المسيحي في المجتمع

 

يتصور البعض أن المسيحية ديانة آخروية، أى أنها لا تهتم إلا بالسماء والأبدية، ولا تشعر بإلتزامها الإجتماعى، ودورها فى المجتمع، والحقيقة أن سبب هذا التصور هو ما حدث فى بعض البلاد التى كانت تسمى مسيحية. وكيف كانت الكنيسة ورجال الدين غائبين عن ساحة الخدمة الإجتماعية، والإحساس بالفقير والجائع والمطحون.

وقد كان التطور الطبيعى أن يتصور الثّوار أن المسيحية هى التى علمتهم ذلك، حتى أن ماركس تصور أن الدين هو أفيون الشعوب بمعنى أنه المخدر الذى يتعاطاه الفقراء والمطحونين. بتشجيع من الأغنياء والقادرين، لكى يظلوا راضيين بحالهم المأسوى، منتظرين المكافأة والراحة فى السماء.

وينبغى أن نعترف أن بعض رجال الدين المسيحى فى هذه الدول، كانوا سببًا فى هذا التصور، إذ عاشوا فى بذخ وإستهتار، ولم يهتموا بإخوانهم فى الوطن وحاجاتهم الأساسية، فلما حدثت الثورة، لم تحدث ضد رجال الدين فقط، بل ضد الدين أيضًا. فهل المسيحية فعلاً دين أخروى، لا يهتم بالحياة على الأرض، والإحتياجات الأساسية للإنسان كالخبز والحرية..؟!

1- المسيحية والعمل الإجتماعى

إن الرب يسوع نفسه، بعد أن تحدث إلى الشعب حديثاً مستفيضاً، ورأى أنهم جاعوا فقال لتلاميذه: “أَعْطُوهُـمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوافَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ: اثْنَتَىْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوءةً” (مت 14:14-21).

ومع أنه ركز على الكلمة لحياة الإنسان، إلا أنه لم يلغ الخبز، فلهذا قال: “لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللَّهِ” (مت 4:4).

إن الرب يسوع المسيح لم يهمل أبداً حاجات الإنسان: إلى الطعام والشراب، بل أكد لنا أنه سيعطينا كل ذلك دون أن نطلب، ورفع أبصارنا الروحية إلى غذاء الروح ليتكامل الغذاء الإنسانى: الروحى والجسدى، فالإنسان روح وجسد.

   وإن كان الرب يوصينا: “فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ” (رو 20:12)، فكم بالحرى تكون مشاعرنا حينما نرى إخواننا فى الوطن فى حاجة إلى لقمة خبز أو شربة ماء.

إن المسيحية تتسامى بالروح، دون أن تهمل الجسد، فلهذا قال الرسول بولس: “فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيه” (أف 29:5) كما أن المسيحية توصينا على إخواننا المحتاجين: من كان له “مَعِيشَةُ الْعَالَمِ، وَنَظَرَ أَخَاهُ مُحْتَاجاً، وَأَغْلَقَ أَحْشَاءَهُ عَنْهُ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَحَبَّةُ اللهِ فِيهِ” (1يو 17:3).

إِنْ كَانَ أَخٌ وَأُخْتٌ عُرْيَانَيْنِ وَمُعْتَازَيْنِ لِلْقُوتِ الْيَوْمِىِّ، فَقَالَ لَهُمَا أَحَدُكُمُ: امْضِيَا بِسَلاَمٍ، اسْتَدْفِئَا وَاشْبَعَا وَلَكِنْ لَمْ تُعْطُوهُمَا حَاجَاتِ الْجَسَدِ، فَمَا الْمَنْفَعَةُ” (يع 15:2-16) لهذا جاءت الوصية شاملة: “فَلْنَعْمَلِ الْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ، وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ الإِيمَانِ” (غل 10:6) فالخير هنا للكل، ولكن من البديهى أن يهتم الإنسان بإخوته كأعضاء فى جسد واحد.

إن تقسيم العمل المسيحى إلى عمل روحى وآخر اجتماعى، هو محض خطأ معتاد، فالمسيح لم يمزق الإنسان، وكلا العملان: الروحى (كالوعظ والرعاية) والإجتماعى (كخدمة احتياجات الجسد) عملان مسيحيان بالدرجة الأولى.. لهذا فالأب الكاهن يهتم بكل زوايا الإنسان، وإن وزع الخدمات على أناس مختلفين، لكنهم يجب أن يكونوا دائماً متكاملين، ويكفى أنه من مواهب الروح القدس، أيضاً أن الرسل اختاروا أناساً مملوئين بالروح القدس من أجل خدمة الموائد.

فاصل

2- المسيحية والتحرر

المسيحية تدعو الإنسان إلى الحرية.. ليس إلى الحرية الإجتماعية والسياسية فقط، بل إلى الحرية الروحية من الداخل، حينما: يتحرر الإنسان من ذاته وشهواته وأنانيته، ويتحد بإخوته فى المسيح، ويخدم إخوته فى المجتمع بكل حب.

ومع أن المسيحية لم تدعو إلى الثورة ضد السادة فى القرن الأول، حيث كانوا يشترون البشر كعبيد، لكنها كانت دائماً تشجعهم على التحرر بطريقة سليمة، إذ يقول الرسول بولس: “دُعِيتَ وَأَنْتَ عَبْدٌ فَلاَ يَهُمَّكَ. بَلْ وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصِيرَ حُرّاً فَاسْتَعْمِلْهَا بِالْحَرِىِّ. لأَنَّ مَنْ دُعِىَ فِى الرَّبِّ وَهُوَ عَبْدٌ فَهُوَ عَتِيقُ الرَّبِّ” (1كو 21:7-22)… كذلك أيضاً الحر المدعو هو عبد المسيح… “قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ فَلاَ تَصِيرُوا عَبِيداً لِلنَّاسِ” (1كو 23:7).

لاحظ هذه المبادئ :

1- إذا كنت عبداً، لا يهمك.. المسيح حررك من الداخل.
2- الإنسان الحر إجتماعياً، هو عبد للمسيح بإرادته.
3- لا تصيروا عبيداً للناس.
4- إذا استطعت التحرر، فلا تتأخر عن ذلك.

لقد حررت المسيحية الإنسان من الداخل، لهذا أوصت العبيد أن يطيعوا سادتهم ببساطة قلب، شاعرين أنهم يخدمون المسيح ويشهدون له. كما أوصت السادة أن يتركوا التهديد، “عَالِمِينَ أَنَّ سَيِّدَكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً فِى السَّمَاوَاتِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مُحَابَاةٌ” (أف 9:6).

وقد لاحظنا كيف غيرت المسيحية السيد “فيلمون” والعبد “انسيمس” فصارا عضوين فى جسد المسيح وأخوين فى الرب “لاَ كَعَبْدٍ فِى مَا بَعْدُ، بَلْ أَفْضَلَ مِنْ عَبْدٍ: أَخاً مَحْبُوباً” (فل 16:1). وهكذا تتغير قلوب الناس، وترق وتتسامى فتحترم الإنسان مهما كان مستواه الإجتماعى أو المادى، وتحبه وتخدمه، وترتفع به إلى إحساس الجسد الواحد والإخوة المتكافئة…

إن المسيحية تبارك تحرير الإنسان، وإلغاء الرق، فالكل مخلوق على صورة الله، ومع أنها لا تدعو إلى العنف أو الثورة، التى تقود بالضرورة إلى دماء وأحقاد، فهى تدعو إلى التغيير والتسامى، بحيث يرى المسيحى فى أخيه فى البشرية إنساناً مخلوقاً على صورة الله، فيهتم به وبكل احتياجاته، متوقعاً أن دينونة الرب به، ستكون على أساس ما قدمه من خدمات للمريض والفقير والمسجون (مت 25).

فهؤلاء كلهم هم إخوة المسيح، فبالحرى هم إخوته أيضاً…

فاصل

3- دور المسيحى فى المجتمع

الإنسان المسيحى له دوره فى المجتمع، فالرب لم يقل لنا: أنتم نور الكنيسة، بل قال: “أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ” (مت 14:5). ولم يقل لنا: أنتم ملح المسيحى، بل قال: “أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ” (مت 13:5)…

والرسول بولس يقول: “إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا” (2كو 20:5). بل أن الرب طلب منا “فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هَكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ” (مت 16:5).

المسيحى إذن : نور – ملح – سفير.

? نور : بمعنى أنه يضئ للجالسين فى الظلمة، الذى فى أعماقه يهزم فلول الشر والخطيئة فى المجتمع، هو دور مزدوج: قدرة على هزيمة الظلام والدنس وإرسالية لنشر النور والقداسة، “أَنْتُمْ رِسَالَتُنَا، مَكْتُوبَةً فِى قُلُوبِنَا، مَعْرُوفَةً وَمَقْرُوءَةً مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ” (2كو 2:3).

? ملح : بمعنى أنه أبيض نقى، وقادر أن يذوب فى العالم دون أن يضيع… فالملح يذوب فى الطعام ويختفى، ولكنه أبداً لا يضيع… وكما أن الملح يحفظ الطعام من الفساد، كذلك المؤمن يحفظ المجتمع من الفساد بقدوته الطيبة… أما إذا فسد الملح، أى انحرف المؤمن، فبماذا يملح، سيداس من الناس فعلاً…

? سفير : فكما أن للسفير جنسية غريبة، ولغة غريبة، ووطن آخر، كذلك المؤمن وطنه السماء، وجنسيته سماوى، ولغته لغة السمائيين، فمع أن جسده فى العالم، لكن قلبه فى السماء… يحيا فى العالم دون أن يحيا العالم فيه.. يقدم صورة سيده، وسلوكيات سيده، ولغة سيده، ويكون خير سفير عن المسيح مخلصه.

فاصل

4- لا وجود لدولة مسيحية

لا يوجد شئ اسمه دولة مسيحية… فهذا الإسم خطأ من الأساس، وما نقول عنها الآن، دول مسيحية مثل أمريكا وأوربا، ليست مسيحية على الإطلاق، ولكنها دول علمانية، أى غير دينية… هى دول تعطى حرية كاملة لكل الأديان، ولا تلتزم بدين معين، بل أنها ترفض تدريس الدين المسيحى، أو أى دين آخر بالمدارس بنص القانون.

وأذكر أننى رأيت راهبة تقف على سلالم مبنى الكونجرس، فى وقت الشمس فى الصيف، تحمل بيمينها صورة خشبية كبيرة للسيد المسيح، وبيسارها لافتة تقول: نطالب بالسماح لنا بتدريس الدين فى المدارس، وطبعاً لا يسمح القانون هناك بذلك، تاركاً الدين للبيت، ودور العبادة، ووسائل الإعلام المختلفة.

وحتى إذا كان الكثيرون يدينون بالمسيحية فى دولة ما، فهذه الدولة تكون علمانية، وليست مسيحية، وحتى إن وجدت فى العصور الوسطى، فى بعض دول أوربا، دول مسيحية خلطت بين الدين والدولة، إلا أن هذا ليس من المسيحية، فالمسيحية دين فقط.

قال الرب يسوع: “مَمْلَكَتِى لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ” (يو 36:18). وحينما أرادوا اختطافه وجعله ملكاً “اجتاز فى وسطهم ومضى” (يو 59:18). ولعل الصراع الأساسى بين اليهود والسيد المسيح، كان سببه رفض السيد المسيح أن يكون ملكاً أرضياً، أو حاكماً دنيوياً، إذ كان اليهود يتمنون أن ينقذهم، ويخلصهم من الاستعمار الرومانى، ولكنه كان يقول لهم: “هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ” (لو 21:17).

فاصل

5- المسيحى والمشاركة السياسية والوطنية

لكن عدم سعى الكنيسة أو المسيحية إلى الحكم، وعدم اشتغالها بالسياسة، لا يعنى السلبية، بل أن الكنيسة تحرص على أمرين :

أ- المناداة بمبادئ الحب والخير والسلام والتعايش والعطاء : ومباركة هذه المبادئ أينما كانت، والشهادة ضد الخطأ والظلم.

ب- تشجيع أولادها على المشاركة الوطنية والإجتماعية والسياسية : بأن ينضموا إلى الأحزاب التى يرون فيها مصلحة الوطن كله، وإلى النقابات والمؤسسات الشرعية المختلفة، بغرض بنيان جسد المجتمع، وتقديم النموذج الصالح للمواطن الأمين والملتزم.

لهذا فمع أن المسيحية تهتم بخلاص الإنسان، وتجهيزه للملكوت السماوى، إلا أنها تطلب منه أن يكون مواطناً صالحاً، يشارك فى نشاطات المجتمع، ويتعامل مع الأفكار والتيارات السياسية والثقافية والإجتماعية، من منطلق العطاء لا الأخذ، والبناء لا الهدم، من أجل نمو الجماعة الوطنية كلها.

لذلك فالمسيحى السليم لا يشترك فى نشاطات هدامة، ولا يكف عن العمل البنّاء لصالح الوطن كله، ومع أنه ملتزم بحياته المسيحية الروحية، إلا أنه ملتزم أيضاً بالوطن، وبإخوته فى الوطن، بنشر الحب، والبذل والنموذج الطيب، ويتفاعل باستقامة وإتساع مع جميع إخوته، المسيحيين وغير المسيحيين، ويطيع قوانين الدولة حسب وصية الإنجيل: “لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِين  الْفَائِقَةِ لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِىَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ…” (رو 1:13).

أفتريد أن لا تخاف السلطان… افعل الصلاح فيكون لك مدح منه…

الرب يعطينا أن نكون جميعاً مواطنين صالحين، نشهد لمسيحنا، وننشر الحب، والخير فى كل مكان.

كلما رأيت جوعانًا فأطعمته وعطشانًا فسقيته وغريبًا فآويته، عريانًا فكسوته ومريضًا فزرته ومحبوسًا فأتيت إليه يكون إيمانك حيًا ومثمرًا بالأعمال الصالحة.

فاصل

من مسابقات الحرفيين – مهرجان الكرازة 2013

زر الذهاب إلى الأعلى