المعمدان كمعلم في البرية
انعزل المعمدان في برية الأردن غرب البحر الميت وعاش هناك عيشة النسك الصارم والحرمان من كل ملذات الدنيا، وكان ذلك بدافع حزنه الداخلي المرير لفساد الأمة اليهودية شأنه شأن أنبيـاء أواخر العصور اليهودية، واكتفى من الطعام بما قدَّمت له الطبيعة من عسل أفرزه النحل بين الصخور وجراد كان يشويه ويأكله. أما لباسه فكان كلباس إيليا خشناً من وبر الإبل، وعلى حقويه منطقة من جلد شأن السهارى الذين يقيمون الليل ساهرين واقفين يعبدون.
وهكذا كان المعمدان غارقاً في حزنه وهمومه على شعبه كدانيال في أيامه: «أنا دانيال كنت نائحاً ثلاثة أسابيع أيام لم أكل طعاماً شهياً، و لم يدخل في فمي لحم ولا حمر ولم أدهن» (دا 10: 2و3). وقد مدحه الملاك لما جاء يفتقده: «فقال لي : لا تخف يا دانيال لأنه من اليوم الأول الذي فيه جعلت قلبك للفهم ولإذلال نفسك قُدَّام إلهك سُمع كلامك وأنا أتيت لأجل كلامك» (دا 12:10). وبالأكثر كان حزن المعمدان على خطايا الشعب التي أحس بأنها ستكون شغل المسيا الشاغل. وكان الشعب حقاً في اضمحلال مريع. فالليل كان قد بلغ أقصى ســــواده، وكانت طلبة المعمدان حقاً وبالضرورة أن يأتي الآتي، الذي جاء هو ليعد الطريق أمامه، وقد أحس بالتأكيد أن المسيَّا خلفه على الأبواب، الأمر الذي شجَّعه وأعطاه فماً ليتكلم كنار تحرق وتطهر . وتأكد المعمدان أن عليه أن يحكي للشعب ما قد صار في قلبه من تأكيد إلهي أن المسيا آت. فكان عليه وعلى الشعب أن يعدّوا القلوب للعصر الجديد.
وأخيراً بلغ الدفع الإلهي داخله إلى مداه فتشجع وترك وحدته خلفه وتقدم نحو الناس ينادي نداء السماء: «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات» مت (2:3)، والآتي على الأبواب.
ويقول العلامة إدرزهايم المؤرخ واللاهوتي اليهودي المتنصر:
إن ذلك كان في خريف سنة 779 لروما، وكان ذلك موافقاً لسنة سبتية من خريف سنة 779 تشرين ( سبتمبر / اكتوبر) حتى سنة 780 حيث يتوقف كل عمل وتتوقف الزراعة. فكان سهلاً على الشعب أن يخرج إليه زرافات ووِحْدَانا وانتشر الخبر في الأرض المستريحة كانتشار الريح وتجمعوا حوله في عين نون بقرب ساليم أول مكان بدأ فيه المناداة و بیت عبرة، التي تقع شمالي بيسان الحالية]
و لم يكف عن هذا النداء بكل ما أوتي من صدق وأمانة لتأدية الرسالة. ومن تشبيهاته التي أرعبت اللاهين والمتلاهين، أن الله سينقي شعبه كما ينقي صاحب الحقل بيدره، القمح من التبن، ليرفع هذا ويحرق ذاك. فالملكوت لا يدخله غير المستحقين. وقد أنكر على الشعب بشدة المبدأ الغاش السائد آنذاك أن عظماء الشعب ورؤساءه وأصحاب السلطان والجاه والمتمسكين بأشكال العبادة والتقــــوى المظهرية لهم مكان في ملكوت الله فلا مناص من التوبة لمن أراد أن يكون له نصيب عند الله. ونادى بأن المعمودية بالماء التي يجريها للتائبين والمعترفين بخطاياهم هي المدخل الوحيد لتكريس النفس لقبول ملكوت المسيا الآتي. وكانت المعمودية قد شاع ذكرها بين اليهود أنها للتطهير في أيام المسيَّا، إذ كان تكلم عنها الأنبياء: «وأرشُ عليكم ماءً طاهراً فتطهرون من كل نجاساتكم ومن كل أصنامكم أطهركم. وأعطيكم قلباً جديداً، وأجعل روحاً جديدةً في داخلكم، وأنزع قلب الحجر من لحمكـــم وأعطيكم قلب لحم» حز 36 : 25 و26). كذلك ذكرها زكريا النبي باعتبارها أنها ستكون عملاً جديداً من الله في أيام المسيَّا: «في ذلك اليوم (يوم المسيَّا) يكون ينبوع مفتوحاً لبيت داود ولسكان أورشليم (اليهود فقط ؟؟) (للخلاص من الخطية والنجاسة)» (زك 1:13). وكذلك أيضاً نبـــوة ملاخي آخر الأنبياء ويظهر فيها أن المعمودية للتفريق بين الصديق والشرير: «ها أنا أُرسل ملاكي (يوحنا المعمدان) فيُهيِّيء الطريق أمامي ويأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تسرون به هوذا يأتي قال رب الجنود … مثل نار الممحّص ومثل أشنان القصار فيجلس مُمخّصاً ومنقياً … فتعودون وتميزون بين الصِّدِّيق والشرير، بين من يعبد الله ومَنْ لا يعبده» (ملا 3 1 و 3 و 18). فإن كان الأنبياء قد تنبأوا عما سيسبق مجيء المسيَّا بمجيء المعمدان، فذلك للتطهير والتمحيص وفرز الصديق من الشرير وتبييض القلوب كما يبيض القصار الملابس من سوداء إلى بيضاء. ويقيناً أن المعمدان أحس بأنه الملاك المدعو ، كما يقول حزقيال النبي بوضوح، ليرش علـــى الشعب ماءً مطهراً فيطهَّرون من كل نجاساتهم ومن عبادة الأصنام، ويصير لهم قلب لحم عوض قلب الحجر، ليتم القول الذي نطق به النبي من فم الله.
وهكذا بدأ المعمدان بالفعل يعدّ الطريق أمام المسيّا.