السماء

وَأَيْضًا جَعَلَ الأَبَدِيَّةَ فِي قَلْبِهِمِ، الَّتِي بِلاَهَا لاَ يُدْرِكُ الإِنْسَانُ الْعَمَلَ الَّذِي يَعْمَلُهُ اللهُ مِنَ الْبِدَايَةِ إِلَى النِّهَايَةِ.” ( جا 3 : 11)

تمهيد:

كتب أحدهم يقول: “أشك لما كنت في أحشاء أمي أني كنت أستطيع  أن أبرهن لتوأمي على وجود حياة أخرى خارج الرحم لأن الرحم الذي نعيش فيه هو عالمنا الوحيد الذي كنا نعرفه, ولو حاولت أن أشرح له أن المخلوقات الأرضية تعيش في بيئة متسعة جداً, وتنفس الهواء, سيصبح أكثر شكاً. فالجنين لازال في الماء في بطن أمه, لذلك لن يمكنه حينذاك أن يتخيل قدرته على المعيشة في الهواء.

هكذا نحن, فنحن نعيش على وجه الأرض. بعضنا ينشغل جداً بحياته على الأرض وإنجازاته ومقتنياته, وننسى أن هناك حياة أخرى في السماء حياة أبدية لا تنتهي. .

وينسى أن حياته على الأرض ما هي إلا لحظات قليلة جداً بالنسبة للأبدية “إنها بخار، يظهر قليلاً ثم يضمحل” (یع 14:4).

ننسى أن حياتنا هنا ما هي إلا مقدمة فقط لحياة أخرى في السماء لا تنتهي, تتبدل فيها طبيعتنا واحتياجتنا ورؤيتنا للأمور. وقد ننسى لدرجة نشك معها أنه توجد أصلاً حياة أخرى وكأن حياتنا على الأرض ممتدة بلا نهاية.

اصنعها بنفسك:

هذه فكرة بسيطة تقرب معنى امتداد حياتنا السمائية بعد حياتنا الأرضية.
اشعل شمعة واتركها تحترق لبضعة دقائق, ثم انفخ فيها حتی تنطفىء, تلاحظ انطلاق كمية دخان وافرة من فتيلة الشمعة,  وعند تعريض عود كبريت مشتعل في طريق سحب الدخان المنطلقة من الشمعة, فانك تلاحظ تدفق نفث من اللهب تشتعل بعده فتيلة الشمعة.

هذه التجربة توضح حقيقة علمية أن الأجسام الصلبة تتحول في أول الأمر إلى غاز عند سطحها يمكن أن يشتعل بشرط أن يتوافر له الأكسجين بكمية كافية.

أما بالنسبة لنا فإن الشمعة ترمز لحياتنا التي نعيشها الآن, فالحياة هي الشمعة الحية المضيئة, ولكن لابد أن تنتهي هذه الحياة على الأرض: فإن كانت هذه الحياة مضيئة فإنها تنير ما حولها, أما إذا انطفأت هنا فإنها تستعيد استنارتها في الحياة الأخرى بطريقة لا تقارن فالحياة السمائية هي الحياة الحقة والمؤكدة, لكن ماذا عن السماء ومن له حق التمتع بالمجد الأبدي في السماء؟ وهل سيستمر الله في رحمته كما يعهده البشر؟ فيسمح للجميع وبلا استثناء – أن يدخلوا السماء؟ وماذا سنفعل في السماء؟ وماذا بعد الموت وهل نتواجد مع أحبائنا هناك؟

وهكذا نجد أنفسنا أمام أسئلة كثيرة لأن السماء بالنسبة لنا هي لغز محير.

حينما أشاهد عظمة السعادة التي يربحها الإنسان بالموت, وتفاهة ما يخسره بفقدان الحياة, لا استطيع احتمال شوقي المضطرم إلى السماء, فأهتف نحو الله قائلا: متی یا إلهي تنتشلني من هذه الحياة وتسكنني وطني العزيز.

القريس غريغوريوس الثيؤلوغوس

ما معنى كلمة سماء؟ 

سماء: تشير إلى كل ما هو ليس أرضا.

السماء الروحية: هي مسكن الله الخاص, لذا يقال أن الله في السماء, وأنه إله السماء ونصلي قائلين: “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض” لأن مشيئة الله قائمة ونافذة في السماء
ويقال أن الإنسان مخلوق سماوي حتى مع أن جوهره ترابی, فالسماء بالنسبة للإنسان هي البداية والنهاية, هي وطنه الأصلي ومستقره في النهاية. فبداية الإنسان كانت يوم خُلق في السماء وسوف تكون نهايته حينما يعود إليها.

ولكن لابد أن نتساءل: ما الذي يشدنا إلى السماء ويجذبنا نحوها؟ 

إن السماء مسكن الله مع القديسين, ونحن نؤمن أننا سنكون في السماء إلى الأبد مع الله: ألم يقل السيد المسيح: “أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَانًا، وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَانًا آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا” (يو 2:14-3)؛ أي أننا سنكون معه في السماء

لكننا قد لا نشتاق إلى السماء ولا نفكر فيها من الأصل.

يقال أن الإنسان عدو لما يجهله, لذا نجد أنفسنا نقف أمام السماء كأنها لغز ونحن نجهلها لذا لا نشتاق لها, وقد لا تمثل لنا معنى أو هدف.

تعالوا نتعرف على بعض ملامح السماء ونرى روعة مدينة الله

  1.  المدينة ككل: مدينة الله – السماء – أورشليم السمائية, هذه كلها مترادفات لشیء واحد يقول يوحنا الرائي: “رأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة” (رؤ 1:21) ماذا يعني سماء جديدة و أرضا جديدة؟ معنى ذلك أن الأرض والسماء الحاليتين بحالتهما المادية قد زالتا, وحلت مكانهما “سماء جديدة وأرض جديدة” أو بحسب تعبير القديس بطرس: “أرضاً جديدة، يسكن فيها البر” (2بط 13:3).
    * وماذا عن البحر؟ يقول الرائى: أنه “لا يوجد في ما بعد “؟! (رؤ 1:21). فالبحر يرمز للإنفصال بين قارات العالم وأقاليمه وشعوبه. والمدينة السماوية وحدة كاملة ليس بين أعضائها فرقة أو انفصال, والبحر يرمز أيضا للاضطراب والتقلب والقلق والغموض. أما الأبدية في السماء لا يوجد فيها اضطراب أو تقلب أو قلق, بل سلام وسكون وفرح دائم مع الله في عرشه وملكوته.
  2.  وصف مدينة الله: المدينة لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليضيئا فيها, لأن مجد الله قد أنارها والخروف سراجها (رؤ 10:21 -23). المدينة كلها من الذهب النقي: تصوروا هذا الذهب البراق, في نظر البشر هنا على الأرض يدوسونه بالأقدام في السماء !! هذا الذهب تطأه أقدام القديسين في أورشليم السمائية.
    إلى ماذا يشير الذهب النقي؟  إنه يشير إلى نقاوة حياة ساكني هذه المدينة المقدسة.
  3.  المدينة من الخارج: يكسوها مجد الله, ولذلك لها لمعان عجيب. هنا نتذكر موسی عندما صعد إلى جبل سيناء ليأخذ الوصايا من الله, رجع ووجهه يلمع لمعانا شديدا, لم يستطيع الشعب أن ينظروا في وجهه, لمجرد لقائه مع الله. فكم وكم تكون مدينة الله.. مسكن الله ذاته؟!
  4. المدينة متساوية الأبعاد: طولها = عرضها = إرتفاعها (رؤ 16:21 ) هذا يرمز للكمال, والذين يسكنونها لابد أن يكونوا كاملين.
    نلاحظ ضخامة المدينة السماوية, والأسوار الشاهقة الضخمة؟ لماذا؟ يرد سفر الرؤيا “وَلَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلاَ مَا يَصْنَعُ رَجِسًا وَكَذِبًا، إِّلاَّ الْمَكْتُوبِينَ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الحَمَل” (رؤ 27:21).
  5.  أسوار المدينة: مصنوعة من اليشب الصلب, وهو يشير إلى قوة الله التي تحمي المدينة. السماء
    مغزی أبعاد المدينة: للمدينة اثني عشر بابا, على الأبواب اثنی عشر ملاك, وسور المدينة له اثني عشر أساساً, وعليها أسماء رسل الخروف الاثني عشر.
    نلاحظ كثرة استخدام العدد 12 ومضعفاته فما معنى ذلك؟
    * العدد 12 يشير إلى ملكوت الله, وإلى أبناء الملكوت, والعدد 1000 يشير إلى السماء فيكون معنى أبعادها أنها تتسع لكل أبناء الملكوت.
  6. الأسماء المكتوبة عليها: على أبوابها الاثني عشر مكتوب أسماء أسباط بني إسرائيل الاثني عشر, بينما أسماء رسل الخروف الاثني عشر مكتوبة على أساسات سورها. وهذا يشير إلى أن هذه المدينة قد جمعت بين الأسباط – أي رجال العهد القديم – و رسل السيد المسيح أي رجال العهد الجديد, لأنها كنيسة واحدة.
  7.  أبواب المدينة: وللمدينة اثني عشر بابا, ثلاثة من كل جهة, الشرق والغرب والشمال والجنوب. “وأبوابها لن تغلق” (رؤ 25:21).
    * لكن لماذا هذه الأبواب الثلاثة من كل ناحية؟ لعل في ذلك اشارة إلى أن هذه المدينة ستقبل سكانها بلا تمييز من كل أرجاء المسكونة. وكل باب عبارة عن لؤلوة ضخمة!!
    إن هذه كلها علامات تشير إلى روعة السماء وبهائها.
    هل تعلم أن اكبر لؤلؤة يعرفها العالم لا يزيد وزنها عن 56 جراماً؟!

    واللؤلؤة إنما تشير إلى الرب يسوع الذي هو اللؤلؤة الكثيرة الثمن, فلا ملكوت بدونه فليس للملكوت معنى ولا جمال بدون حضور الرب يسوع وسطه.
    أما عن وجود ثلاثة أبواب في كل اتجاه فهو رمز للثالوث القدوس, فالإيمان بهذا الثالوث هو الوسيلة الوحيدة لخلاص البشر.
  8.  أساسات المدينة: هي من الأحجار الكريمة, وهي تشير إلى الفضائل الإلهية التى يهبنا الله إياها في هذه الحياة لأجل تزيننا.
    نلاحظ أن الأحجار الكريمة متعددة الألوان, ولكن هذه الألوان هي الألوان الأصلية التي يتكون منها الضوء, (النور) والسيد المسيح هو النور الحقيقي.
    كما أنها من ألوان قوس قزح الذي ظهر بعد الطوفان, ليكون علامة للعهد بين الله والبشر.

    أيضا نلاحظ تغلب اللونين الأزرق والأخضر بين ألوان الأحجار الكريمة. ومن العجيب أن العلماء يصرحون بأن هذين اللونين هما أكثر الألوان إراحة للنظر والنفس, بالإضافة اللون الأحمر الذي يشير إلى الدم الذي به افتدانا.

طبيعة الحياة في السماء: كيف سنحيا في السماء؟ 

إن السماء هي أعظم من أن يعبر عنها بأية لغة من لغات البشر, ونجد السيد المسح يفتتح أمثاله عن الملكوت: “يشبه ملكوت السماوات” إنه مجرد تشبيه (شبه) أو ظل.

ومعلمنا بولس الرسول عندما صعد إلى السماء الثالثة لم يقدر أن يعطي وصفاً شافياً فقال: “مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ” (1كو 9:2). هنا نجد القديس بولس الرسول أدخلنا في لغز كبير. فإن المجد السماوى أعظم من أن يُوصف أو يُدرك بعقولنا البشرية, فالسماء سر مختوم ولا يمكن فض ختومه, والتمتع بأفراحه هنا على الأرض.

فماذا إذن في السماء

  1. لا جوع ولا عطش: ولا حر ولا برد في السماء “لأن الحمل الذي في وسط العرش يرعاهم ويقتادهم إلى ينابيع ماء حية” (رؤ 17:7)
  2.  لا بكاء أو تنهد أو وجع أو مرض: يشبه القديس أغسطينوس فترة الخمسين المقدسة, بحياتنا بعد القيامة في الأبدية, فالصوم الكبير يعني حياة الجهاد, والخمسين يوم تعنی حياتنا الأخرى السماوية, فلا صوم فيها ولا ميطانيات ولا حزن ولا دموع “لأن الحمل الذي في وسط العرش يرعاهم، ويقتادهم إلى ينابيع ماء حية، ويمسح الله كل دمعة من عيونهم” (رؤ17:7 ) “ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد، لأن الأمور الأولى قد مضت” .
  3. لا شهوات ولا ميول منحرفة: فهناك الجسد الروحاني الممجد, فلا توجد شهوة في السماء تقود الإنسان إلى الانحراف, أو أي صراع داخلی, كما أنه لا مكان للمُجرب في السماء
  4.  لا غيرة ولا حسد ولا خصام: هناك وئام تام ومحبة كاملة بين جميع القديسين, هناك يسكن الأخوة معا. “هناك أمر الرب بالبركة حياة إلى الأبد” (مز 3:133)
  5.  لا لعنة في السماء: اللعنة كانت في الأرض بسبب الخطية. لكن في السماء يقول الرائي: “لا تكون لعنة ما في ما بعد” (رؤ 3:22).
  6. لا ظلام في السماء: “لا يكون ليل هناك، ولا يحتاجون إلى سراج أو نور شمس، لأن الرب الإله ينير عليهم” (رؤ 5:22).
    هناك لا يوجد نور مادی, بل سيكون الله هو نور السماء, وهكذا نفهم كلمات النبی: “بنورك نرى نوراً” (مز 9:36).
  7.  لا جهل بل معرفة كاملة: نحن هنا نعيش على مستوى الإيمان, الذي يقدم لنا المعرفة كما في مرآة على سبيل اللغز, ولكننا في السماء سنحيا حياة العيان.
    وفي عالمنا هنا نعرف الله عن طريق الخليقة المنظورة, ولكن الوضع سينعكس في السماء إذ أن الله سيصبح الواسطة والوسيلة لمعرفة كل شيء, فهو الذي يعرفنا كل شيء.
    وكما يقول القديس باسيليوس الكبير
    مع أن كل واحد يطلب المزيد من المعرفة على الدوام، فإنها تبقى المعرفة ناقصة في كل الأمور بالنسبة لكمالها الحقيقي حتى يحل الزمن ليأتي ما هو كامل ويزول ما هو جزئي”
  8.  سنرى من سبقونا للمجد: سنرى كل القديسين الذين أحببناهم, وقرأنا عنهم, وتشفعنا بهم, من ملائكة وقديسين, سنراهم وجهاً لوجه, فسنرى العذراء ونحكي معها, سنرى كل أحبائنا الذين غابوا الآن عنا بالجسد وسبقونا إلى هناك ولكنهم يحيون هناك بالروح.
  9. سنسمع تسابيح الملائكة: بل سنشترك في التسبيح معهم! تأملوا هذا الجمال الذي سنراه ونسمعه مما يعطينا التطويب الذي قال عنه المرنم: “طوبى للساكنين في بيتك أبداً يسبحونك” (مز 4:84).

التطبيق

– هل أنت منهزم من ضعف أو خطية؟ تذكر أنك في السماء إذا جاهدت هنا ستملك مع الله هناك “من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا أيضا وجلست مع أبي في عرشه” (رؤ 21:3 ).

– هل أنت متعب من الظلام والجو “رأيت سماء جديدة وأرضا جديدة” (رؤ 1:21).

– إن كنت لم تحقق ذاتك ولا أحد يقدرك, سوف تشبع هناك “من يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله” (رؤ 7:2).

– هل تعاني من الكوارث الطبيعية والحروب البشرية “لا تكون لعنة ما في ما بعد. وعرش الله والحمل يكون فيها، وعبيده يخدمونه(رؤ 3:22).

– تذكر السماء لكي ما تلتهب فيك شهواتها.


من المسابقة الدراسية – مرحلة جامعيين –  مهرجان الكرازة 2011

زر الذهاب إلى الأعلى