الأنبا فيلياس أسقف أتمى

 

يحق لنا أن نؤدى التحية اللائقة بالشهداء والمعترفين الذين واجهوا أهوالاً تشيب الطفل من قبل المشيب، وقد أضاءت وجوههم ابتسامة الرضى ولهجت السنتهم بأناشيد التسبيح. ولما كان عدد الشهداء والمعترفين المصريين في ذلك العصر لا يقع تحت حصر رأينا أن نتخير أفراداً من هذا الجمع الحاشد ليكونوا الصورة الحية الماثلة أمامنا كل حين تذكرنا ببطولة جميع الذين استعذبوا الآلام ليحتفظوا بالإيمان الأرثوذكسى الذى تسلموه عن آبائهم وتذكرنا بأن دماء هؤلاء الشهداء هى التى تسرى في شراييننا حتى الآن .

ومن هذه الشخصيات التي نتخذها مثالاً لنا هي شخصية الأنبا فيلياس أسقف أتمى. وكان سليل أسرة عريقة في المجد والجاه والثروة هيأت أمامه كل السبل للعلم والفن والفلسفة . فنشأ ولوعاً بالشعر شغوفا بالعلوم الفلسفية والروحية. ولما كانت روح فيلياس مرهفة الحساسية فقد استجاب لنداء المسيح وترددت أصداء تعاليمه الإلهية في أعماق نفسه فاعتنقها بفرح وتهليل.

ولما كان فيلياس من أسرة هذا حالها رأى الرومان الانتفاع بمواهبه الممتازة ومكانته المرموقة فعينوه واليا على منطقته. وقبل هو هذا التعيين إذ وجد فيه الفرصة السانحة لخدمة شعبه خدمة واسعة شاملة. وبالفعل كرس حياته تكريساً كاملاً لهذه الخدمة . فأحبه الشعب وأخلص له الولاء إلى حد أنه لما خلت السدة الأسقفية أجمعوا على أن خير من يليق للأسقفية هو الوالي فيلياس – وهكذا تحول من خدمة الدولة إلى خدمة الكهنوت. فاتسعت دائرة خدمته وتفانى فى الجهاد الروحى بأن علم شعبه مثبتاً إياه على الإيمان القويم حتى أصبح الأسقف فيلياس حصناً منيعاً لكل إيبارشيته.

ثم نقض ديوقلديانوس عهده مع المسيحيين، وأثار عليهم إضطهاداً مروعاً دام عشر سنين. ولم يستطع الأنبا فيلياس أن يجنب شعبه ويلات هذا الإضطهاد ولكنه نجح في أن يملأ القلوب عزيمة والنفوس شجاعة وثباتاً. فتقدموا إلى الاستشهاد بعد أن أفاض قلوبهم سلاماً داخلياً عجيباً.

واشتد الإضطهاد فسافر الأنبا فيلياس إلى الاسكندرية ليتشاور مع الأنبا بطرس خاتمة الشهداء في الخطط التي يجب اتخاذها لتدعيم إيمان الشعب ولقبول الجاحدين التائبين. ومن الاسكندرية بعث برسالة إلى شعبه في اتمى قال لهم فيها : “سلك الشهداء مسلك سيدهم الذي أطاع حتى الموت موت الصليب. ففضلوا العذاب بنفس راضية على أن ينكروا مسيحيتهم . ولقد كانوا ثابتين في إيمانهم ، كاملين في محبتهم ، فتلاشي بذلك كل خوف من قلوبهم . وأنى إن حاولت أن أصف لكم بطولتهم لظننتم أنها أشبه بالأساطير . ولكن حقيقة هذه البطولة أعجب بكثير من كل خيال حتى أن الذين شهدوها من المؤمنين تشددوا وتعزوا ، أما غير المؤمنين فلن يؤمنوا فحسب بل أعلنوا إيمانهم جهاراً أيضاً فانضموا بدورهم إلى صفوف الشهداء”

وكانت هذه الرسالة – إلى جانب ما قام به الأنبا فيلياس من تقوية للعزائم – سببا في أن يلقى الرومان القبض عليه ويطرحوه في السجن. على أن الطغيان الروماني رغم ما فيه من قسوة وبطش تراجع بعضاً من الوقت أمام قتل مثل هذا الرجل – تراجع خوفاً من أن يثور الشعب، لا صوناً لكرامة الرجل. وتتضح هذه الحقيقة من محاولة استرضاء هذا الحبر الجرئ إذ قد استحضره الوالى الرومانى وحاول أن يستثير محبته لقومه فقال له أنهم إن فقدوه فقدوا شجاعتهم وإيمانهم، بل أن بعضهم سيفقد عمله الذي يرتزق به. ومع أن قلبه كان يتوجع على شعبه لأن هذه الكلمات كانت تنزل عليه كالسياط فقد ظل ثابتاً مؤكداً للوالى بأن موته سيزيد الشعب شجاعة وتماسكا واسترسل الوالى الروماني يقول: كيف تستسيغ صلب الذات الإلهية؟ ، أجابه : “إن محبته الإلهية لا تحد وهي الدافع الذي دفع به إلى الصلب”. فسأله الوالي : “أتعرف أنني أود إكرامك ، ولا أريد أن الحق بك أى أذى لأنني أعرف مجد عائلتك وضخامة ثروتك ؟ فبخر للآلهة بدلاً من أن تموت موتة شنيعة”. أجابه الأنبا فيلياس بهدوء : “إن شئت أن تكرمني فقل لجنودك أن يعذبوني قبل أن يميتوني”. وعند ذلك أمر الوالي باعدامه فساقه الجند مع غيره من المسيحيين خارج المدينة لقتله ، وبدأوا به لأنه الرئيس الديني  وقبل أن يمد عنقه للسياف مد ذراعيه على شكل صليب وصلى بصوت عال قائلاً : ” يا أولادي الأحباء ، ويا أخوتي الأعزاء ، ويا جميع المحبين لله، اسهروا وانتبهوا لنفوسكم لأن عدونا أسد زائر. وأفرحوا لأنه قد أتت الساعة التي نثبت فيها أننا تلاميذ أوفياء لسيدنا يسوع المسيح الذي له المجد إلى أبد الآبدين آمين”. وما كاد ينتهى من هذه الصلاة حتى عاجله الجند بضربة قاضية . فدخل الأسقف الأمين إلى فرح سيده لينال منه الاكليل الموعود به لأصفيائه.

زر الذهاب إلى الأعلى