اجذبني وراءك فنجري
اجذبني وراءك فنجري (1: 4أ)
هنا العروس تنادي المسيح وتطلب منه أن يجذبها فتجري في الحياة الروحية. والمسيح يُجيبها في نفس الأصحاح قائلاً: «نصنع لكِ سلاسل من ذهب مع جُمان من فضة» (ع11). وقد سبق ذلك بقوله «لقد شبَّهتُكِ يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون» (ع9).
معروف أن الفرس تُربط بلجام وبهذا اللجام يجتذبها القائد. هنا المسيح يعد أن يصنع لنا سلاسل من ذهب مع جمان من فضة حيث الجمان قطع معدنية صغيرة تكون معلقة في اللجام وتصنع صوتًا بجوار أذن الفرس.
الذهب دائمًا يُشير إلى اللاهوت فالسلاسل من ذهب هي وسائل الجذب الإلهية التي من طبيعة الله. الروح القدس أساسًا هو السلسلة الذهبية التي يجذبنا بها المسيح إليه. وهو يعمل بالأسرار الكنسية وبكلمة الله أي الإنجيل، فهذه هي وسائل الجذب الذهبية الإلهية. أمَّا الفضة فهي أقل قيمة من الذهب. فالجمان من فضة يمكن أن تكون نصائح القديسين، توجيهات الأب الروحي والكتب الروحية. هذه وتلك هي وسائل النعمة الإلهية التي يجذبنا بها المسيح.
يقول الله في سفر هوشع النبي: «كنتُ أجذبهم بحبال البشر، بربطِ المحبة» (هو 11: 4) البشر لا ينجذبون بحبال كالحيوانات ولكنهم ينجذبون بحبال معنوية هي حبال المحبة أو «ربط المحبة». هنا الرب يتكلم عن جذبه لشعبه إسرائيل بوسائل المحبة وهي نبوة عن الجذب الإلهي الذي وعدنا الرب يسوع المسيح أن يجذبنا به قائلاً «وأنا إن ارتفعتُ عن الأرض أجذب إليَّ الجميع» (يو 12: 32).
هذا الجذب الإلهي هو أفضل شيء نطلبه من المسيح، وهو أكثر شيء يشتهي المسيح أن يُعطينا إياه، ذلك لأن شهوة المسيح المُفضّلة هي التي عبر عنها قائلاً: «آتي وآخذكم إليَّ حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضًا» (يو 14: 3) وأيضًا: «أيها الآب أُريد أن الذين أعطيتني يكونون معى حيث أكون أنا لينظروا مجدي» (يو 17: 24). هذا يعني أن شهوة المسيح المُفضلة هي أن يجذبنا إلى حيث يكون هو . وهو لا يعني بهذا الجذب الانتقال المكاني بقدر ما يقصد الارتقاء في الحالة الروحية فأن نكون حيث يكون هو تعني أن نكون على نفس الحالة الروحية السامية التي يكون المسيح فيها فشهوة المسيح هي أن يجذبنا إلى نفس هذا المستوى الروحي الذي يكون هو فيه.
فهذا الجذب الإلهي إذن ليس هو انتقالاً مكانيًا بقدر ما هو ارتقاء في القداسة، في المحبة، وفي كل فضيلة هذا الارتقاء في المستوى الروحي إلى مشابهة المسيح روحيًا يُقابلنا في مواضع كثيرة من العهد الجديد.
يقول ق. بولس: «عينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه، ليكون هو بكرًا بين إخوة كثيرين» (رو 8: 29)، وأيضًا:« ننتظر مُخلّصا هو الرب يسوع المسيح الذي سيُغَيّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده، بحسب عمل استطاعته أن يُخضع لنفسه كل شيء» (في 3: 20-21). فالمسيح سيُغَيّر شكل جسد مذلتنا، سيغير صورتنا البشرية الذليلة، لتكون على صورة جسد مجده في الفضيلة وفي الحب الإلهي وفي القداسة وفي الوجود أمامه بلالوم في المحبة. هذا الارتقاء إلى مستوى المسيح نفسه هو الذي يقول عنه ق. يوحنا في رسالته الأولى: «سنكون مثله لأننا سنراه كما هو ! » (1يو 3: 2). فبمجرد أن نتواجد أمام هو المسيح سننجذب إلى نفس المستوى الروحي الموجود هو فيه، «ونكون مثله»! هذا الذي يقول عنه ق بولس: «الصانع ملائكته أرواحا وخدامه لهيـب نـار» (عب 1: 7) «لأن إلهنا نارٌ آكلة» (عب 12: 29) . الله نار اكلـة وهـو ينقل ملائكته وخدامه الذين نحن منهم إلى لهيب ،نار بمعنى أنه يجذبنا إلى نفس الحرارة الروحية الموجودة فيه.
المسيح له بحال جذب إلهي مثل مجال المغناطيس، أو مثل محال الجاذبية الأرضية التي تجذبنا بها الأرض إلى أسفل. ولكن محال جذب المسيح بحال فائق، أقوى بما لا يُقاس من محال الجاذبية الأرضية، لأن هذه مخلوقة، أما جاذبية المسيح جاذبية الخالق. الجاذبية الأرضية تجذبنا إلى أسفل إلى كل ما هو أرضي وترابي، وهذا الجذب السلبي هو مفهوم الفساد”. فالفساد هو الانجذاب إلى تراب الأرض وإلى الانحلال إلى تراب الأرض، وبالتالي إلى الفناء والعدم. هذا هو مفهوم الفساد“ عند الآباء: الميل للعودة إلى العدم الذي خرجنا منه .
وأمَّا جذب المسيح فهو جذب إلى فوق إلى الارتقاء إلى نفس مستوى المسيح في الحب والقداسة والفضيلة وكل المطلوب منا هو أن نتجاوب مع هذا المجال الإلهي. لأن محال الجذب الإلهي موجود ومحيط بنا، ونحن مغمورون فيه، وكـل مـا علينا هو أن نستجيب له نتركه يجذبنا إليه بحسب ما يشتهيه.
هذا الجذب الإلهي أي جاذبية المسيح هو مضمون مفهوم «نعمة المسيح»، وهو مفهوم مهم جدًا في العهد الجديد وعند الآباء. ق. بولس في رسائله ينسب النعمة باستمرار إلى المسيح «نعمة ربنا يسوع المسيح تكون مع جميعكم» عبارة متكررة بكثرة في نهاية الرسائل. وقد دخلت أيضًا في الليتورجية: «محبة الله الآب ونعمة ربنا يسوع المسيح وشركة الروح القدس تكون معكم».
ونلاحظ هنا أن النعمة التي تُنسب عادةً للمسيح. ربما كنا نتوقع أن تُنسب المحبة للمسيح فيقول «محبة المسيح تكون معكم، ولكنه لم يَقُل هذا. فالمحبة تُنسب عادة الله الآب، لأنه هكذا أحب الله العالم …» (يو 3: 16)، ولكن الذي يُنسب للمسيح هو النعمة، لأن المسيح هو الذي تحشد، والنعمة هي النتيجة المباشرة لكل ما حققه المسيح في الجسد لأجلنا. مفهوم النعمة هو أنها النتيجة المباشرة لكل ما حققه الرب في جسده لكي ينقله من جسده إلى أجسادنا، أو كما يقول ق. كيرلس حتى يشعه فينا بالمشاركة وهو معنى يتكرر كثيرا في كتاباته. فمثلاً المسيح تغلب على الشيطان على جبل التجربة لكي يشع فينا القدرة على أن نغلب الشيطان.
هذا هو مفهوم «نعمة المسيح» أن كل ما حقَّقه الرب في جسده أثناء حياته الجسدية على الأرض فهو قد حققه لكي يستطيع أن ينقله من جسده إلى أجسادنا بالنعمة. هذا هو مضمون نعمة المسيح، فالنعمة لا تأتي من فراغ، ولكنها تأتي من صميم ما حققه الرب في الجسد لأجلنا. فإن كان الرب مثلاً في جثسيماني قد غلب غريزة الخوف من الموت، فلكي ينقل إلينا هذه القدرة على التغلب على الخوف من الموت. وإن كان الرب قد عاش الحب البنوي في حياته الأرضية، فلكي ينقله إلينا بالمشاركة. فالمسيح يجذبنا إلى نفس المستوى الذي عاشه هو في القداسة والفضيلة والحب البنوي في الجسد لأجلنا.
هذا هو مفهوم نعمة المسيح أو مفهوم جاذبية المسيح التي وعدنا بها: «وأنا إن ارتفعتُ عن الأرض أجذب إليَّ الجميع» (يو 12: 32). وهي التي تطلبها العروس قائلة «اجذبني وراءك فنجري»، وتطلبها معها كل نفس بشرية.
«اجذبني وراءك فنجري» معناها إذن اجذبني إلى نفس مستوى القداسة والحب الإلهي الذي عشته أيها الرب يسوع في الجسد لأجلنا لكي تجعلنا نرتقي إليه. هذا الجذب الإلهي هو أفضل ما تطلبه النفس وهو ما تطلبه الكنيسة ككل، وهو ما نطلبه نحن لنفوسنا ولديرنا وللكنيسة وللبشرية كلها
«اجذبنا وراءك فنجري»
وأيضا :
«اجذبني وراءك فنجري،
أدخلني الملك إلى حجاله، نبتهج ونفرح بك».
(1: 4)
الآية التي سنتكلم عنها اليوم تتكون من خمسة مقاطع، وكل منها لا يحوي إلا كلمات قليلة جدا:
«اجذبني وراءك فنجري،
أدخلني الملك إلى حجاله،
نبتهج ونفرح بك،
نذكر حبك أكثر من الخمر،
بالحق يحبونك!»
نلاحظ في هذا الأسلوب المتقطّع الذي يأتي في جمل قصيرة جدًا متتالية، أنه يمثل لغة الحب التي تتدفق نبضات القلب السريعة المتقطعة. هذا من جهة الأسلوب الإنشائي الذي يتألف تماماً مع مضمون الآية.
سبق أن قلنا إن أبانا الروحي شَبَّهَ سفر نشيد الأنشاد في وسط الأسفار بموقع الراهب في وسط بقية المؤمنين، فيوجد من لا يفهمه ويوجد من يعتبره بلا أهمية وآخر ينتقده؛ هكذا هذا السفر، كثير من الناس لا يفهمونه ويتشككون في منفعته.
ولكنه في الواقع يحتل موقع القلب بالنسبة لبقية الأسفار، فهو يتكلم عن كيفية ممارسة أعظم وصية: «تحب الرب إلهك من كل قلبك».
هكذا الراهب في وسط بقية المؤمنين أو في وسط الكنيسة، فهو يحتل موقع القلب بالنسبة للجسد وأهمية القلب بالنسبة للجسد معروفة. الراهب يمثل الحب المقدم محانًا للمسيح، والمسيح امتدح محبة مريم ودافع عنها أمام انتقاد مرثا. كذلك مدح المسيح المرأة الخاطئة وقال إن خطاياها الكثيرة مغفورة لها. لماذا؟ «لأنها أحبت كثيرًا».
1. «اجذبني وراءك فنجري»
يلاحظ هنا أن الحب الإلهي يبدأ من المسيح، فهو الذي يجتذبنا: «المحبة هي من الله» (١ يو ٤ : ٧. وهذا يشبه المعنى الذي وجدناه في الآية التي يبدأ بها هذا السفر: ليُقبلني بقبلات فمه» (۱ : ۲).
وكلمة «اجذبني» تُذكرنا بوعد المسيح الذي يُعتبر من أثمن وأقوى وعوده: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع» (يو 12: 32). في الحقيقة إنه لو لم يكن في الإنجيل كلّه غير هذا الوعد فقط، لكان هو وحده كافيا لأن يجتذبنا من الأرض إلى السماء.
الأرض لها أيضًا محال جذاب، إنها مثل مغناطيس ضخم، ولكنها تجذبنا إلى أسفل، تشدنا إلى ترابها، وإلى كل الأمور التي من تراب الأرض، والتي «نهايتها الموت» (رو 6: 21). أما جاذبية المسيح، فهي من نوع آخر تماما، إنها جاذبية إلى فوق. وحينما نقول إلى فوق لسنا نقصد بذلك الـ ” فوق المكاني؛ فالرب لما قال «وأنا إن ارتفعت عن الأرض…» ما كان يقصد بذلك ارتفاعه بالصعود، كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن ولكنه كما يؤكد القديس يوحنا كان يُشير بذلك إلى ارتفاعه على الصليب ليس ارتفاعًا مكانيًا لمسافة مترين أو ثلاثة فوق سطح الأرض، ولكنه ارتفاع روحي معنوي، ارتفاع في مستوى المحبة اللانهائي الذي تجلى بصليب المسيح. إلى هذا الارتفاع يجذبنا الرب من فوق الصليب بموجات جاذبية روحية أقوي بما لا يُقاس من كل جاذبية أرضية أخرى.
حينما نقف أمام صليب المسيح، نوجد في محال جاذبية حب المسيح، وهنا يتحقق فينا قول الرسول: «لأن محبة المسيح ،تحصرنا إذ نحن نحسب هذا أنه إن كان واحد قد مات لأجل الجميع، فالجميع إذن ماتوا. وهو مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام» (2كو 5: 14-15)
فمحبة المسيح تجعلنا مسبيين بحبه، بحيث لا نستطيع أن نتحرك إلا بما يتوافق مع حبه لنا، مقدمين له حبنا في المقابل.
هذه الجاذبية الروحية نراها في آية أخرى في العهد القديم في سفر هوشع: «كنت أجذبهم بحبال البشر بربط المحبة» (هو 11: 4). فما هي حبال البشر التي يجذبنا بها الله؟ إنها ليست حبالاً مادية؛ ولكنها “ربط المحبة” أي نفس جاذبية المسيح التي يجذبنا بها بأواصر محبة أقوى بلا قياس من جاذبية تراب الأرض التي تشدُّنا لأسفل وللموت والعدم والفساد ولانعدام الكيان. أما جاذبية المسيح فهي تشدنا. عن طريق الحب الإلهي إلى البقاء والخلود والحياة الأبدية.
«اجذبني… فنجري»: نلاحظ هنا أن الضمير في كلمة «اجذبني» هو للمتكلم المفرد، ولكن العجيب أن ردّ الفعل لهذا الجذب يأتي بالجمع! فهو بدلاً من أن يقول: «فأجري»؛ يقول: «فنجري»، أي بالجمع!! ولكن، من هؤلاء الذين يجرون نتيجةً لجذبه لي؟ إنهم أنا ومعي كل النفوس هذا يُعبّر عن سر روحاني، فالنفس التي ترتقي روحيًا، لا ترتفع بمفردها، ولكنها ترفع معها النفوس التي حولها، بل ويمتد تأثيرها إلى الذين ليس لهم سابق المرتبطة بي. معرفة بها.
وكمثال لذلك، الأنبا بولا، لم يره أحدٌ طيلة فترة تواجده في الصحراء، ولكن ارتفاعه الروحي ، كان له تأثير كبير على البشرية كلها دون أن يدري.
في مزمور: «فاض قلبي» يقول عن ابنة الملك: «كل مجد ابنة الملك داخل». هذا هو الحب الإلهي الذي يعمل داخل القلب دون أن يدري بـه الآخرون. ولكن انظر النتيجة «تدخل إلى الملك عذارى في أثرها جميع قريباتها إليه يُقدَّمن، يبلغن بفرح وابتهاج، يدخلن إلى هيكل الملك». هكذا النفس التي تنجذب وراء المسيح لا تدخل وحدها، بل إن النفوس التي حولها تتبعها وتبلغ بفرح إلى ما بَلَغَتْه .
إبصالية الأربعاء تتكلم عن الالتصاق بالمسيح بتلاوة اسمه المبارك، اسمـه المخلص
إذا ما لازمناه: :
في إنساننا الداخلي :
فهو يجعلنا أغنياء :
حتى نعطي آخرين.
بمعنى أننا عندما نلازم الرب يسوع في قلوبنا ونثبت فيه وهو فينا، فهذا يجعلنا أغنياء حتى نعطي آخرين وطبعًا الغنى المقصود هو غنى روحي، والعطاء المقصود هو أيضًا عطاء روحي.
ولكن ما هو تطبيق هذا الكلام علينا عمليا، كرهبان؟
نحن مجمع رهبان عمَّالين نقضي ساعات طويلة في العمل مع عمال، وتنظم أمور الشغل هنا وهناك… ولكن ما المانع أنه في وسط هذا الشغل الخارجي يكون لنا من الداخل هذيذ بعبارات نُردّدها باستمرار ونلتصق بواسطتها بالرب يسوع، كما تعلمنا . من قديسنا الأنبا مقار الذي كان يهد على الدوام بعبارة: [يا ربي يسوع المسيح، يا حبيب نفسي]؟ لماذا لا نفعل مثله ونقول مثلاً: يا رب يسوع، يا حبيب نفسي الوحيد اجذبني وراءك فنجري ليس وحدي فقط بل وإخوتي أيضا الذين يعملون معي]؟
في الحقيقة إن الإنسان الروحي له محال محال روحي يُحيط به دون أن يدري هو نفسه، ولكن الآخرون يشعرون به يقولون إن الله موجود في هذا المكان، مما يجعلهم يتوقفون عن أي هزار أو كلام غير لائق. والسبب في ذلك هو أن هذا الراهب قلبه من الداخل شغال واسم الرب يسوع لا يُفارقه من الداخل، وهنا تتحقق الآية: «اجذبني وراءك فنجري…».
2. «أدخلني الملك إلى حجاله»
ججال الملك حجرته الداخلية الخاصة والمقصود بها هنا هو بيت الله. هي وهذه الآية لها رنين خاص في قلب الراهب السعيد بوجوده في بيت الله. إنها نعمة معطاة له ولم تعط لغيره، أن يعيش ليلاً ونهارًا في حجال الملك». مبارك الراهب الذي يُقدِّر هذه النعمة ويُكرّمها ، ولا يفتر أبدًا مهما طالت به الأيام أن يشكر ويسبح المسيح عليها.
منذ أول لحظات يومنا الرهباني يدعونا المزمور الطويل في نصف الليل أن نشكر الله على هذه النعمة:
«خيرا صنعت مع عبدك …» بأن أحضرتني إلى بيتك بدون استحقاق مني!
«صغير أنا عن جميع ا ألطافك الأمانة التي صنعت إلى عبدك» (تك 32: 10). فمَنْ أنا حتى تسكنني في ديارك إلى الأبد؟
«بماذا أكافئ الرب عن كل ما أعطانيه؟» (مز115). وجميع
فجيد للراهب أن يتذكر هذه الآيات في نصف الليل حينما يقول: «خيـرًا صنعت مع عبدك …»، ويقوم ويسجد ويفرح ويشكر على وجوده في هذا المكان المقدس. ولسان حاله هو ما تقوله الكنيسة في القداس الإلهي، في مقدمه القسمة:
[وأيضًا فلنشكر الله ضابط الكل… لماذا؟ لأنه جعلنا أهلاً أن نقف في هذا الموضع المقدس ونرفع أيدينا إلى فوق ونخدم اسمه القدوس …] .
هذه الصلاة يشعر الراهب السعيد بوجوده في هذا الموضع المقدس، أنها تخصه هو أكثر من غيره. فبقية المؤمنين يشكرون على وجودهم في هذا الموضع المقدَّس لبضع ساعات، أما هو فليلاً ونهارًا. وشكر الراهب وتسبيحه على هذه النعمة هو سر حرارته الروحية وسر استمرارها. “لأنه ليست عطية بلا زيادة إلا التي ينقصها الشكر”.
أبرار العهد القديم كانت لهم اشتياقات شديدة إلى بيت الله والدخول إلى مسكنه، بل وأن يعيشوا فيه لو أمكن كل أيام حياتهم. هذه المعاني تتكرر كثيرًا في سفر المزامير . فمثلاً مزمور : «الرب نوري وخلاصي» (مز 26 في الأجبية) يقول فيه المرنّم: «واحدةً سألتُ من الرب وإياها ألتمس: أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي لكي أنظر نعيم الرب وأتفرس في هيكله المقدس».
ونحن في العهد الجديد قد انكشف لنا أن بيت الرب وهيكله لم يعد ذاك المصنوع من حجارة. أشار القديس يوحنا إلى ذلك بوضوح في تعليقه على قول الرب لليهود: «انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أُقيمه»، فعلق على ذلك قائلاً: «أما هو فكان يقول عن هيكل جسده» (يو 2: 20-21). فبيت الله وهيكله أصبح معناه في العهد الجديد هو جسد المسيح هو الكنيسة التي هي جسده، الذي نحن جميعًا كائنون فيه.
وفي سفر الرؤيا يصف القديس يوحنا أورشليم السمائية ويعطي أبعادها ويُعدّد أنواع حجارتها الكريمة، ثم يقول: «ولم أرَ فيها هيكلاً». لماذا؟ «لأن الرب الله القادر على كل شيء هو والخروف هيكلها» (رؤ 21: 22). فالهيكل في عهدنا الجديد لم يعد هيكلاً ماديًا، بل صار هو الرب نفسه.
وفي إنجيل يوحنا يقول الرب في صلاته الأخيرة: «… ليكونوا هم أيضًا واحدًا قمة هي فينا» (يو 17: 21) حيث كلمة فينا هذه تُعتبر قمة هذه الصلاة التي إنجيل يوحنا.
لذلك حينما نقرأ المزامير يجب أن نترجم كل اشتياقات أبرار العهد القديم لهيكل الرب إلى اشتياقات لسكنانا نحن في المسيح وللوجود فيه، كما يقول بولس الرسول: «وأوجد فيه» (في3: 9) ذلك الوجود الذي من أ أجله خسر كل الأشياء وهو يحسبها نفايةً!
أمثلة أخرى لمزامير الاشتياق إلى بيت الله :
+ «فرحت بالقائلين لي إلى بيت الرب نذهب» (مز 121)، وهو المزمور الذي توصي الكنيسة بتلاوته ونحن في طريقنا إلى الكنيسة.
+ «مساكنك محبوبة يا رب إله القوات تشتاق وتذوب نفسي للدخول إلى ديار الرب…» (مز 83) ، وهو يُقال أثناء الدخول إلى الكنيسة قبل السجود أمام الهيكل.
+ «طوبي للذي تختاره وتُقرّبه ليسكن في ديارك. لنشبعنَّ من خير بيتك، قدس هيكلك» (مز 65: 4).
+ «ما أكرم رحمتك يا الله فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون، يروون من دسم بيتك ومن نهر نعمك تسقيهم» (مز 36: 7) حيث “ظل الله” هو كناية عن محاله الإلهي، كما تقول العروس في نشيد الأنشاد: «تحت ظله اشتهيتُ أن أجلس وثمرته حلوة في حلقي» (نش 2: 3).
هذه الآيات، وغيرها الموجودة في المزامير وسفر النشيد تمثل تطلعات أبرار العهد القديم، كما في لغز إلى الحقيقة التي نعيشها نحن الآن. كانوا يتحسسون هذه الحقيقة الروحية، والروح القدس كان يُزَكِّي في قلوبهم الاشتياق إليها، من قبل أن تستعلن ومن قبل أن ينالوها. ولكن نحن في العهد الحديد، انكشف لنا أن بيت الله هو جسد الرب:
«مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية الذي فيه كل البناء مركبًا معًا ينمو هيكلاً مقدَّسًا في الرب، الذي فيه أنتم أيضًا مبنيون معًا مسكنا لله في الروح» (أف 2: 20-22).
فهيكل الله وبيت الله هو نحن في المسيح، كما يقول سفر العبرانيين:
«وبيته نحن إن تمسكنا بثقة الرجاء وافتخاره ثابتةً إلى النهاية» (عب 3: 6).
فنحن هيكل الله في العهد الجديد:
«أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم؟… لأن هيكل الله مقدس الذي أنتم هو» (1كو 3: 16-17).
«أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم، الذي لكم من الله» (1كو 6: 19).
«فإنكم أنتم هيكل الله الحي» (2كو 6: 16).
والقديس بطرس أيضًا في رسالته الأولى يُقرّر نفس الحقيقة:
«كونوا أنتم أيضًا مبنيين كحجارة حية بيتًا روحيا كهنوتًا مقدسًا، لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح» (1بط 2: 5).
فكلما وجدنا في أسفار العهد القديم اشتياقا إلى بيت الله أو إلى هيكل الله، أو كما في الآية الحاضرة – فرحًا وابتهاجا بالدخول إلى حجال الملك، ينبغي أن نترجمه إلى اشتياق وفرح وابتهاج بوجودنا في المسيح!
هذا التعبير: «في المسيح ومرادفاته مثل «فيه»، و«في يسوع» مكرر مئات المرات في رسائل بولس الرسول. هذه هي النعمة العظمى التي نحن فيها الآن مقيمون، والتي ستبقى معنا في الأبدية السعيدة والتي نحن مدعوون أن نتذوقها ونبتهج ونفرح بها منذ الآن حتى نتمتع بها في الأبدية السعيدة.
السر الأعظم في الحياة المسيحية هو وجود المسيح فينا ووجودنا نحن في المسيح، والتعبيران مترادفان ولهما نفس المضمون الروحي
«في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي وأنتم فيَّ وأنا فيكم» (يو 14: 20).
«أدخلني الملك إلى حجاله»، أي إلى سرّه الداخلي الخاص، أي إلى العلاقة التي بين الآب والابن إلى الشركة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح: «الذي رأيناه وسمعناه نُخبركم به لكي يكون لكم شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح» (1يو 1: 3).
هذه الشركة مع الآب والابن تولّد أعظم فرح يمكن أن تفرح به البشرية. لذلك يستطرد قائلاً:
«ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً» (1يو 1: 4).
هذا هو فرح الشركة مع الآب والابن. هذا هو الفرح الكامل الذي به ينبغي أ أن نبتهج ونفرح بلا حدود!
3. «نبتهج ونفرح بك»
كثيراً ما كان أبونا متى يقول: «افرح بخلاصك، يزداد خلاصك». ذلك لأنه بحسب مبدأ مار إسحق : [ليس عطية بلا زيادة إلا التي بلا شكر]. فبقدر ما تفرح وتشكر على خلاصك، بقدر ما يزداد هذا الخلاص. فالفرح الروحي هو الذي يجعل الراهب ينمو ويتقدم روحيًا.
هذه الحقيقة كانت من أهم مبادئ الأنبا أنطونيوس، ونرى ذلك بوضوح سواء في رسائله أو في سيرة حياته التي كتبها .ق. أثناسيوس أو في أقواله في بستان الرهبان. ففي رسائله : كثيرًا ما نراه يُوصي أولاده بالفرح الروحي، معتبرا أن هذا الفرح له الدور الأساسي في نمو الإنسان روحيًا. فهو كالماء للغروس الجدد (رسالة 13: 1)، وكاللبن للطفل الرضيع (رسالة 18: 4):
[هذا الفرح يغني النفوس ويجعلها تنمو بزيادة. فكما أن الأشجار إن لم تشرب من طبيعة الماء لا يمكنها أن تنمو؛ فهكذا النفس إذا لم تقبل الفرح السمائي لا يمكنها أن تنمو وتصعد إلى العلاء. أما النفوس التي قبلت الفرح السمائي فهي التي تستطيع أن تنمو إلى العلاء]
(رسالة 13: 1)
وفي الرسالة 18 يقول:
[هذا الفرح يُربِّي عقولهم ويُغذِّيها، لأن النفس تترقى دائما بهذا الفرح، وتستعد به وبه تصعد إلى السماء؛ كما أن الجسد قوامه وثباته بالخبز والماء وبما شابه ذلك من بداية حياته إلى نهايتها. فإننا نرى الطفل يتربى بلبن أمه، ثم بالطعام الرطب … وهكذا يتقوى ويجسر قلبه على أعدائه المقاومين له… فهكذا نفس الإنسان إذا لم يكن فرح الله فيها، فإنها توجد مريضة ومطروحة بجراحات خبيثة. فإذا هي اجتهدت في طلب إنسان خادم الله وعارف بالطب الروحاني، وتمسكت به فإنه يشفيها من أوجاعها، فتقوم دفعة أخرى، ويُعلّمها أمور الله. وهكذا تستعيد ذلك الفرح الذي هو طعامها] (رسالة 4:18).
وفي سيرته يقول في عظته الطويلة للرهبان الذين اجتمعوا حوله:
[يجب أن لا نحزن كأننا قد هلكنا؛ بل بالحري لنتشجع ونفرح دواما واثقين أننا آمنون لنذكر فى نفوسنا أن الرب معنا… (لأن الشياطين) إن وجدتنا في حالة جبن واضطراب فإنها تقتحم المكان في الحال كلصوص إذ تجده بغير حراسة. وتفعل ما تجدنا مفكرين فيه بل وأكثر أيضًا. لأنها إن وجدتنا خائري القلب وجبناء ازدادت في إرهابنا بعنف بتضليلاتها وتهديداتها، وبهذه تتعذب النفس التعسة من ذلك الحين].
فالنفس التي لا تفرح بالرب تكون نتيجةً لذلك خائفة من الشياطين. والشيطان سلاحه الأول هو الخوف.
[أما إن وجدتنا فرحين في الرب، متأملين في سعادة المستقبل، مسلّمين كل شيء إلى يده، وواثقين أنه لا قوة لأي روح شرير ضد المسيحي، فإنها تندحر وترجع إلى الوراء….
وهكذا إن أردنا احتقار العدو،
فلنتأمل دواما في الإلهيات،
ولتفرح النفس في الرجاء] (حياة أنطونيوس، فصل 41).
وفي أقواله في بستان الرهبان سُئل مرة أنبا أنطونيوس:
[ما معن معنى قول الرسولِ : افرحوا بالربّ»؟ فقال: «إذا فرحنا بإتمام الوصايا فهذا هو الفرحُ بالربِّ. فلنفرح بتكميل وصايا الرب وبنجاح إخوتنا ]
يُلاحظ في الحالتين أن الفرح بالرب هو الفرح بنجاح نعمة المسيح سواء فينا أو في إخوتنا. وهكذا يكون فرحنا ” بالرب” وليس بنفوسنا. أما بقية القـول فهي:
[ولنحفظ أنفسنا من فرح العالم ومن الضحك، إن أردنا أن نكون من خواص ربنا ] (بستان الرهبان، قول رقم 20).
وهذه التكملة الأخيرة مهمة جدًا، ذلك لأنها تُفرّق بين شيئين يمكن أن يختلط الأمر بينهما بسهولة عند غير المُدركين أسرار الطريق الإنسان الساذج، الذي ليست له معرفة روحية، يظن أن الضحك وفرح العالم لا يتناقض مع الفرح بالرب. ولكن الحقيقة هي عكس ذلك تمامًا؛ ففرح العالم يقتطع من الفرح الروحي. فالذي يفرح بفرح العالم عندما يعود إلى قلايته لا يجد قوة للصلاة، وكأنه صار فارغا من الطاقة الروحية.
وأخيرًا نقول إن سرَّ استمرار الحرارة الروحية وسرَّ النجاح الروحي في قلب الراهب هو الفرح بالرب، فعلى قدر ما نفرح ونشكر الرب، على قدر ما تزداد علاقتنا به وتنمو بالأكثر .
4. «نذكر حبك أكثر من الخمر»
سبق أن أن قالت العروس «لأن حبَّك أطيب من الخمر» (1: 2) ، وقد سبق أ شرحنا هذه الآية بتفصيل. ولكن الذي تتميّز به الآية الحاضرة عن شبيهتها السابقة هو معنى استمرارية الاشتياق : فكما أن الذي ألف الخمر – أو أي نوع من المكيفات – لا يستطيع أن ينساها، فإذا مُنعت عنه لأي سبب من ا الأسباب يبقى مشتاقًا إليها على مدى اللحظات، ولا يستطيع أن يتناساها ولا يجد راحة بدونها، هكذا النفس التي ذاقت حب الله تبقى مشتاقة إليه على مدى اللحظات، ولا تستطيع أن تجد راحة ولا إلى لحظة بدونه.
[إن النفوس التي تحب الحق، وتحب الله … لا تحتمل ولا إلى لحظة أن تكون محرومة من حبّها المشتعل للرب واشتياقها السمائي له] القديس أنبا مقار، عظة 10: 1
5. «بالحق يحبونك»
تعني: “الذين يحبونك مُحقون، (معاهم حق)، لأنك أنت يا رب جدير بأن تُحب”. عندما ينكشف للعروس كم فعل العريس من أجلها، وكم هو طيب وصالح تقول العروس: “إنك حقًا مستحق بأن تُحب، فمحبتك لا مثيل لها وجديرة جدا بأن تقابل بالحب لأن ما فعله لأجلنا يأسر القلوب: «محبة المسيح تحصرنا».
صلاة
وربنا وإلهنا وحبيبنا يسوع المسيح ، يا من أسرت قلوبنا بحبك،
نشكرك يا من اجتذبتنا من الشوارع ومن أقصاء البلاد،
كنت تجتذبنا بحبال البشر بربط المحبة
حتى أتيت بنا إلى هذا المكان.
لم تكن تريد منا شيئًا سوى أن نتمتع بك ونفرح بك. ا
جعلنا يا رب، نكون أمناء في الشكر والتسبيح،
لا تتركنا نفتر أو نجحد نعمتك.
نحن صغار جدًا، يا رب، إزاء كل النعم التي قدمتها لنا.
«صغير أنا عن كل ألطافك وعن الأمانة التي الأمانة التي صنعتها مع عبدك»
نحن مديونون لك دينا لا نهائيًا على اختيارك لنا لنكون من خواصك.
لا تجعل الحرارة تفتر من قلوبنا، لا تتركنا نخونك، نخون عهد المحبة.
بالحق حبك يحصرنا، فلا تجعلنا نهرب من هذا الحصار.
حبك يجذبنا فلا تسمح بأننا نخرج خارج مجال هذا الجذب؛
بل باستمرار نبتهج ونفرح بك“، ”نتلذذ بك“، نتمتع بك،
ومقابل ذلك تعطينا سؤل قلوبنا.
نطلب منك يا رب، كلما رأيتنا نخون حبك،
أو نسقط من مجال نعمتك، أو نبتعد عنك بأي طريقة؛
أن تعود مرة أخرى وتجذبنا من جديد،
تشدّنا مرة أخرى بربط المحبة وبحبال البشر.
استجب لنا يا رب بشفاعة أنبا مقار وكل أولاده لباس الصليب،
وبشفاعة جميع الأرواح البارة التي عاشت في هذه البرية
حارة بالروح إلى يوم خروجها من الجسد،
واستمرت بهذه الحرارة بل وأكثر منها بلا قياس في الملكوت،
بشفاعة هؤلاء المُسبِّحين الذين كللوا بالمجد أعطنا ميراثهم،
واسمعنا، أيها الآب السماوي حينما نقول لك بصوت ابنك أبانا الذي…