تفسير المزمور 16 للقمص متى المسكين

 

دراسة:

هذا المزمور هو اعتراف بسرور عن إيمان ورجاء نابعين من إحساس بقرب الحياة مع يهوه. أما الخطر، إن كان هناك خطر والذي يعكر الصلاة فيقع تماما في خلفية المزمور. فصاحب المزمور بكل نفسه يتقد بفكر أن يهوه هو حياته الأفضل.

ويُعتقد أن المزمور هو لداود أثناء ما كانت حياته متغربة عن القانون، فهو قد تغرب ودفع بعيداً عن ميراثه ليهوه وتعرض للخطر كمطرود، انظر: (اصم ١٩:٢٦):
+ «والآن فليسمع سيدي الملك كلام عبده. فإن كان الرب قد أهاجك ضدي فليشتم تقدمة. وإن كان بنو الناس فليكونوا ملعونين أمام الرب لأنهم قد طردوني اليوم من الانضمام إلى نصيب
الرب قائلين اذهب اعبد آلهة أخرى».

وفي ساعة التجربة هذه انتصر بفكره أن يهوه نفسه هو نصيبه نصيبي هو الرب قالت نفسي» وهو النصيب الأفضل عن حقول وكروم (٥ و ٦) وهو يجحد بحماس أن يخضع إلى إغراء أن يعبد إله آخر.

ويوجد في المزمور وصلات كثيرة بين هذا المزمور ومزمور (۱۷) ، لهذا ربما بكل احتمال يعود للزمن الذي كان فيه داود مطارداً مع مزمور ۱۷ بواسطة شاول وأنهما من كتابة داود. فإذا كان هذا الافتراض صحيحاً فيعتقد غالباً أن (۱٦: (۱۱۹)، (۱۵:۱۷ يعلنان اعتقاد صاحب المزمور في القيامة وحياة مستقبلية مباركة في مقارنة قاطعة مع مزمور (٥:٦) ومزمور (۹:۳۰) ومزمور (۸۸: ۱۰- ۱۲). فهذه المزامير يمكن بصعوبة أن توضع قبل السبي بقليل.

والعالم Delitzsch بينما هو يوافق أن نظرية القيامة لم تظهر قبل السبي كحقيقة مستعلنة، فكيف تظهر في مزامير داود كعقيدة شجاعة؟ ولكن العالم Cheyne يقول إن التناقض عند داود هو ليس بين هذا العالم والآخر بل بين الحياة مع الله والحياة بدون الله.

والمزمور يقع في ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أساسيات صلاته للحفظ في علاقته مع يهوه المنبع الوحيد لسعادته ومسرته في جماعة الأمناء. ومع الخارجين عن الإيمان ليس له زمالة (١ – ٤).
القسم الثاني فكر أن يهوه هو صلاحه الوحيد منبع كل فلاحه مشغول به باستمرار (۵ – ۸).
القسم الثالث: وإذ هو واثق بإيمانه يمضي حياة بأمانة حقيقية في شركة غير منقطعة بيهوه (۹ – ۱۱).

شرح وتفسير المزمور على مستوى كل التوراة

۱ – «اِحْفَظْنِي يَا اَللهُ لأَنِّي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ.»:

ليس هو في خطر ولكن يطلب حفظه، انظر: (مز ۸:۱۷):

+ «احفظني مثل حدقة العين. بظل جناحيك استرني».

 حتى يبقى الجسد والنفس في أمان وهنا الله هو “إيل” كما هو في مزمور (٦:١٧):
+ «أنا دعوتك لأنك تستجيب لي يا الله (إيل)». 

«لأني عليك توكلت»:

الترجمة الصحيحة: “لأني فيك أخذت ملجإي“. فالله مسئول عن حمايته.

۲ – «قُلْتُ لِلرَّبِّ: “أَنْتَ سَيِّدِي. خَيْرِي لاَ شَيْءَ غَيْرُكَ”.»:

النسخة الماسورية كتبته: أنت قلت وكأن الحديث مع نفسه وهو يخاطب نفسه كما مزمور :(٥:٤٢)
+ “لماذا أنت منحنية يا نفسي ولماذا تئنين في”.

والسبعينية جعلتها مثل الترجمة العربية: “أنا قلت وكذلك السريانية وجيروم، انظر: (مز ١٤:٣١):
+ «أما أنا فعليك توكلت يا رب. قلتُ إلهي أنت».

«أنت سيدي»: My Lord

هنا اعتراف بأنه خادم يهوه، انظر: (مز ٢٢:٣٥) قد رأيت يا رب لا تسكت يا سيد لا تبتعد عني».

«خيري لا شيء غيرك»:

والترجمة الصحيحة: أنا لا أمتلك خيراً بدونك. ويشرحها العالم روبرتسن سميث هكذا: ليس أن الله فقط هو ينبوع كل غناه بل وكل شيء يراه خيراً حقيقياً يكون الله قد احتواه] انظر: (مز٢٥:۷٣)

+ «مَنْ لي في السماء. ومعك لا أريد شيئاً في الأرض».

٣ – «الْقِدِّيسُونَ الَّذِينَ فِي الْأَرْضِ وَالْأَفَاضِلُ كُلُّ مَسَرَّتِي بِهِمْ. – تَكْثُرُ أَوْجَاعُهُمُ الَّذِينَ أَسْرَعُوا وَرَاءَ (إله حسب النص الإنجليزي) آخَرَ لَا أَسْكُبُ سَكَائِبَهُمْ مِنْ دَمٍ، وَلَا أَذْكُرُ أَسْمَاءَهُمْ بِشَفَتَيْ»:

هذه تحكي عن عالم داود الذي يعاشره.

«القديسون الذين في الأرض والأفاضل كل مسرَّتي بهم»:

وتصححها النسخة الماسورية بشيء من التعديل فتكون: “القديسون الذين في الأرض هم الأفاضل الذين فيهم كل مسرتي“.

وهكذا من الله في السماء يتحول إلى الناس على الأرض. والأفاضل الذين يُسرّ بهم ليسوا هم الأغنياء ولا الأقوياء الذين يحوزون على تقدير العالم ولكن القديسين الذين فيهم دعيت إسرائيل أُمة  مقدسة، انظر: (خر ٦:١٩):

+ «وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأُمة مقدَّسة. هذه هي الكلمات التي تُكلّم بها بني إسرائيل».

وهؤلاء يقارن بهم الخارجين المبعدين الذين ليس لهم معه علاقة.

«تكثر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء إله آخر. لا أسكب سكائبهم من دم، ولا أذكر أسماءهم بشفتي»:

«تكثر أوجاعهم»:

انظر: (مز ۱۰:۳۲)

+ «كثيرة هي نكبات الشرير. أما المتوكل على الرب فالرحمة تحيط به».

انظر: (۱تي ١٠:٦):

+ «لأن محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذ ابتغاه قوم ضلّوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة».

«الذين أسرعوا وراء إله آخر»:

انظر: مز (١٩:١٠٦)

+ «صنعوا عجلا في حوريب وسجدوا لتمثال مسبوك».

 + «هل بدلت أُمة آلهة وهي ليست آلهة. أما شعبي فقد بَدَلَ مجده بما لا ينفع».

وأيضاً: (إر ١١:٢):

«لا أسكب سكائبهم من دم»

في طقس تقديم الذبائح عند الوثنيين يقدّمون تقدمة السكائب ليس من خمر وزيت بل من الدماء، التي تلطخت ويُقدّم البخور مع الدماء بها أيديهم وبذلك هي كريهة، انظر: (إش ١٥:١):
+ « فحين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم وإن كثرتم الصلاة لا أسمع، أيديكم ملانة دماً».

وأيضاً: (إش ٣:٥٩):

+ «لأن أيديكم قد تنجست بالدم وأصابعكم بالإثم. شفاهكم تكلمت بالكذب ولسانكم يلهج بالشر».

وأيضاً: (إش ٣:٦٦):

+ «مَنْ يذبح ثوراً فهو قاتل إنسان مَنْ يذبح شاة فهو ناحر كلب مَنْ يُصعد تقدمة يُصعد دم خنزير. مَنْ أحرق لباناً فهو مُبارك وثنا». 

«ولا أذكر أسماءهم بشفتي»:

هؤلاء عابدو الوثن لا أذكر أسماءهم ولا أذكر آلهتهم، انظر: (خر ۱۳:۲۳):
+ «وكل ما قلت لكم احتفظوا به ولا تذكروا اسم آلهة أخرى ولا يُسمع من فمك».

وقد حدا باليهود المتعصبين أنه إذا بدأ ابن لهم يتعلم المسيحية ويذكر اسم المسيح لأول مرة دون دراية يبادره أبوه بقلم صاعق على فمه قائلاً لا أسمع منك هذا الاسم مرَّة أخرى! نعم بصفة أن المسيح آلهة أخرى. هكذا انعمى هذا الشعب عما هو حق وما هو باطل مع أنها أعظم هبة يعطيها الله للإنسان، انظر: (هو ۱۷:۲)

+«وأنزع أسماء البعليم من فمها فلا تذكر أيضاً بأسمائها». 

وأيضاً: (زك ٢:١٣):
+ «ويكون في ذلك اليوم يقول رب الجنود أني أقطع أسماء الأصنام من الأرض فلا تذكر بعد. وأزيل الأنبياء أيضاً والروح النجس من الأرض».

 «5 الرَّبُّ نَصِيبُ قِسْمَتِي وَكَأْسِي. أَنْتَ قَابِضُ قُرْعَتِي. 6 حِبَالٌ وَقَعَتْ لِيفِي النُّعَمَاءِ، فَالْمِيرَاثُ حَسَنٌ عِنْدِي»:

يهوه نصيب صاحب المزمور.

«الرب نصيب قسمتي وكأسي»

يعني أن الرب هو الذي عين قسمتي وكأسي وكلمة قسمتي تعني الجزء الذي تخصص وتحدد بالاسم سواء أرض أو طعام أو أي ملكية وهو الجزء الذي يصير ميراثا وكأن يهوه حضر القسمة الأرضية وهو الذي حدد نصيبه، أما الكأس فيقترح أنها النصيب من الطعام، ولكن في ظننا أن الكلمة تعني الحوادث والوقائع وما يصيب الإنسان، انظر: (يو ٣٥:٦):

+ «فقال لهم يسوع أنا هو خبز الحياة. مَنْ يُقبل إلى فلا يجوع ومَنْ يؤمن بي فلا يعطش أبداً».

وأيضاً: (مز ٦:١١):

+ «يمطر على الأشرار فخاخاً ناراً وكبريتاً وريح السموم نصيب كأسهم».

«أنت قابض قرعتي»:

أي أنت الماسك بقوة ،قرعتي بمعنى أن رزقي في يدك فلا أحد يسرق من يدك، وآخرون يشرحونها على حال أقوى قائلين: إنك أنت هو نصيبي، انظر: (إر ٦:٢٣):
+ «في أيامه يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمنا وهذا هو اسمه الذي يدعونه به. الرب برنا».

وأيضاً : (إر ١٦:٣٣):

+ في تلك الأيام يخلص يهوذا وتسكن أورشليم آمنة. وهذا ما تتسمى به الرب برنا».

وحياة الرفقة مع يهوه تضمن الأمان الخارجي وتضمن الفرح الداخلي.

واللغة هنا تذكرنا باللاويين الذين ليس لهم قسمة ولا ميراث لأن يهوه نفسه هو قسمتهم، انظر: (عد ۲۰:۱۸)

+ «وقال الرب لهارون لا تنال نصيباً في أرضهم ولا يكون لك قسم في وسطهم، أنا قسمك ونصيبك في وسط بني إسرائيل».

وأيضاً: (تث ٩:١٠):
+ لأجل ذلك لم يكن للاوي قسم ولا نصيب مع إخوته الرب هو نصيبه كما كلمه الرب
إلهك».

وأيضاً: (تث ۱۸: ۱و۲)

+ «لا يكون للكهنة اللاويين كل سبط لاوي قسم ولا نصيب مع إسرائيل. يأكلون وقائد الرب و نصيبه فلا يكون له نصيب في وسط إخوته الرب هو نصيبه كما قال له».

لأن إسرائيل كانت أمة كهنة، انظر: (خر ٦:١٩):

+ وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأُمة مقدَّسة. هذه هي الكلمات التي تكلم بها بني إسرائيل». 

وعلى المستوى الروحي كان يهوه هو نصيب إسرائيل، انظر: (إر ١٦:١٠):

+ «ليس كهذه نصيب يعقوب (إسرائيل). لأنه مُصوِّر الجميع وإسرائيل قضيب ميراثه. رب الجنود اسمه».

أما الإسرائيلي الفرد، فانظر: (مز ٢٦:٧٣):
+« قد فني لحمي وقلبي صخرة قلبي ونصيبي الله إلى الدهر».

وأيضاً: (مز ٥٧:١١٩):
+ «نصيبي الرب قلت لحفظ كلامك».

وأيضاً: (مز ٥:١٤٢):
+ «صرخت إليك يا رب قلتُ أنت ملجأي نصيبي في أرض الأحياء».

«حبال وقعت لي في النعماء»:

تقسم الأنصبة في الأرض بحبال المساحة ثم توزّع بالقرعة، ولكن لا تزال اللغة تصويرية فالمعنى أن يهوه بالنسبة له كأحسن وأخيرْ مُلك في أحسن أرض، انظر: (مز ٤:٢٧):
+ «واحدة سألت من الرب وإيَّاها ألتمس أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي لكي أنظر إلى جمال الرب وأتفرس في هيكله».

وأيضاً: (مز ۱۷:۹۰):

+ «ولتكن نعمة الرب إلهنا علينا وعمل أيدينا ثبت علينا. وعمل أيدينا ثبته».

وأيضاً: (إر ١٩:٣):

+ «وأنا قلت كيف أضعك بين البنين وأعطيك أرضاً شهية ميراث مجد أمجاد الأمم». الله يكلم أُمَّة إسرائيل في الشتات، انظر: (إر ١٨:٣):

+ في تلك الأيام يذهب بيت يهوذا مع بيت إسرائيل ويأتيان معاً من أرض الشمال إلى الأرض التي ملكت آباءكم إيَّاها». (آمين يا رب).

«فالميراث حسن عندي»:

لا يزال يستحسن ميراثه وميراثه هو يهوه وسيظهر في الآية القادمة.

 «7أُبَارِكُ الرَّبَّ الَّذِي نَصَحَنِي، وَأَيْضًا بِاللَّيْلِ تُنْذِرُنِي كُلْيَتَايَ. 8جَعَلْتُ الرَّبَّ أَمَامِيفِي كُلِّ حِينٍ، لأَنَّهُ عَنْ يَمِينِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ.»:

«أبارك الرب الذي نصحني»

علمه كيف يختاره وكيف يتبعه، انظر: (مز ۸:۳۲):

+ «أعلمك وأرشدك الطريق التي تسلكها. أنصحك. عيني عليك».

وأيضاً: (مز ٢٤:٧٣):

+« برأيك تهديني. وبعد إلى مجد تأخذني».

«بالليل تنذرني كليتاي»:

لا يزال مع يهوه في أيام الليالي السوداء كليتاي تعلّمني لأبعد عن الخطأ. كذلك تعني أن في هدوء الليل ينذرني وينجيني ويعلمني من خلال صوت الضمير، انظر: (مز ٤:٤):

+ « ارتعدوا ولا تخطئوا. تكلموا في قلوبكم على مضاجعكم واسكتوا».

وأيضاً: (مز ٣:١٧):

+ «جربت قلبي تعهدته ليلاً. محصتني. لا تجد في ذموماً. لا يتعدى فمي».

ومعروف أن الكلى أعضاء العواطف والأحاسيس وفكر الضمير القلب والكلى تعني كل مداخل النفس فكراً وإرادة، انظر: (مز ٩:۷):
+ «لينته شر الأشرار وثبت الصديق. فإن فاحص القلوب والكلى الله البار».

جعلت الرب أمامي في كل حين

انظر: مز (۳۰:۱۱۹)

+ «اخترت طريق الحق. جعلت أحكامك قدامي».

وأيضاً: (مز ۲۱:۱۸):

+ «لأني حفظت طريق الرب و لم أعص إلهي». ورأيت الرب دائماً أمام و وجهي.

«عن يميني»:

كمحام، انظر: (مز ۳۱:۱۰۹):

+ «لأنه يقوم عن يمين المسكين ليخلصه من القاضين على نفسه».

أو عن يمينه ،كجبار، انظر (مز ٥:١١٠):
+ «الرب عن يمينك يحطّم في يوم رجزه . في يوم رجزه ملوكاً».

وأيضاً: (مز ٥:١٢١):

+ «الرب حافظك الرب ظل لك عن يدك اليمنى».

والمحارب الذي يدافع عن آخر فإنه بالطبع يقف عن يمينه.

«9 لِذلِكَ فَرِحَ قَلْبِي، وَابْتَهَجَتْ رُوحِي. جَسَدِي أَيْضًا يَسْكُنُ مُطْمَئِنًّا. 
10 لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِيفِي الْهَاوِيَةِ. لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَادًا. 
11 تُعَرِّفُنِي سَبِيلَ الْحَيَاةِ. أَمَامَكَ شِبَعُ سُرُورٍ. فِي يَمِينِكَ نِعَمٌ إِلَى الأَبَدِ.»:

السعادة التي تنشأ من المسيرة مع يهوه بالفرح والثقة والتقدم.
هنا ينتقل من أتعاب الأرض والحماية من الأعداء إلى الراحة العليا التي كشفت عنها فرحته القلبية التي ملأت نفسه سلاماً. فنظر وتطلع مقدماً فرأى كيف سينجيه من الهاوية مسكن الراقدين دون فساد، وعرفه سرًّا طريق الحياة الأخرى وكيف أن المسرة فيها الشبع.

«جسدي أيضاً يسكن مطمئناً»:

هذه الآية متكررة وتفيد التعبير عن الحياة غير المضطربة في أمان في أرض الميعاد. وهي تؤخذ على أرض الميعاد الزمني لإبراهيم وهي فلسطين، وأرض الميعاد للمواعيد العظمى والثمينة وهي ملكوت الله.

«لأنك لن تترك نفسي في الهاوية»:

والمعنى أن يهوه لن يتخلّى عنه ويسلّمه للعالم غير المنظور ما بعد الموت) الذي يشبه وحشاً هائل يقبض على فريسته. وهو يتوسل كأحد أحباء (hasid) يهوه وذلك ضمن إحساناته. 

«لن تدع تقيك يرى فساداً»:

وقد قرأها العهد الجديد “قديسك” والفساد بالعبري كلمة حيرت العلماء فهي shachath وحاولوا حديثاً ترجمتها إلى قبر أو حفرة. ولكن في الحقيقة هي لا تعبر عن مكان بل تعبر عن حالة. والكلمة العبرية قريبة من الشيخوخة وفسادها وليس الحفرة ولا القبر والمعنى الذي توصلوا إليه أنه لن يمارس الموت ولكن الأصح فساد الموت. 

«تعرفني سبيل الحياة»:

أي تعرفني طريق الحياة، وليس فقط أن تحفظني من فساد الموت بل تقودني إلى أعلى في رفقتك وحينئذ تُدعى الحياة حياة، انظر: (أم ۱۷:۱۰):

+ «حافظ التعليم هو في طريق الحياة ورافض التأديب ضال».

وأيضاً: (أم ٢٤:١٥):

+ «طريق الحياة للفطن إلى فوق للحيدان عن الهاوية من تحت».

وأيضاً: (مت ١٤:٧):
+ «ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة وقليلون هم الذين يجدونه».

وأيضاً: (يو ٣:١٧):
+ «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته».

وطريق الحياة ليس يؤدّي فقط إلى الحياة ولكنه فيه الحياة فهو طريق البر، انظر: (أم ۲۸:۱۲)

+ في سبيل البر حياة وفي طريق مسلكه لا موت».

وطريق الحياة في سفر الأمثال هو المقارن الضد للطريق الذي يؤدِّي للهاوية والموت، انظر أيضاً:(تث ١٥:٣۰)

 + «انظر. قد جعلت اليوم قدامك الحياة والخير والموت والشر».

 طريق الحياة يقود إلى فوق في نور حضرة وفي حضور الله ملء الفرح، انظر: (مز ١٥:١٧):
+ «أما أنا فبالبر أنظر وجهك. أشبع (سعادة) إذا استيقظت بشبهك».

وأيضاً: (مز ٦:٢١):

+ «لأنك جعلته بركات إلى الأبد. تفرحه ابتهاجاً أمامك».

وأيضاً: (مز ٤ : ٦و٧):

«كثيرون يقولون مَنْ يُرينا خيراً. ارفع علينا نور وجهك يا رب جعلت سروراً في قلبي أعظم من سرورهم إذ كثرت حنطتهم وخمرهم».

وأيضاً: (أم ٢٣:١٩):

+ مخافة الرب للحياة. يبيت شبعان لا يتعهده شر».

«في يمينك نعم إلى الأبد»:

فيهوه الوحيد الذي يصنع الخير ، انظر : (أم (١٦:٣) ، حيث يكني عن الله بالحكمة:
+ «في يمينها (الحكمة) طول أيام وفي يسارها الغنى والمجد».

سرور العالم يذبل ويزول أما مسرة الله وحدها أبدية يقول أحد الحكماء المدعو Hooker [نصير سعداء حينما نستمتع تماماً بالله كموضوع فيه كل قوى أنفسنا ورضاها ومسرة وفرح أبدي لا ينتهي. فبالرغم من أننا ا نظل بشراً كما نحن ولكن حينما نكون مع الله متحدين نحيا حياة الله].

شرح إنجيلي للآيات (۸-۱۱-):

 ۱ – شرحها القديس بطرس في يوم الخمسين (أع ٢ : ٢٥-٢٨) هكذا:
+ «لأن داود يقول فيه كنت أرى الرب أمامي في كل حين. عن يميني لكي لا أتزعزع، لذلك سُرَّ قلبي وتهلل لساني، حتى جسدي أيضاً سيسكن على رجاء. لأنك لن تترك نفسي في الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فساداً. عرفتني سبل الحياة وستملأني سروراً مع
وجهك».

وأيضاً: (أع ۲: ۳۰و۳۱):

+ «(وداود) إذ كان نبيا وعلم أن الله حلف له بقسم أنه من ثمرة صلبه يقيم المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه سبق فرأى وتكلم. عن قيامة المسيح إنه لم تترك نفسه في الهاوية ولا رأى جسده فساداً».

إذن داود كان يتكلم بالنبوة ليس عن نفسه، ولكنه إذ كان نبيا تنبأ عن المسيح.

٢ – وكذلك شرحها القديس بولس في أنطاكية بيسيدية (أع ١٣: ٣٦,٣٥):
 + «ولذلك قال أيضاً في مزمور آخر لن تدع قدوسك يرى فساداً. لأن داود بعدما خدم جيله بمشورة الله رقد وانضم إلى آبائه ورأى فساداً».

إذن كانت هذه الأعداد من المزمور نبوة عن قيامة المسيح. والنص في أعمال الرسل أخذ من النسخة السبعينية وهي ترجمة حرة وليست حرفية عن العبرية. 

فالقديس بطرس يُظهر أن داود قد أعطى كلمات وهاجة بالإيمان والرجاء، وهو نفس الحال والمستوى الذي تكلم به داود في المزمور. وكلمات المزمور لم تتحقق في كاتبه لأنه لم يستطع بالنهاية أن يهرب من الموت وجسده رأى فساداً. فهل كانت كلماته كلمات حلم خامل؟ طبعاً لا ولا. ولكن كاتب المزمور كان مقوداً بالروح القدس ورأى أمامه المسيح الذي بعلاقته بالله التي كانت كاملة غير ملومة أن الموت لم يقو عليه ولم يَسُده، وفي قيامته تحققت الكلمات المحكمة وكملت. ولكن صفته النبوية لا تستثني عودتها مبدئياً على صاحب المزمور خاصة من جهة إيمانه ورجائه.

ولكن لا يزال سؤال: ما معنى الكلمات التي قالها صاحب المزمور كما يراها لنفسه؟

هل كان يتكلم عن مسيرته مع الله في هذا الدهر فقط، أو هو كان ينظر ويأمل ويرى ويخترق الحجاب الساتر بين عالمنا الأرضي والعالم الآخر، وتحقق من صدق وواقع استمرار الحياة في إحساس المسيرة مع الله هناك، حتى وإلى مستوى القيامة للأجساد !؟

 إنه من الصعب أن نحرف الكلمات ونجردها، التي تعبر عن الارتباط بما قبلها وبعدها، التي اجتمعت معها وتوازن جزئياً نفس المعنى الأصلي. فمن جهة إنه مؤكد أن نفس اللغة استخدمت في أمكنة أخرى تفيد الانفكاك من الموت الحاضر والاستمتاع بزمالة الله في هذه الحياة. ومن جهة أخرى واضح أن هذه الكلمات تسمح للتدليل على عدم نهاية الحياة في زمالة أو المسيرة مع الله.

وعلى كل حال فإن قوة الإحساس الفائق القوة للسعادة في الوجود مع الله يجعل الموت يتلاشى تماماً ناظرة صاحب المزمور.

واضح أن الحياة في المستقبل موجودة فعلاً في إيمان صاحب المزمور فهو يؤسس رجاءه على الخلاص بسبب علاقته القوية جدا والصادقة جدًّا .بيهوه. وهذه الصلة الحياتية لا يمكن أن يقطعها الموت، انظر: (مت ۳۲:۲۲)
+ «أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب. ليس الله إله أموات بل إله أحياء».

 هذه الحقائق يمكن إدراكها تدريجياً وخلال مصارعة النفس مع الواقع والإيمان والرجاء ثم تتحقق بالكامل حينما نعلم أن المسيح ألغى الموت وأبطله وأنار الحياة والخلود وجعل الحياة وعدم الفساد تنير وتضيء بالإنجيل (۲) تي ١٠:١).

ومن جهة أنفسنا كلمات هذا المزمور يتحتّم أن تحمل لنا المعنى الكامل في القيامة التي قامها المسيح وأنار حقيقتها. ونحن يلزم أن نقول بالحياة الأبدية التي بدأت معنا الآن وهنا وسوف تكمل وتبلغ النهاية والمجد هناك، انظر : (يو ٦: ٥٤,٤٧، ١٩:١٤).

تفسير مزمور 15 مزمور 16 تفسير سفر المزامير تفسير العهد القديم تفسير مزمور 17
القمص متى المسكين
تفاسير مزمور 16 تفاسير سفر المزامير تفاسير العهد القديم
 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى