
وحرب الظلمة، من اسمها تعرف أنها حرب خداع وتزييف، لها صورة الحرب وهي ليست حرباً، ولها صورة الحق وهي الكذب بعينه.
بدأها الشيطان بحديث الحية مع الإنسان وهو في صورة الأضعف «حواء»: «أحقأ قال الله لا تأكلا من “كل” شجر الجنة» (تك 1:3). هذا أول تزييف للحق، فالله لم يقل هذا ولكن هذا مدخل التشكيك.
ثم يبني الشيطان على التشكيك فكرة لها صورة الصدق، وهي الكذب المسموم, والتجربة التي صدقها الإنسان فمات بالفعل: «فقالت المرأة للحية من ثمر شجر الجنة نأكل, وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة لن تموتا…» (تك 2:3-4). فأكل الإنسان ومات. هذه الحرب, حرب الغواية والغش والخدع قائمة بحسب بولس الرسول كما هي حتى اليوم: «ولكني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها هكذا تُفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح.» (2كو 3:11).
ولكن أقوى مواجهة تمت بين النور والظمة على مدى تاريخ الإنسان وعمره كانت مع المسيح: «لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء» (يو 30:14), «من منكم يبكتني على خطية.» (يو46:8 )
ولكن الشيطان في استخدام سلطان الظلمة أكثر من حدوده ووثق في أدوات القتل التى يملكها من شهود زور، ورؤساء يبخرون للكذب وحرفية الناموس القاتلة وحناجر الشعب ألجاهل وقاض جبان. وهكذا، فإنه وعلى الصليب رأى بولس الرسول كيف تم القبض على رؤساء الظلمة وكيف فُضحوا وشٌهر بهم: « إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدّاً لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّراً ايَّاهُ بِالصَّلِيبِ، إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ اشْهَرَهُمْ (فضحهم) جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيهِ (أى فى الصليب).» (كو 14:2-15)
ومن هذا, ولهذا صار الصليب رعباً للشيطان وسلاحاً ضد كل أعمال الظلمة.
فإذا أردنا أن نبلور حرب الظلمة الأولى مع أدم وحواء، فهذه يلخصها لنا القداس الإلهي في مطلعه قائلاً: “والموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس… “. أما إذا أردنا أن نبلور حرب الظلمة الكبرى على الصليب، فهذه يلخصها الإنجيل بقوله: ” فَأَجَابَهُمْ بِيلاَطُسُ: «أَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟». لأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوهُ حَسَداً.” (مر 9:15-10)
فالحسد, وهو الصفة الاولى لمن فقد النعمة, كان عمل الظلمة تجاه الإنسان لحجز النور عنه ولاطفاء النور ذاته، ولكن قرار الإنجيل الأخير أن الظلمة لم تدرك قصدها!! ولن تدرك!!
تفسير القمص أنطونيوس فكري
أية (5): “والنور يضئ في الظلمة والظلمة لم تدركه.”
وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ = كان آدم في الجنة يرى الله، فكان آدم في نور. وسقط آدم فإنفصل عن الله وصار في ظلمة. ولا شركة للنور مع الظلمة. وسادت الظلمة العالم فانتشرت الوثنية والخطية، فلقد تبع الإنسان الشيطان سلطان الظلمة(ما عدا قلة). والمسيح أتى للعالم وهو النور لينير للعالم، فيعرف العالم الله ويعبده تاركاً الخطية (إش1:9-6+ 5:49) فالمسيا الآتي هو النور للجالسين في الظلمة. فبنورك يا رب (المسيح) نعاين النور ولكن كل من يرفض المسيح يظل في الظلمة ونهايته تكون الظلمة الخارجية “اطرحوه في الظلمة الخارجية” أي خارجاً عن جسد المسيح (النور الحقيقي). وكما يضئ النور المخلوق للعينين الجسديتين فنرى الأشياء، هكذا فالنور الحقيقي وهو الله (النور هو طبيعة الله) يضئ للإنسان ويرشده كعطية سخية من طبيعته الإلهية. وتجسد المسيح كان مجيئاً للنور إلى العالم (يو19:3) فهو شمس البر. فمن قَبِلَهُ صار إنسان النور الذي له حياة أبدية، ومن لا يقبله يبقى في الظلمة. ولكن بصفة عامة فالله يعطي لكل إنسان نوراً يستطيع به أن يميز الله ويعرفه (رو14:2-15+ 19:1-20) والضمير هو نوع من النور أعطاه الله لكل إنسان من بدء الخليقة، ليميز به الخير من الشر، لذلك فالنور يضئ في الظلمة بصورة عامة منذ بدء الخليقة، لذلك قال الكتاب أنهم بلا عذر (رو1:2+ 20:1).
وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ = ما هي الظلمة؟= هي غياب النور. فإذا كان الله هو النور، فالإنسان الذي يخلو من النور (نور الله) هو الظلمة. والشيطان حين إنفصل عن نور الله صار سلطان الظلمة (لو53:22). وإذا كان النور أي الله هو المحبة والرحمة والسلام والحق والأمانة، تكون الظلمة هي الكراهية والقتل والقسوة والقلق والغش والكذب والخيانة.. إلخ. لذلك صار إبليس قتالاً للناس منذ البدء وصار كذاباً وأبو الكذاب (يو44:8-45) فهو ظلمة وهكذا كل من يتبعه. ومن كان له المسيح الحياة يكون له المسيح نور ينير له الطريق للحق ويكون هذا له مصدرا لكل الإيجايبات. ولكن الإنسان فشل في أن يتمسك بالنور إبتداء من آدم الذي اختار الظلمة (رو21:1-23+ 1كو21:1).
ونلاحظ أن من يُصِّرْ على أن يعيش في الخطية، فهو يعيش في الظلام ولن يدرك المسيح أي لن يعرفه ولن يعرف حقيقته، وكلما ازدادت ظلمة الإنسان يبدأ يهاجم المسيح النور الحقيقي إذ هو لا يعرفه ولكنه لن يستطيع أن يدركه أي يظفر به. فالظلمة درجات تبدأ بإهمال حقيقة النور ثم اختيار الخطية، فالحياة في ظلمة ثم رفض المسيح ثم الهجوم عليه.
وكلمة لا تدركه بالتالي تشير لأن من اختار الظلمة لن يعرف المسيح. وإذا بدأ في هجومه علي المسيح لن يظفر به. فالنور الإلهي غير قابل للإنطفاء أو الإندحار. بل نرى في (مت44:21) أن من اختار الظلمة هو من سقط على هذا الحجر، إذ هو لا يرى. وهذا بسقوطه وعثرته يترضض، وأما من يقاوم المسيح يسقط هو عليه ويسحقه. ودائماً يشرق الله بنوره ليضئ للإنسان (إش2:9). ودائماً فالظلمة تطارد الإنسان (بالذات الذي فيه نور المسيح) (تك15:3) ولكن الغلبة ستكون للنور (رؤ2:6) وحرب الظلمة هي حرب خداع وتزييف (تك1:3+2كو3:11) فمن هو في ظلمة لن يرى نهاية طرق ابليس وهي الموت. ولكن الظلمة لم تدرك المسيح بمعنى ما قاله المسيح “رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء” (يو30:14+46:8). فالشيطان أثار اليهود والرومان فصارت ظلمة لاحقت المسيح حتى الصليب، ولكنها لم تدركه، بل هو الذي أمسك سلطان الظلمة وقيده (كو14:2-15+ رؤ1:20-2). لاحظ أن النور يضئ في حجرة مظلمة وينهي ظلامها ولكن لا يمكن أن الظلمة تنتصر على النور فتظلم حجرة بها مصدر إضاءة. وهذه نصيحة لكل من هو يائس من خطيته وهذه ظلمة: فما على هذا الإنسان إلا أن يلتصق بالمسيح فيضئ ظلمة قلبه فيترك خطيته. ونور المسيح أيضاً يعطي رجاء للخاطئ فلا ييأس، هو سيري وجه المسيح المبتسم الذي يقبل الخاطئ فيندفع إليه. وعلى كل واحد ان لا يعطى للشيطان حجما اكبر من حجمه، فهو ظلمة والظلمة لن تدرك أو تقوى على من هو في النور أي ثابت في المسيح، ولا نصدق هذا الكذاب الذي يَدَّعى أن قوته لا تقاوم.
- تفسير إنجيل يوحنا 1 للقمص تادرس يعقوب
- تفسير إنجيل يوحنا 1 للأب متى المسكين
- تفسير إنجيل يوحنا 1 للقمص أنطونيوس فكري