تفسير المزمور 139 للقمص أنطونيوس فكري

 

داود هنا يحدثنا مرنمًا عن الله اللامتناهي في المعرفة، الذي لا يحده زمان ولا مكان. فهو موجود في كل زمان، موجود في كل مكان، يعرف كل شيء، هو الذي خلقني، فهو يعرف أعماقي. كل شيء مكشوف أمامه. داود أمام اكتشافه هذا يقف مبهورًا (17، 18) ويجد نفسه غير مستطيع أن يحصي أعمال الله العجيبة وإحساناته التي لا نهاية لها. وفي دهشة بجمال وجلال الله يتعجب من الذين لا يخضعون له بل يتمردون عليه، فيتكلم عنهم باحتقار شاعرًا أنه لا يستطيع أن يتعامل مع هؤلاء. وينطق بروح النبوة بحكم عليهم، فالموت ينتظر مثل هؤلاء.

 

الآيات (1-3): “يَا رَبُّ، قَدِ اخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي. أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ. مَسْلَكِي وَمَرْبَضِي ذَرَّيْتَ، وَكُلَّ طُرُقِي عَرَفْتَ.”

الله فاحص القلوب والكلى كل شيء مكشوف أمامه، حتى أعماق فكر الإنسان فهمت فكري من بعيد = معرفة الله ليست كالبشر مبنية على الاختبار والمعاشرة. ولأن الله يعرف كل شيء فهو سيدين بالعدل. والله يعرف كل حركاتنا وسكناتنا = عرفت جلوسي وقيامي بل تعرف ما أنوي فعله قبل أن أقوم وأعمله، فأنت تعرف فكري من بعيد. ذريت مربضي ومسلكي = أنت تعرف تمامًا وتحيط بكل شيء مهما كان صغيرًا في مسلكي وفي مكان نومي.

 

الآيات (4-6): “لأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي، إِلاَّ وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا. مِنْ خَلْفٍ وَمِنْ قُدَّامٍ حَاصَرْتَنِي، وَجَعَلْتَ عَلَيَّ يَدَكَ. عَجِيبَةٌ هذِهِ الْمَعْرِفَةُ، فَوْقِي ارْتَفَعَتْ، لاَ أَسْتَطِيعُهَا.”

معرفة الله كأن الله يحاصر الإنسان من كل جهة، ويعرف عنه كل شيء، وكل كلمة ومعرفة الله هذه عجيبة، لا يستطيع إنسان أن يدركها = فوقي ارتفعتمن خلف ومن قدام = إن ذهبت للوراء أو تقدمت للأمام فأنت هناك تعرف كل اتجاهاتي، عينك عليَّ بل ويدك  عليَّ = جَعَلْتَ عَلَيَّ يَدَكَ = لتمنعني من قرار خاطئ يضرني، ولتؤدبني إن تعوجت.

 

الآيات (7، 8): “أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ؟ وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي الْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ.”

الله موجود في كل مكان وبالتالي فهو يعرف كل شيء، لا يخفي عنه شيء. وفي آية (7) نرى الثالوث. روحك = هو الروح القدسوجهك = المسيح بهاء مجد الله ورسم جوهره. ولأن الله غير محدود فهو موجود في السماء، بل وموجود في الهاوية. فرشت في الهاوية = رقدت في الهاوية. فهي إشارة لنوم القبر الأبدي وكانوا يذهبون للهاوية. فإن قلنا أن الله لا يوجد في الهاوية (الجحيم مكان الموتى) فهو محدود. هو في السماء حيث عرش مجده، حيث الأفراح الدائمة والمجد المستعلن. وهو في الهاوية حيث قداسة الله وعدله قد استعلنا في دينونة الأشرار. إن صعدت إلى السماء = هذا فعله المرنم عقليًا وليس جسديًا، فهو فكر في السماء وكيف أن الله هناك مسبح من الملائكة. ولعله اشتياق المرنم لذلك. ولكنه بروح النبوة رأى نصيب المؤمنين بعد فداء المسيح ونصيبنا السماوي.

 

الآيات (9، 10): “إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ الصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي الْبَحْرِ، فَهُنَاكَ أَيْضًا تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ.”

إن توجهت وبأقصى سرعة على جَنَاحَيِ الصُّبْحِ (اللذان يفرشان نور الصبح على كل الأرض والجناح يشير للسرعة) إلى أقاصي الأرض، فلن أهرب منك. بل سأجدك هناك راعيًا لي تمسك بيدي لتردني. ونلاحظ في قوله السماوات (آية 8) أي العلو، وقوله البحر يقصد به الهاوية العميقة، وبهذا هو ينظر للبعد الرأسي. وبقوله هنا أقاصي البحر فهو نظر للبعد الطولي. والمسيح جمع بصليبه (خشبة طولية وخشبة عرضية) الكل سمائيين وأرضيين. جعل الكل واحدًا.

لقد حدث هذا مع يونان، فهو ظن أنه هرب من الله، ولكن الله رده بيمينه وهداه.

 

الآيات (11، 12): “فَقُلْتُ: «إِنَّمَا الظُّلْمَةُ تَغْشَانِي». فَاللَّيْلُ يُضِيءُ حَوْلِي! الظُّلْمَةُ أَيْضًا لاَ تُظْلِمُ لَدَيْكَ، وَاللَّيْلُ مِثْلَ النَّهَارِ يُضِيءُ. كَالظُّلْمَةِ هكَذَا النُّورُ.”

وإذا فكرت أن الظلمة هي ساتر لي، يمكنني أن أختبأ بالظلمة منك. فهذا أيضًا غير ممكن فالظلمة بالنسبة لك نور، فأنت يمكنك يا رب أن ترى كل شيء في الظلمة.

وفي تأمل في هذه الآية، إن أحاطت بي التجارب والآلام كظلمة، فتعزياتك تضئ لي طريقي.

 

الآيات (13، 14): “لأَنَّكَ أَنْتَ اقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ. نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي. أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ امْتَزْتُ عَجَبًا. عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذلِكَ يَقِينًا.”

اقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ = أي تعرف أعماقي، فأنت خلقتني بالكامل= نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي. وحينما تأمل في خلقة الله للإنسان، رأى أن الإنسان إمتاز بخلقته عجبًا. فالإنسان بروحه، نفخة الله، وعقله، وإمكانياته يفوق أي خليقة وهو تاج المخلوقات، بل أن الله خلق العالم لأجل الإنسان “السبت جعل للإنسان وليس الإنسان لأجل السبت”(مر2: 27).

 

الآيات (15، 16): “لَمْ تَخْتَفِ عَنْكَ عِظَامِي حِينَمَا صُنِعْتُ فِي الْخَفَاءِ، وَرُقِمْتُ فِي أَعْمَاقِ الأَرْضِ. رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَوَّرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا.”

لله صوَّرني في فكره أولًا، ثم نسجني في رحم أمي = صنعت في الخفاء. لم تختف عنك عظامي.. ورقمت في أعماق الأرض= الله صمم هذه العظام في فكره ورقمها أي كأنه عدَّها ورسمها، كما يرسم المهندس منزلًا على الورق قبل أن ينفذ. والله أخذ عظامي هذه وكل جسمي من أعماق الأرض، فأنا من تراب مأخوذ، ولكنني كنت في فكر الله. وهكذا أعد الله كل أعضائي وصورني قبل أن أتكون في الرحم. وطالما أن الله هو الذي خلق كل جزء فيَّ وصوره فهو يعرف دقائق أموري، وهو الذي يحييني متى يشاء ويميتني متى يشاء. هو يعرف كل شيء عني.

 

الآيات (17، 18): “مَا أَكْرَمَ أَفْكَارَكَ يَا اَللهُ عِنْدِي! مَا أَكْثَرَ جُمْلَتَهَا! إِنْ أُحْصِهَا فَهِيَ أَكْثَرُ مِنَ الرَّمْلِ. اسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكَ.”

هنا يقف المرنم مبهورًا بإحسانات الله عليه. يقدم له الشكر على اهتمامه به في خلقته وتصويره، ثم عنايته به في بطن أمه، وحمايته له. فكل أفكار الله تجاهه هي أفكار حب، وإحسان، بل حتى ما نظنه شرًا فالله يسمح به لخيرنا. ما أكرم أفكارك كم هي عميقة لا أستطيع فهمها، ولكن كلها محبة، لذلك نقف أمام تدبيرك بمنتهى الحمد والوقار والتسبيح حتى إن لم نفهمه. استيقظت وأنا بعد معك = حينما استيقظ فأنا تحت بصرك ورعايتك من أول لحظة في النهار، فأنا في أمان في نومي لأني مسلم كل الأمر لك. ولكن متى أستيقظ يكون قراري في يدي ومع هذا فأنت عينك عليَّ ويدك عليَّ وستنقذني حتى من قراراتي الخاطئة. ولذلك ينصح كثير من الآباء أنه بمجرد أن نفتح عيوننا صباحًا أن نصلي مزمور أو اثنين، لنبدأ من أول لحظات النهار الاعتماد على الله، وهكذا نحيا اليوم كله في خوف الله، نضعه دائمًا أمام أعيننا.

 

الآيات (19-22): “لَيْتَكَ تَقْتُلُ الأَشْرَارَ يَا اَللهُ. فَيَا رِجَالَ الدِّمَاءِ، ابْعُدُوا عَنِّي. الَّذِينَ يُكَلِّمُونَكَ بِالْمَكْرِ نَاطِقِينَ بِالْكَذِبِ، هُمْ أَعْدَاؤُكَ. أَلاَ أُبْغِضُ مُبْغِضِيكَ يَا رَبُّ، وَأَمْقُتُ مُقَاوِمِيكَ؟ بُغْضًا تَامًّا أَبْغَضْتُهُمْ. صَارُوا لِي أَعْدَاءً.”

بعد أن اشتعل قلب المرنم حبًا لله على كل تدبيراته وعنايته. يتعجب أنه مازال هناك أشرار عميان يكرهون الله. ولقد اعتبر أن أعداء الله هم أعداؤه فهو أحب الله بكل قلبه. ونحن لا نكره البشر بل نصلي لهم لكي يتوبوا فلا يهلكوا. لكن نبغض الشياطين. أما داود هنا فهو ينطق بروح النبوة ضد من يستمر في عدائه لله. وهو كملك لا يحمل السيف عبثًا عليه أن يضرب ويؤدب من يخالف (رو4:13).

 

الآيات (23، 24): “اخْتَبِرْنِي يَا اَللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي. وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَاهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا.”

المرنم هنا يلجأ لله فهو اكتشف أن الله يعرف كل شيء عنه، وهو لا يعرف شيء عن نفسه، فهناك خطايا دفينة وميول رديئة فيه لا يراها ولا يعرفها سوى الله. وهو يلجأ لله ليؤدبه بالتجارب والتأديبات المتعددة، ليهديه ويرده من كل طريق باطل، فلا يهلك. وبنفس المفهوم علينا أن نسلم لله في كل ما يسمح به فهو الطبيب الذي عرف دواء وعلاج نفوسنا وأرواحنا، هو وحده الذي يعرف ويداوي بمحبة عجيبة.

زر الذهاب إلى الأعلى