تأملات في سفر نشيد الأناشيد للبابا شنوده الثالث – الأصحاح الخامس

افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي (نش 5: 2)

افتحي لي:

افتحي لي قلبك من الداخل، لأني لا أريد مجرد إيمان شكلي ظاهري, ولا مجرد ممارسات خارجية, وطاعة حرفية.

إنما أريد القلب -يقول الرب- وهكذا أمرت كل واحد منكم قائلا “يا ابني أعطني قلبك” (أم 23: 26).

وهذا القلب يريد منك الله أن تفتحه بكامل إرادتك, برغبتك ومحبتك, غير مضطر ولا مضغوط عليك. يريدك أنت تريده, وليس غير. وهكذا يقف علي بابك ويقول “أنا واقف علي الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب, أدخل وأتعشى معه, وهو معي” (رؤ 3: 20).

أفتحي قلبك لي. فإن انفتح القلب, ستنفتح معه الأفكار والمشاعر, بل سينفتح باب الإرادة أيضا, وينفتح باب الحياة كلها, لتحيا مع الله.

افتحي لي يا أختي:

إن كلمة (أختي) ترمز إلي الجسد.

لأننا لم نصر أخوة له إلا بتجسده، حينما اتحد بطبيعتنا البشرية.

“وهكذا صار بكرا وسط أخوة كثيرين” (رو 8: 29). حتى أنه عندما أرسل مريم المجدلية لتبشير تلاميذه بالقيامة, قال لها “اذهبي وقولي لأخوتي أن يمضوا إلي الجليل, هناك يرونني” (مت 28: 10).

إنه يقول للنفس البشرية ” افتحي لي يا أختي” مذكرا إياها أنه في هذه الأخوة قد أخلى ذاته من أجل خلاصها. وصار ابنا للإنسان, لكي يصير الإنسان ابنًا لله. وكما صار هو أخا لنا حينما شاركنا في طبيعتنا, يجب علينا أن نشابهه في مشيئته. وهكذا قال “مك يفعل مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي” (مت 12: 50).

إذن إن كانت (أختي) تشير إلي التجسد, فإلي أي شيء تشير كلمة (يا حبيبتي)؟

يا حبيبتي:

إن قصة الخلاص بدأت بالتجسد, ولكنها كملت في الفداء, حينما “أظهر الله محبته لنا, لأننا ونحن بعد خطاة, مات المسيح لأجلنا” (رو 5: 8). وحينما بذل المسيح حياته ليفدينا بها علي الصليب، تحقق حينئذ قوله:

“ليس حب أعظم من هذا: أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه” (يو 15: 13).

فكان الرب علي الصليب ذبيحة حب. وبهذا الحب حمل خطايا البشر بدلا منهم ومحاها بدمه. فكان “مجروحا لأجل معاصينا, مسحوقا لأجل آثامنا. كلنا كغنم ضللنا، ملنا كل واحد إلي طريقه. والرب وضع عليه إثم جميعنا” (أش 53: 5, 6).

فعندما يقول الرب للنفس البشرية (يا حبيبتي), إنما يقصد حبه لها, الذي ظهر واضحا في موته عنها.

هذه النفس التي كان محكوما عليها بالموت, فافتداها ومات بدلًا منها..

وكلمة (يا حبيبتي) تذكرنا بعلاقة الحب التي ينبغي أن تربطنا بالله, الحب المتبادل الذي فيه نحب الله كما أحبنا. كما قال القديس يوحنا الحبيب ” في هذا هي المحبة. ليس أننا أحببنا الله, بل أنه هو أحبنا, وأرسل ابنه كفارة لخطايانا” (1 يو 4: 10).

إذن، إن كانت قصة الخلاص قد بدأت بالتجسد الذي أشارت إليه كلمة (يا أخوتي). ثم الفداء الذي أشارت إليه عبارة (يا حبيبتي).. فإلي أي شيء تشير عبارة (يا حمامتي)؟

يا حمامتي:

الحمامة تذكرنا بعمل الروح القدس، الذي ظهر في يوم عماد المخلص علي هيئة حمامة (مت 4: 16). حينما يقول الرب للكنيسة يا حمامتي, فكأنما يقول لها: أنت التي يعمل الروح القدس فيك, بعد عمادك باستسلام كامل منك. فأري الروح الذي فيك, وكأنك حمامة مثل التي رأيتها يوم العماد.

والحمامة هي التي بشرت نوح بالخلاص من الطوفان.

وذلك بغصن زيتون في فمها، أتت به من الأرض التي انقشعت مياه الطوفان عن أشجار. والرب حينما يقول للكنيسة (يا حمامتي) إنما يقول لها: أرى فيكِ بشرى الخلاص للأرض من طوفان العالم.

والحمامة تتميز بالبساطة كما قال: كونوا بسطاء كالحمام” (مت 10: 16).

وحينما يقول الرب للنفس البشرية (يا حمامتي), فهو يقول لها: أري فيك البساطة التي كانت للإنسان الأول, وهو في صورته الإلهية, قبل أن يدخل في ثنائية الخير والشر. وأنا قد جئت بتجسدي لأعيد إليه الصورة الأولي في بساطتها ونقاوتها كالحمامة (يا حمامتي).

هذا النداء هو رسالة لنا لنرجع إلي البساطة الأولي، وأن نخلي ذواتنا ليظهر عمل الروح فينا, ولنتذكر باستمرار قصة الطوفان والحمامة.

فماذا إذن تعني عبارة (يا كاملتي).

يا كاملتي:

هذا الخلاص الذي قام به الله بالتجسد والفداء, ونلناه بالميلاد من الماء والروح (يو 3: 5) (تي 3: 5).. يقول لنا الرسول عنه “تمموا خلاصكم بخوف ورعدة” (في 2: 12).

وكيف نتممه؟ بالسلوك بالروح, والسعي إلي الكمال، لأنه يقول:

“كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل” (مت 5: 48).

وهذه النفس، وهذه الكنيسة, التي تسعي إلي الكمال بعمل الروح فيها, هي التي يناديها الرب بعبارتي (يا حمامتي) (يا كاملتي).

ما دمت بهذه الصفات المفروضة فيك, إذن افتحي لي.

هذه هي قصة الخلاص, يتمثل فيها دور الله, واستجابة الإنسان.

و بهذا نفهم سفر النشيد في معانيه السامية الرمزية, بعيدا عن الحرفية وعن السطحية, وعن المستوي الجسداني في التفسير.

اسمك طيب مسكوب.. لذلك أحبتك العذارى..
اجذبني وراءك فنجري (نش 5: 10)

اسم الرب:

من إعجاب الكنيسة بهذه العبارة تذكرها في رفع بخور عشية ” طيب مسكوب هو أسمك القدوس. وفي كل مكان يقدمون بخورا لأسمك القدوس وصعيدة طاهرة”.

اسم الرب له رائحة طيبة تنعش النفوس، وتنتشر في كل مكان كما ينتشر الطيب. لذلك أحبته العذارى.

اسم الرب اسم حلو، يفرح به أولاد الله لذلك نقول له في الإبصلمودية “اسمك حلو، مبارك في أفواه قديسيك”.

ويقول له داود النبي في المزمور: “محبوب هو اسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي” (مز 119).

أي أنه من محبتي لاسمك، أظل أردده طوال اليوم..

تماما مثلما يحب إنسان شخصًا ما، فيظل يتكلم عنه: ويردد اسمه في كل مناسبة، ويجد لذة في ترداد اسمه..

هذا الاسم يملأ عقله وفكره وحواسه، ولا يفارق شفتيه..

ومن حلاوة اسم الرب، نقول له “اسمك طيب مسكوب”. ويقول الكتاب “اسم الرب برج حصين، يركض إليه الصديق ويتمتع” (أم 18: 10) يطلبه في كل ضيقة ويحتمي به.

اسم الرب يرعب الشياطين، ويعطي القديسين طمأنينة..

وهكذا نري داود النبي حينما وقف أمام جليات الجبار، قال له “أنت تأتيني بسيف ورمح، وأنا أتيك باسم رب الجنود” (1 صم 17: 45) مجرد دخول اسم الرب، قادر أن يهزم جليات.. وبنفس الوضع قال بطرس للرجل المقعد علي باب الهيكل “ليس لي ذهب ولا فضة. ولكن الذي معي إياك أعطيه. باسم يسوع المسيح قم وأمش” (أع 3: 6).. وباسم الرب قام ومشي، كما باسمه انتصر داود علي جليات.

ونحن لذلك نستخدم اسم الرب في كل أعمالنا وحياتنا:

في الأكل، في المذاكرة، في العمل، في دخولنا وخروجنا، نبدأ كل هذا باسم الله. نضع اسم الرب في كل عمل، لكي يتبارك هذا العمل باسم الرب.. وبهذا تشعر أن الله أمامك باستمرار.

اسم ربنا مخيف بالنسبة إلى الخطاة لأنه ” مخيف هو الوقوع في يدي الرب الحي” (عب 10: 31)، لكن بالنسبة للقديسين اسم الرب محبوب.

اسمك يا رب موسيقي في أذني، حلو في فمي.. هو في صلواتنا في عبادتنا، في قراءتنا، في حياتنا اليومية..

في قصة كبريانوس الساحر، مجرد اسم يوستينه جعل الشيطان ينحل ويمشي، فكم بالأولي إذن اسم الله وتأثيره وقوته.. !

اسمك طيب مسكوب، لذلك أحبتك العذارى.

أحبتك العذارى:

وعبارة (أحبتك العذارى) تدل علي أن الحب المذكور في سفر النشيد، هو حب إلهي وليس حبًا بشريًا وجنسيًا.

الحب العالمي , الحب الجنسي، الحب الجسدي، تسوده الأنانية والرغبة والامتلاك. لذلك إذا أحبت واحدة شخصًا، قد تغار عليه جدًا، فإن رأت فتاة أخري تحبه، تموت من الغيرة.. لكن في النشيد تقول له “أحبتك العذارى”.. كلهم يحبونك.. نفرح ونبتهج بك.. “بالحق يحبونك” (نش 1: 4).

“بالحق يحبونك” أي كل الناس يحبونك. وأنا أفرح بهذا.

حقا إن النفس التي تحب الله، تود أن يحبه الجميع.

الإنسان الروحي يريد أن كل أحد يحب الله معه..

المرأة السامرية لما تعرفت علي المسيح، ذهبت تدعو الناس “تعالوا أنظروا إنسانا قال لي كل ما فعلت” (يو 4). وملأت المدينة حديثا عنه، وأحضرت الناس إليه.. وهكذا الرسل لما أحبوا المسيح، ملأوا المدينة كرازة باسمه.

وبولس الرسول لما عرف الرب، حاول بأسفار كثيرة، وبتعب أكثر من الجميع، أن يخلص عل كل حال قوما.. (1 كو 9: 22).

وهكذا كل العذارى اللاتي أحببن الرب، فمن هن العذارى؟

العذراء هي النفس التي أحبت الرب، وليس في قلبها آخر يشغلها. اقترنت بالله وحده، وليس آخر يشغلها..

وهكذا قال بولس الرسول عن الكنيسة ” خطبتكم لأقدم عذراء عفيفة للمسيح”. فأصبحت كلمة (عذراء) رمزا للكنيسة. ولهذا أيضا نري أم جميع الذين ينالون الخلاص قد شبههم الرب بخمس عذارى حكيمات. (مت 25: 5).

هؤلاء الخمس العذارى رمز لجميع المختارين، رجالا ونساء, بتوليين ومتزوجين.

في الكنيسة العذراء يوجد إبراهيم وإسحق ويعقوب، المتزوجون.

كانوا متزوجين , ولكن نفوسهم كانت عذراء.. لأنها لم تعط ذاتها لآخر، لا تحب شيئًا إلي جوار الله.

النفس العذراء تحب الله من كل القلب ومن كل الفكر..

لا يوجد أحد إلى جوار الله ينافسه في قلبها، ولا توجد في داخلها محبة أخري تتعارض مع محبة الله.

لذلك فإن كلمة (عذراء) استخدمت مجارا في الشعر أيضا، فقال أحدهم عن أمانيه التي لم تخطر بقلب أحد أخر:

 أمان عذارى لم يجلن بخاطر وبعض أماني القوم شمطاء ثيب

القلوب العذارى هي التي تفرغت لمحبة لله وحده..

وقد يسأل البعض: أليس كل إنسان يحب أباه وأمه وأولاده وأصدقاءه وتلاميذ، نقول أنها محبة داخل محبة الله لا تتعارض معها لا تنافسها ولا تنقصها..

أحبتك العذارى, لأنها أشتمت من أسمك رائحة الطيب..

كذلك نري أن أرواح القديسين رائحتها طيبة، قد تصعد روح إنسان فيمتلئ المكان برائحة بخور، فيشعر الناس بأنها روح طاهرة.. كذلك صلوات القديسين تصعد كرائحة بخور إلي الرب. والمحرقات أيضًا كانت رائحة سرور للرب.. كطيب مسكوب..

فإذا كانت المحرقات رائحة سرور، فكم يكون الرب نفسه..

إن العروس عندما تزف إلي عريسها يضمخونها بالعطور، كعروس مهيئة لعريسها (رؤ 21: 2)، وفي سفر أستير نسمع أن الملكة كانت تضمخ بالطيب والعطور مدة سنة كاملة قبل أن يقدموها للملك (إس 2: 12).

إن الجسد يعطر بالطيب. أما النفس فتتعطر بالفضائل.

أما اسم الله فإنه لا يتعطر، وإنما هو العطر ذاته.

لا يسكب عليه طيب، وإنما هو ذاته طيب مسكوب.

كل من يدعي عليه هذا الاسم يتعطر وتنتشر رائحته.. لذلك أحبت العذارى.. فما معني هذه العبارة؟

إن الحياة الروحية بكل تفاصيلها، تتركز في عبارة ” أحبتك العذارى”.. والملكوت هو نفوس عذارى، تحب الله وحده..

لا يوجد في الحياة الروحية سوي الحب.. البعض يظن أن التدين هو العبادة. والبعض يظن أن الحياة الروحية هي الإيمان، وهي أعمال الرحمة، وهي نقاوة القلب. أما الكتاب فيعلمنا إن الحياة الروحية هي الحب وليس غير.. ” الله محبة: من يثبت في المحبة , يثبت في الله والله فيه” (1 يو 4: 16).

إن كنت لم تحب الله، فأنت لا تعيش في الروح بعد..

إن شغلت يومك وليلك بالصلاة، وأنت لا تحب الله، فصلاتك ليست شيئا. وإن ملأت الدنيا كرازة وخدمة وتعليما، وأنت لا تحب الله، فقد صرت نحاسا يطن وصنجًا يرن.. (1 كو 13: 1). وإن عشت في النسك وأسلمت جسدك حتى يحترق دون ان تذوق محبة الله، فأنت لست شيئا. الله لا يريد غير الحب فقط، من نفوس العذارى..

تقول له أحبك يا رب، وأحب العالم معك. يقول لك: نفسك ليست عذراء،لأن كل من يحب العالم ليست فيه محبة الأب (1 يو 2: 15).

أما النفس التي تحب العالم والجسد والمادة والشيطان والذات، فإنها ليست عذراء، بل مقترنة بخمسة أزواج.. ومحبة العالم تلد أولادا كثيرين من شهوات متنوعة..

أمامك إذن سؤالان: هل تحب الله؟ وهل نفسك عذراء؟

فإن لم تكن نفسك عذراء، فكيف تصير كذلك؟ تصير بقولك:

اجذبني وراءك فنجري:

أجذبني وراءك فنجري.. اجذبني فأجري، ويجري الكل معي.

سوف لا أمشي وراءك بل سأجري، بكل قوتي، كما قال رسولك بولس “أركضوا لكي تنالوا” (1 كو 9: 24) وسوف لا أجري وحدي وإنما سأحضر معي لك ثلاثين وستين ومائة هم ثمرة حبي لك.

إنما المهم يا رب أن تجذبني وراءك، بدلا من أن يجذبني هذا التراب الذي أخذت منه، لأنني من التراب وربما إلي التراب أعود.. فاجذبني، إلي محبتك وإلي خدمتك، قل لي “هلم ورائي” (مت 4: 19) كما قال لبطرس واندراوس.. ولا شك إن كلمتك ستكون لها قوة عجيبة لا يستطيع أن يقاومها قلبي..

عندما قال الله لمتى العشار “أتبعني” (مت 9: 9) لم يكن ذلك مجرد أمر ودعوة، إنما كانت قوة جاذبية عجيبة شدته من مكان الجباية.

فقام وراءه يجري، كما جري وراءه كل التلاميذ.

كلمة الرب قوية وفعالة، ومثل سيف ذي حدين، استطاعت أن تقطع كل الروابط التي تربطه بالعالم، فوجد نفسه قد ترك كل شيء، حتى مسئولياته في مكان الجباية.

أجذبني يا رب وراءك بنعمتك، بروحك القدوس، بقوتك، بملائكتك، بكل ما عندك من وسائط روحية..

وأنا سأجري كما جري أوغسطينوس الذي تحول من ملحد إلي أسقف قديس، ومثل كثير من الخاطئات اللائي تحولن مرة واحدة لا إلي تائبات فقط وإنما إلي قديسات..

لما جذب السيد المسيح إليه التلاميذ الاثني عشر، جروا وراءه ومعهم في أول يوم ثلاثة ألاف (أع 2: 41)، ثم بعد معجزة شفاء الأعرج صار الذين وراءهم خمسة ألاف (أع 4: 4)، ثم انضمت للرب جماهير من رجال ونساء. ثم انضمت إلي الإيمان مدن وقري (أع 8). وكانت عدد الكنائس تنمو وتزداد، والرب في كل يوم يضم للكنيسة الذين يخلصون (أع 2: 48)..

كانت الكنيسة الأولي تجري في طريق الملكوت، لأن الرب كان قد قال: وأنا إن ارتفعت أجذب إلي الجميع (أع 5: 14).

حبيبي أبيض وأحمر (نش 5: 10)

إنها أكثر عبارة في سفر النشيد تناسب “يسوع المصلوب”.

كلمة “أبيض” تمثل النقاوة الكاملة والقدسية المطلقة التي يتصف بها هذا الفادي الذي يموت عن العالم كله. بينما كلمة “أحمر” تعبر عن دمه المسفوك على الصليب.

ولنحاول أن نتتبع كلمة (أبيض) ودلالتها.

أبيض:

تدل على مجد الرب، كما ظهر في التجلي.

يقول الإنجيل عنه في قصة التجلي “وتغيرت هيئته قدامهم. وصارت ثيابه تلمع بيضاء جدًا، كالثلج، لا يقدر قصار على الأرض أن يبيض مثل ذلك” (مر 9: 2، 3).

أما في إنجيل متى فيقول “فتغيرت هيئته قدامهم. وأضاء وجهه كالشمس. وصارت ثيابه بيضاء كالنور” (مت 17: 2).

“حبيبي أبيض”. أبيض كالنور. وأبيض لأنه نور..

ويقول الكتاب إن “الله نور” (1يو 1: 5). “إن جلست في الظلمة، فالرب نور لي” (مي 7: 8). وهو نفسه قال “أنا نور العالم” (يو 8: 12). وقيل عنه في إنجيل يوحنا أنه “النور الحقيقي الذي يضئ لكل إنسان” (يو 1: 9).

لذلك فالمؤمنون به يدعون “أبناء النور” (يو 12: 36).

عبارة “حبيبي أبيض” حينما تُقال عن الله، إنما ترمز إلى طبيعته إذ هو نور، وكذلك ترمز إلى قداسته. كذلك إلى خدامه من الملائكة، وأبنائه من البشر الصالحين المفديين، والبشر من الكهنة ومن التائبين.

كذلك اللون الأبيض يرمز إلى وقار الله وإلى أزليته.

يقول دانيال النبي في إحدى الرؤى “وجلس القديم الأيام: لباسه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه كلهيب نار” (دا 7: 9). نلاحظ هنا ورود اللونين الأبيض والأحمر معًا، لأن النار حمراء.

ونلاحظ نفس الوصف تقريبًا في رؤيا يوحنا اللاهوتي، إذ يقول في ظهور الرب له “وأما رأسه وشعره فأبيضان كالصوف النقي كالثلج. وعيناه كلهيب نار. ورجلاه شبه النحاس النقي، كأنهما محميتان في أتون” (رؤ 1: 14، 15).

حقًا “حبيبي أبيض وأحمر”. في التجلي، على الصليب، في الرؤيا..

الملائكة أيضا يتصفون باللون الأبيض كملائكة من نور (2كو 11: 14).

قيل عن ملاك القيامة الذي دحرج الحجر “كان منظره كالبرق، ولباسه أبيض كالثلج” (مت 28: 3). وقيل عن ملاك آخر أنه كان “لابسًا حلة بيضاء” (مر 16: 5). وفي وعد الرب في سفر الرؤيا أنه قال “من يغلب، فذلك سوف يلبس ثيابًا بيضًا، ولن أمحو اسمه من سفر الحياة (رؤ 3: 5).

اللون الأبيض هو أيضًا يميز القديسين وخدمة الكهنوت:

لأنه يدل على النقاوة والقداسة. فالكهنة والشمامسة في خدمة المذبح يلبسون ملابس بيضاء. وقال الرب عن المفديين أنهم “بيضوا ثيابهم في دم الخروف”. أنهم “المتسربلون بثياب بيض” الذين أتوا من الضيقة العظيمة (رؤ 7: 14، 9، 13). وقيل نفس الوصف أيضا عن الأربعة والعشرين قسيسًا حول عرش الله، أنهم كانوا “متسربلين بثياب بيض” (رؤ 4: 4).

نضم إلى كل أولئك التائبين.

الذين وعدهم الرب قائلا “إن كانت خطاياكم كالقرمز، تبيض كالثلج” (أش 1: 18).

هؤلاء الذين ينطبق عليهم قول المرتل في مزمور التوبة “اغسلني، فأبيض أكثر من الثلج” (مز 51: 7). التائب هو أيضًا “حبيب أبيض”.

فإن كنت تحب الله، كن أبيض مثله، بقلب أبيض..

بفكر أبيض، وألفاظ بيضاء، ومشاعر بيضاء. إن كنت بهذا الوصف الأبيض، يمكنك أن تتناول من الأسرار المقدسة.

القديس موسى الأسود: لما سيم كاهنًا، ولبس ملابس الخدمة البيضاء، قالوا له “ها قد صرت أبيض كلك”. فأجابهم “حبذا لو كان هذا من الداخل أيضًا”.

لذلك حذر الكتاب من الاقتصار على البياض الخارجي وحده!

فالكتبة والفريسيون المراؤون شبههم الرب بقبور مبيضة تبدو من الخارج جميلة، ومن الداخل عظام نتنة (مت 23: 27).

وقد قال القديس بولس الرسول لرئيس كهنة اليهود الذي أمر بضربه مخالفًا للناموس “سيضربك الله أيها الحائط المبيض” (أع 23: 3).

تحدثنا عن كلمة (أبيض). فلنتدرج إذن إلى كلمة (أحمر).

أحمر:

حبيبي أحمر: أحمر لأنه نار، كما قيل “إلهنا نار آكلة” (عب 12: 29). كذلك قد شبّه الروح القدس بالنار، وقد حلّ على التلاميذ يوم الخمسين بألسنة كأنها من نار (أع 2: 3).

إلهنا نور، ونار. أبيض وأحمر.

والسيد المسيح كان أبيض في وداعته، وأحمر في حزمه.

كان أبيض، وهو القدوس المولود من العذراء (لو 1: 35). وأحمر وهو الحمل المذبوح عن العالم، بثياب محمرة، قد داس بها المعصرة وحده (أش 63: 2، 3).

رآه يوحنا في أول سفر الرؤيا “رأسه وشعره أبيضان كالصوف الأبيض كالثلج، وعيناه كلهيب نار” (رؤ 1: 14). ولعل يوحنا قال في قلبه حينا رآه “حبيبي أبيض وأحمر”.

أنا يا رب أتحير: كيف تجمع وداعتك المحببة إلى النفس، وبين عينيك اللتين كلهيب نار، اللتين -كما روى التقليد- قال عنهما بيلاطس البنطي في وصف يسوع الناصري “ما كان أحد يستطيع أن ينظر طويلًا إلى عينيه” من عمق هيبتهما..

صفاتك يا رب لا تتناقض.. في رحمتك أبيض، وفي عدلك أحمر. ورحمتك وعدلك لا ينفصلان. أنت رحيم في عدلك، وعادل في رحمتك.

فيك يمتزج اللونان الأبيض والأحمر، كالخمر..

لذلك قيل أيضا في سفر النشيد أن “حبك أطيب من الخمر” (نش 1: 2). يمتزج فيه الحنو الأبيض بالحزم الأحمر، الجاذبية بالهيبة، العطف بالتأديب.. مثلما وبخ بطرس بعد القيامة، في حنو عجيب: يناديه باسمه العلماني “سمعان بن يونا”، وفي نفس الوقت يقول له “إرع غنمي” “إرع خرافي”. ويسأله ثلاث مرات “أتحبني أكثر من هؤلاء؟!” حتى حزن بطرس. وفي نفس الوقت يمنحه عمل الرعاية.. (يو 21: 15 – 17).

أنت يا رب أبيض على الصليب.. أبيض في قداستك، لا تستحق الموت. وأنت أحمر في دمك المراق عنا، كحامل لخطايانا.

وهذا الفداء العظيم تظهر له صورتان: إحداهما في المعمودية في العهد الجديد، والأخرى في خيمة الاجتماع في العهد القديم.

في المعمودية نرى المعمدّ بملابس بيضاء مع شريط أحمر (الزنّار).

فالملابس البيضاء تشير إلى الحياة الجديدة التي نالها في المعمودية (رو 6: 4) “بغسل الميلاد الثاني، وتجديد الروح القدس” (تي 3: 5). أما الشريط الأحمر (الزنار) فيشير إلى دم المسيح، الذي باستحقاقه ينال المعمد التبرير وغفران الخطايا (أع 2: 38) (أع 22: 16).

أما في خيمة الاجتماع، فكان الدم يرش على جدرانها وعلى مذابحها، دليلًا على أنه بهذا الدم الأحمر ينال مقدم الذبيحة الحياة البيضاء بالتوبة. وهو نفس معنى قول المزمور “انضح علي بزوفاك فأطهر. واغسلني فأبيض أكثر من الثلج” (مز 51: 7).

الزوفا كانت نوعًا من العشب، يرُش به الدم الأحمر. فتصير الحياة بيضاء بالمغفرة. وهكذا يُولد الأبيض من الأحمر.

والذي يرشه الرب بزوفاه، يقول عنه “حبيبي أبيض وأحمر”.

هذا ما قصده المرنم في مزمور التوبة (مز 51). وهو نفس المعنى الذي كُتب في سفر الرؤيا “بيضوا ثيابهم في دم الخروف” (رؤ 7: 14).

هذا الدم الأحمر، جعل ثيابهم بيضاء. يغتسل الخاطئ في الدم الأحمر (أي في الفداء)، فيصير أبيض (أي نقيًا من كل خطاياه).

حياه كل إنسان فينا، هي قصة الأبيض والأحمر معًا.

صار كل منا أبيض نقيًا، بواسطة الدم الأحمر الذي يطهره. كما قال القديس يوحنا الرسول في رسالته الأولى عن الله الآب “ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية” (1يو 1: 7).

كل تائب بيّض ثيابه في دم الخروف، ونضح الله عليه بزوفاه فصار أبيض من الثلج.. هو أبيض بالمغفرة التي نالها، وأحمر في الدم المسفوك عنه، الذي اغتسل به. يراه الرب من على الصليب ويقول “حبيبي أبيض وأحمر”.

كانت الخطية في العهد القديم تُشبه أحيانًا اللون الأحمر:

وهكذا قيل في سفر إشعياء النبي “إن كانت خطاياكم كالقرمز، تبيض كالثلج. وإن كانت حمراء كالدودي، تصير كالصوف” (أش 1: 18). إذن الخطية حمراء كالقرمز الأحمر، الذي يظهر في عين الغضوب المملوءة دمًا..

ونجد أن عيسو الخاطئ خرج من بطن أمه “أحمر كله” (خر 25: 25).

لون الخطية الأحمر، حمله المسيح نيابة عنا. إذ “ألبسوه رداء قرمزيًا” (مت 27: 28) بلون الخطية القرمزي (أش 1: 18).

وإذ نراه في نقاوته البيضاء يحمل عارنا، نقول عنه “حبيبي أبيض وأحمر”. لقد صار القدوس الذي بلا خطية حاملا لكل خطايانا، وغطاه بالدم الكريم الأحمر.

وكان اللون الأحمر يرمز أحيانًا إلى ثياب الملوك.

وإذ ألبسوه في صلبه ثياب الملوك -سخرية منهم- فأنه في الحقيقة صار في صلبه ملكًا علينا. امتلكنا إذ اشترانا بدمه (1كو 6: 20). في دمه رآه اللص التائب ملكًا. فقال له “اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك” (لو 23: 42).

أنا نائمة، وقلبي مستيقظ (أ) (نش 5: 2)

هذا النشيد يعطي روح الرجاء، حتى بالنسبة إلي النائمين.

ما أجمل قول المسيح للتلاميذ وهم نائمون في البستان “الروح نشيط أما الجسد فضعيف” (مت26: 41). إذن فحتى لو كان الجسد ضعيفًا، لا يستطيع أن يتمشي مع عمل الروح، فإننا نشكر الله الذي يمتدح الروح علي الرغم من ضعف الجسد، ويعطيها رجاء.

وعذراء النشيد تجد نفسها هنا (نائمة): لا يقظة روحية، ولا نشاط، ولا حرارة، ولا حيوية، ولا عمل روحي.

ومع هذا النوم تري نافذة من رجاء مفتوحة: وهي قلبها المستيقظ.

علي الرغم من نومها، مازال قلبها مستيقظًا. مازلت حساسة لصوت حبيبها، تسمعه وهو يقول لها “افتحي لي”.

إذن هو مجرد نوم، وليس موتًا، ومازال القلب نابضًا بالحياة.

هنا حياة قد تكون خاملة، ولكنها موجودة..

الشجرة لا تعطي ثمرها، ولكنها لا تزال حية، ربما لو نقب الرب حولها ووضع زبلًا، تعطي ثمرًا فيما بعد.. النفس نائمة ولكنها حساسة لصوت الرب ولندائه، تميزه عن صوت الغرباء، وتشعر أنه حبيبها علي الرغم من عدم صلتها به..

أنا نائمة وقلبي مستيقظ. لا نضيع الوقت في توبيخ النوم، وإنما نفرح بيقظة القلب، فهي التي ستقيم النفس من نومها.

نشكر الله أنه لم ييأس من النائمين، وإلا هلكوا وضاعوا..

قد تكون نفسي أمامك يا رب، أرضًا خربة مغمورة بالمياه، وعلي وجه الغمر ظلمة (تك1: 2)، ولكن المفرح أن روحك مازال يرف علي وجه المياه، وسيأتي وقت تقول فيه ليكن نور، فيكون نور (تك1: 3)..

ما أجمل قول النبي “لا تشمتي بي يا عدوتي، فإني إن سقطت أقوم (مي7: 8)، قد أكون نائمًا، ولكني سأستيقظ.. “كثيرون يقولون لنفسي ليس له خلاص بإلهه، ولكن أنت يا رب ناصري. مجدي ورافع رأسي” هكذا قال المزمور:

“أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت، لأن الرب معي” (مز3)

ربما تكون لي أربعة أيام في القبر، يقولون عني قد أنتن (يو11: 39). ولكني واثق أن صوتك سيأتيني “لعازر هلم خارجًا” (يو11: 43) وتقوم نفسي النائمة، حينما يسمع صوتك قلبي المستيقظ.

حقًا لا نستطيع أن نغلق باب الرجاء، أمام أي نفس..

مهما كانت حالتها تبدو ميئوسًا منها!.. الله قادر أن يقيم من الحجارة أولادًا لإبراهيم (مت3: 9).. إن الرسول يقول: لا نفشل حتى إن مات إنساننا الخارج يفني، فالداخل يتجدد يومًا فيوم” (2كو4: 16).

هذا يعطي رجاءً ليس للنائمين فقط، وإنما للخدام أيضًا.

لا تيأس من أحد، مهما بعد عن الرب.. ربما تكون البذرة في حالة خمول، ولكن الحياة الكامنة فيها تنتظر وسائل إنبات لكي تدب فيها الحياة من جديد..

إن الرياح في الصحراء قد تحمل البذار وتلقيها بعيدًا حيث تدفن في الرمال، وتظل مدفونة مددًا طويلة، إلي أن تسقط بعض الأمطار، فتدب الحياة في هذه البذار المدفونة وتنبت..

وهناك بذار بطيئة في نموها، كنواة البلح، تمضي شهورًا طويلة بدون علامة حياة علي وجه الأرض، ثم تظهر الخضرة..

نحن لا نيأس مطلقًا من النفوس النائمة مهما طال نومها.

كان الرسل النائمين، خائفين ومختبئين في العلية. ولكن جاء الوقت الذي ظهروا فيه، وملأوا الدنيا كرازة وتبشيرًا..

وحتى لو ظل النائمون مستمرين في نومهم، فلا نيأس مادامت هناك نفوس أخري ساهرة من أجلهم.

يذكرني هذا بالرعاة المتبدين الذين كانوا يسهرون في حراسات الليل علي غنمهم وقت ميلاد المسيح (لو2: 8). ويذكرني أيضًا بقول بولس “من يعثر وأنا لا ألتهب” (2كو11: 29). قد تكون هناك نفوس نائمة، ولكن الكنيسة ساهرة من أجلها، لتوقظها..

وحتى إن نام الرعاة، هناك عين الله الساهرة، التي لا تنام.

إن لم تستطع نفسي أن تقول “أنا نائمة وقلبي مستيقظ” فإنها ستقول لك يا رب “أنا نائمة ويكفي أنك أنت مستيقظ”.

إن كلمة الرب قد تصل إلي النفس، وربما يبدو أنها لم تحدث أثرًا ولم تأت بنتيجة. ولكن عمل الروح القدس الدائم في النفس، سيظهر هذه النتيجة فيما بعد، لأن كلمة الرب لا ترجع فارغة (أش55: 11) إنها كالخبز علي وجه المياه، بعد أيام كثيرة تجده (جا11: 1).

“أنا نائمة وقلبي مستيقظ”. ربما يكون نومي كسلًا، وضعفًا، وفتورًا، وسقوطًا، ولكنه لن يكون خيانة..

فقلبي مستيقظ، وقلبي لك، يسمع صوت حبيبه قارعًا. قد أسقط في الخطية، ولكني أسمع الصوت في داخلي يوبخني ويقول إن هذا لا يليق.. قد أبعد عنك، ولكن نخسك لقلبي مستمر. ولن أستطيع مقاومته مدة طويلة.. قد أقاوم محبتك إلي حين، ولكن صعب علي أن أرفس مناخس (أع9: 5)..

 أنا أعلم أنني سأستيقظ. ولكن لا يجوز أن يطول نومي.

إن الرجاء لن يدفعني إلي التراخي، بل سيبكتني ضميري عليه فيما بعد، وسأوبخ نفسي كما قال لك القديس أوغسطينوس “لقد تأخرت كثيرًا في حبك”. وكما قال بولس “أنا الذي كنت مضطهدًا للكنيسة” (1كو15: 9) إن مناخسك تعمل في قلبي وأنا نائم…

أنا يا رب لا أستطيع أن أبعد عنك: إحساسي بمناخسك في قلبي، تدل علي أن القلب مستيقظ، وأنه لن يقبل النوم.. إنني أسمع صوت الكنيسة تقول “قوموا يا بني النور، لنسبح رب القوات” وقول الرسول “إنها الآن ساعة لنستيقظ” (رو13: 11) وأيضًا:

“استيقظ أيها النائم، فيضئ لك المسيح” (أف5: 14).

“أنا نائمة وقلبي مستيقظ. صوت حبيبي قارعًا”.

إنني أعجب لهذه النفس التي تسمع صوت حبيبها وتظل نائمة!

بينما الله “فيما نحن ندعو، هو يستجيب”.. إننا لا نعامله بنفس المعاملة. ما أكثر ما نغلق أبوابنا في وجهه، حتى يمتلئ رأسه من الطل، وقصصه من ندي الليل..

ولكننا نشكر الله في كل ذلك علي صبره وطول أناته.

إنه يدعو قائلًا “قومي يا حبيبتي وجميلتي وتعالي” (نش2: 10). ونحن نسمع ولا نستجيب. ويظل الرب يقرع علي أبوابنا ويقول “مددت يدي طول النهار لشعب معاند ومقاوم” (رو10: 21)..

والعجيب أن أعذارنا كثيرة، نحاول بها أن نبرر بها عدم استجابتنا..

“غسلت رجلي، فكيف أوسخهما؟ّ خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟!.

يطبق القديس أغسطينوس هذه الآية علي النفس في دعوتها إلي الخدمة: نفس لبست البر، ونالت الطهارة، واستراحت إلي هذا ونامت. وصارت تحتج: كيف أخرج إلي الخدمة وأصطدم بما فيها من مشاكل وتعب! وفيما أنا أسير علي الأرض في طريق الخدمة قد تتسخ رجلاي مرة أخري، فكيف أوسخهما؟

ويجيب القديس أوغسطينوس: لا تتضايق إذا اتسخت رجلاك، فالمسيح قد غسل أرجل تلاميذه. وسيظل يغسلك كلما اتسخت..

إذا دعاك الرب، فلا تضع أمامك عوائق، ولا تعتذر بأعذار.. فطالما الأعذار موجودة، منخاس الله موجود..

هل انتفعت هذه العروس بأعذارها؟! لقد قالت: حبيبي تحول وعبر..

ومع ذلك كان صوت حبيبها أقوي من جميع أعذارها.. كما أنها لم تستطع أن تحتمل عملًا آخر من أعمال محبته “حبيبي مد يده من الكوة، فأنّت عليه أحشائي”.

لقد أنت أحشاؤها، لأن قلبها كان مستيقظًا ولم تحتمل محبة الرب.

“أنا نائمة” إنه اعتراف. والمعترفة بخطاياها قريبة من اليقظة.

إن كنت نائمًا، قم إذن واستيقظ، فالسيد الرب يقول “اسهروا وصلوا، لئلا تدخلوا في تجربة”.

أولاد الله دائمًا متيقظون قلبًا وفكرًا وروحًا، متيقظون من نحو أنفسهم ونحو الآخرين “من يعثر وأنا لا ألتهب” (2كو11: 29).

ما أجمل ما نفهمه من هذا الفصل: إنه حتى الأبواب المغلقة لا يتركها الله، وإنما يق وراءها قارعًا، في حب وانتظار.

أنا نائمة، وقلبي مستيقظ (ب) (نش 5: 2)

تقول العروس في النشيد “أنا نائمة، وقلبي مستيقظ. صوت حبيبي قارعًا: افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي. لأن رأسي امتلأ من الطل، وقصصي من ندى الليل” “قد خلعت ثوبي، فكيف ألبسه؟! قد غسلت رجليَ، فكيف أوسخها؟! حبيبي مدّ يده من الكوة، فأنت عليه أحشائي..” (نش5: 2-4).

أنا نائمة وقلبي مستيقظ:

يقول الرب “اسهروا وصلوا، لئلا تدخلوا في تجربة” “اسهروا لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ابن الإنسان” (لو12: 40) “لئلا يأتي بغتة فيجدكم نيامًا” (مر13: 36)..

إذن فكل نفس نائمة هي ساهية عن خلاص نفسها، غفلانة كسلانة لا تدري ما هي فيه. ونسيت تحذير الكتاب: لئلا يأتي بغتة فيجدكم نيامًا”..

أما هذه النفس التي تقول أنا نائمة وقلبي مستيقظ، فإن حالها عجيب.. هل هي تخدع نفسها، وتدعى اليقظة بينما هي نائمة؟!.

كيف تظن أنها مستيقظة القلب بينما هي نائمة؟! كثير من الناس يقول الواحد منهم “أنا أحب الرب من كل قلب. الله هو كل شيء في حياتي”. فإن سألته عن صلواته وتأملاته وقراءاته الروحية واعترافاته وتناوله، يقول لك..

حقًا، إنني مقصر جدًا في كل هذا، ولكني مع ذلك أحب الله.. روحياتي واقفة، نفسي نائمة، ومع ذلك فقلبي مستيقظ.

والأعجب من هذا، إنسان آخر، يقول لك إنني في عمق الخطية، ومع ذلك فأنا أحب الله. نفسي نائمة، وقلبي مستيقظ..

وتتعجب أنت من هذا: كيف تكون محبة الله في قلب هذا الإنسان، وهو في عمق الخطية؟! ألم يقل الرب “من يحبني، يحفظ وصاياي” فكيف لا يحفظ وصاياه، ويقول “أنا أحبه”.. ألم يقل يوحنا الحبيب “كل كم يخطئن لم يبصره ولا عرفه” (1يو3: 6)..

الظاهر أن هناك أناسًا يظنون أن عاطفة المحبة نحو الله تكون في القلب فقط، دون أن تظهر في الأعمال ولا في السيرة والسلوك، ودون أن يعبروا عن محبتهم تعبيرًا عمليًا يظهرها ويؤكدها..

لا تكفي يقظة القلب، إن كانت الحياة نائمة.. المفروض أن القلب المستيقظ يدفع الإنسان باستمرار إلى العمل الروحي.. إن الإيمان دون أعمال ميت كما قال الرسول (يع2: 26). ما فائدة محبة القلب، وما معنى محبة القلب، إن كنت نائمًا وكسلانًا ولا تعمل ما تستوجبه تلك المحبة؟ ما معنى أن يكون الغصن حيًا، إن كان لا يزهر ولا يثمر.. ؟!

والغرابة أنه على الرغم من هذا الكسل والنوم، ما تزال النفس تقول “حبيبي”.. “صوت حبيبي قارعًا” “حبيبي مد يده من الكوة فأنت عليه أحشائي”، “قمت لأفتح لحبيبي.. فتحت لحبيبي لكن حبيبي تحول وعبر”..

أهو حبيب حقًا، إذن هو “تعب المحبة”؟!

الله أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد.. الرب أحبنا فمات عنا، أنت تحبين، فماذا فعلت في التعبير عن حبك؟!

هذا الحبيب الذي أحبك يقرع على الباب، ولا تفتحين.. !! يظل في انتظارك حتى تمتلئ رأسه من الطل، وقصصه من ندى الليل، وأنت نائمة، تحتجين بأنك قد خلعت ثوبك، وغسلت رجليك، وتتركينه، مقدمة له شتى الأعذار.. ثم تجرئين أن تُسَمَّي هذا حبًا؟!

إن الحب النظري لا ينفع شيئًا، لابد أن يكون حبًا عمليًا لقد قال يوحنا الرسول “لا نحب بالكلام، ولا باللسان، بل بالعمل والحق” (1يو 3: 18).

هذه النفس تفكر في ذاتها أكثر مما تفكر في الله.. تفكر في ثوبها وفي رجليها وفي راحتها، ولا تفكر في حبيبها الواقف منتظرًا الذي امتلأ رأسه من الطل.. الذاتية تمنعها من البذل، وحب الراحة يعطلها.

هذه النفس تريد أن تجمع بين الله والعالم بين محبة الله ومحبة ذاتها. لا تريد أن تتعب. لا تريد أن تدخل من الباب الضيق. تريد حبًا بدون صليب..

ماذا لو أن الله أحبنا، دون أن يصعد على الصليب؟!

ماذا لو أحبنا دون أن يبذل ذاته عنا؟!..

إذن لماذا لا نفعل مثله في المحبة الباذلة؟! ولكن هذه النفس المسكينة في سفر النشيد، تريد أن تحب الله وهي نائمة. و: انها تقول لله “أحبك يا رب، وأحب النوم أيضًا. أتراني أجمعكما معًا؟”

هذه العروس تقول في النشيد “قلبي مستيقظ”. أهي بالفعل يقظة حقيقية؟ وإن كانت كذلك، فما هي فاعليتها؟

هناك يقظة عقلية، ويقظة أخرى عملية.

قد يكون القلب مستيقظًا: يحس أن هذا خطأ، ومع ذلك يقع فيه. يستطيع أن يميز صوت الله من صوت الغرباء، ومع ذلك لا يتبع صوت الله.. إنها صورة شرحها بولس الرسول في رسالته إلى رومية “الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي أريده فإياه أفعل” (رو7: 18، 19).

إذن قد يكون القلب مستيقظًا، والإرادة ضعيفة. الضمير متيقظ، ولكن لا عزيمة ولا إرادة. ونتيجة الضعف يسقط الإنسان في الشر الذي لا يريده، كبطرس حينما أنكر سيده.

صوت حبيبي قارعًا، أفتحي لي..

إن قول الرب لها “افتحي لي” يعني إنها مغلقة أمامه. قد أغلقت نفسها على ذاتها تَحَوّصَلَت داخل هذه الذات.. داخل عبارات ثوبي، ورجلي، وراحتي، ونومي..

كثيرًا ما تقف الذات عقبة في طريق الله..

تسأل إنسانًا أن يصلي، فيقول لك: وقتي، شغلي، دروسي.. تسأله أن يصوم. فيقول لك: رغباتي، شهواتي، غرائزي، جسدي، أفكاري.. دائمًا قبل كل شيء، والله هو آخر الكل..

وقد يصلي الإنسان، ولكن ذاته تكون كل شيء في صلاته، ينسى الله في صلاته، ولا يتذكر سوى طلباته. هي ذاته موضع اهتمامه، وليس محبة الله.

هذه الأعذار تدل على أن النفس “تركت محبتها الأول، المحبة التي كانت مشتعلة قبلًا. مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئها. وأعذار كثيرة لا يمكن أن تعوقها.

إنها في القلب فقط، لأن القلب مستيقظ، ولكنه ليس في الإرادة لأنها نائمة.

“افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي. فإن رأسي قد امتلأ من الطل، وقصصي من ندى الليل”.

كلام عاطفي ومؤثر، قد يلين الحجر. ولكن هناك نفوسًا قاسية لا تلين مهما كلمها الرب بحب ورفق..

كثيرًا ما تقف قساوة القلب حائلًا بين الإنسان والله. لذلك ينصحنا الرسول قائلًا “إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم” (عب3). وفي قصة عذراء النشيد، نجد أنها على الرغم من قساوة قلبها، ومن رفضها وعم استجابتها، لا تزال تبرر أخطاءها بالأعذار..

غسلت رجلي، فكيف أوسخهما؟!

القديس أوغسطينوس يتأمل هذه العبارة من زاوية الخدمة..

كأن العروس تعتذر عن القيام بالخدمة مكتفية براحتها في الهدوء والتأمل، وفي ذلك تقول للرب: في طريقي إليك، في خدمتي لك، سأطأ الأرض، ستلمس قدماي التراب والمادة، فاتسخ.. سأصطدم بالناس وبعوائق الخدمة والعثرات، فأتسخ.. وأنا قد غسلت رجلي في المعمودية، وخرجت طاهرة، كيف أوسخهما؟!

نعم، قد تتسخ رجلاك في طريق الخدمة، ولكن عزاءنا في ذلك أن السيد المسيح غسل أرجل التلاميذ. وقال لهم”أنتم الآن طاهرون” (يو13: 10)..

أدخلي في الخدمة، وواجهي العثرات والمعطلات، وثقي أن يد الله ستكون معك، وستغسل كل ما يَتَّسِخ فيكِ.. موسى النبي الوديع الذي كان حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس، دخل في الخدمة (غلا4: 2)، وغضب، وكسر لوحيّ العهد المكتوبين بإصبع الله. وبولس الرسول أضطر أن يغير صوته في الخدمة، وأن يقول: أفآتيكم بعصا، وقال “أيها الغلاطيون الأغبياء” (غلا3: 10) وقال أيضًا “قَدْ صِرْتُ غَبِيًّا وَأَنَا أَفْتَخِرُ. أَنْتُمْ أَلْزَمْتُمُونِي” (2كو12: 11).

وفي كل ذلك غسل المسيح أرجل رسله وتلاميذه..

“أنا نائمة وقلبي مستيقظ”

هل تدل هذه العبارة على حب بغير عمل، أم على حالة فتور، أم تدل على النفس البشرية، أم اعتذارها عن الخدمة؟

 حبيبي تحوَّل وعبر (نش 5: 6)

 

تقول عذراء النشيد “خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟! غسلت رجليَ, فكيف أوسخهما؟! حبيبي مدّ يده من الكوة: فأنّت عليه أحشائي. قمت لأفتح لحبيبي, ويداي تقطران مرًّا, وأصابعي مُرٌّ قَاطِرٌ على مقبض القفل, فتحت لحبيبي, لكن حبيبي تحول وعبر, نفسي خرجت حينما أدبر. طلبته فما وجدته, دعوته فما أجابني” (نش5: 3-6).

آفة كبرى, أن يخطئ الإنسان, ولا يحس إنه أخطأ, فيكون ضميره نائمًا, وقلبه نائمًا أيضًا: لا يوبخ, ولا ينتهر, ولا يبكت, ولا يبث شعور الندم والخزي.

أما هذه العذراء, على الرغم من نومها, كان قلبها مستيقظًا, كانت لها الحساسية القلبية المرهفة, على الرغم من أن الإرادة كانت ضعيفة..

كانت نائمة, كسلانة, لا تريد أن تقوم وتفتح الباب.. وعلى الرغم من هذا الكسل, كانت تلتمس لها الأعذار! “قد خلعت ثوبي, فكيف ألبسة؟ قد غسلت رجليّ, فكيف أوسخهما”..؟!

كثيرًا ما يأتي على النفس شعور, أنها تريد أن تستريح, وهكذا يصبح كل عمل روحي وقتذاك, ثقيلًا عليها. إن هذا العمل الروحي سيكون على حساب راحتها وهدوئها واستجمامها.. جاء صوت الله متأخرًا!! بعد أن خلعت ثوبها وذهبت لتنام. بعد أن تعبت من ثقل النهار وحرة, ودخلت لتستريح.. كيف تقوم مرة أخرى؟! وكيف تسير لتفتح الباب؟

هل تشاء يا رب أن تفتح بابًا جديدًا للجهاد، بعد أن خلنا ثوب الحرب ودخلنا نستريح؟!

ألا تتركُنا لنستريح من هذا الجهاد؟ ونغفوا ولو قليلًا؟ حقًا إن الروح نشيط (القلب مستيقظ), ولكن الجسد ضعيف لذلك فأنا نائمة. صعب أن يأتينا الامتحان ونحن في وقت راحتنا، ونحن في برودة روحية, حينئذ تكون الحرب شديدة, لأننا غير مستعدين لها، ولعلة من أجل هذا السبب, قال لنا الرب

” صلوا لكي لا يكون هربكم في الشتاء ولا في سبت” (مت24: 20). الشتاء وقت البرودة, والسبت وقت الراحة..

هذه العذراء أتتها الدعوة الإلهية في وقت رأته غير مناسب. كان ممكن أن يجيئني الرب قبل أن أدخل إلي حجرتي, وأخلع ثيابي, وأغسل رجلي, وأعطر يديِ, وأغفوا لأستريح..!

هنا يبدو أن الدعوة الإلهية تحتاج إلي بذل, وإلي تضحية, وإلي عطاء,.. إنها طريقة الله..

يطلب من الأرملة أن تعطي من أعوازها (مر12: 44), ويطلب من إبراهيم أن يقدم ابنه الوحيد الذي تحبه نفسه (تك22: 2), ويطلب من أرملة صرفة صيدا أن تعطي لإيليا كل غذائها في وقت المجاعة (1مل17: 13), المسألة تحتاج إذن إلي بذل لأن العطاء من سعة هو عطاء رخيص, لا يمس القلب..

أما البذل فهو دليل الحب, ودليل على إن الإنسان قد خرج من سيطرة الذات, ووضع نفسه في المتكأ الأخير.

وهذا هو محك الاختبار الذي يريده لك المسيح..

يريد أن يثبت حبك عن طريق تعبك وبذلك, وحسبما تتعب تبذل, على هذا القدر يعوضك الرب أضعافًا في ملكوته. وكما قال الرسول: “كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه” (1كو3: 8).. لا تستلم للراحة, قم وأتعب من أجل الرب.

هكذا يكون الصليب هو علامة محبتك للرب, لا بد أن تحمل صليبك في طريقك إليه, ولابد أن تصعد على الصليب..

عذراء النشيد دخلت إلي فراشها لتستريح، وتثاقلت في أن تقوم, ولكن على عكسها كان داود النبي, الذي أقسم قائلًا: ” إني لا أدخل إلي مسكن بيتي, ولا أصعد على سرير فراشي, ولا أعطي لعيني نومًا, ولا لأجفاني نعاسًا, ولا راحة لصدغي, إلي أن أجد موضعًا للرب ومسكنًا لإله يعقوب” (مز132: 2-3).

كانت العذراء نائمة بينما الكتاب يحذرنا من هذا النوم بقوله:

لئلا يأتي بغتة فيجدكم نيامًا (مر13: 36), “اسهروا إذن وصلوا”.

“أنا نائمة وقلبي مستيقظ. صوت حبيبي قارعًا..”

أريد أن أتمتع بالنوم, وأتمتع بحبيبي في نفس الوقت!!

أريد أن أحب دون أن أختبر” تعب المحبة”..

إنه حبيبي, وأنا أحبه, وأعرف صوته, وأميز صوته, من صوت الغريب. مشاعري كلها نحوه. ولكن أن افعل الحسنى فلست أجد” (رو7: 18). عندما مد يده من الكوة “أنَّت عليه أحشائي”. قلبي كله له لكن إرادتي مبتعدة عنه بعيدًا, لا تقوى على الطريق الضيق, ولا تقوى على حمل الصليب..

متى تتصالح الإرادة, مع مشاعر القلب, وتخضع لها؟

متى أسمع صوت حبيبي فأقفز من على فراشي, ولا أطيق أن أنام. إنما أخرج أنا أيضًا معه ” طافِرًا على الجبال, وقافزًا على التلال” (نش2: 7), أتبعه حيثما كان..

يكفي أنه تنازل وأتى ِ, ويكفي إنه ناداني بأسمى.

إن نداء الرب له تأثيره العميق مهما تكاسلت عنه.

إن كلمة الرب حية وفعالة, وأمضى من كل سيف ذي حدين (عب4: 12), ولا يمكن أن ترجع إليه فارغة (أش55: 11).. هذا الصوت الذي رنّ في أذني, قد رن بالأكثر في قلبي, ومهما كنت نائمة لابد, سأقوم..

“قمت لأفتح لحبيبي ويداي تقطران مرًا” (نش5: 5), (والمر هو عطر سائل).

هذه النفس المتدللة, كانت يداها تقطران مرًا.. أي لم تكن تكتفي بأن ترش شيئًا من العطر على يديها, بل كانت تغطسهما في إناء مملوء من عطر المر, وهي راقدة على فراشها, حتى تقوم ويداها “تقطران مرًا”..

هذه النفس المتدللة المتكاسلة التي اعتذرت عن القيام للرب بقولها: ” خلعت ثوبي فكيف ألبسة؟ غسلت رجلي فكيف أوسخهما..؟! وكانت عندها نظافة رجليها, أكثر من تفكيرها في الرب, وفتح مكان له في حياتها.

هذه النفس المتدللة, حينما قامت أخيرًا لتفتح للرب, قامت متأخرة, وكان حبيبها قد تحول وعبر, وتركها لفترة مريرة من فترات التخلي..

لقد زارتها النعمة, ثم تركتها بسبب تكاسلها وتراخيها..

كثيرًا ما تزور النعمة إنسانًا, ولكنها تنظر إلي مدى تجاوبه مع عملها فيه. إن وجدته حارًا في الروح, يشترك في العمل الإلهي مع نعمة الرب, ألهبته النعمة بالحب, وصار بعملة معها شريكًا للروح القدس. أما إن تراخى وتكاسل, واستهان بدعوة الله, فأن النعمة تتركه. ويبقى هذا الإنسان وحيدًا, ويقاسى مرارة التخلي..

وسنضرب مثلًا لهذا التكاسل الذي يسبب التخلي..

قد تستيقظ من النوم, وتسمع صوتًا عميقًا يناديك من الداخل “قم صلي” قف وتكلم مع الله, ليكن الله هو أول من تحادثه في هذا اليوم. لا تتكاسل. لا تهمل الصلاة مثل أمس وقبل من أمس.. ولكنك تقول “نعم سأصلي, ولكن بعد أن أغسل وجهي، بعد أن أسرح شعري, بعد أن أرتب ملابسي, بعد أن أقضي هذا الأمر وذاك”.. ثم تشغلك عوائق كثيرة عن الصلاة, وتقف لتصلي فتجد فكرك مشتتًا, وعدد من الموضوعات قد دخل فيه. ولا تجد الحرارة السابقة فتقول في مرارة “حبيبي تحول وعبر” وتتذكر قول داود: يا الله أنت إلهي, إليك أبكر, عطشت نفسي إليك, “أنا أستيقظ مبكرًا”..

كم مرة لمست النعمة قلوبنا, ولكننا تكاسلنا, فضاع الشعور, وضاعت العاطفة, وبردت الحرارة, وتحول حبيبنا وعبر..

كثير من الناس ضاعت الفرصة منهم, لأنهم قاموا للرب متأخرين, مثل العذارى الجاهلات, جئن بعد أن أغلق الباب.. لماذا إذن تتأخر في الاستجابة للرب؟! لو إن هذه النفس, عندما قالت “صوت حبيبي قارعًا “, قامت بسرعة وفتحت له, حتى قبل أن يتكلم, لكانت قد تمتعت بالوجود مع الرب, وما كانت بكت قائلة: نفسي خرجت عندما أدبر. طلبته فما وجدته. دعوته فما أجابني.

عجيب هذا الأمر حقًا.. الله المحب الحنون, الذي يقول “فيما تدعو إني أنا أستجيب”. تقول عنه العروس هنا “دعوته فما أجابني”!! الله الذي يقول “أطلبوا تجدوا” (لو11: 9), تقول عذراء النشيد “طلبته فما وجدته”!!

 إن الحب يا أخوتي, هو أكثر المشاعر حساسية, وأكثرها تأثيرًا. ولا يوجد شيء أكثر إيلامًا للقلب..، من أن تحب إنسانًا فيتجاهلك, وتقرع بابه فلا يفتح لك. لهذا قال الرب “جرحت في بيت أحبائي” (زك13: 6).

لقد سعى الرب إلي هذا النفس, طافرًا على الجبال, قافزًا على التلال. وخاطبها بأرق الألفاظ ” افتحي لي يا أختي, يا حبيبيتي يا حماماتي, يا كاملتي”,.. ومع كل ذلك لم تستجب. لذلك تركها لتختبر البعد عنه.. لعلها وجدت إنه هو الساعي, فتدللت وتثاقلت.. ورأت إنه الطارق, فتناومت وتكاسلت, وكما يقول المثل: إذا كثر العرض قل الطلب.

لذلك أبتعد الرب عنها, لكيما تشتاق له, وتركها لكي تسعى إليه, وحرمها هذا الحب حتى لا تحسبه رخيصًا فتهمله. وجعلها تقاسي مرارة البُعد, حتى تقدر حلاوة الحب.

إن المحبة يا ابنتي ليست ضريبة تفرض عليك, ليست أمرًا ترغمين عليه, وتغصبين نفسك على ممارسته, بل هو اشتياق وانجذاب.. أنت لا تريدين أن تفتحي لي, لا مانع, سأتركك إلي حريتك, إلي أن تشعري بأهمية وجودي في حياتك, إلي أن تفهمي مدى حاجتك إلي الوجود معي. وحينئذ ستندمين على بعدك, وسترجعين..

 

فترات التخلي:

ستندم تلك النفس على تكاسلها, وبعدها عن حبيبها, وحينئذ ستبحث عنه, وترجع إليه.

 وسوف تدرك إن التخلي كان اختبارا نافعًا لها..

فترات التخلي هذه تأتي على كثيرين, فيشعرون إن هناك حائلًا كبيرًا بينهم وبين الله. يشعر الشخص منهم إنه واقف وحده, بعيدًا عن الله, بجفاف في حياته, وعدم إحساس بالعزاء الداخلي, يشعر إن عبادته بلا عاطفة, بلا حرارة, بلا حب, بلا روح, بلا صلة, بلا استجابة, بلا دالة..

والناس في مراحل التخلي على نوعين:

نوع إذ مر بمرحلة، يلوم نفسه وليس الله:

يقول: أنا السبب. أنا سلكت نحو الله مسلكًا جعله يتخلى عني. والأفضل أن أرجع إلي علاقتي الأولي بالله. إن الله في كمال محبته, لا يستحق مني هذه المعاملة السيئة. وفي إحساناته الكثيرة لا يصح أن أتذمر عليه هكذا. ليتني أصطلح معه.

ونوع أخر إذ وجد في مرحلة التخلي يتذمر على الله:

ويجدف على الله ويحتج ويقول: أين ما يقولونه عن حنانك وعن محبتك؟! وأفرض أنني أخطأت, لماذا لا تسامح؟ ولماذا لا تغفر؟ لماذا تعاملني هكذا؟ لماذا أنت شديد وقاسي وعنيف؟! وبمثل هذه التجاديف تزداد الخطية وتستفحل الخطية.

وإنسان أخر في مرحلة التخلي لا يتذمر على الله, ولا يسترضيه, وإنما ينساه, يتركه..

يقول له: إن كنت أنت تتخلى عني, وتتركني, وأنا كذلك. حسن إن هذا الأمر قد جاء منك..!! وهكذا يسلك بعيدًا عن الله, ويتمادى في تركه, ويتحول ما فيه من جفاف إلي انحراف.. وهكذا ينهار ويضيع, كما لو كان يعاند الله..

إن فترات التخلي, غالبًا ما تكون بسبب الإنسان.. وفي قصة عذراء النشيد كانت بسبب التراخي والكسل.

هناك نوع أخر من التخلي, يكون بسبب الكبرياء.

يسلك إنسان في كبرياء القلب, ينتفخ من الداخل, يظن في نفسه إنه شيء, تكبر مواهبه في عينيه. حنان الله الذي حفظه من الخطية فترة من الزمن, بسببه يشعر إنه بلا خطية!! وأن عنصره فوق مستوى الخطأ, وإن الخطية خاصة بالمبتدئين فقط.

وهكذا بسبب كبريائه, تتخلى عنه النعمة ليعرف ضعفه.

وفي مرحلة التخلي يبحث عن نفسه فلا يجده, ويسقط في خطايا المبتدئين. ويحاول أن يصلي فلا يعرف, ويجاهد لكي يتوب فلا يقدر. ويصرخ من أعماق قلبه “طلبته, فما وجدته. دعوته, فما أجابني”. ويرجع إلي الله ليقول له: أنا ضعيف ومسكين. أنا أضعف من أن أقاتل أصغرهم.

وهذا التخلي يقود إلي الانسحاق والاتضاع..

حينئذ يعرف أنه في الموازين إلي فوق. وإنه خير له أن يأخذ موقف العشار المتذلل, وليس موقف الفريسي المنتفخ.. ويقول للرب: “وأخيرًا يا رب, عرفت أن الباطل المنسحق, خير من الحق المنتفخ”..

حقًا إنه قبل الكسر كبرياء, وقبل السقوط تشامخ الروح (أم16: 8), وإن هذا الكبرياء من أسباب التخلي.

سبب أخر للتخلي, هو إدانة الآخرين..

أحيانا ندين الآخرين على خطية معينة, فيسمح الله بتخليه عنا, أن نقع في نفس الخطية, لكي ندرك إننا لسنا أقوى من غيرنا, ولكي نعرف إن ثباتنا كان سبب عمل النعمة فينا, ولم يكن بسبب قوتنا الخاصة. ولي نعرف أيضًا قوة العدو المحارب, وعنفه وقسوته في حروبه, فنشفق على الساقطين بدلًا من أن ندينهم.

حقًا, أن فترات التخلي تعطي القلب شفقة على الخطاة..

فيدرك تمامًا إن مغزى قول الرسول” أذكروا المقيدين كأنكم مقيدين أيضًا مثلهم, والمذلين كأنكم أنتم أيضًا في الجسد” (عب13), وهكذا إذ وجد إنسانًا ساقطًا يبكي عليه كأنه هو الساقط. وهكذا كان يفعل القديس يوحنا القصير: كان إذ رأى إنسانًا ساقطًا يبكي ويقول: إن العدو قوي, وكما أسقط أخي اليوم قد يسقطني غدًا, وقد يقوم أخي من سقطته, وأنا لا أقوم, لذلك أبكي..

إن تخلي النعمة قد يكون ظاهريًا وليس حقيقيًا..

ربما يكون مجرد حرب سمح فيها الله للشيطان أن يضرب هذا الإنسان, دون أن تتخلى النعمة عنه, فيطن هذا الإنسان إنه قد سقط من يد الله.. بينما الله كضابط للكل يراقب الموقف بعمق شديد, وقد حوَّط بنعمته حول الإنسان حتى لا يضيع. مثال ذلك قصة أيوب الصديق. ظن في تجربته إن الله قد تخلى عنه, ولم يكن الأمر كذلك, وأنقذ الله أيوب.

من الجائز أن يكون هذا التخلي, لونًا من الحكمة الإلهية في تدريب الإنسان وتربيته.

مثال هذا الأم التي تعلم أبنها المشي. تمسكه بيدها ليمشي قليلًا, ثم تتركه فيقع ويصرخ ولا تقيمه بل تتركه حتى يقف ويتابع المشي, ولو حملته باستمرار على كتفيها, وأمسكته باستمرار في مشيه, ما تعلم المشي قط..

هكذا أيضًا تفعل الطيور في تعليم فِراخها للطير, وهكذا يفعل الآباء في تعليم أبنائهم العوم. وهكذا يفعل الله في تربية الإنسان:

بالتخلي يعلمه الحرب, كما قال داود النبي ” مبارك الرب.. الذي يعلّم يديّ القتال, وأصابعي الحرب” (مز144: 1).

نهاية التدليل والكسل والفتور في حياة هذه العروس, كانت تخلي الرب عنها. وفي فترات التخلي, ذاقت كم فعل العدو بها.

إننا نصمد أمام العدو, طالما كانت قوة الرب معنا, فإن فارقتنا قوة الرب, وقعنا في أيدي أعدائنا.

مثال ذلك شمشون الجبار, لم يستطع أحد أن يقوى عليه, طالما كانت قوة الرب معه. فلما كسر نذره, وفارقته القوة الإلهية, استطاع أعداؤه أن يذلوه. كذلك قيل عن شاو ل الملك “وفارقت روح الرب شاول, وبغتة روح رديء من قبل الرب” (1صم16: 14).

هذا الروح الرديء لم يكن له عليه سلطان قبل أن يفارقه روح الرب..

إن العدو ينتهز فترات التخلي, لكي ليضرب ضرباته بلا رحمة..

وهكذا تقول عذراء النشيد “ضربوني, جرحوني, رفعوا إزاري عني..” لقد كنت مصانة أيها العروس داخل بيتك, وكان الرب يقرع على بابك ويناديك.. أما الآن فقد ضاعت هيبتك الروحية في شوارع المدينة.. لقد وجد العدو فرصته وانتهزها. بدأ العدو يضربك, ويعريكِ, وينزع عنك ثوب البر الذي ألبسك الرب إياه من قبل.

الابن الضال أيضًا أذله العدو وهو في كورة بعيدة..

عندما ابتعد هذا الابن عن الأب, استطاع العدو أن يضربه وبلا سلاح. واستطاع أن ينزع إزاره عنه. إنها فرصته وقد سمح له الرب بها..

ولكن هل يمكن أن يسمح الله للعدو بأن يفعل هذا؟

نعم يمكن لأجل, فائدة الإنسان, يمكن أن “يسلم مثل هذا للشيطان لإهلاك الجسد, لتخلص الروح في يوم الرب” (1كو5: 5).. لقد سمح الله مرة للشيطان أن يضرب أيوب البار, أفلا يسمح له بأن يضرب الكسالى والمتهاونين والمخالفين وصاياه؟!

وهكذا ممكن أن يسلم الله إنسانًا لأيدي أعدائه..

عندما أخطأ بنو إسرائيل, سلمهم الرب لأيدي أعدائهم أكثر من مرة, وتكررت هذه العبارة مرارًا أكثر من مرة في العهد القديم, مثلما ورد في سفر القضاة “فحميّ غضب الرب على إسرائيل. فدفعهم إلي أيدي ناهبين نهبوهم, وباعهم بأيدي أعدائهم حولهم. ولم يقدروا بعد على الوقوف أمام أعدائهم.. فضاق بهم الأمر جدًا” (قض2: 14, 15), سمح الله أيضًا أن يدفعهم إلي أيدي نبوخذ نصر, وان يسلمهم إلي سبي بابل وسبي أشور.

كان خيرًا لهم أن “يبكوا على أنهار بابل, وأن يعلقوا قيثاراتهم على أشجار الصفصاف” (مز 137).

كانت فترة التخلي نافعة روحيًا. وكما قال الكتاب “أملأ وجوههم خزيًا, فيطلبون أسمك يا رب..”

وهكذا حدث مع عذراء النشيد: لولا التخلي ومتاعبه, ما كان ممكنًا أن نقول “أحلفكن يا بنات أورشليم, إن وجدتن حبيبي, أن تخبرنه بأنني مريضة حبًا”.

من أين أتت عبارة “مريضة حبًا”..؟ إنه إحساس الاشتياق جاء كثمرة طبيعية للتخلي والبعد والحرمان..

كانت النعمة تسعى إلي هذه العروس المتدللة المتكاسلة, وتقرع بابها, ولكنها لم تشعر بقيمة هذه النعمة. فلما قاست مرارة التخلي, ولما ضربت وجرحت من الحرس الطائف, حينئذ أحست إنها كانت في نعمة لم تقدرها.. وحينئذ شعرت بحاجتها إلي الرب الذي لم تفتح له قبلًا فقالت: “إنني مريضة حبًا”.

حسن أن هذه العروس, لمل تحول عنها الرب وعبر, لم تتركه هي أيضًا. فمن داخلها قالت “نفسي خرجت حينما أدبر”. ومن جهة العمل قالت “طلبته فما وجدته, دعوته فما أجابني”، ولما لم تجده ولم يجبها, لم ينته بها الأمر عند هذا الحد.. بل سعت إليه.

تفسير سفر نشيد الأنشاد 4  نشيد الأنشاد 5 تفسير سفر نشيد الأنشاد تفسير العهد القديم تفسير سفر نشيد الأنشاد 6
البابا شنوده الثالث
تفاسير نشيد الأنشاد 5  تفاسير سفر نشيد الأنشاد تفاسير العهد القديم

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى