التسليم في تاريخ الكنيسة

 من كتاب المعمودية: الأصول الأولى للمسيحية 
للأب متى المسكين

الفصل الأول
الجزء النظري
4  التسليم في تاريخ الكنيسة

أولاً: التسليم في الأسفار:

1 – «إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقَّنة عندنا  كما سلَّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخُدَّاماً للكلمة.» (لو 1: 1و2)

يبدأ القديس لوقا إنجيله بذكر مصادره التي وفَّرت له هذا الكم الضخم من المعرفة والأسرار في إنجيله.

2 – «فينبغي أن الرجال الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذي فيه دخل إلينا الرب يسوع وخرج، منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنَّا، يصير واحدٌ منهم شاهداً معنا بقيامته (قيامة الرب).» (أع 1: 21و22)

هنا يصرّ التقليد أن يظل التلاميذ اثني عشر شهوداً لقيامة الرب قلب الإيمان المسيحي.

3 – «كما أرسلني الآب أرسلكم أنا.» (يو 21:20)

وهكذا يكون إرسال الرسل تكليفاً إلهياً على مستوى إرسالية المسيح للعالم، والذي سيعلِّم به الرسل ويبشِّرون هو ما استلموه من الرب، وبدورهم يسلِّمونه لكافة الأُمم. فالتسليم هنا بالمعنى الإلهي هو المناداة بالإنجيل ومحوره الكرازة k»rugma بما فعله الرب لأجلنا.

4 – «وأعرِّفكم أيها الإخوة بالإنجيل الذي بشَّرتكم به، وقبلتموه، وتقومون فيه، وبه أيضاً تخلصون، إن كنتم تذكرون أي كلام بشَّرتكم به، إلاَّ إذا كنتم قد آمنتم عبثاً  فإنني سلَّمت paršdwka إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً: أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب، وأنه دُفن، وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب.» (1كو 15: 1-4)

هنا تكرار بولس الرسول لكلمة حسب الكتب ذات معنى هام، فالرسل لا ينادون بحقائق فقط أو مجرَّد حوادث تاريخية، ولكن حوادث شُرحت في ضوء الأسفار المقدَّسة بطريقة تؤكِّد أن حقيقتها من مصدر مؤكَّد. ثمَّ أليس هذا التسليم هو الإنجيل؟ فإنه يبدأ بقوله: » أُعرِّفكم بالإنجيل eÙaggšlion الذي بشَّرتكم به eÙhggelis£mhn « ثمَّ يشرح ذلك قائلاً: » فإني سلَّمت إليكم paršdwka «

 

5 – فعندما قال ق. لوقا: «الأشياء المتيقنة عندنا» (لو 1:1) فهو هنا يشير إلى قلب التقليد = par£dosij = tradition، وقوله: الأشياء وليس الإنجيل يعني ارتباطه بالأعمال الجارية في الكنيسة قبل ارتباطه بتعليم الإنجيل kerygma. فهنا ضمَّ ق. لوقا كل كلام وأعمال الرب المنقولة إليه، وهذا هو التقليد. وكان التقليد في العقود الأُولى من القرن الأول يتبع المناداة بالقيامة شفهياً، وهذا هو التقليد الشفاهي. هذا التقليد الشفاهي دخل في تدوين الإنجيل، وهذا عينه الذي صار ذخيرة في الكنيسة أي التقليد الشفاهي.

6 – «عن جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويُعلِّم به، إلى اليوم الذي ارتفع فيه.» (أع 1: 1و2)

إذن فالتسليم par£dosij يتكوَّن من توصيل أقوال وأعمال يسوع المسيح:

+ » فإننا نقول لكم هذا بكلمة الرب … «(1تس 15:4)

+ » وأمَّا المتزوجون فأوصيهم لا أنا بل الرب. «[1]) (1كو 10:7)

7 – «لأنني تسلَّمت من الرب ما سلَّمتكم أيضاً: إن الرب يسوع في الليلةِ التي أُسلم فيها، أخذ خبزاً … وقال … اصنعوا هذا لذكري. كذلك الكأس أيضاً… قائلاً…اصنعوا هذا كلَّما شربتم لذكري.» (1كو 11: 23-25)

لاحظ هنا أن ق. بولس يقول لأنني تسلَّمت من الرب ما سلَّمتكم قولاً وعملاً. وفي الأناجيل دوِّن هذا التقليد مكتوباً كآخر التقليد الشفاهي المسلَّم من الرب، وهكذا وبلا نزاع فإن التسليم هو الإنجيل.

ومن هذا نستطيع أن نقول إن نقل كلمات الرب وأعماله هي التي يقولها التقليد لإقامة نموذج حياة وسلوك = أي الذي يُسمَّى الطريق([2]) (طريق الحياة أو الموت) كنموذج حياة مسيحية، وهذا هو الذي يُفهم من الآية التالية:

8 – «فاثبتوا إذاً أيها الإخوة وتمسَّكوا بالتعاليم (التقاليد t¦j paradÒseij) التي تعلَّمتموها سواء كان بالكلام أم برسالتنا.» (2تس 15:2)

هذه عيِّنة لحياة مسيحية نموذجية تبعاً لتعاليم وتقاليد منقولة سواء عقائدية أو عملية، التي نقلها إليهم.

9 – «ثم نوصيكم أيها الإخوة باسم ربنا يسوع المسيح، أن تتجنَّبوا كل أخ يسلك بلا
ترتيب وليس حسب التقليد (
par£dosin = tradition) (وليس حسب التعليم كما في الترجمة العربية) الذي أخذه منَّا.» (2تس 6:3)

هنا التقليد يختص بالسلوك، لأن التلميذ يلزم أن يتبع عيِّنة الحياة التي استلمها بالكلام والأعمال كما استُعلنت أيضاً بالقول والعمل عند الرسل.

10 – «وما تعلَّمتموه وتسلَّمتموه وسمعتموه ورأيتموه فيَّ، فهذا افعلوا، وإله السلام يكون معكم.» (في 9:4)

هذه العيِّنة للحياة المسلَّمة من الرسل تكون فردية أو مشتركة. لذلك فهناك تقليد للعبادة والسلوك الذي يُتَّبع: «كما في جميع كنائس القديسين» (1كو 33:14)، «أم منكم خرجت كلمة الله. أم إليكم وحدكم انتهت.» (1كو 36:14)

إذن فكنيسة كورنثوس وهي صغيرة ليست في حرية أن تخرج عن كلمة الله التي سُلِّمت إليهم.

وهكذا نستخلص أن التسليم par£dosij هو الطريق المؤدِّي إلى الحياة. فالمسيح الرب الحي رأس الكنيسة نفسه يُشرف عليها ويقود عملية النقل والتسليم من جيل إلى جيل.

فالرب الحي موجود في الكنيسة، ويعمل في كل عمل رسولي باعتباره تسليمه، والرسل قد ماتوا ولكنه هو حيٌّ!!

+ «وأمَّا المتزوجون فأوصيهم لا أنا بل الرب.» (1كو 10:7)

لاحِظ كما سبق وقلنا عن هذه الآية إن بولس الرسول يتكلَّم بالفعل المضارع “أوصيهم”، لأن الرب حاضر يتكلَّم من خلال التسليم والتقليد من فم لفم.

لهذا نقول إن التسليم في الكنيسة حيّ لأن المشرف عليه والذي يقوده حيّ!

لهذا أيضاً فالكنيسة حيَّة بحياة المسيح رأسها.

ونختم هذه الأقوال بقول بولس الرسول لتيموثاوس: » وما سمعته مني بشهود كثيرين أَودِعهُ أُناساً أمناء يكونون أكفاء أن يعلِّموا آخرين أيضاً «(2تي 2:2). وهكذا سار التقليد من جيل إلى جيل حتى سمعناه نحن أنفسنا ووعيناه.

 

ثانياً: تسليم التراث والتعليم في تاريخ الكنيسة:

بخصوص الآباء الأوائل كان التسليم المكتوب وقفاً على الإنجيل، ولكن بعد ذلك في الأجيال اللاحقة امتد التسليم وزاد وأصبح الإنجيل والكتابات الرسولية.

كما أن التقليد الرسولي أصبح يُسلَّم في الأجيال اللاحقة بالفم كما بالكتابة، وبابياس الأسقف يؤمِّن أنه انتفع من الكلمة المسموعة أي التقليد الشفاهي أكثر مما انتفع من المكتوب:

+ [فأنا لا أتصوَّر أن أحصِّل مثل هذا الانتفاع من المكتوب في الكتب كما هو من صوت إنسان حيّ باقٍ.]([3]) 

هذا التقليد الشفاهي لا يُفضَّل على الكتابات الرسولية، ولكن يُفضَّل على الذين يسجِّلون مدركات غريبة([4]). ولكن بمرور السنين ودخول أنواع هرطقات لا حدَّ لها أصبح الالتزام بكتابات الرسل. وهذا حدث بالفعل عند قيام صدامات مع الهرطقات، فكان الآباء ملتزمين في ردودهم بكتابات الرسل الأصيلة كحجة لا تحتمل النقاش. وهكذا ظلَّت الأسفار المقدَّسة هي القانون والقاعدة وبواسطتها يُقاس كل تقليد آخر ويُثبَت غشّه.

والآباء كانوا على حذر، فقد كانوا لا يستلمون التقاليد التي لا تطابق الأسفار المقدَّسة تماماً بتحقيق، والتي ترتكز على نص كلمات المسيح وشهادات الرسل المؤسَّسة على صخرة الحق. ولكن التقليد ليس مصمتاً ولا هو قواعد ونصوص بل “تقليد حي”، لذلك فإنه ينمو على ممر السنين إنما أيضاً على أساس الرسل والمسيح نفسه حجر الزاوية، الذي يمسك البناء كله مهما تضخَّم.

وشيئاً فشيئاً امتد التقليد ليضم أيضاً كتابات آباء الكنيسة أنفسهم. وهكذا انضم تقليد الآباء إلى تقليد الرسل، ليس لأن تقليد الآباء تقليد جديد، ولكنه شرح صادق ملتزم بتقليد الرسل فجاء مطابقاً في اتجاهاته.

وبعدها دخلت الكنيسة عصر المجامع، فصارت قوانينها تقليداً لميراثها القانوني المتفق عليه، وقُبلت كجزء هام أساسي للتقليد العام. وهذا لم يُعتبر أنه تقليد جديد ولا إضافة، ولكن في الحقيقة هو ملخَّص لعقيدة الإنجيل والأسفار المقدَّسة. ولكن ظلَّ بعض الآباء الكبار مصمِّمين على الاعتماد الكلِّي على الأسفار المقدَّسة، فالقديس أثناسيوس الرسولي يقول:

 

+ [إن الأسفار المقدَّسة الملهمة هي كافية بذاتها لإعلان الحق.]([5]) 

وبعد ذلك أخذت الشروحات التي للآباء العظام مكانة التقليد، وقليلاً قليلاً أُضيفت للتقليد الرسولي للأسفار المقدَّسة.

من هذا نفهم كيف امتدَّ واتسع التقليد وتضخَّم أثناء القرون الأُولى، وعليه اعتبرت الأسفار المقدَّسة والتقليد السلطة المزدوجة لإيمان الكنيسة والممارسة فيها.

 

([1]) بولس الرسول يستخدم الفعل المضارع (أوصيهم مضافاً للرب) تحقيقاً لوجود الرب في عملية التسليم. فالرب يتكلَّم من خلال التقليد المُسلَّم.

([2]) راجع أع 2:9، 25:18و26، 9:19و23، 4:22 حيث تُدعى الديانة المسيحية “الطريق”.

([3]) Eusebius, E.H., 3, 39, 4, NPNF, 2nd ser. vol. I, p. 171.

([4]) Ibid, p. 171, n. 11.

([5]) Athanasius, Contra Gentes, I, 3, NPNF, 2nd ser., vol. IV, p. 4.

ويُلاحَظ أن القديس أثناسيوس يضع نفس هذه العبارة في فم القديس أنطونيوس في بدء عظته الكبرى (حياة أنطونيوس 16)، وهذه حجة تجعلنا نخفِّف الغلواء في عبادة أقوال الآباء.

فاصل

عماد المسيح وسر المعمودية المقدَّسة كتب الأب متى المسكين العلاقة بين تقليد الأسفار المقدَّسة وتقليد الكنيسة
كتاب المعمودية الأصول الأولى للمسيحية
المكتبة المسيحية

زر الذهاب إلى الأعلى