تأملات في سفر نشيد الأناشيد للبابا شنوده الثالث – الأصحاح الثامن

مَنْ هذه الطالعة من البرية؟! (نش 8: 5؛ 3: 6)

 

موضوع تأملنا اليوم في سفر النشيد، هو عبارة قالها الرب عن كنيسته، وردت مرتين في السفر في (نش 3: 6) (نش 8: 5):

* “مَن هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان، وكل أذرة التاجر” (نش 3: 6).

* “مَن هذه الطالعة من البرية، مستندة على حبيبها” (نش 8: 5) إنه تأمل في جمال الكنيسة، وفي جمال النفس البشرية المحبة لله. وكيف أنها طالعة من البرية، وطالعة في جمال، معطرة بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر، كأعمدة من دخان صاعدة من المجمرة.

وسوف نتناول هذا الوصف: كأغنية تُنشد لكنيسة العهد القديم، وكأغنية تُنشد للكنيسة المنتصرة، أو كأغنية تُنشد لقديسي البرية.

1- أغنية تُنشد لكنيسة العهد القديم:

يمكن أن تؤخذ عبارة “الطالِعة من البرية” على كنيسة العهد القديم، التي طلعت من برية سيناء، واتجهت إلى كنعان، مستندة على ذراع حبيبها.

مسيرة الكنيسة في البرية، كانت مسيرة عجيبة حقًا إذ خرج الشعب بلا طعام ولا شراب، ولا ملابس كافية لتلك الرحلة الطويلة، ولا باقي الاحتياجات اللازمة، مجرد خروج على أسم الله بالإيمان وليس أكثر.

وضعوا أرجلهم في البحر، مستندين على زراع حبيبهم، الذي سندهم في عبورهم، سند المياه من هنا، وسندها من هناك. ومشت الكنيسة في البحر، مستندة على حبيبها، وعاشت في البرية.

* عاشت بالإيمان، الذي يرى ما لا يُرى..

وفي قلب كل واحد رن قول الرب “وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك هذه الأربعين سنة في القفر. وأطعمك المن الذي لم تكن تعرفه ولا عرفه آباؤك. ثيابك لم تبل عليك، ورجلك لم تتورم هذه الأربعين سنة ” لكي يعلمك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (تث 8: 2 – 4).

حقًا إن الإنسان الذي يحيا في الإيمان، مستندًا على الله حبيبه، يمكن أن يختبر عجائب في عمل الله معه..

يمكن أن يفجَر له الله ماء من الصخرة (خر 17: 6)، ويمكن أن يحول له الماء المر إلى ماء حلو (خر 15: 23 – 25). ويمكن أن يشق له في البحر طريقًا (خر 14: 21، 22) ويمكن لهذا المؤمن أن يختبر محبة الله له: يظلله السحاب بالنهار، ويضئ له عمود النار بالليل (خر 13: 21، 22) ويمكن أن يحميه الرب من جميع أعدائه.

وهذا كله حدث لتلك الطالعة من البرية. وانهزم أمامها سيحون ملك الأموريين (عد 21: 23 – 26)، كما انهزم أمامهم عوج ملك باشان (عدد 21: 33- 35).. حتى لكان شعوب الأرض يتأملون كل هذا ويقولون في عجب: ” مَن هذه الطالعة من البرية مستندة على حبيبها؟!

أيضًا النفس المستندة على حبيبها، يسقط عن يسارها ألوف، وعن يمينها ربوات، وبعينها تنظر وتتأمل مجازاة الأشرار (مز 91: 7، 8) الرب يظلل على يدها اليمنى، فلا تضربه الشمس بالنهار، ولا القمر بالليل (مز 121: 5، 6).

مشكلتنا في الحياة أننا لا نستند على حبيبنا!! قد تستند على مواهبنا، على قوتنا وذكائنا، على غنانا! ونستند على زراع بشري، وعلى حكمة بشرية! وربما نستند على الشيطان وكل حيله!!

وقد ننجح نجاحًا مؤقتًا، الهزيمة أفضل منه! وقد نفشل..

أما الذي يستند على الله الذي يحبه، فيمكنه -كالثلاثة فتية- أن يمشي في أتون النار ولا يحترق.. كانت النار تحيط بهم، ولم تكن لها قوة على أجسامهم، وشعرة من رؤوسهم لم تحترق. حدث ذلك لأنهم كانوا مستندين على حبيبهم، الذي كان ماشيًا معهم في وسط النار، وكان شبيهًا بابن الآلهة (دا 3: 25، 27).

لعل الملائكة في ذلك الوقت كانوا ينظرون إلى نفوس هؤلاء الفتية في النار، وهم يُغَنّون “مَن هذه الطالعة من البرية مستندة على حبيبها”؟! لقد طلعوا من النار، وكأنهم خارجون من أحد البساتين وإحدى الفراديس!

داود النبي جرب الاستناد على ذراع حبيبه حينما قال ” الرب نوري وخلاصي ممن أخاف؟! إن يحاربني جيش فلن يخاف قلبي، وإن قام علىّ قتال، ففي هذا أنا مطمئن” (مز 27: 3). وحينما قال “الرب يرعاني فلا يعوزني شيء. في مراع خضر يربضني، وإلى ماء الراحة يوردني.. أيضًا إن سرت في وادي ظل الموت، لا أخاف شرًا (مز 23). ولماذا لا أخاف؟ لأنك أنت معي نفسي مستندة على ذراع حبيبها.

وهكذا أيضًا الكنيسة في العالم، تعيش مستندة على ذراع حبيبها. لاحظوا أنه قال “مستندة على حبيبها ولم يقل مستندة على القوي الجبار.. حقًا أن حبيبها قوي جبار. ولكن عبارة حبيبها هنا لها عمقها العاطفي، ولها قوتها أيضًا، إذ يُقال في نفس النشيد “المحبة قوية كالموت. مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة” (نش 8: 6، 7) ولأنه يحب هذه النفس، ويحب هذه الكنيسة، لذلك يفعل كل شيء لأجلها، وبقوة النفس التي تستند على حبيبها، تعيش مطمئنة، في سلام..

تغني قائلة: وإن قام علىّ قتال، فأنا مطمئنة (مز 27: 3). ولماذا أنت مطمئنة أيتها النفس؟ ولماذا كانت الكنيسة كلها مطمئنة؟ لأنها مستندة على حبيبها. “شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني” (نش 2: 6 ). رحمته تحيط بي من كل ناحية. إنها مطمئنة لأنها في حضن الله. فمهما صادمتها المشاكل والعقبات والحروب، لا تهتز ولا تضطرب. وإنما تقول في ثقة المستند على حبيبه “إن كان الله معنا، فَمَنْ علينا”..؟

هذا النشيد أيضًا هو أغنية للكنيسة المنتصرة..

2- أغنية للكنيسة المنتصرة:

يمكن أن يقال هذا النشيد في السماء، في استقبال الكنيسة التي جاهدت على الأرض وغلبت. الكنيسة التي عاشت في هذا العالم، في البرية القفرة.. في تعب وشقاء في الطريق الكرب، ودخلت إلى الفردوس من الباب الضيق (مت 7: 14) ولذلك يستقبلها الملائكة قائلين: مَن هذه الطالعة من البرية.. ؟!

العالم بالنسبة إليها كان برية، أقفرت من تنعمُّات العالم وملاذه، ومن لهوه وعبثه وضجيجه. لأنها أطاعت قول الكتاب “لا تحبوا العالم، ولا الأشياء التي في العالم.. إن العالم يمضي وشهوته معه” (1 يو 2: 15، 17). أما هي فأجابت الرب يقول المزمور لكي يزهر لك جسدي في أرض مقفرة، ومكان بلا ماء وموضع غير مسلوك (مز 63: 1).

هذه الكنيسة طالعة من البرية، لكي يختطفها الرب على السحاب، وتكون مع الرب كل حين (1تس 4: 17).

نعم: مَن هذه الطالعة من البرية، التي لم تعش في فراديس وفي جنات، كما عاش سليمان وهو يعزي نفسه بخيرات العالم قائلًا “بنيت لنفسي بيوتًا، وغرست لنفسي كرومًا. عملت لنفسي جنات وفراديس، وغرست فيها أشجارًا من كل نوع ثمر. عملت لنفسي برك مياه. قنيت لنفسي عبيدًا وجواري.. جمعت لنفسي فضة وذهبًا. اتخذت لنفسي مغنين ومغنيات وتنعُمات بني البشر.. ومهما اشتهته عيني لم أمسكه عنهما” (جا 2: 4-10).

أما الكنيسة فرفضت أن تستوفي خيراتها على الأرض (لو 16: 25).

إنما تعبت على الأرض، لكي تتمتع في السماء. عاشت على الأرض في طقس لعازر المسكين عاشت فقيرة، ولكن مستندة على حبيبها. كما قال بولس الرسول ” مكتئبين في كل شيء، لكن غير متضايقين. متحيرين لكن غير يائسين، مضطهدين لكن غير متروكين..” (2 كو 4: 8، 9).. “كحزانى ونحن دائمًا فرحون. كفقراء ونحن نغني كثيرين. كأن لا شيء لنا، ونحن نملك كل شيء” (2 كو 6: 10).

هذا النشيد يمكن أيضًا يصلح لقديسي البرية، فهو:

3- أغنية تُنشد لقديسي البرية:

هؤلاء القديسون يسبحون الرب في كل يوم تسبحه جديدة. وفي كل يوم يهمس الملائكة في آذانهم قائلين: “ها باركوا الرب يا عبيد الرب، القائمين في بيت الرب في ديار بيت إلهنا. في الليالي أرفعوا أيديكم أيها القديسون وباركوا الرب” (مز 134: 1، 2).

يستمع الملائكة إلى هذه الصلوات ” الطالعة من البرية، ويقولون للرب ” طوبى لكل السكان في بيتك، يباركونك إلى الأبد (مز 84: 4).

أهل العالم – حتى إن دخلوا الكنيسة – قد يسرحون في أمور العالم أثناء الصلاة. أما هؤلاء القديسون -فحتى إن شغلوهم بشيء من أمور العالم- فإنهم أثناءها يسرحون في الله. عاشوا في البرية القفرة، بدون أي معونة، مستندين على حبيبهم واستطاعوا أن يقدسوا البرية بصلواتهم وبحياتهم. حتى تحولت البرية إلى سماء ثانية. واجتذبت إليها طالبي الروح من أقصاء الأرض كلها..

عاشوا في طقس الصلاة الدائمة. ولقّبوهم بملائكة أرضيين وبشر سمائيين. فعندما تصعد أرواح هؤلاء القديسين إلى السماء. فلاشك ستجري الملائكة لاستقبال أرواحهم الطاهرة بهذا الهتاف “مَن هذه الطالعة من البرية”.

سليمان الحكيم -كاتب سفر النشيد- أتراه في حلم ورؤيا – أبصر جماعات السواح والمتوحدين والرهبان طالعة من البرية، فاستقبلها بهذا النشيد “مَن هذه الطالعة من البرية؟!”

يوحنا كاسيان حينما زار براري مصر، قال إن المسافر من الإسكندرية إلى طيبة (الأقصر)، لم يكن صوت التسبيح والألحان والصلوات ينقطع من أذنيه طول الطريق وذلك لكثرة الأديرة والقلالي والمغارات المنتشرة في كل مكان في البرية، يسكنها أولئك القديسون الذين أحبوا الرب فأحبوا الوحدة. وعاشوا كملائكة الله على الأرض.. كل شبر من تلك الأرض المقدسة، قد باركه القديسون ودشنوه بصلواتهم ومزاميرهم. حبّات الرمال تقدست، إذ وطئتها أقدامهم الطاهرة.

هذه الحياة المقدسة الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، صاعدة إلى عرش الله، يهتف لها سكان السماء قائلين: مَن هذه الطالعة من البرية؟!

إن الحياة التي شهدها العالم في براري مصر، في القرنين الرابع والخامس، كانت كأنها الحلم! نسمع عنها الآن، وكأنها قصة.. ! كيف عملت النعمة في نفوس أولئك القديسين بكل تلك القوة وبكل ذلك العمق؟! وكيف كانت أرواحهم في كل يوم، كأنها على سلم يعقوب صاعدة إلى السماء ونازلة منها.. وفي كل درجة تصعدها على ذلك السلم الروحاني، يصرخ السمائيون في عجب وإعجاب “مَن هذه الطالعة من البرية”؟!

إنه منظر عجيب حقًا، حينما نرى ملائكة نازلة من السماء إلى الأرض. ولكن الأعجب منه أن نرى بشرًا لهم صورة الملائكة صاعدين من الأرض إلى السماء.. ! وليس فقط فرادى قلائل، وإنما جماعات عديدة لها نفس الصورة، نفس القداسة والبر والشفافية، نفس الزهد والعفة. فيصرخ الجميع لمرآها “مَن هذه الطالعة من البرية؟!” ووجه العجب الكبير أن هؤلاء الصاعدين كالملائكة، لهم أجساد مادية، وقد سكنوا في هذا العالم في وسط شهوته. هم بشر تحت الآلام مثلنا (يع 5: 17) ولكنهم عاشوا صورة لله ومثاله.

هل دخلوا النار كالثلاثة فتية، ولم يحترقوا. أم هم قد صعدوا من النار كأعمدة من دخان، معطرة بالمُر واللبان.

هذه هي الكنيسة طالعة من البرية. الأشرار يهبطون إلى أسفل، أما الأبرار فيطلعون إلى فوق. دائمًا الكنيسة طالعة إلى فوق.

مَن هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان، وكل أذرة التاجر” (نش 3: 6).

مَنْ هذه الطالعة من البرية؟ كأعمدة من دخان معطرة بالمرّ واللبان (نش 8: 5؛ 3: 6)

كأعمدة من دخان:

هنا يتأمل الرب كنيسته في برها, وفي عبادتها، وفي آلامها من اجله. فيقول: من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان؟!

لا شك أن عبارة “أعمدة من دخان” لا يمكن أن تعني ذلك الغزل الرخيص الذي يتهمون به سفر النشيد. فلا يمكن أن تقبل امرأة من حبيبها هذا الوصف! ثم هل يتفق هذا التعبير من قوله عن عروس أنها “جميله كالقمر, مشرقة كالشمس” (نش 6: 10).

نعم، المعنيان يتفقان في المفهوم الروحي..

إن عبارة “كأعمدة من دخان” تحمل معنى روحيًا جميلًا يليق بالنفس العابدة، في علاقتها مع الله. فكيف يكون هذا؟

تصور انك أمام المجمرة (الشورية). واتيت بحفنة من البخور وضعتها فيها. فما الذي يحدث؟ يحترق البخور من لهيب النار، ويصعد كأعمدة من دخان زكية الرائحة، وهكذا الكنيسة.

نعم تصور معي هذا المنظر الجميل: مجمرة مملوءة من النار المقدسة، التي هي الحب الإلهي. والمحبة تشبهها سفر النشيد فيقول: ” مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة” (نش 8: 7).

هذه المجمرة وضعت فيها حبات من البخور، هي شخصيات القديسين.

حبة اسمها القديس انطونيوس الكبير، وحبة اسمها آبامقار الكبير. وحبة اسمها الأنبا بيشوي, وأربعة اسمها القديس أثناسيوس الرسولي. وخامسة اسمها الشهيد مارجرجس..

وحبات أخرى كثيرة من السواح والمتوحدين والشهداء والبطاركة والأساقفة، والأبرار في كل جيل..

هذه الحبات اشتعلت بالحب، وطلعت إلى فوق كأعمدة من دخان، كرائحة بخور، تتسم منها الله رائحة الرضا (تك 8: 21).

وتنسمها الملائكة، فأعجبت برائحتها الزكية، وغنت في فرح “من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان؟!”

مُعطرة بالمرّ واللبان:

كان المرّ من العطور التي تدخل في تركيب الدهن المقدس الذي كان يُستخدم في المسحة المقدسة في العهد القديم. تلك التي مُسحت بها خيمة الاجتماع وتابوت العهد، وكل أواني الخدمة ز كما مسَحَ بها هرون رئيس الكهنة وبنوه (خر 30: 23-30).

كما كان المر واللبان من تقدمات المجوس للمسيح.

اللبان كان يرمز إلى الكهنوت.

والمر كان يرمز الآلام، وإلى رائحة الحياة الطيبة.

وبكل هذا تعطرت الكنيسة، وتعطرت النفس البشرية التي تحب المسيح.

ومن العطور المقدسة الميعة والسليخة. لذلك فإن المرتل قال للكنيسة في المزمور “المرّ والميعة والسليخة من ثيابك” (مز 45: 8).

لذلك لم يكتفِ سفر النشيد بأن يجعل العروس معطرة بالمر واللبان ْ فقط، وإنما أضاف “وبكل أذرة التاجر”، بكل العطور جميعها..

وكل أذرة التاجر:

وأنت أيها الابن المبارك -بعد عمر طويل- عندما تصعد روحك إلى فوق: هل تكون زكية الرائحة ” معطرة باللبانْ وبكل أذرة التاجر”؟ أم تفوح منها رائحة الخطية البشعة , لا سمح الله..

لأن بعض الناس حينما يموتون، تمتلئ حجراتهم برائحة بخور. وآخرون تتعفن أجسادهم بسرعة. ويحاول أقرباؤهم أن يدفنوهم قبل أن تفوح الرائحة!

والآن نسأل: ما هي أذرة التاجر التي تتعطر بها الروح؟

هي ثمار الروح التي قال عنها الرسول “وأما ثمر الروح: فهو محبة، فرح, سلام, طول أناة، لطف, صلاح, إيمان، وداعة، تعفف” (غل 5: 22، 23).. هي الطهارة والنقاوة والقداسة، وحرارة الروح، والشوق إلى الله. هي زيت العذارى الحكيمات، وشركة الروح القدس، وهي البذل والعطاء، والجهاد.. هي ثمر الإيمان، وثمر التوبة..

وَتُرَى مَنْ هو التاجِر؟

هو الذي قال عنه الرب “يُشبه ملكوت السموات إنسانًا تاجرًا يطلب لآلئ حسنة. فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن، مضى وباع كل ما كان له واشتراها” (متى 13: 15، 16).

هو التاجر الذي يقول الرب في اليوم الأخير ” يا سيد، خمس وزنات سلمتَني. هوذا خمس وزنات أُخر ربحتها فوقها” (متى 25: 20).

وأيضا التاجر هو كل خادم للرب يقدم للناس الروحيات، ويقول مع القديس بولص الرسول “صرت لكل شيء، لأخلص على كل حالٍ قومًا” (1 كو 9: 22).

هؤلاء التجار الحكماء ملأوا الكنيسة عطرًا ولبانًا ومرًّا، وميعة وسليخة، وقرفة وعودًا وقصب ذريرة” (خر 30: 23-25).. وكل أذرة التاجر.. كل فضيلة وبر من كل نوع..

أعمدة من دخان:

وهكذا ارتفعت الكنيسة إلى الرب ” أعمدة من دخان ” وهو:

دخان الذبائح والمحرقات:

كانت الذبائح والمحرقات توضع على المذبح، وتوقد النار فترتفع أعمدة من دخان. وقد طلب إلينا القديس بولس الرسول أن نتشبه بتلك الذبائح عندما قال “أطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية” (رو 12: 1).

فيا ليتنا نعيش على الأرض كذبيحة، كمحرقة على الذبح تلتهمها النار المقدسة.

وتصعد كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر.

وتقديم النفس كذبيحة أمر واضح في صلواتنا: يقول المرتل “فلتستقم صلاتي كالبخور قدامك. وليكن رفع يديّ ذبيحة مسائية” (مز 63: 4، 5). فلتستقم صلاتي كالبخور، أي كأعمدة من دخان، كذبيحة مسائية. وكما قال المرتل أيضًا “باسمك ارفع يديّ، فتشبع نفسي كما من لحم ودسم”.

أبعد هذا يقول إنسان إن سفر النشيد يعثرني!!

بل تعثرك يا أخي أفكارك الجسدانية، التي لم ترتفع بعد عن هذا المستوى الجسداني.

ولم تصعد إلى فوق، كأعمدة من دخان.

الطالعة من البرية:

عبارة ” الطالعة من البرية coming out of the wilderness قد تطلق على كنيسة العهد القديم، كما تطلق أيضا على كنيسة العد الجديد، المزينة بالفضائل، التي يعمل فيها الروح القدس بكل مواهبه، بكل أذرة التاجر.

فأنه قيل ” بالروح يعطى لواحد كلام حكمة، ولآخر كلام عِلم، ولآخر مواهب شفاء، ولآخر عمل قوات، ولآخر نبوة، ولآخر تمييز أرواح، ولآخر ترجمة ألسنة.. هذه كلها يعملها الروح الواحد، قاسمًا لكل واحد بمفرده كما يشاء (1 كو 12: 8-11).. هذه كلها من أذرة التاجر.

وعبارة الطالعة من البرية، ربما تقصد بها الصلوات.

الكنيسة ليلًا ونهارًا تصعد منها صلوات وألحان وتسابيح.. كلها تصعد إلى فوق.

فتستقبلها الملائكة بهذا النشيد “الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر.. صلوات معطرة بالحرارة، والإيمان والخشوع، والفهم, والتأمل، والشكر.. وكل أذرة التاجر..

فهل كنيستنا اليوم لا تزال -كما كانت في القديم- كنيسة صلاة؟

هل كل نفس فيها، ترتفع منها كل يوم صلوات وتسابيح، وتراتيل، ومزامير، وأغاني روحية (كو 3: 16؛ أف 5:19). أم ان الملائكة ينتظرونها بلا جدوى، وكأنها في عطلة وغفوة!! لا مرّ ولا لبان، ولا شيء من أذرة التاجر! هل كل بيت من بيوتنا تصعد منه أعمدة دخان المقدسة، كأعمدة الهيكل، معطرة بالمسحة المقدسة، بالمر واللبان..

ما أجمل أن يقول الملائكة بعضهم لبعض: هلم ننظر مصانع الروحيات في هذا البلد المقدس، تطلع منها أعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان، يكملون بعضهم بمزامير وتسابيح وأغاني روحية، مترنمين ومرتلين في قلوبهم للرب ” شاكرين كل حين على كل شيء (أف 5: 19، 20).

هناك أشياء مهما حاولت أن تكتمل لا تستطيع.

روائح عطرة جميلة لا يمكن أن تخفيها. لا يمكن أن تخفي مدينة كائنة على جبل (مت 5: 14). ولا يمكن أن تكتم روائح بستان مملوء بالورد والفل والريحان.. هكذا الكنيسة – العالم الآخر يتأمل جمالها العجيب، في قدسيتها وطهرها، في حرارتها وعبادتها, في محبتها لله والناس، في كل ما فيها من أذرة التاجر..

تصوروا أن الكنيسة أصبحت موضع دهشة الملائكة..

أصبحت موضع دهشة السماء، بل موضع دهشة العالم كله. ينظر إليها فينذهل: ما هذا الجمال؟ ما هذا السمو والعلو؟ ما هذا الصبر في الجهاد؟ ما هذه المثالية؟ لم نرى قبل مثل هذا.. من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة دخان، معطرة بالمرّ واللبان. مثلما دخل المسيح أورشليم، فقالوا من هذا.. ؟! (متى 21: 10) “وارتجت المدينة كلها”.

موقف روحي يتميز به عمل ما، فينظر إليه الكل في دهشة:

ويقولون: قد رأينا اليوم إنسانًا عجيبًا، شخصية من نوع فريد! من هذا الإنسان؟ في أمانته، في دقته؟ في رقته، في أدبه، في محبته، في فهمه..؟ تُرى من تكون هذه الشخصية؟ من هذه الطالعة من البرية، معطرة بالمرّ واللبان وكل أذرة التاجر.

عبارة كل أذرة التاجر, تشير إلى كمال الكنيسة:

ليست متحلية بفضيلة واحده فقط، وإنما بالكل أذرة التاجر.. بكل بركات النعمة، بكل ثمر الروح..

كنيسة “جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان” (2 تي 4: 7). جمعت كل الخير، جمعت الإيمان والأعمال “تعبت من أجل الرب ولم تكلّ” (رؤ 2: 3).

أما نحن فقد دخلنا على ما لم نتعب فيه. آخرون تعبوا ونحن دخلنا على تعبهم.

أننا ننظر إلى الكنيسة الآباء في إعجاب شديد، وهي معطرة بالمرّ واللبان وكل أذرة التاجر، مستندة على حبيبها، ونقول من هذه التي طلعت من البرية؟ وكيف وصلت إلى هذه الدرجة؟!

اجعلني كخاتم على قلبك، كخاتم على ساعِدك (نش 8: 6)

كلمة خاتم هنا معناها ختم. فيكون القلب مختوما به، وكذلك يكون الساعد (الذراع) مختوما، مثلما قال الرب للمدينة المقدسة “نقشك علي كفي” (أش 49: 16).

عبارة الختم علي القلب تعني الحب والعاطفة.

والختم علي الساعد تعني العمل الجاد. فالمساعدة مشتقة من الساعد.

والختم علي كليهما يعني العاطفة التي تعبر عن ذاتها بالعمل. فلا يكفي فقط أن تحبني، بل أن تكون يدك معي أيضا، تعمل معي.

ومن جهة التأمل في هذه الآية: يمكن أن تؤخذ كأنها موجهة من الإنسان إلي الله، ومن الله إلي الإنسان، ومن إنسان إلي إنسان غيره (أي في العلاقات البشرية).

فإن كانت لك محبة من نحو الله والناس، ينبغي أن تكون المحبة في قلبك، وأيضا في عملك (في ساعدك). وإن كان سفر النشيد قد تكلم عن الحب، فلم يقصد به مجرد الحب في القلب ” حبيبي لي، وأنا له” (نش 2: 16) بل قيل أيضا ” شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني” (نش 2: 6). أي أن الساعد مشترك مع القلب. هنا الحب والحنان معا.

فالمحبة ليست مجرد عواطف وكلام. بل قال الرسول “لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق” (1 يو 3: 18).

الأم تحب أبنها، طفلها رضيعها، هو خاتم علي قلبها. وفي نفس الوقت هي تحمله وتحتمله، وتغذيه وترعاه وتنظفه وتداويه. هو خاتم علي ساعدها.

والأب يحب أولاده. محبتهم في قلبه. ولكنه يشتغل ويصرف عليهم (هم في ساعده).

ولنتناول هذه الآية من جهة الله ومحبته للإنسان.

لقد أحبنا الله “أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم حتى المنتهي” (يو 13: 1). هنا المحبة في القلب. ولكنها في الساعد أيضا، في كل أعمال الرعاية، وكذلك في الفداء ” هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد. لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3: 16).

* إذن علي الصليب، كان الحب في القلب، وفي الساعدين المبسوطين وفي كل أنواع الرعاية، ظهر عمليا الحب الذي في القلب..

أحب الله الشعب المضطهد من فرعون، فظهرت يده القوية في تخليصهم منه: في الضربات العشر، ثم في شق البحر الأحمر. وبساعده اهتم بهم في البرية، بهدايتهم، وبإنزال المن والسلوى من السماء، وبتفجير الماء من الصخرة..

أحب دانيال الملقي في الجب، هذا عن القلب. وماذا عن ساعده؟ يقول دانيال: إلهي أرسل ملاكه , فسد أفواه الأسود” (دا 6: 22). وبنفس الوضع مع الثلاثة فتية: تمشي معهم في النار، ولم يجعل لها سلطانا عليهم (دا 3).

أحب يوسف الصديق، فجعله إنسانًا ناجحًا، وزوده بموهبة تفسير الأحلام، وأخرجه من السجن ليكون “رئيسًا علي كل أرض مصر” (تك 45: 8).

وظهر قلب الله وساعده، فيما أجراه من معجزات.

كانوا خاتما علي قلبه في قول الكتاب ” لما أبصر الجموع تحنن عليها” (مت 9: 36) (مت 14: 14) (مر 6: 34). وفي معجزة الخمس خبزات والسمكتين، في قوله “إني أشفق علي الجموع.. لئلا يخوروا في الطريق” (مت 15: 32). ولم يكتف بالإشفاق، بل أعطاهم ليأكلوا وأشبعهم..

وأرملة نايين الباكية لموت ابنها وحيدها “لما رآها الرب، تكنن عليها” (لو 7: 13). هذا من جهة القلب. أما عن ساعده، فأقام ابنها ودفعه إلي أمه..

وساعده أيضًا يظهر في معجزات الشفاء، إذ كانوا يقدمون له المرضي، فيضع يديه علي كل واحد فيشفيهم” (لو 4: 40).

*قلبه وساعده يظهران أيضا في أعمال المعونة والإنقاذ.

وبهذا يتغني داود النبي في المزمور فيقول ” لولا أن الرب كان معنا حين قام الناس علينا، لابتلعونا ونحن أحياء.. مبارك الرب الذي لم يسلمنا فريسة لأسنانهم. نجت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين. الفخ انكسر ونحن نجونا. عوننا من عند الرب..” (مز 124).

أحب لعازر. وقيل “بكي يسوع”. ولما رآه اليهود يبكي، قالوا “أنظروا كيف كان يحبه” (يو 11: 25، 16). ولم يكتف بحب القلب، بل أقام لعازر. هنا ساعده..

* قلبه وساعده ظهرا أيضا في أعمال المغفرة.

لا شك أن مغفرة الله للخطاة تدل علي محبته، وأنهم خاتم علي قلبه. ومن أجمل الأمثلة هنا، معاملته لزكا العشار، الذي كان أيضا خاتما علي ساعده، فدخل إلي بيته، ولم يبال بانتقاد اليهود الذين تذمروا لدخوله إلي بيت رجل خاطئ. بل أكثر من هذا أنه دافع عن زكا وقال “إذ هو أيضا ابن إبراهيم” لذلك صرح قائلًا “اليوم حصل خلاص لأهل هذا البيت” (لو 19: 9).

مثال آخر محبته لتوما الذي شك في قيامته. وهكذا ظهر له، ومد ساعده وقال لتوما ” هات أصبعك إلي هنا، وأبصر يدي.. ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنا ” وهكذا فعل أيضا في إزالة شكوك كل تلاميذه (لو 24: 36-43).

وظهرت محبته للمرأة المضبوطة في ذات الفعل، أنه مد يده وكتب علي الأرض (غالبًا خطايا المتآمرين عليها). ونجاها منهم قائلًا لهم “من كان منكم بلا خطية، فليرمها بأول حجر” (يو 8: 7).

كذلك مع الخروف الضال: لم يكن فقط خاتما علي قلبه، بل أيضا ذهب وبحث عنه حتى وجده. وامتد ساعده فأخذه “وحمله علي منكبيه فرحا” (لو 15: 5). وهكذا فعل أيضا مع الدرهم المفقود (لو 15: 8).

*قلب الله وساعده ظهرا أيضًا في أعمال الرعاية:

إنه ليس فقط يحب غنمه، بل أيضا ” يبذل نفسه عن الخراف” (يو 10: 11) بل يقول أيضًا “وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلي الأبد. ولا يخطفها أحد من يدي” (يو 10: 28). لماذا؟ لأنها “خاتم علي ساعده”.

ولأنها خاتم علي ساعده، لا يجعلها معوزة شيئًا، بل “في مراع خضر يربضها، وغلي ماء الراحة يوردها. يهديها إلي سبل البر” (مز 23). وهكذا يقول ” أنا أرعي غني وأربضها.. واطلب الضال، واسترد المطرود، وأجبر الكسير، وأعصب الجريح..” (حز 34: 15، 16). أليست هذه أعمال ساعده؟..

ومن عمل ساعده في أعمال الرعاية، قوله إذا وقع خروفك في يوم سبت، ألا تقيمه؟ (مت 12: 11) وهذا يقودنا إلي نقطة أخري هي:

* قلب الله وساعده في عمل التوبة والخلاص:

إننا خاتم علي قلبه “يريد أن الجميع يخلصون، وإلي معرفة الحق يقبلون” (1 تي 2: 4). ولا يسر بموت الخاطئ، بل أن يرجع ويحيا” (حز 18: 23).. ولكنه لم يكتف هنا بأن نكون مجرد خاتم علي قلبه، بل جعلنا أيضا خاتما علي ساعده. وكيف؟ بأن أرسل إلينا الأنبياء والوحي والوصايا. وكلف رسله بخدمة المصالحة، ينادون لنا “أن اصطلحوا مع الله” (2 كو 5: 20). وبالإضافة إلي هذا، منحنا النعمة وعمل روحه القدوس “يبكتنا علي خطية” (يو 16: 8) ويذكرنا بكل ما قاله الرب لنا (يو 14: 26). وأرسل إلينا ملائكته “كأرواح خادمة، مرسلة للخدمة، لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص” (عب 1: 14).

اه يا رب، أنا أعرف أنك جعلتني خاتما علي قلبك، اجعلني أيضًا خاتمًا علي ساعدك، وساعدني بكل قوتك علي خلاص نفسي. لا تتركني..

من جهة البشر:

تكلمنا عن الله -تبارك اسمه- وكيف أنه جعلنا خاتما علي قلبه وخاتما علي ساعده. وبقي أن اسأل: هل يفعل البشر هكذا في علاقتهم مع الله؟

كلنا نقول إننا نحب الله، وقد جعلناه خاتما علي قلوبنا. فهل جعلناه أيضا خاتما علي سواعدنا؟ وهل يظهر هذا في حياتنا العملية؟

أمثلة توضح كيف يكون الله خاتما علي سواعدنا، ولا يكون كذلك:

*كان السيد المسيح خاتما علي قلب بطرس، حينما قال له بطرس “ولو أنكرك الجميع لا أنكرك”، “لم شك فيك الجميع، فأنا لا أشك” (مت 26: 33) (مت 26: 35) “أنا مستعد أن أذهب معك إلي الموت وإلي السجن” (لو 22: 33). ولكنه لم يجعل السيد علي ساعده، حينما أنكره ثلاث مرات، وسب ولعن وقال “لا أعرف الرجل” (ت 26: 74). كان علي ساعده (و إنما بطريقة خاطئة) حينما سئل سيفه دفاعا عنه وقطع أذن العبد (يو 18: 10) وحينما جاهد من أجله فيما بعد. وقال “ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس ” (أع 5: 29) وأيضا حينما صلب بسب إيمانه به، كان الرب خاتما علي قلبه، وخاتما علي ساعده.

*أيضا باقي التلاميذ كان الرب خاتما علي قلوبهم (مت 26: 35) ولكنه لم يكن خاتمًا علي سواعدهم حينما هربوا وقت القبض عليه (مت 26: 56) ثم أصبح الرب خاتمًا علي قلوبهم وسواعدهم بعد حلول الروح القدس عليهم (أع 2).

 *أيضا الذين أنكروا الرب في عصر الاستشهاد ثم عادوا فتابوا، كان الرب خاتما علي قلوبهم، ولم يكن خاتما علي سواعدهم وقت إنكارهم.

*أما الشهداء والمعترفون، فكان الرب خاتمًا علي قلوبهم وعلي سواعدهم.. وكذلك أيضًا كل أبطال الإيمان، الذين جاهدوا واحتملوا بسب إيمانهم.

عناصر في جعل الله خاتما علي سواعدنا:

1- في عمل الرعاية وبناء ملكوته:

قال السيد الرب لبطرس “أتحبني..؟ أرع غنمي.. أرع خرافي” (يو 21: 15، 16). أي إن جعلتني خاتما علي قلبك، فاجعلني خاتمًا علي ساعدك برعاية أولادي.. كإنسان يقول للرب: أنا جعلتك خاتمًا علي قلبي. والدليل علي ذلك إنني أحمل أولادك علي ذراعي.. ينطبق هذا علي كل بناة الملكوت، كل الرسل والمعلمين الحقيقيين.

2- كل الذين يتعبون في الخدمة من أجل الله.

مثلما قال بولس الرسول “جاهدت الجهاد الحسن.. حفظت الإيمان” (2 كو 11: 23). وكما قال لتلميذه تيموثاوس “اعكف علي الكلمة”، “عظ، وبخ، انتهر، بكل أناة وتعليم” (2 تي 4: 2).

3- يحفظ الوصايا، وحياة القداسة.

قال الرب “إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي” (يو 15: 10). “من يحبني “أي من يجعلني خاتما علي قلبه. يحفظ وصاياي، أي يجعلني خاتما علي ساعده، بأن يجاهد في تنفيذ أوامري. وبهذا يكون نقيا في قلبه.

هنا الارتباط الوثيق بين الخاتم علي القلب والخاتم علي الساعد.

قال القديس يوحنا الرسول في رسالته الأولي “من قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه، فهو كاذب وليس الحق فيه. وأما من حفظ كلمته، فحقا في هذا قد تكمَّلَت محبة الله” (1 يو 2: 4، 5).

4- تجعل الرب خاتما علي ساعدك، بالطاعة.

* أبونا إبراهيم أبو الآباء، كان الرب خاتما علي قلبه، ومن أجله ترك أهله وعشيرته وبيت أبيه (تك 12: 1) ومضي وهو لا يعلم إلي أين يذهب (عب 11: 8). بهذا كلن الله علي ساعده أيضا، وبالأكثر حين أطاع الله في تقديم ابنه وحيده الذي يحبه إسحق، ورفع ساعده بالسكين ليقدمه محرقة لله (تك 22).

* الملائكة يحبون الله، هو خاتم علي قلوبهم، وهم أيضا يجعلونه خاتما علي سواعدهم، يقول الكتاب عنهم ” الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه” (مز 103: 20).

5- نجعل الله خاتما علي سواعدنا، بالاهتمام ببيته.

*حينما سمع نحميا أن أورشليم مهدمة وأبوابها محروقة بالنار، يقول “لما سمعت هذا، جلست وبكيت، ونحت أياما وصمت وصليت” (نح 1: 4) هنا كان الله خاتما علي قلبه. ولكنه لم يكتف بهذا، بل كلم الملك أرتحشستا وذهب فعلًا وبني سور أورشليم، واحتمل في سبيل ذلك الكثير. فكان الرب بذلك خاتما علي ساعده.

*كذلك كان داود النبي، حينما أعد كل العدة لبناء بيت الله.

* وكذلك كل من يصرف علي تعمير الكنائس والأديرة، مثلما كان يفعل المعلم إبراهيم الجوهري. وأيضا من يهب بيته ليكون كنيسة كما فعلت مريم أم مرقس الرسول (أع 12: 12). وكما فعل أكيلا وبريسكلا (رو 16: 5). وكما فعل نمفاس في لاوديكية (كو 4: 15) وغيرهم.

كل هؤلاء، كان الله خاتما علي قلوبهم، وعبروا عن ذلك بأن وهبوا بيوتهم لله. وبرهنوا بذلك علي أن الله خاتم علي سواعدهم.

وفي هذه النقطة لا ننسي ما فعلته: الملكة القديسة هيلانة.

6- أيضا جعلوا الرب خاتمًا علي سواعدهم: أولئك المتوحدون والنساك:

بسبب محبتهم للملك المسيح، كان خاتمًا علي قلوبهم. وعبروا عن كونه خاتمًا علي سواعدهم، بأن تركوا من أجله العالم وكل مشتهياته، احتملوا آلام الوحدة ومتاعب الطبيعة، والنسك والصوم والسهر.

7- كذلك الذين يحيون حياة التسبيح والصلاة الدائمة.

سواء كانوا من السواح والرهبان. ومثل طائفة السارافيم الذين يسبحون قائلين “قدوس قدوس قدوس..” (أش 6: 3). ومن يجاهدون في الصلاة وفي التأمل قدر طاقتهم، ويأخذون طقس مريم التي جلست عند قدمي المسيح، تسمع وتتأمل (لو 10: 39).

8- نضم إلي هؤلاء: الذي يعترف باسم الرب، ويجاهر باسمه.

مثال ذلك يوسف الرامي في قصة صلب المسيح. كان التلاميذ خائفين، والبعض أنكر. أما هو فذهب إلي بيلاطس، وطلب جسد يسوع بعد موته (مر 15: 43). ولم يخف، وكفنه، ودفنه في قبر جديد لهُ، معلنًا إيمانه بهُ، واهتمامه بجسده وهو ميت.

9- يجعل الرب خاتما علي ساعده أيضًا، من له غيرة مقدسة في الدفاع عن أسم الرب.

مثال ذلك الشاب داود, لما سمع جليات الجبار يجدف علي اسم الرب وشعبه. حينئذ أخذته الحمية, وقال: من هذا الأغلف حتى يعير صفوف الله؟.. لا يسقط قلب أحد بسببه (1 صم 17: 26، 32). ولم يبال بقوة الرجل وجبروته، وبأن الجيش كله خائف منه. بل ذهب ليحاربه وهو لا يملك سوي المقلاع وبعض حصوات ملساء!

10- أيضا يجعل الرب خاتما علي ساعده، من يضبط جسده ونفسه.

و يقول مع القديس بولس الرسول “اقمع جسدي واستعبده” (1 كو 9: 27). من أجل محبة الله الذي جعله خاتما علي قلبه، يجاهد شهواته، ويصلب الجسد مع الأهواء (غل 6: 24). وبهذا يجعل الرب خاتمًا علي ساعده، لأنه يعمل من أجله مجاهدا نفسه، متأثرا بتوبيخ الرسول الذي قال “لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية” (عب 12: 4).

11- عبارة “اجعلني خاتم علي قلبك، كخاتم علي ساعدك” تشمل الإيمان والأعمال.

“خاتم علي قلبك” تشير إلي الإيمان. و”خاتم علي ساعدك” تشير إلي الأعمال. ولا يمكن أن تستقيم حياة الإنسان الروحية بدون الاثنين معا. فالخاتم علي الساعد ثمر للإيمان, ثمر للخاتم علي القلب.

12- أحيانا تكون وسائط النعمة خاتمًا علي ساعدك، وليست خاتما علي قلبك! مجرد عمل خال من الحب.

*كالعبادة التي تتحول إلي روتين، وتخلو من العاطفة والحب. وقد وبخ الرب أمثال هؤلاء قائلًا “هذا الشعب يكرمني بشفتيه، وأما قلبه فمبتعد عني بعيدًا” (مت 15: 8). فهو ليس خاتما علي قلبه. وبالمثل ما قاله الرب عن كل العبادات المرفوضة منه..

* وهكذا كان الفريسيون، يدققون كثيرًا في تنفيذ الشريعة، بدرجة وصلت إلي الحرفية، كأنها خاتم علي سواعدهم! وفي نفس الوقت لم يكن الله خاتما علي قلوبهم. إذ كانت قلوبهم مركزة في الذات والعظمة! ونجد مثالًا واضحًا لذلك في قصة الفريسي والعشار. حيث قال الفريسي “أشكرك يا رب أني لست مثل سائر الناس الخاطفين الظالمين الزناة، ولا مثل هذا العشار. أصوم مرتين في الأسبوع، وأعشر كل ما أقتنيه” (لو 18: 11, 12). كان الله خاتمًا علي ساعده بكل هذه الأعمال.. ولكنه لم يكن خاتما علي قلبه. لذلك لم ينزل من الهيكل مبررا (لو 18: 14).

*مثال آخر: من يدق صليبًا علي ذراعه، ومن تعلق صليبا علي صدرها. و يكون كل منهما بعيدًا عن محبة الله. فالله خاتم علي ساعده وليس خاتما علي قلبه! وبالمثل كل من هن مسيحي بمجرد الاسم..

في معاملات الناس:

* هناك النخوة والشجاعة، في القلب وفي العمل.

مثال ذلك موقف أبينا إبراهيم، لما سمع عن سبي لوط ضمن سبي سادوم. كان لوط خاتما علي قلبه، فلم يحتمل أن يتركه مسبيًا، وتحركت النخوة في قلبه. ولكنه لم يكتف بهذا. بل يقول الكتاب: “فلما سمع إبرام أن أخاه سبي، جر غلمانه المدربين، ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر”. وهكذا حارب ورد سبي لوط وسادوم (تك 14: 14-16). بهذا اشترك ساعده مع قلبه.

*مثال آخر هم دفاع الجندي عن وطنه. بمحبته لوطنه، يكون وطنه خاتما علي قلبه. ولكنه يصبح أيضا خاتما علي ساعده، حينما يحمل هذا الجندي سلاحًا ويدافع عن وطنه. وقد يجرح ويقتل من أجله.

أمثلة أخري، يكون فيها الخاتم علي القلب، خاتما علي الساعد:

* موقف بولس الرسول من أنسيموس عبد فليمون: كان خاتمًا علي قلبه، في قوله عنه “ابني أنسيموس الذي ولدته في قيودي.. الذي هو أحشائي” (فل 10، 12) “لا كعبد فيما بعد، بل أفضل من عبد، أخًا محبوبًا ولا سيما إلي” (فل 16)..

وكان أنسيمس خاتمًا علي ساعد القديس بولس، في قوله عنه لفليمون “إن كان ظلمك بشيء. ولك عليه دين، فاحسب ذلك علي. أنا بولس كتبت بيدي، أنا أوفي” (فل 18، 19).

*مثال آخر في معجزة الخمس خبزات والسمكتين: لم يكتف السيد الرب بإشفاقه علي الشعب وعدم صرفهم جوعانين. وإنما جعلهم خاتما علي ساعده، حينما بارك الخبز القليل وأعطاهم، فشبعوا وفضل عنهم.، إعطانا درسًا حينما قال لتلاميذه “أعطوهم ليأكلوا” (لو 9: 13).

إذن لا يكفي أن نظهر اشفاقنا علي الفقراء، وأن نكتب ذلك في مقالات. فالخاتم علي القلب وحده لا يكفي. إنما يجب أن نعطيهم ليأكلوا، بذلك يكونون خاتما علي سواعدنا أيضًا.

* كذلك أيضًا في معاملاتنا للأطفال، لا يكفي فقط أن نحبهم، إنما نظهر حبنا لهم بما نقدمه من هدايا ومن ملاطفة.

إن العاطفة خاتم علي القلب. أما العطاء فهو خاتم علي الساعد، وتعبير عملي عن الخاتم الذي علي القلب.

والسيد المسيح لم يأمر تلاميذه فقط بأن يتلمذوا الناس ويعمدوهم ويعلموهم (مت 28: 19، 20). إنما قال لهم أيضًا: “اشفوا مرضي، طهروا بُرصًا، أقيموا موتي، أخرجوا شياطين” (مت 10 ك 8). وبذلك يكون الناس خاتمًا أيضًا علي سواعدهم.. وقال كذلك ” مهما فعلتموه بأخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي قد فعلتم” (مت 25: 40).

* فمثلًا ابن يحب أباه، ويجعله خاتمًا علي قلبه. يحب أيضًا أن يجعله خاتمًا علي ساعده: بأن يحترمه، ويهتم به في شيخوخته ويعوله، كما فعل يوسف الصديق مع أبيه يعقوب في أرض مصر (تك 47).

هناك أمثلة عكسية لا يتفق فيها الخاتمان معًا (القلب والساعد).

* يعقوب أبو الآباء: لاشك أنه كان يحب أباه إسحق ويحترمه ويجعله خاتما علي قلبه ويطلب بركته ويسعي إليها. لكنه لم يجعل أباه خاتما علي ساعده، حينما خدع أباه وكذب عليه وقال له “أنا عيسو بكرك” (تك 27: 19).

* كذلك في قصة أصحاب أيوب، لما أتوا إليه في تجربته، أظهروا أنه كان خاتما علي قلوبهم حينما حزنوا عليه “ورفعوا أصواتهم وبكوا، ومزق كل واحد جبته، وذروا ترابًا فوق رؤوسهم..” (أي 2: 12). ولكنه لم يكن خاتمًا علي سواعدهم في كلامهم معه، حينما أخزوه، ولم يراعوا شعوره، بل اتهموه ظلما وأثاروه..

*نحن نحب ملكوت الله ونجعله خاتمًا علي قلوبنا، فهل جعلناه خاتمًا علي سواعدنا بالعمل لأجله. إننا نقول “مساكنك محبوبة أيها الرب إله القوات” (مز 84: 1). فكما أنها هكذا خاتم علي قلوبنا، هل جعلناها خاتمًا علي سواعدنا، بالخشوع فيها ودوام التردد عليها؟!

تفسير سفر نشيد الأنشاد 7 نشيد الأنشاد 8تفسير سفر نشيد الأنشاد تفسير العهد القديمفهرس
البابا شنوده الثالث
تفاسير نشيد الأنشاد 8 تفاسير سفر نشيد الأنشاد تفاسير العهد القديم

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى