يو5: 24 …إن من يسمع كلمتي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية…
“24«اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ. 25اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ، حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللهِ، وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ. 26لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، كَذلِكَ أَعْطَى الابْنَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، 27وَأَعْطَاهُ سُلْطَانًا أَنْ يَدِينَ أَيْضًا، لأَنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ. 28لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هذَا، فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، 29فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ. 30أَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئًا. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ، وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ، لأَنِّي لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي.” (يو5: 24-30)
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلمتي ويؤمن بالذي أرسلني،
فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة،
بل قد انتقل من الموت إلى الحياة”. (24)
تعاليمه، أي إنجيل خلاصه، هي بذار الحياة الأبدية الغالبة للموت أبديًا، متى زُرعت في القلب ترفع المؤمن فوق الموت الأبدي والدينونة في يوم الرب العظيم. لن يدخل مدينة الموت التي تحبس النفوس التي حرمت نفسها من مصدر الحياة. إنما تعبر النفس إلى إمبراطورية الحياة، ينال المؤمن مواطنة جديدة، عوض بلدة الموت يتمتع بالمواطنة السماوية ليحيا فيها أبديًا في مجدٍ سماويٍ وينطق بلغةٍ سماويةٍ.
إن كانت الحياة الأبدية لا ترتبط بالزمن، فإن عربون هذه العطية يُقدم في الحياة الحاضرة، لننمو فيها حتى تتمتع بكمالها في الحياة العتيدة.
v إنه لم يقل: “إن من يسمع كلمتي ويؤمن بي” (بدلاً من يؤمن بالذي أرسلني)… لأنه إن كان بعد صنع ربوات المعجزات لفترة طويلة تشككوا فيه عندما تكلم في فترة لاحقة بهذه الطريقة “إن كان أحد يحفظ كلمتي فلن يرى الموت إلى الأبد” (يو 8: 51)، وقالوا له: “قد مات إبراهيم والأنبياء، وأنت تقول إن كان أحد يحفظ كلتمي فلن يذوق الموت إلي الأبد؟” (يو 8: 52)، فلكي لا يصيروا هنا في غضب شديد، انظروا ماذا يقول؟ “إن من يسـمع كلمتي، ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية” (24). لهذا القول أثره غير القليل في قبول مقاله، عندما يتعلمون أن من يسمعونه يؤمنون أيضًا بالآب، فإنهم إذ يقبلون هذا بسهولة، يمكنهم أن يقبلوا بقية المقال بسهولة. حديثه بطريقة متواضعة ساهمت وقدمتهم إلي الأمور العلوية. فإنه بعد قوله “له حياة أبدية” أضاف: “ولا يأتي إلي دينونة، بل يكون قد انتقل من الموت إلي الحياة ” (24).
v بهذين الأمرين جعل مقاله يُقبل بسهولة. أولاً لأن الآب هو الذي نؤمن به، وبعد ذلك الذي يؤمن يتمتع ببركاتٍ كثيرة. عدم الآتيان إلى دينونة يعني عدم العقوبة، إذ لا يتحدث هنا عن الموت، بل الموت الأبدي، وأيضًا عن الحياة بلا موت.
v إذ يحب البشر أن يعيشوا على هذه الأرض وُعدت لهم الحياة، وإذ يخشون الموت جدًا وُعدوا بالحياة الأبدية.
ماذا تحبون؟ أن تعيشوا. ستنالون هذا.
ماذا تخشون؟ أن تموتوا. ستكون لكم حياة أبدية…
لنحب الحياة الأبدية، بهذا نعرف كيف يلزمنا أن نجاهد كثيرًا من أجل الحياة الأبدية.
v ليس سلطان الابن يزيد، بل معرفتنا عن هذا السلطان هي التي تزيد. وليس ما نتعلمه يضيف إلى كيانه شيئًا، وإنما يضيف إلى نفعنا حتى أننا بمعرفتنا للابن ننال حياة أبدية. هكذا في معرفتنا لابن الله ليست كرامة له، بل فائدتنا هي المعنية.
v إن الروح رغم اتحادها مع اللّه فهي لا تشعر بملء السعادة بطرقةٍ مطلقة. إنما كلما تمتعت بجماله زاد اشتياقها إليه.
إن كلمات العريس روح وحياة (يو 24:5)، وكل من التصق بالروح يصير روحًا. كل من التصق بالحياة ينتقل من الموت إلى الحياة كما قال الرب.
هكذا فالروح البكر تشتاق دائمًا للدنو من نبع الحياة الروحية. النبع هو فم العريس الذي تخرج منه كلمات الحياة الأبدية. إنه يملأ الفم الذي يقترب منه مثل داود النبي الذي اجتذب روحًا خلال فمه (مز 131:118).
لما كان لزامًا على الشخص الذي يشرب من النبع أن يضع فمه على فم النبع، وحيث أن الرب ذاته هو النبع كما يقول: “إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب” (يو 37:7)؛ لذلك فإن الأرواح العطشانة تشتهي إن تضع فمها على الفم الذي ينبع بالحياة ويقول: “ليقبلني بقبلات فمه” (نش 2:1).
من يهب الجميع الحياة، ويريد إن الجميع يخلصون، يشتهي أن يتمتع كل واحد بنصيب من هذه القبلات، لأنها تطهر من كل دنس.
تفسير الأب متى المسكين
24:5- «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ.
مرة أخرى يستعلن المسيح الوحدة الترابطية بين الآب والابن إنما بصورة غير ملحوظة، إذ يعتبر أن الخلاص لا يتم للانسان إلا بالآب والابن. فالإيمان الذي يربط بينهما يؤدي إلى الحياة الأبدية ويعتق من الموت الحقيقي وليس موت الجسد.
ونعود سريعاً إلى قول المسيح: «الحق الحق أقول لكم» التي هي الإعلان الرسمي الإلهي على مستوى القسم، والذي يتصدر حقيقة جديدة كانت مخفية وقد صار إعلانها علنا لتكون ركناً أساسياً في الإيمان المسيحي.
وهنا يلزم أيها القارىء العزيز أن ننتبه غاية الإنتباه، إنما في خشروع وخضوع كلي لسلطان الكلمة، لأن وراءها أعظم عطية يمكن أن ينالها الإنسان على الأرض. وأقدم لك هذه الخطوات لكي تصل إلى سر هذه الآية:
1- مطلوب بساطة قلب وفكر يشبه فكر الأطفال لقراءة وفهم أقوال المسيح وهذا القول بالذات!
2- مطلوب تصديق قلبي وفكري بهدوء وتركيز في المعنى الذي تحويه الكلمات في أقوال المسيح.
3- مطلوب معرفة أن هذه الآية تحمل وصية ضمنية أي ما يشبه الأمر الإلهي، وكل وصية أو أمر إلهي يُقبل فوراً بدون أسئلة جانبية أو طلب زيادة وضوح أو شرح. فالأمر يحمل قوته في قبوله كما هو بدون فحص. وحالما يقبل الإنسان الأمر، يبدأ الأمر يفسر نفسه ويلقن الإنسان كيف يمكن تكميله والحصول على كل ضماناته. هذا ينطبق على كل وصايا المسيح. والأمر, أي الوصية, في هذه الآية: «إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني», يمكن وضعه كالآتي: «اسمع صوتي وآمن بالذي أرسلني».
4- كل وصية للمسيح تحمل معها «وعداً», بمعنى أن كل وصية تحمل معها عطية سخية تفوق العقل, لأن كل وعود المسيح هي فائقة جدأ على الطبيعة. لا يمكن أن يعطي المسيح أمراً أي وصية دون أن يصرح ضمناً بالوعد والعطية السخية التي تتبعها حتماً. وكل وعود المسيح مطلوب تصديقها بالقلب بشدة كما هي.
والوعد الذي في هذه الوصية هو: «له حياة أبدية»، وأنه «لا يأتي إلى دينونة»، أي ينعتق من الدينونة بمغفرة خطاياه، سواء في الحاضر في الضمير أو في المستقبل في الدينونة العامة، بل قد انتقل من الموت الحقيقي (غير الجسدي أي موت الخطية) إلى الحياة (الحقيقية). هذا يتم بالتصديق الإيماني.
والأن مطلوب أن تقرأ الأية مرة أخرى بكل هدوء وعلى مهل وتطبق الشروط السالفة. والنتيجة ستكون في حالة النجاح في التطبيق أن يحصل الإنسان على الإحساس بأن سر الآية قد انفتح على النفس, وأن الإنسان دخل في الكلمات والكلمات دخلت في الإنسان وصار الإنسان في مواجهة المسيح والآب والحياة الآبدية!
أما بعد ذلك فيلزم تكميل الإيمان بدراسة الكلمة ومعرفة دقائق الإيمان وممارسة العبادة كما تفرضها الكنيسة بتدقيق.
«من يسمع كلامي »: السمع هنا ليس سمع الأذن الموصل إلى العقل للفهم المنطقي فحسب، بل يتضمن دخول الكلام, وهو روح, من الأذن إلى القلب ليحركه, لأن الكلمة فيها حياة. إذا تحرك القلب تحت وطأة سماع الكلمة يكون سماعاً صادقأ حقيقيا قال عنه المسيح في سفر الرؤيا: «من له أذن فليسمع ما يقوله الروح» (رؤ7:2). هنا يطلب المسيح أذناً روحية تسمع بالروح! وفي إنجيل القديس متى يقول: «وان أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا (يوحنا المعمدان) المزمع أن يأتي. من له أذنان للسمع فليسمع» (مت14:11-15). هنا يطلب الأذن التي تقبل الحقيقة وما وراءها، لأنه إن كان المعمدان هو إيليا إذن فيسوع هو المسيا الآتي!! والمسيح يطلب الأذن التي تسمع الروح وتفهم القصد وتؤمن بالوعد!!
«يسمع كلمتى »: هنا جدير بنا أن نفرق بين «يسمع صوتي» التي ستأتي في الآية القادمة (25)، و«يسمع كلمتي» في الآية (24). والفرق بينهما كبير، فصوت المسيح قوة روحية حينما يتقبله القلب المشتاق، ترن فيه رنة الحياة وتهتز أوتاره بل جدرانه، كمن يستقبل رب الحياة. أما الكلمة فهي إنجيل الخلاص، والصوت كائن في الكلمة وفي كل آية. الكلمة تمنح حقيقة ومعنى روحياً ووعداً وتأكيداً، وهي قادرة أن تغير وتجدد وتلد من جديد، أما الصوت فهو صوت شخص ابن الله الذي يعلن عن وجوده وسر الحب والحياة والعطف والحنان، وكأن الإنسان بلغ الملكوت: «خرافي تسمع صوتي.» (يو27:10)
ثم يلزما هنا أن نصحح الترجمة العربية، فهي ليست «يسمع كلامي» بل «يسمع كلمتي» (اللوغس) ومعناها الكلي: «يقبلني باعتباري «الكلمة» المتجسد، الابن الوحيد المحبوب ناطقاً بصوت الآب واسمه».
ومعروف أن المسيح بمجرد أن قال كلمته، فقد انقسم العالم إلى من يسمع والى من لا يسمع, إلى مؤمن وإلى رافض، الذي يسمع يؤمن والذي يؤمن «لا يأتي الى دينونة». وهذا اصطلاح يهودي معناه البسيط أنه لا يُطلب حضوره أمام القاضي أو الديان، بمعنى المعافاة المطلقة أو البراءة بدون محاكمة.
«ويؤمن بالذي أرسلني»: المسيح هنا يعتمد على كل ما استعلنه عن الآب. فهو يطالب كل من يعرف الآب كما استعلنه المسيح، أن يؤمن به, بمعنى أن يؤمن بما نقل الابن عنه من قول أو وعد. فمثلاً نقل المسيح عن الآب هكذا: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الآبدية» (يو16:3). المطلوب هنا تصديق كلام الآب تصديقاً ينفذ في العقل ويخترق القلب ويملأه، فيؤمن بصدق الآب وصدق وعده: أنه أحبنا بالفعل وأنه أرسل ابنه بالفعل فدية لكى من يؤمن، فلا يهلك بل ينال الحياة الأبدية.
وكوننا نؤمن أن الآب كان صادقاً وأرسل ابنه ليفدينا، هذا بحد ذاته هو الإيمان بالآب، ويجعل الآب له علاقة مباشرة بنا: «الآب نفسه يحبكم لأنكم أحببتموني وآمنتم أني من عند الله خرجت» (يو27:16)، «وهم قبلوا وعلموا يقيناً أني خرجت من عندك وآمنوا أنك أنت أرسلتني.» (يو8:17)
انظر أيها القارىء كيف أن الإيمان بوعد الآب وصدق كلمته هو النصف المكمل للايمان بالمسيح المؤدي للحياة الأبدية والانعتاق من الدينونة.
«له حياة أبدية»: المسيح لا يسوف، فالمعنى ينصب على الحاضر = له الآن وكل أوان، لأن الحياة الأبدية غير مرتبطة بالزمن. الحياة الأبدية مثل كل عطايا الله الروحية هي فائقة على الطبيعة، هي فوق الزمان، هي لنا إذا أخذناها الآن، فتبقى معنا إلى الأبد.
«انتقل من الموت إلى الحياة»: لينتبه القارىء ولا يرفع الأفعال هنا إلى المستقبل، فهي قد تمت!! «يكون قد انتقل» هنا المسيح يصور حالة مقضياً بها، حكماً نافد المفعول، وكأنه قد صار بمعنى أن المؤمن الذي انتهى في نفسه من قضية سماع كلمة المسيح واخترقت أذنه الروحية واستقرت في القلب وأصبحت حقيقة إيمانية، وصدق كلام الآب وأمن به، فإنه يشعر في قلبه شعور الإيمان اليقيني أنه قد غُفرت خطاياه, وأنه قد سقطت عنه كل الدينونة, وكف عنه صراخ الضمير المشتكي واللائم الدائم، ويحس أنه انتقل من حالة ظلمة قلبية محيطة إلى نور الله، وفرح يدوم مع شكر لا يهدأ «كل حين على كل شيء.» (أف20:5)
وانجيل يوحنا قدير في أن يستحضر الفعل الاخروي الذي كنا نتظره وكأنه سيحدث بعد الموت، يحضره في الآنية الزمنية: الآن وفي هذه الساعة: «تأتي ساعة “وهي الآن” حين يسمع الأموات (بالخطية) صوت ابن الله والسامعون يحيون» (يو25:5). ولكن مطلوب الأذن الروحية الآن!
المسيح في إنجيل يوحنا يُلهمنا استعلاناً جديداً عن الموت والحياة!! فالموت الجسدي القديم والرعبة المحيطة به قد انتهيا إلى الأبد وحل محلها الموت الأخطر: وهو موت الخطية الذي كان منسياً أو مخفياً. و«الحياة» القديمة التي كنا ننتظرها خطأ بعد الموت فلا نكاد نذكرها أو نفهمها أو نحسها، استعلنها المسيح في الحاضر إذ أسقط عنها الزمن الكاذب فظهرت بقوة أكثر من قوة الحياة بالجسد: «فإن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب واُظهرت لنا… ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً.» (ا يو 2:1و4)
بهذا المعنى الاستعلاني الجديد الذي يقدمه المسيح في هذه الآية، نفهم كيف يؤكد المسيح أن من يسمع كلامه ويؤمن بالذي أرسله يكون قد انتقل من الموت إل الحياة، إنه اختبار الحاضر: «تأتي ساعة وهي الأن»!! والانتقال من الموت إلى الحياة, بمعنى سقوط الدينونة وشروق فجر الحياة الأبدية، من شأنه أن يجعل الإنسان يشعر بكيانه في المسيح والآب ولا يعود يعيش لنفسه!! فالذي آمن به الإنسان وصدقه يُحسه ويراه ويحبه ويعيشه!!!
ولكن كون الإنسان قبل الآب والابن في كيانه وعاش الحياة الأبدية بنوع ما الآن, لا يعني أنه لا يوجد موت للجسد أو أن هذه هي كل الحياة الأبدية. فالذي نختبره ونأخذه بالإيمان الآن نأخذه, كما يقول بولس الرسول, كعربون، والعربون دائمأ يكون نسبة ضئيلة إذا قارئاه بالحصيلة الكلية: «نحن الذين قد سبق رجاؤنا في المسيح، الذي فيه أيضاً أنتم إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم, الذي فيه أيضاً إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس, الذي هو عربون ميراثنا, لفداء المُقتنى لمدح مجده.» (أف12:1-14)
وعلى العموم فالمسيح في هذه الآيات لا يقدم تعليماً بقدر ما يطرح عملاً؛ فهو يحفز السامع والقارىء ليأخذ قراره, إنه نفس موقفه تجاه اليهود، يطرحه على الإنسان على مدى الدهور. إنه لا يعلمهم بل يتحداهم، يطرح الحياة والموت أمامهم ، فإما يقبلون الحياة فيه، واما يقتلونه فيبقوا في الموت إلى الأبد.
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (24): “الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.”
الحياة الأبدية= هي حياة الله ذاته يعطيها الله للإنسان نأخذها من الآن بإيماننا بالمسيح. فهي ليست حياة بشرية. هذا هو الخلود الحقيقي. ابتداء من هذه الآية يتكلم المسيح بصيغة المتكلم بعد أن كان يتكلم بصيغة الغائب وكأن المعنى أن ما قلته لكم من قبل عن العلاقة بين الآب وإبنه ينطبق علىَّ فأنا الإبن الوحيد. الحق الحق أقول لكم= هذه تشبه القسم في العهد القديم، فهو إعلان رسمي إلهي. وهنا نرى الوحدة بين الآب والإبن، فشرط الحياة أن نسمع كلام الإبن ونؤمن بالآب، فالخلاص هو بالآب والابن.
يسمع كلامي= أي يدخل لأعماقه ويحرك قلبه ويصدق وينفذ ويستمد قوة من الوصية على تنفيذها. ويسمع كلامي= كلامي جاءت هنا لوغوس ويكون المعنى أن يقبلني أنا الكلمة المتجسد. يؤمن بالذي أرسلني= الإيمان بأحد الأقنومين يستلزم الإيمان بالآخر فهما واحد وكذلك إكرام أحدهما= أي يؤمن بكل ما قلته عن الآب كما إستعلنته أنا، وبالذات أنه أرسل المسيح. فالإيمان بالآب يستلزم الإيمان بالمسيح والإيمان بالمسيح يستلزم الإيمان بالآب. يؤمن بالذي أرسلني= حتى لا يشعروا أنه يفضل نفسه عن الله. عموماً هو والآب واحد وهو لا يريدهم أن يتشككوا فيه. لا يأتي إلى دينونة= أي الهلاك فالمسيح سيحمل الدينونة عن الإنسان الذي يؤمن به (التائب طبعاً). إنتقل من الموت= الموت هنا هو موت الخطية لأن الذي يؤمن ويسمع تغفر خطاياه. لقد إنتهت خطورة الموت الجسدي، ولكن الموت الأخطر هو موت الخطية وعدم الإيمان، لذلك يقول يوحنا في (1يو2:1،4) أن الحياة أظهرت. والإنتقال من الموت إلى الحياة يعني بداية الحياة الأبدية. وهذه تبدأ بالمعمودية وتستمر بالتوبة “إبني هذا كان ميتاً فعاش” والحياة الأبدية هي حياة المسيح الأبدي، نحصل عليها بالإتحاد معه في المعمودية (رو3:6-5) ونستمر نحياها بحياة التوبة.